خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
٧٧
وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ
٧٨
قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
٧٩
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ
٨٠
قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
٨١
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ
٨٢
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
٨٣
-هود

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات تذكر عذاب قوم لوط، وهي من وجه تتمة الآيات السابقة التي قصّت نزول الملائكة ودخولهم على إبراهيم عليه السلام وتبشيره بإسحاق فإنما كانت كالتوطئة لقصة عذاب قوم لوط.
قوله تعالى: { ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب } يقال: ساءه الأمر مساءة أي أوقع عليه السوء، وسيء بالأمر بالبناء للمجهول أي أُوقع عليه من ناحيته وبسببه.
والذرع مقايسة الأطوال مأخوذ من الذراع العضو المعروف لأنهم كانوا يقيسون بها، ويطلق على نفس المقياس أيضاً، ويقال: ضاق بالأمر ذرعاً وهو كناية عن انسداد طريق الحيلة والعجز عن الاهتداء إلى مخلص ينجو به الإِنسان من النائبة كالذي يذرع ما لا ينطبق عليه ذرعه.
والعصيب فعيل بمعنى المفعول من العصب بمعنى الشدّ واليوم العصيب هو اليوم الذي شدّ بالبلاء شداً لا يقبل الانحلال ولا بعض أجزائه ينفكّ عن بعض.
والمعنى: لما جاءت رسلنا لوطاً وهم الملائكة النازلون بإبراهيم عليه السلام ساء مجيئهم لوطاً، وعجز عن الاحتيال لنجاتهم من شر القوم فإنهم دخلوا عليه في صوَر غلمان مرد صبيحي المنظر وكان قومه ذوي حرص شديد على إتيان الفحشاء ما كان من المترقب أن يعرضوا عنهم ويتركوهم على حالهم، ولذلك لم يملك لوط نفسه دون أن قال: { هذا يوم عصيب } أي شديد ملتفّ بعض شره ببعض.
قوله تعالى: { وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات } قال الراغب: يقال: هرع وأهرع ساقه سوقاً بعنف وتخويف، انتهى. وعن كتاب العين الإِهراع السوق الحثيث، انتهى.
وقوله: { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } أي ومن قبل ذلك كانوا يقترفون المعاصي ويأتون بالمنكرات فكانوا مجترئين على إيقاع الفحشاء معتادين بذلك لا ينصرفون عنه بصارف، ولا يحجبهم عن ذلك استحياء أو استشناع، ولا ينزجرون بموعظة أو ملامة أو مذمة لأن العادة تسهّل كل صعب وتزيّن كل قبيح ووقيح.
والجملة كالمعترضة بين قوله: { وجاءه قومه يهرعون إليه } وقوله: { قال يا قوم هؤلاء بناتي } الخ، وهي نافعة في مضمون طرفيها أما فيما قبلها فإنها توضح أن الذي كان يهرعهم ويسوقهم إلى لوط عليه السلام هو أنهم كانوا يعملون السيئات وصاروا بذلك معتادين على إتيان الفحشاء ولعين به فساقهم ذلك إلى المجيء إليه وقصد السوء بأضيافه.
وأما فيما بعدها فإنها تفيد أنهم لرسوخ الملكة واستقرار العادة سلبوا سمع القبول وأن يزجرهم زاجر من عظة أو نصيحة، ولذلك بدأ لوط في تكليمهم بعرض بناته عليهم ثم قال لهم: { اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } الخ.
قوله تعالى: { قال يا قوم هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم } إلى آخر الآية، لما رآهم تجمّعوا على الشر لا يصرفهم عن ذلك مجرد القول بعظة أو إغلاظ في الكلام أراد أن يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال فعرض بناته عليهم ورجَّحه لهم بأنهنّ أطهر لهم.
وإنما المراد بصيغة التفضيل - أطهر - مجرد الاشتمال على الطهارة من غير شوب بقذارة، والمراد هي طهارة محضاً، وهو استعمال شائع، قال تعالى:
{ ما عند الله خير من اللهو } [الجمعة: 11]، وقال { { والصلح خير } [النساء: 128]، وتفيد معنى الأخذ بالمتيقن.
وتقييد قوله: { هؤلاء بناتي } بقوله: { هنّ أطهر لكم } شاهد صدق على أنه إنما عرض لهم مسّهن عن نكاح لا عن سفاح وحاشا مقام نبيّ الله عن ذلك، وذلك لأن السفاح لا طهارة فيه أصلاً وقد قال تعالى:
{ { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [الإسراء: 32]، وقال: { { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } [الأنعام: 151]، وقد تقدم في تفسير هذه الآية أن ما تتضمنه هو من الأحكام العامة المشرّعة في جميع الشرائع الإِلهية النازلة على أنبيائه.
ومن هنا يظهر فساد قول من يقول: إنه عرض عليهم بناته من غير تقييده بنكاح. ولست أدري ما معنى علاج فحشاء بفحشاء غيرها؟ وما معنى قوله حينئذ: { فاتقوا الله }؟ ولو كان يريد دفع الفضيحة والعار عن نفسه فقط لاكتفى بقوله: { ولا تخزون في ضيفي }.
وربما قيل: إن المراد بقوله: { هؤلاء بناتي } الإِشارة إلى نساء القوم لأن النبي أبو أُمته فنساؤهم بناته كما أن رجالهم بنوه، يريد أن قصد الإِناث وهو سبيل فطريّ خير لكم وأطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء.
وهو تحكّم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، وأما كونهم كفَّاراً وبناته مسلمات ولا يجوز إنكاح المسلمة من الكافر فليس من المعلوم أن ذلك من شريعة إبراهيم حتى يتبعه لوط عليهما السلام فمن الجائز أن يكون تزويج المؤمنة بالكافر جائزاً في شرعه كما أنه كان جائزاً في صدر الإِسلام، وقد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنته من أبي العاص بن الربيع وهو كافر قبل الهجرة ثم نسخ ذلك.
على أن قولهم في جوابه: { لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } لا يلائم كون المراد بالبنات في كلامه إنما هي نساؤهم لا بناته من صلبه فإنهم ما كانوا مؤمنين به حتى يعترفوا بكون نسائهم بناته إلا أن يكون المراد التهكم ولا قرينة عليه.
