خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً
١٠١
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُوراً
١٠٢
فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً
١٠٣
وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً
١٠٤
وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً
١٠٥
وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً
١٠٦
قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً
١٠٧
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
١٠٨
وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً
١٠٩
قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً
١١٠
وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً
١١١
-الإسراء

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
في الآيات تنظير ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معجزة النبوة وهو القرآن وإعراض المشركين عنه واقتراحهم آيات أُخرى جزافيه بما جاء به موسى عليه السلام من آيات النبوة وإعراض فرعون عنها ورميه إياه بأنه مسحور ثم عود إلى وصف القرآن والسبب في نزوله مفرقة أجزاؤه وما يلحق بها من المعارف.
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً } الذي أُوتي موسى عليه السلام من الآيات على ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الآيات التي أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفدع والدم والسنون ونقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالآيات التسع المذكورة في الآية وخاصة مع ما فيها من محكى قول موسى لفرعون: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } وأما غير هذه الآيات كالبحر والحجر وإحياء المقتول بالبقرة وإحياء من أخذته الصاعقة من قومه ونتق الجبل فوقهم وغير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الآية.
ولا ينافي ذلك كون الآيات إنما ظهرت تدريجاً فإن هذه المحاورة مستخرجة من مجموع ما تخاصم به موسى وفرعون طول دعوته.
فلا عبرة بما ذكره بعض المفسرين مخالفاً لما عددناه لعدم شاهد عليه وفي التوراة أن التسع هي العصا والدم والضفادع والقمل وموت البهائم وبرد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان والجراد والظلمة وموت عم كبار الآدميين وجميع الحيوانات.
ولعل مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الآيات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الآيات التسع في الآية ليستقيم الأمر بالسؤال من اليهود لأنهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق.
وقوله: { إني لأظنك يا موسى مسحوراً } أي سحرت فاختل عقلك وهذا في معنى قوله المنقول في موضع آخر:
{ { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [الشعراء: 27] وقيل: المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون والمشؤوم بمعنى اليامن والشائم وأصله استعمال وزن الفاعل في النسبة ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً } المثبور الهالك وهو من الثبور بمعنى الهلاك، والمعنى قال موسى مخاطباً لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السماوات والأرض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل وإني لأظنك يا فرعون هالكاً بالآخرة لعنادك وجحودك.
وإنما أخذ الظن دون اليقين لأن الحكم لله وليوافق ما في كلام فرعون: { وإني لأظنك يا موسى } الخ ومن الظن ما يستعمل في مورد اليقين.
قوله تعالى: { فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعاً } الاستفزاز الإِزعاج والإِخراج بعنف، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً } المراد بالأرض التي أُمروا أن يسكنوها هي الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم بشهادة قوله:
{ { ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } [المائدة: 21]، وغير ذلك كما أن المراد بالأرض في الآية السابقة مطلق الأرض أو أرض مصر بشهادة السياق.
وقوله: { فإذا جاء وعد الآخرة } أي وعد الكرة الآخرة أو الحياة الآخرة والمراد به على ما ذكره المفسرون ويوم القيامة، وقوله: { جئنا بكم لفيفاً } أي مجموعاً ملفوفاً بعضكم ببعض.
والمعنى: وقلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض المقدسة - وكان فرعون يريد أن يستفزهم من الأرض - فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم ملتفين مجتمعين للحساب وفصل القضاء.
وليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الآخرة ما ذكره الله سبحانه في أول السورة فيما قضى إلى بني إسرائيل بقوله: { فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً } وإن لم يذكره جمهور المفسرين فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، ويكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون أن اسكنوا الأرض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون والبثوا فيها حتى إذا جاء وعد الآخرة التي يلتف بكم فيها البلاء بالقتل والأسر والجلاء جمعناكم منها وجئنا بكم لفيفاً، وذلك أسارتهم وإجلاؤهم إلى بابل.
ويتضح على هذا الوجه نكتة تفرع قوله: { فإذا جاء وعد الآخرة } الخ على قوله: { وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض } على خلاف الوجه السابق الذي لا يترتب فيه على التفريع نكتة ظاهرة.
