خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
١٥٢
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

تحقيق الذّكر ومراتبه وفضائله
{ فَٱذْكُرُونِيۤ } باللّسان جهراً ودون الجهر وبالجنان سرّاً وعند الفعال بتذكّر الامر والنّهى وعند النّعم بالشكر { أَذْكُرْكُمْ } الذّكر بالكسر حفظ الشّيء فى الخاطر ويستعمل فى اجرائه على اللّسان وفى الصّيت والشّرف وقوله { وانّه لذكرٌ لك ولقومك } يحتملهما واطلاقه على المعانى الثّلاثة بمناسبة التذكار فى الخاطر، والآيات والاخبار الدّالّة على فضيلة ذكر الله كثيرة وكفى فى فضله هذه الآية الدّالّة على ايراث ذكر العبد لله ذكر الله له؛ ولا شرف أشرف منه، وما ورد فى عدّة اخبار قدسيّة من قوله تعالى:
"انا جليس من ذكرنى" ؛ يدلّ على أنّه لا شرف أشرف منه وروى عن الصّادق (ع) انّه قال: من كان ذاكراً لله على الحقيقة فهو مطيع، ومن كان غافلاً عنه فهو عاصٍ، والطّاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضّلالة، وأصلهما من الذّكر والغفلة، وهذا الخبر يدلّ على انّ الطّاعات بذكر الله طاعاتٌ واذا كانت خالية عن ذكر الله بان كان العابد غافلاً عن الله حين العبادة كانت معصية، وروى عن الباقر (ع) انّه قال: لا يزال المؤمن فى صلاة ما كان فى ذكر الله قائماً كان او جالساً او مضطجعا؛ انّ الله سبحانه يقول: { { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:191]، وهذا يدلّ على انّ ذكر الله هو الصّلاة او هو حقيقة الصّلاة وروحها، والصّلاة قالبه ولذا كانت أكبر من الصّلاة، والآيات الدّالّة على النّهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه والامر بالأكل او اباحة الأكل ممّا ذكر اسم الله عليه اذا عمّم الأكل والآكل والمأكول تدلّ على انّ ذكر الله هو المحلّل والمبيح للاشياء والافعال وبدونه لا يحلّ شيء منهما فذكر الله حقيقة الطاعات وغايتها ومصحّح العبادات ومحلّل الاشياء ومبيح الافعال، وغاية الذّكر ظهور المذكور فى ملك الذّاكر وفناء الّذاكر بحيث لا يبقى منه ذات وأثر وذكر ويبقى المذكور في ملك الّذاكر قائلاً: { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16]؟ - مجيباً: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ }.
وللذّكر بحسب القرب والبعد من تلك الغاية مراتب وامّهاتها اربع ولكلّ منها مراتب ودرجات:
واولى المراتب الاربع الذّكر اللّسانىّ وهو اجراء المذكور باسمائه وأوصافه على اللّسان ومراتب هذا الذّكر اذا لم يكن غلافاً للشّيطان بحسب غفلة الذّاكر عن المذكور وتذكّره له بدرجات التّذكّر وحضور المذكور فى قلب الذّاكر وحضور الذّاكر عند المذكور باستيلاء المذكور عليه بحيث يكون المذكور اصلاً والذّاكر تابعاً، وبحسب اتّحاده مع المذكور وفنائه التّامّ فيه وبقاء المذكور وحده وبقاء الذّاكر بعد الفناء ببقاء المذكور، وكذا بحسب اقترانه بالذّكر القلبىّ كثيرة، ودرجات كلّ مرتبة منها ايضاً كثيرة.
وثانيتها الذّكر القلبىّ الّذى هو مصطلح الصوفيّة ويسمّونه بالذّكر الخفىّ ويسمّون الذّكر اللّسانىّ بالذّكر الجلىّ وله أيضاً مراتب ودرجات بحسب اقترانه بالذكر اللّسانىّ وعدمه، وتذكّر الذّاكر للمذكور وعدمه، وبحسب الحضور والاتّحاد والفناء فى المذكور والبقاء بعد الفناء وعدمه.
وثالثتها الذّكر النّفسىّ وهو تذكّر المذكور فى النّفي وهو ايضاً له مراتب ودرجات بحسب الاقترانات المذكورة وعدمها.