لا يقال تعبيره عليه السلام بالبنات وليس له عندئذ إلا بنتان يدل على أن مراده بناته من نساء أُمته لا بنتاه غير الصادق عليه لفظ الجمع.
لأنا نقول: لا دليل على ذلك من كلامه تعالى ولا وقع ذلك في نقل يعتمد عليه، نعم وقع في التوراة الحاضرة أنه كان للوط بنتان فقط. ولا اعتماد على ما تتضمنه.
وقوله: { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } بيان للمطلوب، وقوله: { ولا تخزون في ضيفي } عطف تفسيري لقوله: { فاتقوا الله } فإنه عليه السلام إنما كان يطلب منهم أن لا يتعرضوا لضيفه لتقوى الله لا لهوى نفسه وعصبية جاهلية منه، ولم يكن عنده فرق بين ضيفه وغيرهم فيما كان يردعهم، وقد وعظهم بالردع عن هذا الذنب الشنيع وألحّ على ذلك سنين متمادية.
وإنما علق الردع على معنى الضيافة وأضاف الضيف إلى نفسه وذكر الخزي الوارد عليه من التعرض لهم كل ذلك رجاء أن يهيج صفة الفتوّة والكرامة فيهم ولذلك عقب ذلك بالاستغاثة والاستنصار بقوله: { أليس منكم رجل رشيد } لعله يجد فيهم ذا رشد إنساني فينتصر له وينجيه وضيوفه من أيدي أُولئك الظالمين لكن القوم كانوا كما قال الله تعالى:
{ { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } [الحجر: 72] ولم يؤثر ذلك فيهم أثراً ولم ينتهوا عن قوله بل أجابوا بما أيأسوه به من أي إلحاح في ذلك.
قوله تعالى: { قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد } هذا جواب القوم عما دعاهم إليه لوط من النكاح المباح أجابوا بنفي أن يكون لهم في بناته من حق وأنه يعلم ذلك ويعلم ما هو بغيتهم في هذا الهجوم وماذا يريدون.
وقد قيل في معنى نفيهم الحق: إن معناه ما لنا في بناتك من حاجة وما ليس للإِنسان فيه حاجة فكأنه لا حق له فيه ففي الكلام نوع استعارة.
وقيل: إن المراد ليس لنا في بناتك من حق لأنا لا نتزوجهن ومن لم يتزوج بامرأة فلا حق له فيها فالمراد بنفي الحق نفي سببه وهو الازدواج.
وقيل: المراد بالحق هو الحظ والنصيب دون الحق الشرعي أو العرفي أي لا رغبة لنا فيهن لأنهن نساء ولا ميل لنا إليهن.
والذي يجب الالتفات إليه أنهم لم يقولوا: ما لنا في بناتك من حق بل قالوا: { لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } فلم يجيبوا عنه بذلك بل بعلمه بذلك وبين القولين فرق فالظاهر أنهم ذكّروه بما كان يعلم من السنّة القومية الجارية بينهم، وهو المنع من التعرض لنساء الناس وخاصة بالقهر والغلبة أو ترك إتيان النساء بالمرّة واستباحة التعرض للغلمان وقضاء الوطر منهم، وقد كان لوط يردعهم عن سنّتهم ذلك إذ يقول لهم:
{ { إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء } [الأعراف: 81]، { أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } [الشعراء: 165-166]، { أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر } [العنكبوت: 29]، ولا شك أن السنّة القومية الجارية على فعل شيء يثبت حقاً فيه، والجارية على تركه ينفي الحق.
وبالجملة هم يلفتون نظره عليه السلام إلى ما يعلم من انتفاء حقهم عن بناته بما هن نساء بحسب السنّة القومية وما يعلم من إرادتهم في الهجوم على داره هذا ولعلّ هذا أحسن الوجوه، وبعده الوجه الثالث.
قوله تعالى: { قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد } يقال: أوى إلى كذا يأوي أُويّاً ومأوى أي انضم إليه، وآواه إليه يؤويه إيواء أي ضمه إليه. والركن هو ما يعتمد عليه البناء بعد الأساس.
الظاهر أنه لما وعظهم لوط عليه السلام بالأمر بتقوى الله وتهييج فتوّتهم في حفظ موقعه ورعاية حرمته في عدم التعرض لضيفه بما يجلب إليه العار والخزي، وقد قطع عذرهم بعرض بناته عليهم بالنكاح ثم استغاث بالاستنصار من أُولي الرشد منهم رجاء أن يوجد فيهم رجل رشيد ينصره عليهم ويدفعهم عنه فلم يجبه أحد فيما سأل ولا انماز من بينهم ذو رشد ينصره ويدفع عنه بل أيأسوه بقولهم: { لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد } لم يبق له إلا أن يظهر ما به من البث والحزن في صورة التمني فتمنى أن يكون له منهم قوة يقوى به على دفع عتاتهم الظالمين - وهو الرجل الرشيد الذي كان يسأل عنه في استغاثته - أو يكون له ركن شديد وعشيرة منيعة ينضم إليهم فيدفعهم بهم.
فقوله: { لو أن لي بكم قوة } أي ليت لي قدرة بسببكم بانضمام رجل منك رشيد إليَّ يقوم بنصرتي فأدفعكم به، وقوله: { أو آوي إلى ركن شديد } أي أو كنت أنضم إلى ركن شديد أي عشيرة منيعة يمنعكم مني هذا ما يعطيه ظاهر السياق.
وقيل: إن معنى قوله: { لو أن لي بكم قوة } أتمنى أن يكون لي منعة وقدرة وجماعة أتقوى بها عليكم فأدفعكم عن أضيافي. وفيه أن فيه تبديل قوله: { بكم } إلى قولنا: بهم عليكم. وهو كما ترى.
وقيل: إن معنى { لو أن لي بكم قوة } لو قويت عليكم بنفسي. وفيه أنه أبعد من لفظ الآية.
