خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١١٢
وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
١١٣
فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١١٤
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٥
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ
١١٦
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١١٧
وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
١١٨
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٩
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٢٠
شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٢١
وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٢٢
ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٢٣
إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٢٤
ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
١٢٥
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ
١٢٦
وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
١٢٧
إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
١٢٨
-النحل

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تتمة آيات الأحكام السابقة تذكر فيها محرّمات الأكل ومحللاته ونهي عن التحليل والتحريم ابتداعاً بغير إذن الله وذكر بعض ما شرّع لليهود من الأحكام التي نسخت بعد، وفي ذلك عطف على ما تقدَّم من حديث النسخ في قوله: { وإذا بدَّلنا آية مكان آية } وإشارة إلى أن ما أُنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو دين إبراهيم عليه السلام المبني على الاعتدال والتوحيد مرفوعاً عنه ما في دين اليهود من التشديد عليهم قبال ظلمهم.
وفي آخرها أمر بالعدل في المعاقبة وندب إلى الصبر والاحتساب، ووعد جميل بالنصرة والكفاية إن اتقوا وأحسنوا.
قوله تعالى: { وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً } إلى آخر الآية، الرغد من العيش هو الواسع الطيّب.
هذا مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما تحتاج إليه من نعم الحياة، وأتمّ ذلك كله بنبي بعثه إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلاح دنياهم وأُخراهم فكفروا بأنعمه وكذّبوا رسوله فبدَّل الله نعمته نقمة وعذّبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله، وفي المثل تحذير عن كفران نعمة الله بعد إذ بذلت والكفر بآياته بعد إذ أنزل.
وفيه توطئة وتمهيد لما سيذكره من محللات الأكل ومحرّماته وينهى عن تشريع الحلال والحرام بغير إذن الله كل ذلك بالاستفادة من سياق الآيات فإن كل سابقة منها تسوق النظر إلى اللاحقة.
وقيل: إن هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين لما كفروا بأنعم الله وقد وسّعها عليهم وكذبوا رسوله وقد أرسله إليهم فابتلوا بالقحط وكان يغار عليهم قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذكره في المجمع ونسبه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وفيه أن لا إشكال في أنه في نفسه يقبل الانطباق على ما ذكر لكن سياق الآيات إنما يلائم كونه مثلاً عاماً مذكوراً توطئة وتمهيداً لما بيّناه.
فقوله: { وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً } وصف القرية بثلاثة أوصاف متعاقبة غير أن الأوسط منها وهي الاطمئنان كالرابط بين الطرفين فإن القرية إذا أمنت المخاطرات كمهاجمة الأشرار وشنّ الغارات وقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال وكذا أمنت الحوادث الطبيعية كالزلازل وغيرها اطمأنت وسكنت فلم يضطرّ أهلها إلى الجلاء والتفرُّق.
ومن كمال اطمئنانها أن يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ولا يلجأ أهلها إلى الاغتراب وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق البالغة في طلب الرزق وجلبه إليها.
فاتصاف القرية بصفاتها الثلاث المذكورة: الأمن والاطمئنان وإتيان رزقها إليها من كل مكان يتمّ ويكمل لها جميع النعم المادية الصورية، وسيضيف سبحانه إليها النعم المعنوية في الآية التالية: { ولقد جاءهم رسول منهم } فهي قرية أتمّ اللة نعمة عليها وأكملها.
وقوله: { فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } التعبير بأنعم الله وهو جمع قلة للإِشارة بها إلى الأصناف المذكورة وهي ثلاثة: الأمن والاطمئنان وإتيان الرزق، والإِذاقة استعارة للإِيصال اليسير فإذاقة الجوع والخوف مشعر بأن الذي يوصلهما قادر على تضعيف ذلك وتكثيره بما لا يقدر بقدر كيف لا؟ وهو الله الذي له القدرة كلها.
ثم إضافة اللباس إلى الجوع والخوف وفيها دلالة على الشمول والإِحاطة كما يشمل اللباس البدن، ويحيط به، تشعر بأن هذا المقدار اليسير من الجوع والخوف الذي أذاقهم شملهم كما يشمل اللباس بدن الإِنسان وهو سبحانه قادر على أن يزيد على ذلك فهو المتناهي في قهره وغلبته وهم المتناهون في ذلتهم وهوانهم.
ثم ختم الآية بقوله: { بما كانوا يصنعون } للدلالة على أن سنة المجازاة في الشكر والكفر قائمة على ساق.