قوله تعالى: { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً } لما فرغ من التنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن وذكر أوصافه فذكر أنه أنزله إنزالاً مصاحباً للحق وقد نزل هو من عنده نزولاً مصاحباً للحق فهو مصون من الباطل من جهة من أنزله فليس من لغو القول وهذره ولا داخله شيء يمكن أن يفسده يوماً ولا شاركه فيه أحد حتى ينسخه في وقت من الأوقات وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا رسولاً منه تعالى يبشر به وينذر وليس له أن يتصرف فيه بزيادة أو نقيصة أو يتركه كلاً أو بعضاً باقتراح من الناس أو هوى من نفسه أو يعرض عنه فيسأل الله آية أُخرى فيها هواه أو هوى الناس أو يداهنهم فيه أو يسامحهم في شيء من معارفه وأحكامه كل ذلك لأنه حق صادر عن مصدر حق، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
فقوله: { وما أرسلناك } الخ متمم للكلام السابق، ومحصله أن القرآن آية حقة ليس لأحد أن يتصرف فيه شيئاً من التصرف والنبي وغيره في ذلك سواء.
قوله تعالى: { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً } معطوف على ما قبله أي أنزلناه بالحق وفرقناه قرآناً، قال في المجمع: معنى فرقناه فصلناه ونزلناه آية آية وسورة سورة ويدل عليه قوله: { على مكث } والمكث - بضم الميم - والمكث - بفتحها - لغتان. انتهى.
فاللفظ بحسب نفسه يعم نزول المعارف القرآنية التي هي عند الله في قالب الألفاظ والعبارات التي لا تتلقى إلا بالتدريج ولا تتعاطى إلا بالمكث والتؤدة ليسهل على الناس تعقله وحفظه على حد قوله:
{ { إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } [الزخرف: 3-4]. ونزول الآيات القرآنية نجوماً مفرقة سورة سورة وآية آية بحسب بلوغ الناس في استعداد تلقي المعارف الأصلية للاعتقاد والأحكام الفرعية للعمل واقتضاء المصالح ذلك ليقارن العلم العمل ولا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه وأحكامه واحداً بعد واحد كما لو نزل دفعة وقد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقها اليهود بالقبول إلا بعد نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.
لكن الأوفق بسياق الآيات السابقة وفيها مثل قولهم المحكي: { حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن إنزاله سورة سورة وآية آية حسب تحقق أسباب النزول تدريجاً وقد تكرر من الناس اقتراح أن ينزّل القرآن جملة واحدة كما في:
{ { وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة } [الفرقان: 32]، وقوله حكاية عن أهل الكتاب: { { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [النساء: 153]. ويؤيده تذييل الآية بقوله: { ونزلناه تنزيلاً } فإن التنزيل وهو إنزال الشيء تدريجاً أمس بالاعتبار الثاني منه بالأول.
ومع ذلك فالاعتبار الثاني وهو تفصيل القرآن وتفريقه بحسب النزول بإنزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الأول وهو تفصيله وتفريقه إلى معارف وأحكام متبوعة مختلفه بعدما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحدة منطوية مجتمعة الأعراق في أصل واحد فارد.
ولذلك فصل الله سبحانه كتابه سوراً وآيات بعدما ألبسه لباس اللفظ العربي ليسهل على الناس فهمه كما قال: { لعلكم تعقلون } ثم نوعها أنواعاً ورتبها ترتيباً فنزلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك وعلى حسب حصول استعدادات الناس المختلفة وتمام قابليتهم بكل واحد منها وذلك في تمام ثلاث وعشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية ويقرن العلم بالعمل.
وسنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلق بالآية والسورة في كلام مستقل إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } إلى آخر الآيات الثلاث، المراد بالذين أوتوا العلم من قبله هم الذين تحققوا بالعلم بالله وآياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللهم إلا أن يقال: إن السياق يفيد كون هؤلاء من أهل الحق والدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيح عليه السلام فهم أهل الحق من علماء النصرانية الذين لم يزيغوا ولم يبدلوا.
