خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً
١
-الفتح

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

شرحٌ فى صلح الحديبية
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } فتح كمنع ضدّ اغلق كفتّح من التّفعيل وافتح، والفتح النّصر كالفتاحة بفتح الحاء، ومنه الاستفتاح وافتتاح دار الحرب والحكم بين الخصمين كالفتاحة بالكسر والضّمّ وكالفتح بالضّمّتين، ويستعمل فى معنى العلم وفى انبساط القلب واتّصاله بعالم الملكوت ومشاهداته، وفيما يصل الى الانسان من جهة الباطن او من جهة الظّاهر من انواع فضل الله والكلّ مناسبٌ ههنا، وقد قيل بكلٍّ منها ببعضها صريحاً وببعضها تلويحاً، فقيل: معناه قضينا لك، وقيل: يسّرنا لك، وقيل: اعلمناك، وقيل: ارشدناك، وقيل: فتحنا البلاد لك، وقيل: اظفرناك على الاعداء بالحجّة والمعجزة حتّى لم يبق معاندٌ للاسلام، وقيل: المراد به فتح مكّة له (ص)، وقيل: المراد به صلح الحديبيّة، وقيل: لم يكن فتح اعظم من صلح الحديبيّة، وذلك انّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الاسلام فى قلوبهم واسلم فى ثلاث سنين خلق كثيرٌ وقيل: بويع محمّدٌ (ص) بالحديبيّة بيعة الرّضوان واطعم نخيل خيبر، وظهرت الرّوم على فارس، وفرح المسلمون بظهور اهل الكتاب وهم الرّوم على المجوس اذ صدق به قوله تعالى
{ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } [الروم:3]، وعن الصّادق (ع) قال: سبب نزول هذه السّورة وهذا الفتح العظيم انّ الله عزّ وجلّ امر رسوله فى النّوم ان يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلّق مع المحلّقين فاخبر اصحابه وامرهم بالخروج فخرجوا، فلمّا نزل ذا الحليفة احرموا بالعمرة وساقوا البُدُن وساق رسول الله (ص) ستّة وستّين بدنة واشعرها عند احرامه واحرموا من ذى الحليفة ملبّين بالعمرة وقد ساق من ساق منهم الهدى معرّاتٍ مجلّلات، فلمّا بلغ قريشاً ذلك بعثوا خالد بن الوليد فى مأتى فارسٍ كميناً ليستقبل رسول الله (ص) وكان يعارضه على الجبال فلمّا كان فى بعض الطّريق حضرت صلاة الظّهر فأذّن بلالٌ فصلّى رسول الله (ص) بالنّاس فقال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم وهم فى الصّلاة لاصبناهم فانّهم لا يقطعون صلاتهم ولكن تجيء الآن لهم صلاة اخرى احبّ اليهم من ضياء ابصارهم فاذا دخلوا فى الصّلاة اغرنا اليهم، فنزل جبرئيل على رسول الله (ص) بصلاة الخوف فلمّا كان فى اليوم الثّانى نزل رسول الله (ص) الحديبيّة وهى على طرف الحرم وكان رسول الله (ص) يستنفر الاعراب فى طريقه معه فلم يتّبعه احد ويقولون: ايطمع محمّدٌ (ص) واصحابه ان يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش فى عقر ديارهم فقتلوهم، انّه لا يرجع محمّد (ص) واصحابه الى المدينة ابداً، فلمّا نزل رسول الله (ص) الحديبيّة خرجت قريش يحلفون باللاّت والعزّى لا يدعون رسول الله (ص) يدخل مكّة وفيهم عينٌ تطرف فبعث اليهم رسول الله (ص) "انّى لم آت لحربٍ وانّما جئت لاقضى نسكى وانحر بُدنى واخلّى بينكم وبين لحمانها" ، فبعثوا عروة بن مسعود الثّقفىّ وكان عاقلاً لبيباً وهو الّذى انزل الله فيه: { { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف:31] فلمّا أقبل الى رسول الله (ص) عظّم ذلك وقال: يا محمّد (ص) تركت قومك وقد ضرب الابنية واخرجوا العوذ المطافيل يحلفون باللاّت والعزّى لا يدعوك تدخل مكّة حرمهم وفيهم عين تطرف، افتريد ان تبير اهلك وقومك يا محمّد (ص)؟ - فقال رسول الله (ص): "ما جئت لحربٍ وانّما جئت لاقضى مناسكى وانحر بدنى واخلّى بينكم وبين لحمانها" ، فقال عروة: والله ما رأيت كاليوم احداً اصُدّ كما صُددت، فرجع الى قريش فاخبرهم، فقالت قريش: والله لئن دخل محمّد (ص) مكّة وتسامعت به العرب لتذلّلنّ ولتجرئنّ علينا العرب فبعثوا حفص بن الاحنف وسهيل بن عمرٍ وفلمّا نظر اليهما رسول الله (ص) قال: "ويح قريشٍ قد نهكتكم الحرب الاّ خلّوا بينى وبين العرب فان أك صادقاً فانّى اجرّ الملك اليهم مع النّبوّة، وان أك كاذباً كفتهم ذؤبان العرب لا يسئلنّى اليوم امرء من قريشٍ خطّةً ليس لله فيها سخط الاّ اجبتهم اليه فلمّا وافوا رسول الله (ص)، قالوا يا محمّد (ص) الا ترجع عنّا عامك هذا الى ان ننظر الى ما يصير امرك وامر العرب؟ - فانّ العرب قد تسامعت بمسيرك فاذا دخلت بلادنا وحرمنا استذلّتنا العرب واجترأت علينا ونخلّى لك البيت فى العام القابل فى هذا الشّهر ثلاثة ايّام حتّى تقضى نسكك وتنصرف عنّا، فأجابهم رسول الله (ص) الى ذلك، وقالوا له تردّ الينا كلّ من جاءك من رجالنا، ونردّ اليك كلّ من جاءنا من رجالك، فقال رسول الله (ص): من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه ولكن على انّ المسلمين بمكّة لا يؤذون فى اظهارهم الاسلام ولا يُكرهون ولا ينكر عليهم شيءٌ يفعلونه من شرائع الاسلام، فقبلوا ذلك، فلمّا اجابهم رسول الله (ص) الى الصّلح انكر عامّة اصحابه واشدّ ما كان انكاراً عمر، فقال: يا رسول الله (ص) السنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ - فقال: نعم، فقال: فنعطى الذّلّة فى ديننا، فقال: انّ الله عزّ وجلّ قد وعدنى ولن يخلفنى، قال: ولو انّ معى اربعين رجلاً لخالفته، ورجع سهيل بن عمرٍو وحفص بن الاحنف الى قريشٍ فأخبراهم بالصّلح، فقال عمر: يا رسول الله (ص)، الم تقل لنا ان ندخل المسجد الحرام ونحلّق مع المحلّقين؟! فقال: أمن عامنا هذا وعدتك؟! قلت لك: انّ الله عزّ وجلّ قد وعدنى ان افتح مكّة واطوف واسعى واحلّق مع المحلّقين، فلمّا اكثروا عليه قال لهم: ان لم تقبلوا الصّلح فحاربوهم، فمرّوا نحو قريشٍ وهم مستعدّون للحرب وحملوا عليهم فانهزم اصحاب رسول الله (ص) هزيمة قبيحة ومرّوا برسول الله (ص)، فتبسّم رسول الله (ص) ثمّ قال: يا علىّ (ع)، خذ السّيف واستقبل قريشاً فأخذ امير المؤمنين (ع) سيفه وحمل على قريشٍ فلمّا نظروا الى امير المؤمنين (ع) تراجعوا ثمّ قالوا: يا علىّ (ع) بدا لمحمّدٍ (ص) فيما أعطانا؟ - فقال: لا، وتراجع اصحاب رسول الله (ص) مستحيين واقبلوا يعتذرون الى رسول الله (ص)، فقال لهم رسول الله (ص): الستم اصحابى يوم بدرٍ اذ انزل الله عزّ وجلّ فيكم { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ } [الأنفال:9]؟ - الستم اصحابى يوم احد { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَاكُمْ } [آل عمران:153] الستم اصحابى يوم كذا؟ - الستم اصحابى يوم كذا؟ - فاعتذروا الى رسول الله (ص) وندموا على ما كان منهم وقالوا: الله اعلم ورسوله، فاصنع ما بدا لك ورجع حفص بن الاحنف وسهيل بن عمرٍو الى رسول الله (ص)، فقالا: يا محمّد (ص) قد اجابت قريش الى ما اشترطت من اظهار الاسلام وان لا يكره احد على دينه، فدعا رسول الله (ص) بالمكتب ودعا امير المؤمنين (ع) وقال له: اكتب، فكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم، فقال: سهيل بن عمرو: لا نعرف الرّحمن، اكتب كما كان يكتب آباؤك باسمك اللّهمّ، فقال رسول الله (ص): اكتب باسمك اللّهمّ فانّه اسم من اسماء الله، ثمّ كتب: هذا ما تقاضى عليه محمّد رسول الله (ص) والملأ من قريشٍ، فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا انّك رسول الله (ص) ما حاربناك، اكتب هذا ما تقاضى عليه محمّد بن عبد الله، اتأنف من نسبك يا محمّد (ص)؟ - فقال رسول الله (ص): انا رسول الله (ص) وان لم تقرّوا، ثمّ قال: امح يا علىّ (ع) واكتب محمّد بن عبد الله، فقال امير المؤمنين (ع): ما امحو اسمك من النّبوّة ابداً، فمحاه رسول الله (ص) بيده، ثمّ كتب: هذا ما اصطلح محمّد بن عبد الله والملأ من قريشٍ وسهيلٌ اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين على ان يكفّ بعضنا عن بعضٍ، وعلى انّه لا اسلال ولا اغلال وانّ بيننا وبينهم غيبة مكفوفة، وانّ من احبّ ان يدخل فى عهد محمّد (ص) وعقده فعل، ومن احبّ ان يدخل فى عهد قريش وعقدها فعل، وانّه من أتى محمّداً (ص) بغير اذن وليّه ردّه اليه، وانّه من أتى قريشاً من اصحاب محمّد (ص) لم تردّه اليه، وان يكون الاسلام ظاهراً بمكّة ولا يكره احدٌ على دينه ولا يؤذى ولا يعيّر، وانّ محمّداً (ص) يرجع منهم عامه هذا واصحابه ثمّ يدخل علينا فى العام المقبل مكّة فيقيم فيها ثلاثة ايّامٍ ولا يدخل عليها بسلاحٍ الاّ سلاح المسافر، السّيوف فى القراب، وكتب علىّ بن ابى طالبٍ (ع) وشهد الكتاب المهاجرون والانصار، ثمّ قال رسول الله (ص): يا علىّ (ع) انّك ابيت ان تمحو اسمى من النّبوّة فوالّذى بعثنى بالحقّ نبيّاً لتجيبنّ ابناءهم الى مثلها وانت مضيض مضطهد؛ فلمّا كان يوم صفّين ورضوا بالحكمين كتب: هذا ما اصطلح عليه امير المؤمنين علىّ بن ابى طالبٍ (ع) ومعاوية بن ابى سفيان، فقال عمرو بن العاص: لو علمنا انّك امير المؤمنين (ع) ما حار بناك ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه علىّ بن ابى طالب (ع) معاوية بن ابى سفيان، فقال امير المؤمنين (ع): صدق الله وصدق رسوله اخبرنى رسول الله (ص) بذلك، فلمّا كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن فى عهد محمّدٍ (ص) وعقده، وقامت بنو بكر فقالت: نحن فى عهد قريشٍ وعقدها، وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله (ص) ونسخة عند سهيل بن عمرو، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الاحنف الى قريشٍ فاخبراهم وقال رسول الله (ص) لاصحابه: انحروا بدنكم واحلقوا رؤسكم فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت؟ - ولم نسع بين الصّفا والمروة؟! فاغتمّ لذلك رسول الله (ص) وشكا ذلك الى امّ سلمة، فقالت: يا رسول الله (ص) انحر انت واحلق فنحر رسول الله (ص) وحلق فنحر القوم على حيث يقين وشكّ وارتياب، فقال رسول الله (ص) تعظيماً للبدن: رحم الله المحلّقين، وقال قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول الله والمقصّرين لانّ من لم يسق هدياً لم يجب عليه الحلق، فقال رسول الله (ص) ثانياً: رحم الله المحلّقين الّذين لم يسوقوا الهدى، فقالوا: يا رسول الله (ص) والمقصّرين، فقال: رحم الله المقصّرين، ثمّ رحل رسول الله (ص) نحو المدينة فرجع الى التّنعيم ونزل تحت الشّجرة فجاء اصحابه الّذين انكروا عليه الصّلح واعتذروا واظهروا النّدامة على ما كان منهم وسألوا رسول الله (ص) ان يستغفر لهم، فنزلت آية الرّضوان" .
اعلم، انّ اختلاف الاقوال والاخبار فى بيان هذا الفتح وتعليله بمغفرة الله ذنوبه المتقدّمة وذنوبه المتأخّرة وقول النّبىّ (ص) بعد نزول هذه الآية وهذه السّورة: "لقد نزلت علىّ آية هى احبّ الىّ من الدّنيا وما فيها" ، وتعقيب غفرانه باتمام النّعمة والهداية والنّصر وانزال السّكينة كلّها يدلّ على انّ المراد بهذا الفتح ليس فتح مكّة ولا فتح خيبر ولا فتح سائر البلاد فقط بل المراد فتحٌ هو اصل سائر الفتوح وهو فتح باب الارواح الى الجبروت بل الى اللاّهوت، وفى هذا الفتح يكون جميع الفتوحات من فتح البلاد ومن ايصال النّعم الصّوريّة والمعنويّة والنّصر على الاعداء والحكم بينه وبين اعداءه وكيفيّة الحكومة بين الخلق والعلم بالاشياء، وبالجملة هذا الفتح هو الّذى يصير سبباً لغفران ذنوب من اتّصل به ودخل تحت لوائه كائناً من كان وان كان ذنوبه بعدد قطرات البحار واجزاء الرّمال ولذلك قال علىّ (ع): دينكم دينكم فانّ السّيّئة فيه مغفورة والحسنة فى غيره غير مقبولة، وهذا الفتح هو الّذى لا يبقى معه نقص وقصور لصاحبه، وبهذا الفتح يصير صاحبه خاتماً للكلّ فى الكلّ، وهذا الفتح هو الّذى يكون احبّ الاشياء الى صاحبه.