والمعنى: ضرب الله مثلاً مثل قرية كان أهلها آمنين من كل شر وسوء يهددهم في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم ساكنين غير مضطرين يأتيهم رزقهم طيباً واسعاً من كل مكان من غير أن يضطروا إلى السفر والاغتراب فكفر أهلها بهذه النعم الإِلهية ولم يشكروه سبحانه فأنالهم الله شيئاً يسيراً من نقمته - بسلب هذه النعم - وهو الجوع والخوف اللذان عماهم وشملاهم قبال ما استمروا عليه بكفران الأنعم جزاء لكفرانهم.
قوله تعالى: { ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } وهذا هو النعمة المعنوية التي أضافها إلى نعمه المادية المذكورة، وكان فيها صلاح معاشهم ومعادهم وتحذير لهم من الكفران بأنعم الله وشرح ما فيه من الشؤم والشقاء لكنهم كذبوا رسولهم الذي هو منهم يعرفونه ويدرون أنه إنما يدعوهم لأمر إلهي ويهديهم إلى سبيل الرشاد وسعادة الجد فظلموا ذلك فأخذهم العذاب بظلمهم.
وبهذا التقرير يظهر ما في القيود المأخوذة في الآية من النكات.
قوله تعالى: { فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً } إلى آخر الآية، تفريع على ما تحصل من المثل نتيجة، والتقدير إذا كان الحال هذا الحال وكان في كفران هذا الرزق الرغد عذاب وفي تكذيب الدعوة عذاب فكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالاً طيبا أي لستم بممنوعين منه وأنتم تستطيبونه فكلوا منه واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون.
وقد ظهر بذلك:
أولاً: أن الآية مسوقة لتحليل طيبات الرزق مطلقاً فلا سبيل إلى ما ذكره بعضهم أن المراد فكلوا مما رزقكم الله من الغنائم رزقاً حلالا طيباً بناء على أن الآية نزلت بعد وقعة بدر والمثل السابق مثل مضروب لأهل مكة، والمراد بالرسول الذي كذبوه هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبالعذاب الذي أخذهم هو القتل الذريع لصناديدهم يوم بدر.
وهذا كله مما لا دليل عليه من طريق لفظ الآيات. على أنه قد تأيد سابقاً أنها مكيّة.
وثانياً: أن المراد بالحل والطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه الإِنسان طبعاً وطبعه يستطيبه أي الحل والطيب بحسب الطبع وذلك ملاك الحلية الشرعية التي تتبع الحلية بحسب الفطرة فإن الدين فطري لأن الله سبحانه فطر الإِنسان مجهزاً بجهاز التغذية وجعل أشياء أرضية من الحيوان والنبات ملائمة لقوامه يميل إليها طبعه من غير نفرة فله أن يأكل منها وهو الحل.
وثالثاً: أن قوله: { فكلوا } أمر مقدمي بالنسبة إلى قوله: { واشكروا نعمة الله } وذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فإن كون الشيء نعمة هو السبب في وجوب الشكر عليه.
ورابعاً: أن قوله: { إن كنتم إياه تعبدون } خطاب للمؤمنين فإنهم هم الذين يعبدون الله ولا يعبدون غيره، والقصر في الجملة الذي يدل عليه تقديم المفعول على الفعل قصر القلب، وغيرهم وهم المشركون إنما يعبدون الأصنام والآلهة من دون الله.
وجعل الخطاب للمشركين ودعوى أن المراد بالعبادة في قوله: { إن كنتم إياه تعبدون } الإِطاعة أو أن المعنى إن صحَّ زعمكم أنكم تقصدون بعبادتكم لآلهتكم عبادته تعالى، لا يرجع إلى طائل فإن جعل العبادة بمعنى الإِطاعة يحتاج إلى قرينة ولا قرينة، والمشركون لا يعبدون الله سبحانه ولو بإشراكه في العبادة ولا يقصدون بعبادة آلهتهم عبادته تعالى بل ينزّهونه تعالى عن عبادتهم لكونه أجلّ من أن يناله إدراك أو ينتهي إليه توجّه.
وكون الخطاب في الآية للمؤمنين يوجب كون المثل مضروباً لأجلهم ورجوع سائر الخطابات التشريعية فيما قبل الآية وما بعدها متوجهة إليهم، وربما قيل: إن الخطاب لعامة الناس أعمّ من المؤمن والكافر وتطبيقه على الآيات لا يخلو من تكلف وإن كان دون تخصيص الخطاب بالمشركين إشكالاً.
قوله تعالى: { إنما حرَّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ لغير الله به فمن اضطرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم } تقدم الكلام في معنى الآية في تفسير سورة البقرة الآية 173 وسورة المائدة الآية 3 وسورة الأنعام الآية 145.