وعلى أي حال المراد من كونهم أُوتوا العلم من قبله أنهم استعدوا لفهم كلمة الحق وقبولها لتجهزهم بالعلم بحقيقة معناه وإيراثه إياهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن المتلو عليهم خشوعاً.
وقوله: { يخرون للأذقان سجداً } الأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين من الوجه، والخرور للأذقان السقوط على الأرض على أذقانهم للسجدة كما يبينه قوله: { سجداً } وإنما اعتبرت الأذقان لأن الذقن أقرب أجزاء الوجه من الأرض عند الخرور عليها للسجدة، وربما قيل: المراد بالأذقان الوجوه إطلاقاً للجزء على الكل مجازاً.
وقوله: { ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً } أي ينزهونه تعالى عن كل نقص وعن خلف الوعد خاصة ويعطي سياق الآيات السابقة أن المراد بالوعد وعده سبحانه بالبعث وهذا في قبال اصرار المشركين على نفي البعث وإنكار المعاد كما تكرر في الآيات السابقة.
وقوله: { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً } تكرار الخرور للأذقان واضافته إلى البكاء لإِفادة معنى الخضوع وهو التذلل الذي يكون بالبدن كما أن الجملة الثانية لإِفادة معنى الخشوع وهو التذلل الذي يكون بالقلب فمحصل الآية أنهم يخضعون ويخشعون.
وفي الآية إثبات خاصة المؤمنين لهم وهي التي أُشير إليها بقوله سابقاً: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } كما أن في الآية نفي خاصة المشركين عنهم وهي إنكار البعث.
وفي هذه الآيات الثلاث بيان أن القرآن في غنى عن إيمانهم لا لأن إيمان الذين أُوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لأن إيمانهم به يكشف عن أنه كتاب حق أُنزل بالحق لا حاجة له في حقيته ولا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن وتصديق مصدق فإن آمنوا به فلأنفسهم وإن كفروا به فعليها لا له ولا عليه.
فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن وكفرهم به وعدم اعتنائهم بكونه آية واقتراحهم آيات أُخرى ثم بين له من نعوت الكمال ودلائل الإِعجاز في لفظه ومعناه وغزاره الأثر في النفوس وكيفية نزوله ما استبان به أنه حق لا يعتريه بطلان ولا فساد أصلاً ثم بيَّن في هذه الآيات أنه في غنى عن إيمانهم فهم وما يختارونه من الإِيمان والكفر.
قوله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } لفظة أو للتسوية والإِباحه فالمراد بقوله { الله } و { الرحمن } الاسمان الدالان على المسمى دون المسمى، والمعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن فالدعاء دعاؤه.
وقوله: { أياً ما تدعوا } شرط وما صلة للتأكيد نظير قوله:
{ { فبما رحمة من الله } [آل عمران: 159]. وقوله: { { عما قليل ليصبحن نادمين } [المؤمنون: 40] و{ أيا } شرطية وهي مفعول { تدعوا }.
وقوله: { فله الأسماء الحسنى } جواب الشرط، وهو من وضع السبب موضع المسبب والمعنى أي اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لأن الأسماء الحسنى كلها له فالأسماء الدالة على المسميات منها حسنة تدل على ما فيه حسن ومنها قبيحة بخلافها ولا سبيل للقبيح إليه تعالى، والأسماء الحسنة منها ما هو أحسن لا شوب نقص وقبح فيه كالغنى الذي لا فقر معه والحياة التي لا موت معها والعزة التي لا ذلة دونها ومنها ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة ولله سبحانه الأسماء الحسنى، وهي كل اسم هو أحسن الأسماء في معناه كما يدل عليه قول أئمه الدين: إن الله تعالى غني لا كالأغنياء، حي لا كالأحياء، عزيز لا كالأعزة، عليم لا كالعلماء وهكذا أي له من كل كمال صرفه ومحضه الذي لا يشوبه خلافه.