وقيل: إن الخطاب في الآية للأضياف دون القوم، ومعنى الآية أنه قال لأضيافه: أتمنى أن يكون لي بسببكم قوة ألقاهم بها. وفيه أن الانتقال من خطاب القوم إلى خطاب الأضياف ولا دليل من اللفظ ظاهراً يدل عليه إبهام وتعقيد من غير موجب، وكلامه تعالى أجل من ذلك.
قوله تعالى: { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } إلى آخر الآية عدم وصولهم إليه كناية عن عدم قدرتهم على ما يريدون، والمعنى لما بلغ الأمر هذا المبلغ قالت الملائكة مخاطبين للوط: إنا رسل ربك فأظهروا له أنهم ملائكة وعرفوه أنهم مرسلون من عند الله، وطيبوا نفسه أن القوم لن يصلوا إليه ولن يقدروا أن يصيبوا منه ما يريدون فكان ما ذكره الله تعالى في موضع آخر من كلامه:
{ { ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم } [القمر: 37]، فأذهب الله بأبصار الذين تابعوا على الشر وازدحموا على بابه فصاروا عمياناً يتخبطون.
وقوله: { فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد } الإِسراء والسرى بالضم السير بالليل فيكون قوله: { بقطع من الليل } نوع توضيح له، والباء للمصاحبة أو بمعنى في. والقطع من الشيء طائفة منه وبعضه، والالتفات افتعال من اللفت، قال الراغب: يقال: لفته عن كذا صرفه عنه، قال تعالى: { قالوا أجئتنا لتلفتنا } أي تصرفنا، ومنه التفت فلان إذا عدل عن قبله بوجهه، وامرأة لفوت تلفت من زوجها إلى ولدها من غيره. انتهى.
والقول دستور من الملائكة للوط عليه السلام إرشاداً له إلى النجاة من العذاب النازل بالقوم صبيحة ليلتهم هاتيك، وفيه معنى الاستعجال كما يشعر به قوله بعد: { إن موعدهم الصبح }.
والمعنى: أنا مرسلون لعذاب القوم وهلاكهم فانج أنت بنفسك وأهلك وسيروا أنت وأهلك بقطع من هذا الليل واخرجوا من ديارهم فإنهم هالكون بعذاب الله صبيحة ليلتهم هذه، ولا كثير وقت بينك وبين الصبح، ولا ينظر أحدكم إلى وراء.
وما ذكره بعضهم أن المراد بالالتفات الالتفات إلى مال أو متاع في المدينة يأخذه معه أو الالتفات بمعنى التخلف عن السرى مما لا يلتفت إليه.
وقوله: { إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم } ظاهر السياق أنه استثناء من قوله: { أهلك } لا من قوله: { أحد } وفي قوله: { إنه مصيبها ما أصابهم } بيان السبب لاستثنائها، وقال تعالى في غير هذا الموضع:
{ { إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين } [الحجر: 60]. وقوله: { إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب } أي موعد هلاكهم الصبح وهو صدر النهار بعد طلوع الفجر حين الشروق، كما قال تعالى في موضع آخر: { { فأخذتهم الصيحة مشرقين } [الحجر: 73]. والجملة الأُولى تعليل لقوله: { فأسر بأهلك بقطع من الليل } وفيه نوع استعجال كما تقدَّم، ويؤكده قوله: { أليس الصبح بقريب } ومن الجائز أن يكون لوط عليه السلام يستعجلهم في عذاب القوم فيجيبوه بقولهم: { إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب } أي إن من المقدّر أن يهلكوا بالصبح وليس موعداً بعيداً أو يكون الجملة الأُولى استعجالاً من الملائكة، والثانية تسلية منهم للوط في استعجاله.
ولم يذكر في الآيات ما هي الغاية لسراهم والمحل الذي يتوجهون إليه، وقد قال تعالى في موضع آخر من كلامه:
{ { فأسر بأهلك بقطع من الليل واتّبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون } [الحجر: 65]، وظاهره أن الملائكة لم يذكروا له المقصد وأحالوا ذلك إلى ما سيأتيه من الدلالة بالوحي الإِلهي.
قوله تعالى: { فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسوّمة عند ربك } ضمائر التأنيث الثلاث راجعة إلى أرض القوم أو القرية أو بلادهم المعلومة من السياق، والسجّيل على ما في المجمع بمعنى السجّين وهو النار، وقال الراغب: السجّين حجر وطين مختلط، وأصله فيما قيل فارسي معرَّب، انتهى. يشير إلى ما قيل إن أصله سنك كِل، وقيل: إنه مأخوذ من السجلّ بمعنى الكتاب كأنها كتب فيها ما فيها من عمل الإِهلاك، وقيل: مأخوذ من أسجلت بمعنى أرسلت.
والظاهر أن الأصل في جميع هذه المعاني هو التركيب الفارسي المعرّب المفيد معنى الحجر والطين، والسجل بمعنى الكتاب أيضاً منه فإنهم على ما قيل كانوا يكتبون على الحجر المعمول ثم توسَّع فسمّي كل كتاب سجلاً وإن كان من قرطاس، والإِسجال بمعنى الإِرسال مأخوذ من ذلك.
والنضد هو النظم والترتيب، والتسويم جعل الشيء ذا علامة من السيماء بمعنى العلامة.
والمعنى: ولما جاء أمرنا بالعذاب وهو أمره تعالى الملائكة بعذابهم وهو كلمة { كن } التي أشار إليها في قوله:
{ { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن } [يس: 82]، جعلنا عالي أرضهم وبلادهم سافلها بتقليبها عليهم وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود معلّمة عند ربك وفي علمه ليس لها أن تخطئ هدفها الذي رميت لأجل إصابته.
وذكر بعضهم أن القلب وقع على بلادهم والإِمطار بالسجيل عذَّب به الغائبون منهم. وقيل: إن القرية هي التي أُمطرت حين رفعها جبرئيل ليخسفها. وقيل: إنما أُمطرت عليهم الحجارة بعدما قلبت قريتهم تغليظاً في العقوبة. والأقوال جميعاً من التحكم من غير دليل من اللفظ.