والآية بمعناها على اختلاف ما في لفظها واقعة في أربعة مواضع من القرآن: في سورتي الأنعام والنحل وهما مكيتان من أوائل ما نزلت بمكة وأواخرها، وفي سورتي البقرة والمائدة وهما من أوائل ما نزلت بالمدينة وأواخرها، وهي تدلّ على حصر محرّمات الأكل في الأربع المذكورة: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ لغير الله به كما نبّه عليه بعضهم.
لكن بالرجوع إلى السنّة يظهر أن هذه هي المحرَّمات الأصلية التي عني بها في الكتاب وما سوى هذه الأربع من المحرَّمات مما حرَّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من ربه وقد قال تعالى:
{ { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر: 7]، وقد تقدم بعض الروايات الدالَّة على هذا المعنى.
قوله تعالى: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } الخ، "ما" في قوله: { لما تصف } مصدرية والكذب مفعول "تصف" أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام بسبب وصف ألسنتكم لغاية افتراء الكذب على الله.
وكون الخطاب في الآيات للمؤمنين - على ما يؤيده سياقها كما مرّ - أو لعامة الناس يؤيد أن يكون المراد بقوله: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } النهي عن الابتداع بإدخال حلال أو حرام في الأحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون أن ينزل به الوحي فإن ذلك من إدخال ما ليس من الدين في الدين وافتراء على الله وإن لم ينسبه واضعه إليه تعالى.
وذلك أن الدين في عرف القرآن هو سنّة الحياة وقد تكرر منه سبحانه قوله: { يصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } أو ما يقرب منه فالدين لله ومن زاد فيه شيئاً فقد نسبه إليه تعالى افتراء عليه وإن سكت عن الإِسناد أو نفي ذلك بلسانه.
وذكر الجمهور أن المراد بالآية النهي عما كان المشركون يحلُّونه كالميتة والدم وما أُهلَّ لغير الله به أو يحرّمونه كالبحيرة والسائبة وغيرهما، والسياق - كما مر - لا يؤيده.
ثم قال سبحانه في مقام تعليل النهي: { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } ثم بيّن حرمانهم من الفلاح بقوله: { متاع قليل ولهم عذاب أليم }.
قوله تعالى: { وعلى الذين هادوا حرَّمنا ما قصصنا عليك من قبل } الخ، المراد بقوله: { ما قصصنا عليك من قبل } - كما قيل - ما قصَّه تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الأنعام - وقد نزلت قبل سورة النحل بلا إشكال - بقوله:
{ { وعلى الذين هادوا حرَّمنا كل ذي ظفر } [الأنعام: 146] إلى آخر الآية.
والآية في مقام دفع الدخل وفيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقاً كأن قائلاً يقول: فإذا كانت محرَّمات الأكل منحصرة في الأربع المذكورة: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ لغير الله به، وكان ما وراءها حلالاً فما هذه الأشياء المحرَّمة على بني إسرائيل من قبل؟ هل هذا إلا ظلم بهم؟.
فأجاب عنه بأنا حرَّمنا عليهم ذلك وما ظلمناهم في تحريمه ولكنهم كانوا يظلمون أنفسهم فنحرّم عليهم بعض الأشياء أي إنه كان محللاً لهم مأذوناً فيه لكنهم ظلموا أنفسهم وعصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال سبحانه في موضع آخر: { فبظلم من الذين هادوا حرَّمنا عليهم طيّبات أُحلّت لهم } الآية، ولو أنهم بعد ذلك كله رجعوا إلى ربهم وتابوا عن معاصيهم تاب الله عليهم ورفع الحظر عنهم وأذن لهم فيما منعهم عنه إنه لغفور رحيم.
فقد ظهر أن الآية متصلة بما قبلها من حديث التحليل والتحريم، وأنها كالجواب عن سؤال مقدَّر، وأن ما بعدها من قوله: { ثم إن ربك للذين عملوا السوء } الآية، متصل بها متمم لمضمونها.
قوله تعالى: { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } الجهالة والجهل واحد وهو في الأصل ما يقابل العلم لكن الجهالة كثيراً ما تستعمل بمعنى عدم الانكشاف التام للواقع وإن لم يخل المحلّ عن علم ما مصحح للتكليف كحال من يقترف المحرمات وهو يعلم بحرمتها لكن الأهواء النفسانية تغلبه وتحمله على المعصية ولا تدعه يتفكر في حقيقة هذه المخالفة والمعصية فله علم بما ارتكب ولذلك يؤاخذ ويعاقب على ما فعل وهو مع ذلك جاهل بحقيقة الأمر ولو تبصّر تمام التبصر لم يرتكب.