والضمير في قوله: { أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } عائد إلى الذات المتعالية من كل اسم ورسم، وليس براجع إلى شيء من الاسمين: الله والرحمن لأن المراد بهما - كما تقدم - الاسمان دون الذات المتعالية التي هي مسماة بهما ولا معنى لأن يقال: أياً من الاسمين تدعوا فإن لذلك الاسم جميع الأسماء الحسنى أو باقي الأسماء الحسنى بل المعنى أياً من أسمائه تدعوا فلا مانع منه لأنها جميعاً أسماؤه لأنها أسماء حسنى وله الأسماء الحسنى فهي طرق دعوته ودعوتها دعوته فإنها أسماؤه والاسم مرآة المسمى وعنوانه فافهم ذلك.
والآية من غرر الآيات القرآنية تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات وتوحيد العبادة قبال ما يراه الوثنية من توحيد الذات وتشريك العبادة.
فإن الوثنية - على ما تقدم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب - ترى أنه سبحانه ذات متعالية من كل حد ونعت ثم تعينت بأسماء اسماً بعد اسم وتسمي ذلك تولداً، وترى الملائكة والجن مظاهر عالية لأسمائه فهم أبناؤه المتصرفون في الكون، وترى أن عبادة العابدين وتوجه المتوجهين لا يتعدى طور الأسماء ولا يتجاوز مرتبة الأبناء الذين هم مظاهر أسمائه فإنا إنما نعبد فيما نعبد الإِله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك، وهذه كلها أسماء مظاهرها الأبناء من الملائكة والجن، وأما الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله حس أو وهم أو عقل، وأعلى من أن يتعلق به توجه أو طلب أو عبادة أو نسك.
فعندهم دعوة كل اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجن الذي هو مظهر ذلك الاسم وهو الإِله المعبود بتلك العبادة فيتكثر الآلهة بتكثر أنواع الدعوات بأنواع الحاجات ولذلك لما سمع بعض المشركين دعاءه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته: يا الله يا رحمن قال: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين.
والآية الكريمة ترد عليهم ذلك وتكشف عن وجه الخطأ في رأيهم بأن هذه الأسماء أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضاً لا تستقل دونه بنعت ولا تنحاز عنه في ذات أو صفة تملكه وتقوم به فليس لها إلا الطريقيه المحضة، ويكون دعاؤها دعاءه والتوجه بها توجهاً إليه، وكيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمى وليس إلا طريقاً دالاً عليه هادياً إليه ووجهاً له يتجلى به لغيره، فدعاء الأسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم ولا يتعداه.
ويتفرع على هذا البيان ظهور الخطأ في عد الأسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن أبناء له تعالى فإن إطلاق الولد والابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضي نوع مسانخة واشتراك بين الولد الوالد - أو الابن والأب - في حقيقة الذات أو كمال من كمالاته وساحة كبريائه منزهة من أن يشاركه شيء غيره في ذات أو كمال فإن الذي له هو لنفسه، والذي لغيره هو له لا لأنفسهم.
وكذا ظهور الخطأ في نسبه التصرف في الكون بأنواعه إليهم فإن هؤلاء الملائكه وكذا الأسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً ولا يستقلون دونه بشيء بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وكذا الجن فيما يعملون وبالجملة ما من سبب من الأسباب الفعالة في الكون إلا وهو تعالى الذي ملكه القدرة على ما يعمله، وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره.
وهذا هو الذي تفيده الآية التالية { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل } وسنكرر الإِشارة إليه إن شاء الله.
وفي الآية دلالة على أن لفظة الجلالة من الأسماء الحسنى فهو في أصله - الإِله - وصف يفيد معنى المعبودية وإن عرضت عليه العلمية بكثرة الاستعمال كما يدل عليه صحة إجراء الصفات عليه يقال: الله الرحمن الرحيم ولا يقال: الرحمن الله الرحيم وفي كلامه تعالى: { بسم الله الرحمن الرحيم }.