وفي قوله تعالى في غير هذا الموضع:
{ { فأخذتهم الصيحة مشرقين } [الحجر: 73]، فقد كان هناك قلب وصيحة وإمطار بالحجارة ومن الممكن أن يكون ذلك بحدوث بركان من البراكين بالقرب من بلادهم وتحدث به زلزلة في أرضهم وانفجار أرضي بصيحة توجب قلب مدنهم، ويمطر البركان عليهم من قطعات الحجارة التي يثيرها ويرميها، والله أعلم.
قوله تعالى: { وما هي من الظالمين ببعيد } قيل المراد بالظالمين ظالمو أهل مكة أو المشركون من قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكلام مسوق للتهديد، والمعنى وليست هذه الحجارة من ظالمي مكة ببعيد أو المعنى: ليست هذه القرى المخسوفة من ظالمي قومك ببعيد فإنه في طريقهم بين مكة والشام، كما قال تعالى في موضع آخر:
{ { وإنها لسبيل مقيم } [الحجر: 76]، وقال: { { وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون } [الصافات: 137-138]. ويؤيده العدول من سياق التكلم إلى الغيبة في قوله: { مسوّمة عند ربك } فكأنه تعالى عدل عن مثل قولنا: مسوّمة عندنا، إلى هذا التعبير ليتعرض لقومه صلى الله عليه وآله وسلم بالتهديد أو بإنهاء الحديث إلى حسّهم ليكون أقوى تأثيراً في الحجاج عليهم.
وربما احتمل أن المراد تهديد مطلق الظالمين والمراد أنه ليست الحجارة أي إمطارها من عند الله تعالى من معشر الظالمين ومنهم قوم لوط الظالمون ببعيد، ويكون وجه الالتفات في قوله: { عند ربك } أيضاً التعريض لقوم النبي الظالمين المشركين.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن زكريا بن محمد [عن أبيه] عن عمرو عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله فطلبهم إبليس الطلب الشديد، وكان من فضلهم وخيرتهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم وتبقى النساء خلفهم فلم يزل إبليس يعتادهم فكانوا إذا رجعوا خرَّب إبليس ما يعملون.
فقالوا بعضهم لبعض: تعالوا نرصد هذا الذي يخرّب متاعنا فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان فقالوا له: أنت الذي تخرّب متاعنا مرة بعد أُخرى، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيّتوه عند رجل فلما كان الليل صاح له فقال له: مالك؟ فقال: فإن أبي ينوّمني على بطنه فقال له: تعالى فنم على بطني.
قال: فلم يزل يدلك الرجل حتى علمه ان يفعل بنفسه فأولاً علمه إبليس والثاني علمه هو ثم انسل يفر منهم، فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام ويعجبهم منه وهم لا يعرفونه فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بعضهم ببعض ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق فيفعلون بهم حتى تنكبّ مدينتهم الناس ثم تركوا نسائهم وأقبلوا على الغلمان.
فلما رآى أنه قد أحكم أمره في الرجال جاء إلى النساء فصيّر نفسه امرأة فقال لهنّ: إن رجالكن يفعل بعضهم ببعض؟ قلن: نعم رأينا ذلك وكل ذلك يعظهم لوط ويوصيهم وإبليس يغويهم حتى استغنى النساء بالنساء.
فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في زي غلمان عليهم أقبية فمروا بلوط وهو يحرث. قال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قط. فقالوا: إنا رسل سيدنا إلى رب هذه البلدة. قال: أولم يبلغ سيدكم ما يفعل أهل هذه القرية؟ إنهم والله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم. قالوا: أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا: وما هي؟ قال: تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام.
قال: فجلسوا. قال: فبعث ابنته. قال فجيئي لهم بخبز وجيئي لهم بماء في القرعة وجيئي لهم بعباء يتغطون بها من البرد فلما أن ذهبت الابنة أقبل المطر والوادي فقال لوط: الساعة تذهب بالصبيان الوادي قال: قوموا حتى نمضي، وجعل لوط يمشي في أصل الحائط، وجعل جبرئيل وميكائيل وإسرافيل يمشون وسط الطريق. قال: يا بني امشوا ها هنا فقالوا: أمرنا سيدنا أن نمر في وسطها وكان لوط يستغنم الظلام.
ومر إبليس فأخذ من حجر امرأة صبياً فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلهم على باب لوط فلما أن نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا؟ فقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحون في ضيفي. قالوا: هم ثلاثة خذ واحداً وأعطنا اثنين. قال: وأدخلهم الحجرة وقال: لو أن لي أهل بيت يمنعوني منكم.
قال: وتدافعوا على الباب وكسروا باب لوط وطرحوا لوطاً فقال له جبرئيل: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأخذ كفاً من بطحاء فضرب بها وجوههم وقال: شاهت الوجوه فعمي أهل المدينة كلهم فقال لهم لوط: يارسل ربي فما أمركم ربي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم بالسحر. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا: وما حاجتك؟ قال: تأخذوهم الساعة فإني أخاف أن يبدوا لربي فيهم. فقالوا: يا لوط إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب لمن يريد أن يأخذ فخذ أنت بناتك وامض ودع امرأتك.
فقال أبو جعفر عليه السلام: رحم الله لوطاً لو علم من معه في الحجرة لعلم أنه منصور حيث يقول: { لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد } أي ركن أشد من جبرئيل معه في الحجرة؟ فقال عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: { وما هي من الظالمين ببعيد } من ظالمي أُمتك إن عملوا ما عمل قوم لوط، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"من ألحّ في وطي الرجال لم يمت حتى يدعو الرجال إلى نفسه"
]. أقول: والرواية لا تخلو من تشويش ما في اللفظ، وقد ذكر فيها الملائكة المرسلون ثلاثة، وفي بعض الروايات - كالرواية المذكورة في الباب السابق عن أبي يزيد الحمّار عن أبي عبد الله عليه السلام - أنهم كانوا أربعة بزيادة كروبيل، وفي بعض الروايات من طرق أهل السنّة أنهم كانوا ثلاثة وهم جبرئيل وميكائيل ورفائيل، والظاهر من الرواية أنها تأخذ قول لوط: { لو أن لي بكم قوة } الخ خطاباً منه للملائكة لا للقوم، وقد تقدمت الإِشارة إليه في بيان الآيات.