والمراد بالجهالة في الآية هذا المعنى إذ لو كان المراد هو الأول وكان ما ذكر من عمل السوء مجهولاً من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم يكن العمل معصية حتى يحتاج إلى التوبة فالمغفرة والرحمة.
والآية - كما تقدمت الإِشارة إليه - متصلة بما قبلها متممة لمضمونها، ومعنى الآيتين أنا لم نظلم بني إسرائيل في تحريم الطيبات التي حرّمناها لهم، بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث ارتكبوا المعاصي وأصروا عليها فأدى ذلك إلى تحريم الطيبات عليهم، وبعد ذلك كله باب المغفرة والرحمة مفتوح وإن ربك للذين عملوا السوء أي عملوا عملاً سوء وهو السيئة بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا حتى يتبين التوبة وتستقر إن ربك من بعدها أي من بعد التوبة لغفور رحيم.
وفي تقييد التوبة أولاً بالإِصلاح ثم إرجاع الضمير أخيراً إليها وحدها في قوله: { إن ربك من بعدها لغفور } دلالة على أن شمول المغفرة والرحمة من تبعات التوبة، وأما الإِصلاح فإنما هو لتبيين التوبة وظهور كونها توبة حقيقية ورجوعاً جدياً لا مجرد صورة خالية عن المعنى.
وقوله في ذيل الآية: { إن ربك من بعدها } تلخيص لتفصيل قوله في صدرها: { إن ربك للذين } الخ، وفائدته حفظ فهم السامع عن التشوش والضلال وإبراز العناية ببعدية المغفرة والرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير ما مرّ من قوله: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم }.
قوله تعالى: { إن إبراهيم كان أُمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين } الآية، وما يتلوها على اتصالها بما تقدم من حصر محرمات الأكل في الأربع وتحليل ما وراءها، وهذه الآية إلى تمام أربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدمها كأنه قيل: هذا حال ملة موسى التي حرَّمنا فيها على بني إسرائيل بعض ما أُحلَّ لهم من الطيبات، وأما هذه الملة التي أنزلناها اليك فإنما هي الملة التي تحقق بها إبراهيم فاجتباه الله وهداه إلى صراط مستقيم وأصلح بها دنياه وآخرته، وهي ملة معتدلة جارية على الفطرة تحلل الطيبات وتحرّم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه لإِبراهيم عليه السلام منه.
فقوله: { إن إبراهيم كان أُمة } قال في المفردات، وقوله: { إن إبراهيم كان أُمة قانتاً لله } أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، انتهى. وهو قريب مما نقل عن ابن عباس، وقيل: معناه الإِمام المقتدى به، وقيل: إنه كان أُمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الأرض موحّد يوحّد الله غيره.
وقوله: { قانتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركين } القنوت: الإِطاعة والعبادة أو دوامها، والحنف: الميل من الطرفين إلى حاقّ الوسط وهو الإِعتدال.
قوله تعالى: { شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم } الاجتباء من الجباية وهو الجمع واجتباء الله الإِنسان هو إخلاصه لنفسه وجمعه من التفرّق في المذاهب المختلفة. وفي تعقيب قوله: { شاكراً لأنعمه } بقوله: { اجتباه } الخ، مفصولاً إشعار بالعليّة وذلك يؤيد ما تقدم في سورة الأعراف في تفسير قوله:
{ { ولا تجد أكثرهم شاكرين } [الأعراف: 17]، أن حقيقة الشكر هو الإِخلاص في العبودية.
قوله تعالى: { وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين } الحسنة هي المعيشة الحسنة فقد كان عليه السلام ذا مال كثير ومروّة عظيمة.
وقد بسطنا الكلام في معنى الاجتباء في تفسير سورة يوسف عند الآية 6، وفي معنى الهداية والصراط المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله:
{ { إهدنا الصراط المستقيم } [الآية 6]، وفي معنى قوله: { { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [النحل: 122]، فراجع.
وفي توصيفه تعالى إبراهيم عليه السلام بما وصفه من الصفات إشارة إلى أنها من مواهب هذا الدين الحنيف، فإن انتحل به الإِنسان ساقه إلى ما ساق إليه إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: { ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } تكرار اتّصافه بالحنف ونفي الشرك لمزيد العناية به.