قوله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً } الجهر والإِخفات وصفان متضائفان، يتصف بهما الأصوات، وربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات وبالنسبة إلى الإِخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت، والإِخفات هو المبالغة في خفضه وما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الآية لا تبالغ في صلاتك في الجهر ولا في الإِخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلاً وهو الاعتدال وتسميته سبيلاً لأنه سنة يستن بها هو ومن يقتدي به من أُمته المؤمنين به.
هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله: { بصلاتك } للاستغراق والمراد به كل صلاة صلاة، وأما لو أُريد المجموع ولعله الأظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلها ولا تخافت فيها كلها بل اتخذ سبيلاً وسطاً تجهر في بعض وتخافت في بعض، وهذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنة من الجهر في بعض الفرائض اليومية كالصبح والمغرب والعشاء والإِخفات في غيرها.
ولعل هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتصال ذيل الآية بصدرها فالجهر بالصلاة يناسب كونه تعالى علياً متعالياً والإِخفاف يناسب كونه قريباً أقرب من حبل الوريد فاتخاذ الخصلتين جميعاً في الصلوات أداء لحق أسمائه جميعاً.
قوله تعالى: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً } معطوف على قوله في الآية السابقة: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } ويرجع محصل الكلام إلى أن قل لهم أن ما تدعونها من الأسماء وتزعمون أنها آلهة معبودون غيره إنما هي أسماؤه وهي مملوكه له لا تملك أنفسها ولا شيئاً لأنفسها فدعاؤها دعاؤه فهو المعبود على كل حال.
ثم أحمده واثن عليه بما يتفرع على إطلاق ملكه فإنه لا يماثله شيء في ذات ولا صفة حتى يكون ولداً له إن اشتق عنه في ذات أو صفة كما تقوله الوثنية وأهل الكتاب من النصارى واليهود وقدماء المجوس في الملائكة أو الجن أو المسيح أو عزير والأحبار، أو يكون شريكاً إن شاركه في الملك من غير اشتقاق كما تقوله الوثنيون والثنويون وغيرهم من عبدة الشيطان أو يكون ولياً له إن شاركه في الملك وفاق عليه فأصلح من ملكه بعض ما لم يقدر هو على إصلاحه.
وبوجه آخر لا يجانسه شيء حتى يكون ولداً إن كان دونه أو شريكاً له إن كان مساوياً له في مرتبته أو ولياً له إن كان فائقاً عليه في الملك.
والآية في الحقيقة ثناء عليه تعالى بما له من إطلاق الملك الذي يتفرع عليه نفي الولد والشريك والولي، ولذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتحميد دون التسبيح مع أن المذكور فيها من نفي الولد والشريك والولي صفات سلبية والذي يناسبها التسبيح دون التحميد فافهم ذلك.
وختم سبحانه الآية بقوله: { وكبره تكبيراً } وقد أُطلق إطلاقاً بعد التوصيف والتنزيه فهو تكبير من كل وصف، ولذا فسر "الله أكبر" بأنه أكبر من أن يوصف على ما ورد عن الصادق عليه السلام، ولو كان المعنى أنه أكبر من كل شيء لم يخل من إشراك الأشياء به تعالى في معنى الكبر وهو أعز ساحة أن يشاركه شيء في أمر.
ومن لطيف الصنعة في السورة افتتاح أول آية منها بالتسبيح واختتام آخر آية منها بالتكبير مع افتتاحها بالتحميد.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي أنه كان يقرأ: لقد علمت يعني بالرفع قال علي: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم.
أقول: وهي قراءه منسوبة إليه عليه السلام.
وفي الكافي عن علي بن محمد بإسناده قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عمن بجبهته علة لا يقدر على السجود عليها قال: يضع ذقنه على الأرض إن الله عزوجل يقول { ويخرون للأذقان سجداً }.
أقول: وفي معناه غيره.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ذات يوم فدعا الله فقال في دعائه: يا الله يا رحمن فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فأنزل الله: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } الآية.
أقول: وفي سبب نزول الآية روايات أُخر تخالف هذه الرواية وتذكر أشياء غير ما ذكرته غير أن هذه الرواية أقربها انطباقاً على مفاد الآية.
