خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ
٤٣
-الرعد

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآية خاتمة السورة وتعطف الكلام على ما في مفتتحها من قوله: { والذي أُنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } وهي كرة ثالثة على منكري حقيقة كتاب الله يستشهد فيها بأن الله يشهد على الرسالة ومن حصل له العلم بهذا الكتاب يشهد بها.
قوله تعالى: { ويقول الذين كفروا لست مرسلاً } الخ بناء الكلام في السورة على إنكارهم حقيقة الكتاب وعدم عدهم إياه آية إلهية للرسالة ولذا كانوا يقترحون آية غيره كما حكاه الله تعالى في خلال الآيات مرة بعد مرة وأجاب عنه بما يرد عليهم قولهم فكأنهم لما يئسوا مما اقترحوا أنكروا أصل الرسالة لعدم إذعانهم بما أنزل الله من آية وعدم إجابتهم فيما اقترحوه من آية فكانوا يقولون: { لست مرسلاً }.
فلقَّن الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة عليهم لرسالته بقوله: { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } وهو حجة قاطعة وليس بكلام خطابي ولا إحالة إلى ما لا طريق إلى حصول العلم به.
فقوله: { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم } استشهاد بالله سبحانه وهو ولي أمر الإِرسال وإنما هي شهادة تأدية لا شهادة تحمل فقط فإن أمثال قوله تعالى: { إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } من آيات القرآن وكونه آية معجزة من الله ضروري، وكونه قولاً وكلاماً له سبحانه ضروري واشتماله على تصديق الرسالة بدلالة المطابقة المعتمدة على علم ضروري أيضاً ضروري، ولا نعني بشهادة التأدية إلا ذلك.
ومن فسر شهادته تعالى من المفسرين بأنه تعالى قد أظهر على رسالتي من الأدلة والحجج ما فيه غنى عن شهادة شاهد آخر ثم قال: وتسمية ذلك شهادة مع أنه فعل وهى قول من المجاز حيث إنه يغني غناها بل هو أقوى منها. انتهى. فقد قصد المطلوب من غير طريقه.
وذلك أن الأدلة والحجج الدالة على حقيقة رسالته صلى الله عليه وآله وسلم إما القرآن وهو الآية المعجزة الخالدة، وإما غيره من الخوارق والمعجزات وآيات السورة - كما ترى - لا تجيب الكفار على ما اقترحوه من هذا القسم الثاني ولا معنى حينئذ للاستشهاد بما لم يجابوا عليه، وأما القرآن فمن البين أن الاستناد إليه من جهة أنه معجزة تصدّق الرسالة بدلالتها عليها أي كلام له تعالى يشهد بالرسالة، وإذا كان كذلك فما معنى العدول عن كونه كلاماً له تعالى يدل على حقيقة الرسالة أي شهادة لفظية منه تعالى على ذلك بحقيقة معنى الشهادة إلى كونه دليلاً فعلياً منه عليها سمى مجازاً بالشهادة؟.
على أن كون فعله تعالى أقوى دلالة على ذلك من قوله ممنوع.
فقد تحصل أن معنى قوله: { الله شهيد بيني وبينكم } أن ما وقع في القرآن من تصديق الرسالة شهادة إلهية بذلك.
وأما جعل الشهادة شهادة تحمل ففيه إفساد المعنى من أصله وأي معنى لإِرجاع أمر متنازع فيه إلى علم الله واتخاذ ذلك حجة على الخصم ولا سبيل له إلى ما في علم الله في أمره؟ أهو كما يقول أو فرية يفتريها على الله؟.
وقوله: { ومن عنده علم الكتاب } أي وكفى بمن عنده علم الكتاب شهيداً بيني وبينكم، وقد ذكر بعضهم أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ويتعين على هذا ان يكون المراد بالموصول هو الله سبحانه فكأنه قيل: كفى بالله الذي عنده علم الكتاب شهيداً "الخ".