قوله تعالى: { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } إلى آخر الآية، قال في المفردات: أصل السبت القطع ومنه سبت السير قطعه وسبت شعره حلقه، وأنفه اصطلمه، وقيل: سُمِّي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكره فقطع عمله يوم السبت فسمّي بذلك.
وسبت فلان صار في السبت، وقوله: { يوم سبتهم شرّعاً } قيل: يوم قطعهم للعمل { ويوم لا يسبتون } قيل: معناه لا يقطعون العمل وقيل: يوم لا يكونون في السبت وكلاهما إشارة إلى حالة واحدة، وقوله: { إنما جعل السبت } أي ترك العمل فيه { وجعلنا نومكم سباتاً } أي قطعاً للعمل وذلك إشارة إلى ما قال في صفة الليل: { لتسكنوا فيه } انتهى.
فالمراد بالسبت على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل ترك العمل فيه وتشريعه، ويمكن أن يكون المراد به المعنى المصدري دون اليوم المجعول فيه ذلك كما هو ظاهر قوله:
{ { تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } } [الأعراف: 163]. وكيف كان فقد كان من طبع الكلام أن يقال: إنما جعل السبت للذين، حتى يفيد نوعاً من الاختصاص والملك وأن الله شرَّع لهم في كل أُسبوع أن يقطعوا العمل يوماً يفرغون فيه لعبادة ربهم وهو يوم السبت كما جعل للمسلمين في كل أسبوع يوماً يجتمعون فيه للعبادة والصلاة وهو يوم الجمعة.
فقوله: { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } بتعدية جعل بعلى دون اللام من قبيل قولهم: لي عليك دين وهذا عليك لا لك فتفيد معنى التكليف والتشديد والإِبتلاء أي إنما جعل للتشديد عليهم وابتلائهم وامتحانهم فقد كان هذا الجعل عليهم لا لهم كما أنجر أمرهم فيه إلى لعن طائفة منهم ومسخ آخرين وقد أُشير إلى ذلك في سورة البقرة الآية 65 وسورة النساء الآية 47.
والأنسب على هذا أن يكون المراد بقوله: { اختلفوا فيه } أي في السبت اختلافهم فيه بعد التشريع فإنهم تفرقوا فيه فرقاً ممن قبله وممن رده وممن احتال للعمل فيه على ما أشير إلى قصصهم في سور البقرة والنساء والأعراف لاختلافهم فيه قبل التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كل أسبوع يوماً للعبادة ثم يجعل ذلك اليوم هو الجمعة فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع في بعض الروايات.
والمعنى إنما جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوماً في كل أسبوع تشديداً وابتلاء وفتنة وكلفة على اليهود الذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله ومن ردّه ومن احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون }.
وبالبناء على هذا يكون وزان الآية وزان قوله السابق: { وعلى الذين هادوا حرَّمنا } الخ، في أنها في معنى الجواب عن سؤال مقدر عطفاً على ما مر من حديث النسخ، والتقدير وأما جعل السبت لليهود فإنما جعل لا لهم بل عليهم ليبتليهم الله ويفتنهم به ويشدد عليهم كما قد تكرر نظائره فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين وبالجملة الآية ناظرة إلى الإِعتراض بتشريع بعض الأحكام غير الفطرية على اليهود ونسخه في هذه الشريعة.
وإنما لم يضم إلى قوله سابقاً: { وعلى الذين هادوا حرمنا } الخ، لكون مسألة السبت مغايرة لسنخ مسألة تحليل الطيبات واستثناء محرمات الأكل، وقد عرفت أن الكلام على اتصاله من قوله: { وعلى الذين هادوا } إلى قوله: { وما كان من المشركين } سبع آيات تامة ثم اتصلت بها هذه الآية وهي ثامنتها الملحقة بها.
ومن هنا يظهر الجواب عما اعترض به أن توسيط جعل السبت بين حكاية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وبين أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إليها وبعبارة أخرى وقوع قوله: { إنما جعل السبت } الخ، بين قوله: { ثم أوحينا إليك } الخ، وقوله: { ادع إلى سبيل ربك } الخ، كالفصل بين الشجر ولحائه.
ومحصل الجواب أن قوله: { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم } الآية من تمام السياق السابق، وقوله: { إنما جعل السبت } الآية، متصل بما تقدمه كما عرفت، وأما قوله: { ادع إلى سبيل ربك } الآية، فهو استئناف وأمر بالدعوة إلى سبيل الله بفنون الخطاب لا إلى ملة إبراهيم حتى يتصل بالآية السابقة نوع اتصال وإن كان سبيل الله هو ملة إبراهيم بعينها لكن للفظ حكم وللمعنى بحسب المآل حكم آخر، فافهم.