ورابعتها تذكّر المذكور عند كلّ فعلٍ ونعمةٍ بتذكّر أمره ونهيه وشكره وله ايضاً مراتب ودرجات.
والذكر اللّسانىّ والقلبىّ لمّا كانا من العبادات والعبادات لا بدّ من أخذها من صاحب الاجازة الشّرعية اذا لم يكن العابد مجازاً والاّ لم تكن مقبولة وافقت ام خالفت كما تقرّر فى الفقه اذا لم يؤخذا من صاحب الاجازة لم يكن لهما اثر بل نقول: انّ الشّيطان قد يترصّد العابد والذّاكر الغير الآخذ من صاحب الاجازة فيخلى الاسماء الالهيّة الجارية على لسانه من معناها ويجعل نفسه فيها فيصير الذّاكر ذاكراً للشّيطان وهو يحسب أنّه ذاكر لله ويلوى لسانه بألفاظٍ يظنّها اسماءً لله وما هى بأسماءٍ لله بل هى أسماءٌ للشّيطان فيطرد بالذّكر من باب الرّحمن وهو يحسب انّه يحسن صنعاً، فالّذى ينبغى للعابد الاهتمام بتصحيح تقليده اوّلاً ثمّ الاقبال على العبادة به وامّا الاحتياط فشروط صحّة العمل به كثيرة، وسببيّة ذكر العبد لله لذكر الله للعبد كما يستفاد من الآية ومن الاخبار القدسيّة وغيرها مع أنّه ما لم يذكر الله العبد لا يذكر العبد الله انّما هى باعتبار مرتبةٍ من ذكر الله للعبد نظير ما مضى فى توّابيَّته تعالى فانّ ذكره تعالى للعبد بالتّوفيق سببٌ لذكر العبد لله، وذكر العبد لله سببٌ لذكر الله له بالجزاء، وذكر الله له بالجزاء سبب لاشتداد ذكره لله، واشتداد ذكره لله سبب لذكرٍ آخر من الله، وهكذا، وذكر العبد لله قائم بذكر الله للعبد فهو ذكرٌ من الله للعبد لكن فى مقام العبد وقد ذكر فى الاخبار وفى كلمات الابرار تفاضل فى الاذكار الخفيّة والجليّة فليعلم انّ التفاضل قد يعتبر بحسب اضافة الاذكار الى الاشخاص المختلفة والاحوال المختلفة لشخصٍ واحدٍ، وقد يعتبر بينها بحسب اعتبارها فى أنفسها فقد يكون الذّكر الفاضل فى نفسه غير فاضل بالنّسبة الى شخصٍ ولمّا كان بناء الدّين وبناء السّلوك على التّبرّى والتولّى كان الذّكر المشتمل على النّفى والاثبات أفضل من غيره فى نفسه، وأفضل الاذكار المشتملة على النّفى والايجاب: لا اله الاّ الله؛ فانّه جامع للنّفى والاثبات وحافظ لجميع مراتب الوجود مع نفى الاستقلال عنها واثباتٌ للواحد الاحد بجميع صفاته وليس هذا الاّ شأن النّبىّ الّذى هو خاتم الكلّ كما قال (ص):
"اوتيت جوامع الكلم" ؛ ونقل انّ لا اله الاّ الله خاصّة بهذه الامّة { وَٱشْكُرُواْ لِي } الشّكر ملاحظة انعام المنعم فى النّعمة وملاحظة حقّ المنعم فى الانعام، ولذا فسّر بتعظيم المنعم لاجل الانعام ويلزم ملاحظة حقّ المنعم فى الانعام وفى النّعمة صرف النّعمة لما أنعمها لاجله، ولهذا قد يفسّر بصرف النّعمة فيما خلقت لأجله { وَلاَ تَكْفُرُونِ } المراد بالكفر هاهنا كفر النّعم وهو ستر الانعام وحقّ المنعم فى النّعمة، وايراث الشّكر ازدياد النّعم وايجاب الكفر زوالها ممّا كثرت به الآيات والاخبار والحكايات والامثال فليداوم العاقل الشّكر وليحذر الكفران.