وفيه أولاً أنه خلاف ظاهر العطف، وثانياً أنه من عطف الذات مع صفته إلى نفس الذات وهو قبيح غير جائز في الفصيح ولذلك ترى الزمخشري لما نقل في الكشاف هذا القول عن الحسن بقوله: وعن الحسن: "لا والله ما يعني إلا الله" قال بعده: والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم. انتهى فاحتال إلى تصحيحه بتبديل لفظة الجلالة { الله } من (الذي يستحق العبادة) وتبديل { من } من { الذي } ليعود المعطوف والمعطوف عليه وصفين فيكون في معنى عطف أحد وصفي الذات على الآخر وإناطة الحكم بالذات بما له من الوصفين كدخالتهما فيه فافهم ذلك.
لكن من المعلوم أن تبديل لفظ من لفظ يستقيم إفادته لمعنى لا يوجب استقامة ذلك في اللفظ الأول وإلا لبطلت أحكام الألفاظ.
على أن التأمل فيما تقدم في معنى هذه الشهادة وأن المراد به تصديق القرآن لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي أن وضع لفظة الجلالة في هذا الموضع لا للتلميح إلى معناه الوصفي بل لإِسناده الشهادة إلى الذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال لأن شهادته أكبر الشهادات قال سبحانه: { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم }.
وذكر آخرون: إن المراد بالكتاب التوراة والإِنجيل أو خصوص التوراة والمعنى وكفى بعلماء الكتاب شهداء بيني وبينكم لأنهم يعلمون بما بشر الله به الأنبياء فيَّ ويقرأون نعتي في الكتاب.
وفيه أن الذي أُخذ في الآية هو الشهادة دون مجرد العلم، والسورة مكية ولم يؤمن أحد من علماء أهل الكتاب يومئذ كما قيل ولا شهد للرسالة بشيء فلا معنى للاحتجاج بالاستناد إلى شهادة لم يقم بها أحد بعد.
وقيل: المراد القوم الذين أسلموا من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود وسلمان الفارسي، وقيل هو عبد الله بن سلام، ورد بأن السورة مكية وهؤلاء إنما أسلموا بالمدينة.
وللقائلين بأنه عبد الله بن سلام جهد بليغ في الدفاع عنه فقال بعضهم: إن مكية السورة لا تنافي كون بعض آياتها مدنية فلم لا يجوز أن تكون هذه الآية مدنية مع كون السورة مكية.
وفيه أولاً: إن مجرد الجواز لا يثبت ذلك ما لم يكن هناك نقل صحيح قابل للتعويل عليه. على أن الجمهور نصوا على أنها مكية كما نقل عن البحر.
وثانياً: إن ذلك إنما هو في بعض الآيات الموضوعة في خلال آيات السور النازلة وأما في مثل هذه الآية التي هي ختام ناظرة إلى ما افتتحت به السورة فلا إذ لا معنى لإِرجاء بعض الكلام المرتبط الأجزاء إلى أمد غير محدود.
وقال بعضهم: إن كون الآية مكية لا ينافي أن يكون الكلام إخباراً عما سيشهد به.
وفيه أن ذلك يوجب رداءة الحجة وسقوطها فأي معنى لأن يحتج على قوم يقولون: { لست مرسلاً } فيقال: صدّقوا به اليوم لأن بعض علماء أهل الكتاب سوف يشهدون به.
وقال بعضهم: إن هذه الشهادة شهادة تحمّل لا يستلزم إيمان الشهيد حين الشهادة فيجوز أن تكون الآية مكية والمراد بها عبد الله بن سلام أو غيره من علماء اليهود والنصارى وإن لم يؤمنوا حين نزول الآية.
وفيه أن المعنى حينئذ يعود إلى الاحتجاج بعلم علماء أهل الكتاب وإن لم يعترفوا به ولم يؤمنوا، ولو كان كذلك لكان المتعين أن يستشهد بعلم الذين كفروا أنفسهم فإن الحجة كانت قد تمت عليهم بكون القرآن كلام الله ولا يكون ذلك إلا عن علمهم به فما الموجب للعدول عنهم إلى غيرهم وهم مشتركون في الكفر بالرسالة ونفيها، على أنه تقدم أن الشهادة في الآية ليست إلا شهادة أداء دون التحمل.
وقال بعضهم: وهو ابن تيمية وقد أغرب - إن الآية مدنية بالاتفاق. وهو كما ترى.