وللقوم في تفسير الاختلاف اختلاف عميق فمنهم من قال: إن المراد إنما جعل السبت على الذين اختلفوا على نبيهم فيه حيث أمرهم بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه وأخذوا السبت فجعله الله عليهم تشديداً فالاختلاف اختلاف سابق على الجعل لا لاحق به وربما جعل "في" للتعليل فإن الاختلاف على هذا لم يقع في السبت بل من أجل السبت.
وربما قيل: الاختلاف بمعنى المخالفة فإنهم خالفوا نبيهم في السبت ولم يختلفوا فيه.
وربما قيل: إنهم أُمروا باتخاذ الجمعة من غير تعيين ووكل ذلك إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله إليه ووقعوا في السبت.
وربما قيل: إن المراد أنهم اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة منهم فضلته على الجمعة وطائفة منهم عكست الأمر وفضلت الجمعة عليه. إلى غير ذلك مما قيل، والأصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من القصة.
وأنت خبير بأن شيئاً من الأقوال لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.
قوله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } إلى آخر الآية لا شك في أنه يستفاد من الآية أن هذه الثلاثة: الحكمة والموعظة والمجادلة من طرق التكليم والمفاوضة فقد أُمر بالدعوة بأحد هذه الأمور فهي من أنحاء الدعوة وطرقها وإن كان الجدال لا يعد دعوة بمعناها الأخص.
وقد فسرت الحكمة - كما في المفردات - بإصالة الحق بالعلم والعقل، والموعظة كما عن الخليل - بأنه التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والجدال - كما في المفردات - بالمفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة.
والتأمل في هذه المعاني يعطي أن المراد بالحكمة - والله أعلم - الحجة التي تنتج الحق - الذي لا مرية فيه ولا وهن ولا إبهام والموعظة هو البيان الذي تلين به النفس ويرق له القلب، لما فيه من صلاح حال السامع من الغبر والعبر وجميل الثناء ومحمود الأثر ونحو ذلك.
والجدال هو الحجة التي تستعمل لفتل الخصم عما يصرّ عليه وينازع فيه من غير أن يريد به ظهور الحق بالمؤاخذة عليه من طريق ما يتسلمه هو والناس أو يتسلمه هو وحده في قوله أو حجته.
فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة والموعظة والجدال بالترتيب على ما اصطلحوا عليه في فن الميزان بالبرهان والخطابة والجدل.
غير أنه سبحانه قيّد الموعظة بالحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ففيه دلالة على أن من الموعظة ما ليست بحسنة ومن الجدال ما هو أحسن وما ليس بأحسن ولا حسن، والله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة ومن الجدال بأحسنه.
ولعل ما في ذيل الآية من التعليل بقوله: { إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } يوضح وجه التقييد، فمعناه أنه سبحانه أعلم بحال أهل الضلال في دينه الحق، وهو أعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم أن الذي ينفع في هذا السبيل هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن لا غير.
والاعتبار الصحيح يؤيد ذلك فإن سبيله تعالى هو الاعتقاد الحق والعمل الحق ومن المعلوم أن الدعوة إليه بالموعظة مثلاً ممن لا يتّعظ بما يعظ به دعوة عملاً إلى خلاف ما يدعو إليه القول، والدعوة إليه بالمجادلة مثلاً بالمسلّمات الكاذبة التي يتسلمها الخصم لإِظهار الحق إحياء لحق بإحياء باطل وإن شئت فقل: إحياء حق بإماتة حق إلا أن يكون الجدال على سبيل المناقضة.
ومن هنا يظهر أن حسن الموعظة إنما هو من حيث حسن أثره في الحق الذي يراد به بأن يكون الواعظ نفسه متّعظاً بما يعظ ويستعمل فيها من الخلق الحسن ما يزيد في وقوعها من قلب السامع موقع القبول فيرقّ له القلب ويقشعرّ به الجلد ويعيه السمع ويخشع له البصر.
ويتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد والعناد وسوقه إلى المكابرة واللجاج، واستعمال المقدمات الكاذبة وإن تسلّمها الخصم إلا في المناقضة ويحترز سوء التعبير والإِزراء بالخصم وبما يقدّسه من الإِعتقاد والسبّ والشتم وأي جهالة أُخرى فإن في ذلك إحياء للحق بإحياء الباطل أي إماتة الحق كما عرفت.
والجدال أحوج إلى كمال الحسن من الموعظة ولذلك أجاز سبحانه من الموعظة حسنتها ولم يجز من المجادلة إلا التي هي أحسن.