وفي التوحيد مسنداً وفي الاحتجاج مرسلاً عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أسماء الله عز ذكره واشتقاقها فقلت: الله مما هو مشتق؟ قال يا هشام: الله مشتق من أله وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أفهمت يا هشام؟
قال: فقلت: زدني فقال: إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلهاً ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره يا هشام الخبز اسم المأكول والماء اسم المشروب والثوب اسم الملبوس والنار اسم المحرق. الحديث.
وفي التوحيد بإسناده عن ابن رئاب عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم ولم يعبد المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي يصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فأولئك أصحاب أمير المؤمنين وفي حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقاً.
وفي توحيد البحار في باب المغايرة بين الاسم والمعنى عن التوحيد بإسناده عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى خلق اسماً بالحروف غير منعوت، وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسد، وبالتشبية غير موصوف وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معاً ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أشياء لفاقة الخلق إليها، وحجب واحداً منها وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أُظهرت.
فالظاهر هو الله وتبارك وسبحان لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركناً ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسماً فعلاً منسوباً إليها فهو الرحمن الرحيم الملك القدوس الخالق البارئ المصور الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم العليم الخبير السميع البصير الحكيم العزيز الجبار المتكبر العلي العظيم المقتدر القادر السلام المؤمن المهيمن البارئ المنشئ البديع الرفيع الجليل الكريم الرازق المحيي المميت الباعث الوارث.
فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاث مائه وستين اسماً فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة، وهذه الأسماء الثلاثة أركان وحجب للاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، وذلك قوله عز وجل: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى }.
أقول: والحديث مروي في الكافي أيضاً عنه عليه السلام.
وقد تقدم في بحث الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن هذه الألفاظ المسماة بأسماء الله إنما هي أسماء الأسماء وأن ما تدل عليه وتشير إليه من المصداق أعني الذات مأخوذه بوصف ما هو الاسم بحسب الحقيقة، وعلى هذا فبعض الأسماء الحسنى عين الذات وهو المشتمل على صفة ثبوتية كمالية كالحي والعليم والقدير، وبعضها زائد على الذات خارج منها وهو المشتمل على صفة سلبية أو فعلية كالخالق والرازق لا تأخذه سنة ولا نوم، هذا في الأسماء وأما أسماء الأسماء وهي الألفاظ الدالة على الذات المأخوذة مع وصف من أوصافها فلا ريب في كونها غير الذات، وأنها ألفاظ حادثة قائمة بمن يتلفظ بها.
إلا أن ها هنا خلافاً من جهتين:
إحداهما: أن بعض الجهلة من متكلمي السلف خلطوا بين الأسماء وأسماء الأسماء فحسبوا أن المراد من عينية الأسماء مع الذات عينية أسماء الأسماء معها فذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى ويكون على هذا عباده الاسم ودعوته هو عين عبادة المسمى، وقد كان هذا القول سائغاً في أوائل عصر العباسيين، والروايتان السابقتان أعني روايتي التوحيد في الرد عليه.
والثانية: ما عليه الوثنية وهو أن الله سبحانه لا يتعلق به التوجه العبادي وإنما يتعلق بالأسماء فالأسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن والكمل من الإِنس هم المدعوون وهم الآلهة المعبودون دون الله، وقد عرفت في البيان المتقدم أن قوله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } الخ رد عليه.
والرواية الأخيرة أيضاً تكشف عن وجه انتشاء الأسماء عن الذات المتعالية التي هي أرفع من أن يحيط به علم أو يقيده وصف ونعت أو يحده اسم أو رسم، وهي بما في صدره وذيله من البيان صريح في أن المراد بالأسماء فيها هي الأسماء دون اسماء الأسماء، وقد شرحناها بعض الشرح في ذيل البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب فراجعه إن شئت.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: في قوله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً } قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان بمكة جهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فأنزلت هذه الآية عند ذلك.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس، وروى أيضاً عن عائشة أنها نزلت في الدعاء، ولا بأس به لعدم معارضته، وروى عنها أيضاً أنها نزلت في التشهد.