وقوله عليه السلام: رحم الله لوطاً لو علم "الخ" في معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم - على ما روي عنه - رحم الله لوطاً إن كان ليأوى إلى ركن شديد.
وقوله عليه السلام: فقال عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الخ إشارة إلى ما تقدم من احتمال كون الآية، مسوقاً لتهديد قريش.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: { وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود } قال: ما من عبد يخرج من الدنيا يستحل عمل قوم لوط إلا رماه الله جندلة من تلك الحجارة تكون منيته فيه ولكن الخلق لا يرونه.
أقول: وروى في الكافي بإسناده عن ميمون البان عنه عليه السلام مثله. وفيه من بات مصرّاً على اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجارة تكون فيه منيته ولا يراه أحد، وفي الحديثين إشعار بكون قوله: { وما هي من الظالمين ببعيد } غير خاص بقريش، وإشعار بكون العذاب المذكور روحانياً غير مادي.
وفى الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام في قول لوط: { هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } قال: عرض عليهم التزويج.
وفي التهذيب عن الرضا عليه السلام: عن إتيان الرجل المرأة من خلفها فقال: أحلتها آية من كتاب الله عز وجل: قول لوط: { هؤلاء بناتي هين أطهر لكم } قد علم أنهم لا يريدون الفرج.
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته إنه إن كفّ يده عنهم كف يداً واحدة، وكفوا عنه أيدي كثيرة مع مودتهم وحفاظتهم ونصرتهم حتى لربما غضب الرجل للرجل وما يعرفه إلا بحسبه وسأتلو عليكم بذلك آيات من كتاب الله تعالى فتلا هذه الآية: { لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد }.
قال علي رضى الله عنه: والركن الشديد العشيرة فلم يكن للوط عشيرة فوالذي لا إله غيره ما بعث الله نبياً بعد لوط إلا في ثروة من قومه.
أقول: وآخر الرواية مروي من طرق أهل السنّة والشيعة.
وفي الكافي - في حديث أبي يزيد الحمّار عن أبي جعفر عليه السلام المنقول في البحث الروائي السابق - قال: فأتوا يعني الملائكة لوطاً وهو في زراعة قرب القرية فسلموا عليه وهم معتمون فلما رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قال لهم: المنزل فقالوا: نعم فتقدمهم ومشوا خلفه فندم على عرضه المنزل عليهم فقال: أي شيء صنعت؟ آتي بهم قومي وأنا أعرفهم؟ فقال: إنكم لتأتون شراراً من خلق الله. قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات. فقال جبرئيل: هذه واحدة فمشى ساعة ثم التفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شراراً من خلق الله فقال جبرئيل: هذه ثنتان. ثم مشى فلما بلغ باب المدنية التفت إليهم ثم قال: إنكم لتأتون شراراً من خلق الله. فقال جبرئيل: هذه الثالثة ثم دخل ودخلوا معه حتى دخل منزله.
فلما رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا إلى الباب يهرعون حتى جاءوا على الباب فنزلت إليهم فقالت: عندنا قوم ما رأيت قط قوماً أحسن منهم هيئة فجاءوا إلى الباب ليدخلوا.
فلما رآهم لوط قام إليهم فقال لهم: يا قوم اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد؟ ثم قال: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فدعاهم كلهم إلى الحلال فقالوا: ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد، فقال لهم: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، فقال جبرئيل: لو يعلم أي قوة له.
فتكاثروه حتى دخلوا الباب فصاح بهم جبرئيل فقال: يا لوط دعهم يدخلون فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قول الله عز وجل: { فطمسنا أعينهم } ثم ناداه جبرئيل فقال له: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل. وقال له جبرئيل: إنا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل عجّل فقال: إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب.
فأمره يتحمل ومن معه إلا امرأته ثم اقتلعها يعني المدينة جبرئيل بجناحه من سبع أرضين ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نياح الكلاب وصراخ الديوك ثم قلبها وأمطر عليها وعلى من حول المدينة بحجارة من سجيل.
أقول: وما اشتمل عليه آخر الرواية من اقتلاعها من سبع أرضين ثم رفعها إلى حيث سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وصراخ ديوكهم أمر خارق للعادة، وهو وإن كان لا يستبعد من قدرة الله سبحانه لكنه مما لا يكفي في ثبوته أمثال هذه الرواية وهي من الآحاد.
على أن السنّة الإِلهية جارية على أن تقتفي في الكرامات والمعجزات الحكمة وأي حكمة في رفعهم إلى هذا الحد ولا أثر له في عذابهم ولا في تشديده؟.
وقول بعض أهل الكلام: من الجائز أن يكون هذا الفعال العجيب الخارق للعادة لطفاً من الله ليكون الإِخبار بذلك من طريق المعصومين مقرِّباً للمؤمنين إلى الطاعة مبعّداً لهم من المعصية كلام مدخول فإن خلق الأُمور العظيمة المعجبة والحوادث الخارقة للعادة ليتأكد بها إيمان المؤمنين ويعتبر بها المعتبرون وإن كان لا يخلو من لطف إلا أنه إنما يكون لطفاً فيما كان بلوغه لهم من طريق الحسّ أو أي طريق علمي آخر، وأما رواية واحدة أو ضعيفة وهي خالية عن الحجِّية لا يعبأ بها فلا معنى لإِيجاد الأُمور الخارقة والحوادث العجيبة لأجل حصول اعتبار أو مخافة من طريقها، ولا وجه لتشديد عذاب قوم ليعتبر به قوم آخرون إلا في سنَّة الجهَّال من طغاة البشر وجبابرتهم.
قال صاحب المنار في تفسيره: وفي خرافات المفسّرين المروية عن الإِسرائيليات أن جبرئيل قلعها من تخوم الأرض بجناحه وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج فيها ثم قلبها قلباً مستوياً فجعل عاليها سافلها.
وهذا تصوّر مبني على اعتقاد متصوره أن الأجرام السماوية المأهولة بالسكان مما يمكن أن يقرب منهم سكان الأرض وما فيها من الحيوان ويبقون أحياء، وقد ثبت بالمشاهدة والاختبار الفعلي في هذه الأيام التي يكتب هذا فيها أن الطيارات والمناطيد التي تخلق في الجو تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء ويستحيل حياة الناس فيها، وهم يصنعون أنواعاً منها يصنعون فيها من اكسجين الهواء ما يكفي استنشاقه وتنفسه للحياة في طبقات الجو العليا ويصعدون فيها.