ثم إن في قوله: { بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } أخذاً بالترتيب من حيث الأفراد فالحكمة مأذون فيها بجميع أفرادها، والموعظة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة والمأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة، والمجادلة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي أحسن وغيرها والمأذون فيها منها التي هي أحسن، والآية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوِّين بالدعوة فالملاك في استعمالها من حيث المورد حسن الأثر وحصول المطلوب وهو ظهور الحق.
فمن الجائز أن يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث وفي آخر طريقان أو طريق واحد حسب ما تستدعيه الحال ويناسب المقام.
ومنه يظهر أن قول بعضهم إن ظاهر الآية أن يجمع صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بين الطرق الثلاث ليس في محله إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو وأما بالنسبة إلى جميع المدعوّين فهو حاصل.
وكذا ما ذكره بعضهم أن الطرق الثلاث المذكورة في الآية مترتبة حسب ترتب أفهام الناس في استعدادها لقبول الحق فمن الناس الخواص وهم أصحاب النفوس المشرقة القوية الاستعداد لإِدراك الحقائق العقلية وشديدة الانجذاب إلى المبادئ العالية وكثيرة الإِلفة بالعلم واليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة وهي البرهان.
ومنهم عوام وهم أصحاب نفوس كدرة واستعداد ضعيف مع شدة أُلفتهم بالمحسوسات وقوة تعلّقهم بالرسوم والعادات قاصرة عن تلقّي البراهين من غير أن يكونوا معاندين للحق وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.
ومنهم أصحاب العناد واللجاج الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ويكابرون ليطفؤا نور الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الآراء الباطلة، وغلب عليهم تقليد أسلافهم في مذاهبهم الخرافية لا ينفعهم المواعظ والعبر، ولا يهديهم سائق البراهين وهؤلاء هم الذين أُمر بمجادلتهم بالتي هي أحسن.
وفيه أنه لا يخلو من دقة لكن لا ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة والمجادلة، وربما انتفعت العوام وهم أُلفاء العادات والرسوم بالمجادلة بالتي هي أحسن، ولا دلالة في لفظ الآية على ما ذكر من التخصيص.
وكذا ما ذكره بعضهم أن المجادلة بالتي هي أحسن ليست من الدعوة في شيء بل الغرض منها شيء آخر مغاير لها وهو الإِلزام والإِفحام. قال: ولذلك لم يعطف الجدال في الآية على ما تقدمه بل غيّر السياق وقيل: { وجادلهم بالتي هي أحسن }.
وفيه غفلة عن حقيقة القياس الجدلي فالإِفحام وإن كان غاية للقياس الجدلي لكنه ليس غاية دائمية فكثيراً ما يتألف قياس من مقدمات مقبولة أو مسلمة وخاصة في الأُمور العملية والعلوم غير اليقينية كالفقه والأصول والأخلاق والفنون الأدبية ولا يراد به الإِلزام والإِفحام.
على أن في الإِلزام والإِفحام دعوة كما أن في الموعظة دعوة وإن اختلفت صورتها باختلاف الطرق نعم تغيير السياق لما في الجدال من معنى المنازعة والمغالبة.
قوله تعالى: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } قال في المفردات: العقوبة والعقاب والمعاقبة تختص بالعذاب، انتهى. والأصل في معناه العقب وهو مؤخر الرِّجل وعقيب الشيء وعاقبة الأمر ما يليه من ورائه أو آخره، والتعقيب الإِتيان بشيء عقيب شيء ومعاقبتك غيرك أن تأتي بما يسوؤه عقيب إتيانه بما يسوؤك فينطبق على المجازاة والمكافأة بالعذاب.
فقوله: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الخطاب فيه للمسلمين - على ما يفيده السياق - ولازمه أن يكون المراد بالمعاقبة مجازاة المشركين والكفار، وبقوله: { عوقبتم به } عقاب الكفار إياهم ومجازاتهم لهم بما آمنوا بالله ورفضوا آلهتهم.
والمعنى: وإن أردتم مجازاة الكفار وعذابهم فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل ما عذبوكم به مجازاة لكم على إيمانكم وجهادكم في الله.
وقوله: { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } أي صبرتم على مُرّ ما عوقبتم به ولم تعاقبوا ولم تكافؤا لهو خير لكم بما أنكم صابرون لما فيه من إيثار رضى الله وثوابه فيما أصابكم من المحنة والمصيبة على رضى أنفسكم بالتشفي بالإِنتقام فيكون العمل خالصاً لوجهه الكريم، ولما في الصفح والعفو من إعمال الفتوّة ولها آثارها الجميلة.