وفي الكافي بإسناده عن سماعة قال: سألته عن قول الله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } قال: المخافتة ما دون سمعك والجهر أن ترفع صوتك شديداً.
أقول: فيه تأييد المعنى الأول المتقدم في تفسير الآية.
وفيه بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: على الإِمام أن يسمع من خلفه وإن كثروا؟ فقال: ليقرأ وسطاً يقول الله تبارك وتعالى: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: آية العز { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً } الآية كلها.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { ولم يكن له ولي من الذل } قال: قال: لم يذل فيحتاج إلى ولي ينصره.
(بحث آخر روائي وقرآني)
متعلق بقوله تعالى: { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } ثلاثة فصول:
1 - إن للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء والحزب والعشر وغير ذلك والذي ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز اثنان منها وهما السورة والآية فقد كرر الله سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله:
{ { سورة أنزلناها } [النور: 1] وقوله: { { قل فأتوا بسورة مثله } [يونس: 38] وغير ذلك.
وقد كثر استعماله في لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والأئمة كثرة لا تدع ريباً في أن لها حقيقة في القرآن الكريم وهي مجموعة من الكلام الإِلهي مبدوة بالبسملة مسوقة لبيان غرض، وهو معرف للسورة مطرد غير منقوض إلا ببراءة وقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام إنها آيات من سورة الأنفال، وإلا بما ورد عنهم عليهم السلام أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة وأن الفيل والإِيلاف سورة واحدة.
ونظيره القول في الآية فقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الآية على قطعة من الكلام كقوله:
{ { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } [الأنفال: 2]، وقوله: { { كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً } [فصلت: 3]، وقد روي عن أُم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف على رؤوس الآي وصح أن سورة الحمد سبع آيات، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن سورة الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك مما يدل على وقوع العدد على الآيات في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله.
والذي يعطيه التأمل في انقسام الكلام العربي إلى قطع وفصول بالطبع وخاصة فيما كان من الكلام مسجعاً ثم التدبر فيما ورد عن النبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم في أعداد الآيات أن الآية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عما قبلها وعما بعدها.
ويختلف ذلك باختلاف السياقات وخاصة في السياقات المسجَّعة فربما كانت كلمة واحدة كقوله:
{ { مدهامتان } [الرحمن: 64] وربما كانت كلمتين فصاعداً كلاماً أو غير كلام كقوله: { { الرحمن * علم القرآن * خلق الإِنسان * علمه البيان } [الرحمن: 1-4] وقوله: { { الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة } [الحاقة: 1-3] وربما طالت كآية الدين من سورة البقرة آية: 282.
2 - أما عدد السور القرآنية فهي مائة وأربع عشره سورة على ما جرى عليه الرسم في المصحف الدائر بيننا وهو مطابق للمصحف العثماني، وقد تقدم كلام أئمه أهل البيت عليهم السلام فيه، وأنهم لا يعدون براءه سورة مستقلة ويعدون الضحى وألم نشرح سورة واحدة ويعدون الفيل والإِيلاف سورة واحدة.
وأما عدد الآي فلم يرد فيه نص متواتر يعرف الآي ويميز كل آية من غيرها ولا شيء من الآحاد يعتمد عليه، ومن أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم وهم المكيون والمدنيون والشاميون والبصريون والكوفيون.
فقد قال بعضهم: أن مجموع القرآن ستة آلاف آية، وقال بعضهم: ستة آلاف ومأتان وأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة، وقيل: وتسع عشرة، وقيل: وخمس وعشرون، وقيل: وست وثلاثون.
وقد روى المكيون عددهم عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أُبي بن كعب، وللمدنيين عددان ينتهي أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، والآخر إلى إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري وروى أهل الشام عددهم عن أبي الدرداء، وينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجاج الجحدري، ويضاف عدد أهل الكوفة إلى حمزة والكسائي وخلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب.