وذكر بعضهم: إن المراد بالكتاب القرآن الكريم، والمعنى أن من تحمل هذا الكتاب وتحقق بعلمه واختص به فإنه يشهد على أنه من عند الله وأني مرسل به فيعود مختتم السورة إلى مفتتحها من قوله: { تلك آيات الكتاب والذي أُنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } وينعطف آخرها على أولها وعلى ما في أواسطها من قوله: { أفمن يعلم أن ما أُنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب }.
وهذا في الحقيقة انتصار وتأييد منه تعالى لكتابه قبال ما أزرى به واستهانه الذين كفروا حيث قالوا: { لولا أُنزل عليه آية من ربه } مرة بعد مرة و{ لست مرسلاً } فلم يعبأوا بأمره ولم يبالوا به وأجاب الله عن قولهم مرة بعد مرة ولم يتعرض لأمر القرآن ولم يذكر أنه أعظم آية للرسالة وكان من الواجب ذلك فقوله: { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } استيفاء لهذا الغرض الواجب الذي لا يتم البيان دونه وهذا من أحسن الشواهد على ما تقدم أن الآية كسائر السورة مكية.
وبهذا يتأيد ما ذكره جمع ووردت به الروايات من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أن الآية نزلت في علي عليه السلام فلو انطبق قوله: { ومن عنده علم الكتاب } على أحد ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ لكان هو فقد كان أعلم الأُمة بكتاب الله وتكاثرت الروايات الصحيحة على ذلك ولو لم يرد فيه إلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريق:
"لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" لكان فيه كفاية.
(بحث روائي)
في البصائر بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام يقول في الآية: علي عليه السلام.
أقول: ورواه أيضاً بأسانيد عن جابر وبريد بن معاوية وفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام وبإسناده عن عبد الله بن بكير وعبد الله بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله عليه السلام وبإسناده عن سلمان الفارسي عن علي عليه السلام.
وفي الكافي بإسناده عن بريد بن معاوية في الآية قال: إيانا عنى وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي المعاني بإسناده عن خلف بن عطية العوفي
"عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله جل ثناؤه: { قال الذي عنده علم من الكتاب } قال: ذاك وصي أخي سليمان بن داود فقلت له: يا رسول الله فقول الله: { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } قال ذاك أخي علي بن أبى طالب" .
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: هذا ابن عبد الله بن سلام ابن عمران يزعم أن أباه الذي يقول الله: { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } قال: كذب، هو علي بن أبي طالب.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب قال: عن محمد بن مسلم وأبي حمزة الثمالي وجابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السلام وعلي بن فضال وفضيل بن داود عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام وأحمد بن محمد الكلبي ومحمد بن الفضيل عن الرضا عليه السلام وقد روي عن موسى بن جعفر عليه السلام وعن زيد بن علي وعن محمد بن الحنفية وعن سلمان الفارسي وعن أبي سعيد الخدري وإسماعيل السدي أنهم قالوا في قوله تعالى: { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } هو علي بن أبي طالب عليه السلام.
وفي تفسير البرهان عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس وروي عن عبد الله بن عطاء عن أبي جعفر أنه قيل له: زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام قال: لا ذلك علي بن أبي طالب. وروي أنه سئل سعيد بن جبير { ومن عنده علم الكتاب } عبد الله بن سلام؟ قال: لا وكيف؟ وهذه السورة مكية.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه عن ابن جبير.
وفي تفسير البرهان أيضاً عن الفقيه ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن علي بن عابس قال: دخلت أنا وأبو مريم على عبد الله بن عطاء قال: يا أبا مريم حدث علياً بالحديث الذي حدثتني عن أبي جعفر. قال: كنت عند أبي جعفر جالساً إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام. قلت: جعلني الله فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب. قال: لا ولكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز وجل: { ومن عنده علم الكتاب } { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه } { إنما وليكم الله ورسوله } الآية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: قال عبد الله بن سلام: قد أنزل الله فيَّ القرآن { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب }.
أقول: وروى ما في معناه عن ابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه وعن جندب، وقد عرفت حال الرواية فيما تقدم، وقد روى عن ابن المنذر عن الشعبي: ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن.
تم والحمد لله