وقد أُشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر من عسر التنفس بقوله تعالى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعّد في السماء }.
فإن قيل: إن هذا الفعل المروي عن جبرئيل من الممكنات العقلية وكان وقوعه من خوارق العادات فلا يصحّ أن يجعل تصديقه موقوفاً على ما عرف من سنن الكائنات.
قلت: نعم ولكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن والنواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران وخراب أن تكون الرواية عن وحي إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإِسناد لا شذوذ فيه ولا علّة على الأقل، ولم يذكر في كتاب الله تعالى، ولم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تظهر حكمة الله فيه، وإنما روي عن بعض التابعين دون الصحابة. ولا شك أنه من الإِسرائيليات.
ومما قالوه فيها: أن عدد أهلها كان أربعة آلاف وبلاد فلسطين كلها لا تسع هذا العدد، فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع؟ انتهى.
والذي ذكره أن الحديث إنما روي عن التابعين دون الصحابة فإنه أن هذا المعنى مرويّ عن ابن عباس وعن الحذيفة بن اليمان، ففي رواية ابن عباس - كما في الدرّ المنثور عن إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر ومقاتل عن الضحّاك عنه - { فلما كان عند وجه الصبح عمد جبريل إلى قرى لوط بما فيها من رجالها ونسائها وثمارها وطيرها فحواها وطواها ثم قلعها من تخوم الثرى ثم احتملها تحت جناحه ثم رفعها إلى السماء الدنيا فسمع سكان سماء الدنيا أصوات الكلاب والطير والنساء والرجال من تحت جناح جبرئيل ثم أرسلها منكوسة ثم أتبعها بالحجارة، وكانت الحجارة للرعاة والتجار ومن كان خارجاً عن مدائنهم } الحديث.
وفي رواية حذيفة بن اليمان - على ما في الدر المنثور عن عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه - "فاستأذن جبرئيل في هلاكهم فأذن له فاحتمل الأرض التي كانوا عليها، وأهوى بها حتى سمع أهل سماء الدنيا صغاء كلابهم وأوقد تحتهم ناراً ثم قلبها بهم فسمعت امرأة لوط الوجبة وهي معهم فالتفتت فأصابها العذاب، وتبعت سفارهم الحجارة" الحديث.
وأما من التابعين فقد روي هذا المعنى عن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي صالح ومحمد بن كعب القرظيّ وعن السدّيّ ما هو أغلظ من ذلك قال: "لما أصبحوا نزل جبرئيل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ السماء الدنيا ثم أهوى بها جبرئيل إلى الأرض" الحديث.
وأما ما ذكره من أنه "يشترط في قبول الرواية أن تكون منقولة بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإِسناد لا شذوذ فيه ولا علة" فمسألة أُصولية، والذي استقر عليه النظر اليوم في المسألة إن الخبر إن كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعية فلا ريب في حجّيّتها، وأما غير ذلك فلا حجية فيه إلا الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظنّ النوعيّ فإن لها حجّيّة.
وذلك أن الحجية الشرعية من الاعتبارات العقلائية فتتبع وجود أثر شرعي في المورد يقبل الجعل والاعتبار الشرعي والقضايا التاريخية والأُمور الاعتقادية لا معنى لجعل الحجية فيها لعدم أثر شرعي ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علماً وتعبيد الناس بذلك، والموضوعات الخارجية وإن أمكن أن يتحقق فيها أثر شرعي إلا أن آثارها جزئية والجعل الشرعي لا ينال إلا الكليات وليطلب تفصيل القول في المسألة من علم الأُصول.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"رحم الله لوطاً إن كان ليأوى إلى ركن شديد"
]. أقول: مقتضى المقام الذي كان يجاري فيه لوط قومه ويأمرهم بتقوى الله والاجتناب عن الفجور، وظاهر سياق الآيات الحاكية للمشاجرة بينه وبين قومه أن لوطاً إنما كان يتمنى أنصاراً أُولي رشد من بين قومه أو من غيرهم فقوله: { أو آوي إلى ركن شديد } يريد به أنصاراً من غير القوم من عشيرة أو أخلاّء وأصدقاء في الله ينصرونه في الدفع عن أضيافه هذا والركن الشديد معه في داره وهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ولذلك لبّوه من غير فصل وقالوا: يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك.
ولم يكن ليغفل في حال من تلك الأحوال عن ربه وأن كل النصر من عنده حتى ينساه ويتمنى ناصراً غيره، وحاشا مقام هذا النبي الكريم عن مثل هذا الجهل المذموم وقد قال الله تعالى في حقه:
{ { آتيناه حكماً وعلماً } [يوسف: 22] إلى أن قال { وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين } [الأنبياء: 75]. فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن كان ليأوى إلى ركن شديد" معناه أن معه جبرئيل وسائر الملائكة وهو لا يعلم بذلك، وليس معناه أن معه الله سبحانه وهو جاهل بمقام ربه.
فما في بعض الروايات الناقلة للفظة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإِشعار بأن مراده بالركن الشديد هو الله سبحانه دون الملائكة إنما نشأ عن فهم بعض رواة الحديث كما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"رحم الله لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله تعالى" ]. الحديث.
وكما عنه من طريق آخر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يغفر الله للوط إن كان ليأوى إلى ركن شديد" ولعل فيه نقلاً بالمعنى وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رحم الله لوطاً فغيّره الراوي إلى قوله: يغفر الله للوط المشعر بكون لوط أهمل أدباً من آداب العبودية أو أذنب ذنباً بجهله مقام ربه ونسيانه ما لم يكن له أن ينساه.
(كلام في قصة لوط وقومه في فصول)
1- قصته وقصة قومه في القرآن: كان لوط عليه السلام من كلدان في أرض بابل ومن السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم عليه السلام آمن به وقال: إني مهاجر إلى ربي فنجاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين فنزل في بعض بلادها (وهي مدينة سدوم على ما في التواريخ والتوراة وبعض الروايات).