وبالجملة لما كانت الأعداد لا تنتهي إلى نص متواتر أو واحد يعبأ به ويجوز الركون إليه ويتميز به كل آية عن أُختها لا ملزم للأخذ بشيء منها فما كان منها بينا ظاهر الأمر فهو وإلا فللباحث المتدبر أن يختار ما أدى إليه نظره.
والذي روي عن علي عليه السلام من عدد الكوفيين معارض بأن البسملة غير معدودة في شيء من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أن المروي عنه عليه السلام وعن غيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام أن البسمله آية من القرآن وهي جزء من كل سورة افتتحت بها ولازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات.
وهذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد ها هنا، وذكر ما اتفقوا على عدده من السور القرآنية وهي أربعون سورة وما اختلفوه في عدده أو في رؤوس آية من السور وهي أربع وسبعون سورة وكذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو على عدم كونه آية مثل { الر } أينما وقع من القرآن وما اختلف فيه، وعلى من أراد الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه.
3 - في ترتيب السور نزولاً: نقل في الإِتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنبأنا عمرو بن هارون، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء.
وكان أول ما أُنزل، من القرآن اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلى، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم ألم نشرح، ثم والعصر، ثم والعاديات، ثم إنا أعطيناك، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي يكذب، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم ألم تر كيف فعل ربك، ثم قل أعوذ برب الفلق، ثم قل أعوذ برب الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنجم، ثم عبس، ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر، ثم والشمس وضحاها، ثم والسماء ذات البروج، ثم التين، ثم لإِيلاف قريش، ثم القارعة، ثم لا أُقسم بيوم القيامة، ثم ويل لكل همزة، ثم والمرسلات، ثم ق، ثم لا أُقسم بهذا البلد، ثم والسماء والطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص، ثم الأعراف، ثم قل أُوحي، ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، ثم طه، ثم الواقعة، ثم طسم الشعراء، ثم طس، ثم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حمعسق، ثم حم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النحل، ثم إنا أرسلنا نوحاً، ثم سورة إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنين، ثم تنزيل السجدة، ثم الطور، ثم تبارك الملك، ثم الحاقة، ثم سأل، ثم عم يتساءلون، ثم النازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم ويل للمطففين فهذا ما أنزل الله بمكة.
ثم أنزل الله بالمدينة سورة البقرة، ثم الأنفال، ثم آل عمران، ثم الأحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت، ثم الحديد، ثم القتال، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم الإِنسان، ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات ثم التحريم، ثم الجمعة ثم التغابن، ثم الصف، ثم الفتح، ثم المائدة، ثم براءة.
وقد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب وربما قيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة.
ونقل فيه عن البيهقي في دلائل النبوة أنه روى بإسناده عن عكرمة والحسين بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرء باسم ربك وساقا الحديث نحو حديث عطاء السابق عن ابن عباس إلا أنه قد سقط منه الفاتحة والأعراف وكهيعص مما نزل بمكة.
وأيضاً ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثم إذا السماء انشقت قبل إذا السماء انفطرت ثم ويل للمطففين قبل البقرة مما نزل بالمدينة ثم آل عمران قبل الأنفال ثم المائدة قبل الممتحنة.
ثم روى البيهقي بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك الحديث. وهو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب وقد ذكرت فيه السور التي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكة.
وفيه عن كتاب الناسخ والمنسوخ لابن حصار أن المدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق انتهى.
والذي اتفقوا عليه من المدنيات البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والمنافقون والجمعة والطلاق والتحريم والنصر.
وما اختلفوا في مكيته ومدنيته سورة الرعد والرحمن والجن والصف والتغابن والمطففين والقدر والبينة والزلزال والتوحيد والمعوذتان.
وللعلم بمكية السور ومدنيتها ثم ترتيب نزولها أثر هام في الأبحاث المتعلقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والسياسي والمدني في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وتحليل سيرته الشريفة، والروايات - كما ترى - لا تصلح أن تنهض حجة معتمداً عليها في إثبات شيء من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار.
فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الآيات والاستمداد بما يتحصل من القرائن والامارات الداخلية والخارجية، وعلى ذلك نجري في هذا الكتاب والله المستعان.