قوله تعالى: { واصبر وما صبرك إلا بالله } إلى آخر الآية أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وبشرى له أن الله قوّاه على الصبر على مرّ ما يلقاه في سبيله فإنه تعالى يذكر أن صبره إنما هو بحول وقوة من ربه ثم يأمره بالصبر ولازم الأمر قدرة المأمور على المأمور به ففي قوله: { وما صبرك إلا بالله } إشارة إلى أن الله قوّاك على ما أمرك به.
وقوله: { ولا تحزن عليهم } أي على الكافرين لكفرهم، وقد تقدم تفسير هذا المعنى سابقاً في السورة وغيرها.
وقوله: { ولا تك في ضيق مما يمكرون } الظاهر أن المراد النهي عن التحرج من مكرهم في الحال أو على سبيل الاستمرار دون مجرد الاستقبال.
قوله تعالى: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } أي إن التقوى والإِحسان كل منهما سبب مستقل في موهبة النصرة الإِلهية وإبطال مكر أعداء الدين ودفع كيدهم فالآية تعليل لقوله: { ولا تك في ضيق مما يمكرون } ووعد بالنصر.
وهذه الآيات الثلاث أشبه مضموناً بالآيات المدنية منها بالمكية وقد وردت روايات من طرق الفريقين أنها نزلت في منصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أُحد وسيأتي في البحث الروائي وإن كان من الممكن توجيه اتصالها بما قبلها بوجه كما تصدى له بعضهم.
ومما يجب أن يتنبه له أن الآية التي قبل الثلاثة أجمع لغرض السورة من هذه الثلاث، وأن لآيات السورة مع الإِغماض عن قوله: { والذين هاجروا } الآية، وقوله: { من كفر بعد إيمانه } إلى تمام بضع آيات، وقوله: { وإن عاقبتم } إلى آخر السورة، سياقاً واحداً متصلاً.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { وضرب الله مثلاً } الآية، قال: قال عليه السلام نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له الثرثار وكانت بلادهم خصبة كثيرة الخير، وكانوا يستنجون بالعجين ويقولون: هو ألين لنا، فكفروا بأنعم الله واستخفوا فحبس الله عنهم الثرثار فجدبوا حتى أحوجهم الله إلى أكل ما يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه.
أقول: ورواه في الكافي عنه بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبي عبد الله عليه السلام مفصلاً، والعياشي عن حفص وزيد الشحام عنه.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من عبد يشهد له أُمة إلا قبل الله شهادتهم، والأمة الرجل فما فوقه إن الله يقول: { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين }" .
أقول: وقد تقدم في تفسير آيات الشهادة ما له تعلق بالحديث.
وفي تفسير العياشي عن سماعة بن مهران قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لقد كانت الدنيا وما كان فيها إلا واحد يعبد الله ولو كان معه غيره لأضافه إليه حيث يقول: { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين } فصبر بذلك ما شاء الله ثم إن الله تبارك وتعالى آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة.
أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن سماعة عن عبد صالح.
وفي الدر المنثور أخرج الشافعي في الام والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أُوتوا الكتاب من قبلنا وأُوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يوم الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد"
]. أقول: وروى مثله عن أحمد ومسلم عن أبي هريرة وحذيفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولم ترد الرواية في تفسير الآية.
وفيه أخرج ابن مردويه عن أبي ليلى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم فإن طاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله فإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ومن ولي من أمركم شيئاً فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"
]. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { وجادلهم بالتي هي أحسن } قال: قال عليه السلام: بالقرآن.
وفي الكافي عنه بإسناده عن أبي عمر والزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن }، قال: بالقرآن.
أقول: ظاهره أنه تفسير "بالتي هي أحسن" ومحصله الجدال على سنة القرآن الذي فيه أدب الله.
وفي تفسير العياشي
"عن الحسن بن حمزة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما صنع بحمزه بن عبد المطلب قال: اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان على ما أرى ثم قال: لئن ظفرت لأمثلن ولأمثلن ولأمثلن قال: فأنزل الله: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أصبر أصبر" .
وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قُتل حمزة ومُثِّل به: "لئن ظفرت بقريش لأمثلنَّ بسبعين رجلاً منهم، فأنزل الله: { وإن عاقبتم } الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نصبر يا رب فصبر ونهى عن المثلة"
]. أقول: وروى أيضاً ما في معناه عن أُبيّ بن كعب وأبي هريرة وغيرهما عنه صلى الله عليه وآله وسلم.