وكان أهل المدينة وما والاها من المدائن وقد سماها الله في كلامه بالمؤتفكات يعبدون الأصنام، ويأتون بالفاحشة: اللواط، وهم أول قوم شاع فيهم ذلك حتى كانوا يأتون به في نواديهم من غير إنكار ولم يزل تشيع الفاحشة فيهم حتى عادت سنّة قومية ابتلت به عامتهم وتركوا النساء وقطعوا السبيل.
فأرسل الله لوطاً إليهم فدعاهم إلى تقوى الله وترك الفحشاء والرجوع إلى طريق الفطرة وأنذرهم وخوّفهم فلم يزدهم إلا عتواً ولم يكن جوابهم إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، وهددوه بالإِخراج من بلدتهم وقالوا له: لئن لم تنته لتكونن من المخرجين وقالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أُناس يتطهرون.
2- عاقبة أمرهم: لم يزل لوط عليه السلام يدعوهم إلى سبيل الله وملازمة سنّة الفطرة وترك الفحشاء وهم يصرون على عمل الخبائث حتى استقر بهم الطغيان وحقت عليهم كلمة العذاب فبعث الله رسلاً من الملائكة المكرمين لإِهلاكهم فنزلوا أولاً على إبراهيم عليه السلام وأخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط فجادلهم إبراهيم عليه السلام لعله يرد بذلك عنهم العذاب، وذكرهم بأن فيهم لوطاً فردوا عليه بأنهم أعلم بموقع لوط وأهله، وأنه قد جاء أمر الله وأن القوم آتيهم عذاب غير مردود.
فمضوا إلى لوط في صور غلمان مرد ودخلوا عليه ضيفاً فشق ذلك على لوط وضاق بهم ذرعاً لما كان يعلم من قومه أنهم سيتعرضون لهم وأنهم غير تاركيهم البتة فلم يلبث دون أن سمع القوم بذلك وأقبلوا يهرعون إليه وهم يستبشرون وهجموا على داره فخرج إليهم وبالغ في وعظهم واستثارة فتوتهم ورشدهم حتى عرض عليهم بناته وقال: يا قوم إن هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي ثم استغاث وقال: أليس منكم رجل رشيد فردوا عليه أنه ليس لهم في بناته إربة وأنهم غير تاركي أضيافه البتة حتى أيس لوط وقال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد.
قالت الملائكة عند ذلك: يا لوط إنا رسل ربك طب نفساً إن القوم لن يصلوا إليك فطمسوا أعين القوم فعادوا عمياناً يتخبطون وتفرقوا.
ثم أمروا لوطاً عليه السلام أن يسري بأهله من ليلته بقطع من الليل ويتبع أدبارهم ولا يلتفت منهم أحد إلا امرأته فإنه مصيبها ما أصابهم، وأخبروه أنهم سيهلكون القوم مصبحين.
فأخذت الصيحة القوم مشرقين، وأرسل الله عليهم حجارة من طين مسوّمة عند ربك للمسرفين، وقلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها وأخرج من كان فيها من المؤمنين فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين وهو بيت لوط وترك فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم (الذاريات: 37 - وغيرها).
وفي اختصاص الإِيمان والإِسلام بيت لوط عليه السلام، وشمول العذاب لمدائنهم دلالة - أولاً - على أن القوم كانوا كفاراً غير مؤمنين و - ثانياً - على أن الفحشاء ما كانت شائعة فيما بين الرجال منهم فحسب إذ لو كان الأمر على ذلك والنساء بريئات منها وكان لوط يدعو الناس إلى الرجوع إلى سبيل الفطرة وسنَّة الخلقة التي هي مواصلة الرجال والنساء لاتّبعته عدّة من النساء واجتمعن حوله وآمنّ به طبعاً، ولم يذكر من ذلك شيء في كلامه سبحانه.
وفي ذلك تصديق ما تقدم في الأخبار المأثورة أن الفحشاء شاعت بينهم، واكتفى الرجال بالرجال باللواط، والنساء بالنساء بالسحق.
3- شخصية لوط المعنوية: كان عليه السلام رسولاً من الله إلى أهل المؤتفكات وهي مدينة سدوم وما والاها من المدائن - ويقال: كانت أربع مداين - سدوم وعمورة وصوغر وصبوييم وقد أشركه في جميع المقامات الروحية التي وصف بها أنبياءه الكرام.
ومما وصفه به خاصة ما في قوله:
{ { ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين } [الأنبياء: 74]
4- لوط وقومه في التوراة: ذكرت التوراة أن لوطاً كان ابن أخي أبرام - إبراهيم - هاران بن تارخ وكان هو وأبرام في بيت تارخ في أور الكلدانيين ثم هاجر تارخ أورا قاصداً أرض الكنعانيين فأقام بلدة حاران ومعه أبرام ولوط ومات هناك.
ثم إن أبرام بأمر من الرب خرج من حاران ومعه لوط ولهما مال كثير وغلمان اكتسبا ذلك في حاران فأتى أرض كنعان، وكان يرتحل أبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب، ثم أتى مصر، ثم صعد من هناك جنوباً نحو بيت إيل فأقام هناك.
ولوط السائر مع أبرام أيضاً كان له غنم وبقر وخيام ولم يحتملهما الأرض أن يسكنا ووقعت مخاصمة بين رعاة مواشيهما فتفرقا فأحذرا من وقوع النزاع والتشاجر فاختار لوط دائرة الأردن وسكن في مدن الدائرة ونقل خيامه إلى سدوم، وكان أهل سدوم أشراراً وخطاة لدى الرب جداً، ونقل أبرام خيامه وأقام عند بلوطات ممراً التي في حبرون.
ثم وقعت حرب بين ملوك سدوم وعمورة وإدمة وصبوييم، وصوغر من جانب وأربعة من جيرانهم من جانب، انهزم فيها ملك سدوم ومن معه من الملوك، وأخذ العدوّ جميع أملاك سدوم وعمورة وجميع أطعمتهم، وأُسر لوط فيمن أُسر وسبي جميع أمواله، وانتهى الخبر إلى أبرام فخرج فيمن معه من الغلمان، وكانوا يزيدون على ثلاث مائة فحاربهم وهزمهم، وأنجى لوطاً وجميع أمواله من الأسر والسبي، وردّه إلى مكانه الذي كان مقيماً فيه (ملخّص ما في التوراة من صدر قصة لوط).
