خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٧
-الأنفال

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ فَ } انتم { لَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } ثمّ صرف الخطاب الى نبيّه (ص) وقال { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } اعلم، انّ حقّ هذه العبارة الّتى هى فى مقام قصر القلب او الافراد ان يقال: فانتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما انت رميت ولكنّ الله رمى، ثمّ حقّ القرينتين ان تكونا متوافقتين وقد اختلفتا فى اداة النّفى وذكر المفعول وحذفه ومضىّ الفعل ومضارعته واثباته لمن نفى عنه وعدمه؛ والوجه فى ذلك انّ الانسان له وجهة آلهيّة بها فاعليّته ووجهة نفسيّة بها ينسب الافعال الى نفسه وقد يرتفع عنه بالرّياضات والمجاهدات اذا كان سالكاً الى الله وجهته النّفسيّة بحيث لا يرى من نفسه اثراً فى البين ولا يرى فى الوجود الاّ الله ووجهته، فحينئذٍ يصحّ سلب الافعال عنه حقيقة وفى نظره ايضاً لانّه لا يرى لنفسه وجوداً ولا اثراً، ويسمّى هذا المقام فى اصطلاحهم مقام الفناء، فاذا صحا من فنائه وغشوته صار باقياً بالله لا بنفسه يعنى يرى للوجود مراتب ولكن لا يرى للحدود وجوداً فيرى وجوده مرتبةً من وجود الله لا مبايناً لوجود الله، فحينئذٍ يرى لمرتبة نفسه وجوداً هو وجود الله فى تلك المرتبة وهو المسمّى بالبقاء بالله، فيصحّ منه نسبة الوجود الى نفسه ونسبة اثر الوجود اليها حسب استشعاره لمراتب الوجود لكن نسبة اثر الوجود حينئذٍ غير النّسبة الّتى كانت قبل الفناء، وان لم يَصْحُ من فنائه فلم يكن نسبة للفعل اليه فى نظره لانّه لا يرى فى الوجود الاّ الله ولا يرى الفعل الاّ من الله، وقد يذهل عن وجهته النّفسيّة باسباب خارجةٍ وعوارض طاريةٍ كغلبة الخوف والغضب والفرح وغير ذلك، وحينئذٍ لا يستشعر بنفسه ولا بفعل نفسه ولا يصح نسبة الفعل اليه فى نظره كمن يرى فى حال اشتغاله من كان فى مقابله ولا يستشعر برؤيته بل ينفى الرّؤية عن نفسه؛ اذا تقرّر هذا فنقول: انّ المؤمنين فى حال القتال ذهلوا عن انفسهم لغلبة الدّهشة عليهم بحيث لم يستشعروا بأنفسهم ولا بفعل أنفسهم بل كانت الملائكة تقلّبهم وتوقع الحركة فيهم وتظهر صورة القتال على ايديهم فلو قال تعالى: انتم لم تقتلوهم كان اثباتاً لنفسيّة لهم ونفياً للفعل عنهم، وكذا لو قال: اذ قتلتموهم كان اثباتاً للفعل والنّفسيّة جميعاً لهم، والحال انّه لم يكن فى نظرهم نفسيّة لأنفسهم ولا فعل وايضاً لو قال: ما قتلتموهم، كان اشعاراً بنفسيّةٍ ما لهم حيث صرّح بالفاعل بخلاف لم تقتلوهم، فانّ الواو وان كان ضميراً لكنّه مشترك بين الغائب والحاضر وحرف الاعراب فكأنّه غير مصرّح بالفاعل، والرّسول (ص) لمّا كان له نفسيّة بنفسيّة الله وبقاء ببقاء الله اتى بالماضى المصرّح بالفعل ثمّ اثبت له الفعل المنفىّ ولم يقدّم المسند اليه ههنا لانّه يقتضى المقابلة لله او المشاركة معه وكلاهما منتفٍ فى الواقع وفى نظره (ص)، لانّ نفسيّته لم تكن الاّ بنفسيّة الله ومنه يظهر وجه اختلاف اداتى النّفى ايضاً. وامّا وجه الاختلاف بذكر المفعول وحذفه فهو انّ القتل ظهر على ايديهم وبحسب اقتضاء ظهوره فى المظاهر البشريّة وصل الى المقتولين بخلاف الرّمى، فانّه وان ظهر على يده (ص) اذروى انّه (ص) اخذ كفّاً من الحصا بوحىٍ من الله وقرأ: "شاهت الوجوه للحىّ القيّوم" ، ورماه فلم يبق احدٌ الاّ اشتغل بعينه لكنّ القوةّ القسريّة المودعة فى الحصا من المظهر البشرىّ لم تقتض سعة كفّ من الحصا نحواً من الف رجلٍ ولا انحرافها الى كلّ فى كلّ ناحية، فالرّمى كان منه بحسب مظهرّيته والايصال الى المشركين لم يكن منه لا حقيقةً ولا بحسب مظهريّته فأسقط المفعول هنا اشعاراً بانّ اصل الرّمى ظهر على يده ولكنّ الايصال الى المشركين لم يجر على يده { وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً } اتى بالعاطف مع انّ المقصود انّ الله قتل ورمى ليبلى المؤمنين لانّ المقصود من الاوّل نفى القتل والرّمى عنهم ولثباته لنفسه تعالى مع قطع النّظر عن السّبب والغاية ولو اتى بالقيد لا وهم انّ المراد نفى الفعل عنهم مقيّداً بالغاية المخصوصة واثباته كذلك، مع انّه لم يكن المقصود الاّ نفى اصل الفعل واثباته فهو معطوف على قوله لكّن الله قتلهم ورماهم بتقدير قتلهم او خبر مقدّم لقوله ذلكم والمعنى انّه قتلهم ورماهم لينعم على المؤمنين نعمة حسنة من الغنيمة واعلاء الكلمة، او المعنى ليختبر المؤمنين من قبله اختباراً حسناً لا تعب فيه ولا انحراف عن الحقّ يعتريه ابتلاهم بمجاهدة الاعداء مع قلّة عددهم وكثرة العدّو، وكونه اختباراً وامتحاناً واضح، وكونه حسناً لحسن عاقبته بحصول قوّة القلب لهم وقوّة الايمان مع الغلبة واعلاء الكلمة والغنيمة الوافرة وفداء الاسرى، ولعلّ هذا كان اوفق بسياق العبارة ومعانى اللّغة فانّ الابلاء والبلاء بمعنى الاختبار كثير الاستعمال وبمعنى الانعام لم يذكره بعض اللّغويّين { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لدعاء النّبىّ (ص) واستغاثة المؤمنين { عَلِيمٌ } بما يصلحهم من الانعام وعدمه او انّ الله سميعٌ لمقالتهم للنّبىّ (ص) وكراهة المقاتلة عليم بما هو صلاحهم من الجهاد مع العدوّ ومعارضة العير والغارة عليهم.