قالت التوراة: وظهر له - لأبرام - الرب عند بلوطات ممراً وهو جالس في باب الخيمة وقت حرّ النهار. فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض. وقال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت هذه الشجرة. فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت.
فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقاً سميداً اعجني واصنعي خبز ملّة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً وجيّداً وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبداً ولبناً والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم. وإذ كان هو واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا.
وقالوا له: أين سارة امرأتك، فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه. وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام. وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء. فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعّم وسيّدي قد شاخ؟ فقال الرب لإِبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنها خافت. فقال: لا بل ضحكت.
ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشياً معهم ليشيعهم. فقال الرب: هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ وإبراهيم يكون أُمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أُمم الأرض. لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا براً وعدلاً لكي يأتي الرب لإِبراهيم بما تكلم به.
فقال الرب: إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيئتهم قد عظمت جداً: أنزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إليَّ وإلا فأعلم. وانصرف الرجال من هناك وذهبوا نحو سدوم. وأما إبراهيم فكان لم يزل قائماً أمام الرب.
فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البارّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارّاً في المدينة. أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارّاً الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البارّ مع الأثيم فيكون البارّ كالأثيم، حاشاك. أديّان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟ فقال الرب: إن وجدت في سدوم خمسين بارّاً في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم.
فأجاب إبراهيم وقال: إني قد شرعت أُكلم المولى وأنا تراب ورماد ربما نقص الخمسون بارّاً خمسة أتهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال الرب: لا أُهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين. فعاد يكلمه أيضاً وقال: عسى أن يوجد هناك أربعون، فقال: لا أفعل من أجل الأربعين. فقال: لا يسخط المولى فأتكلم عسى أن يوجد هناك ثلاثون. فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين. فقال: إنى قد شرعت أُكلم المولى عسى أن يوجد هناك عشرون، فقال: لا أُهلك من أجل العشرين.
فقال: لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط عسى أن يوجد هناك عشرة، فقال: لا أُهلك من أجل العشرة. وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم ورجع ابرهيم إلى مكانه.
فجاء الملاكان إلى سدوم مساء وكان لوط جالساً في باب سدوم فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض. وقال: يا سيّديّ ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما ثم تبكران وتذهبان في طريقكما، فقالا: لا بل في الساحة نبيت، فألح عليهما جداً، فمالا إليه ودخلا بيته، فصنع لهما ضيافة وخبزاً فطيراً فأكلا.
وقبل ما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كل الشعب من أقصاها فنادوا لوطاً وقالوا له: أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟ أخرجهما إلينا لنعرفهما. فخرج إليهم لوط إلى الباب وأغلق الباب وراءه. وقال: لا تفعلوا شراً يا إخوتي. هوذا لي ابنتان لم يعرفا رجلاً أُخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم، وأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئاً لأنهما قد دخلا تحت ظلِّ سقفي.
فقالوا: إبعد إلى هناك. ثم قالوا: جاء هذا الإِنسان ليتغرّب وهو يحكم حكماً. الآن نفعل بك شراً أكثر منهما. فألحوا على الرجل لوط جداً وتقدموا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما وأدخلا لوطاً إليهما إلى البيت وأغلقا الباب وأما الرجال الذين على باب البيت فضرباهم بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن يجدوا الباب.
وقال الرجلان للوط: من لك أيضاً ها هنا أصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة أخرج من المكان لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكهم. فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره.
ولما طلع الفجر كان الملاكان يعجلان لوطاً قائلين: قم خذ امرأتك وابنتيك. الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة. ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه وضعاه خارج المدينة.
وكان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: اهرب لحياتك. لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. أهرب إلى الجبل لئلا تهلك فقال لهما لوط: لا يا سيد هوذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظمت لطفك الذي صنعت إلي باستبقاء نفسي. وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت. هو ذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها. وهي صغيرة أهرب إلى هناك أليست هي صغيرة فتحيا نفسي. فقال له: إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضاً أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها. أسرع أهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أفعل شيئاً حتى تجيء إلى هناك - لذلك دعي اسم المدينة صوغر.
وإذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب من السماء. وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض. ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.
وبكّر إبراهيم في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة. ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون. وحدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم. وأرسل لوطاً من وسط الانقلاب حين قلب المدن التي سكن فيها لوط.
وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض هلّم نسقي أبانا خمراً ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلاً. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة. ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمراً الليلة أيضاً فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلاً. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً. و قامت الصغيرة واضطجعت معه. ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما.
فولدت البكر ابناً ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيّين إلى اليوم والصغيرة أيضاً ولدت ابناً ودعت اسمه بن عمّى وهو أبو بني عمّون إلى اليوم.انتهى.
هذا ما قصته التوراة في لوط وقومه نقلناه على طوله ليتضح به ما تخالف القرآن الكريم من وجه القصة ومن وجوه غيرها.
ففيها: كون الملك المرسل للبشرى والعذاب ملكين اثنين. وقد عبر القرآن بالرسل - بلفظ الجمع وأقله ثلاثة.
وفيها: أن أضياف إبراهيم أكلوا مما صنعه وقدمه إليهم، والقرآن ينفي ذلك ويقص أن إبراهيم خاف إذ رأى أن أيديهم لا تصل إليه.
وفيها: إثبات بنتين للوط، والقرآن يعبر بلفظ البنات. وفيها كيفية إخراج الملائكة لوطاً وكيفية تعذيب القوم وصيرورة المرأة عموداً من ملح وغير ذلك.
وفيها: نسبة التجسم صريحة إلى الله سبحانه، وما ذكرته من قصة لوط مع بنتيه أخيراً، والقرآن ينزّه ساحة الحق سبحانه عن التجسم ويبرئ أنبياءه ورسله عن ارتكاب ما لا يليق بساحة قدسهم.