خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً
٤٧
وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً
٤٨
وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
٤٩
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً
٥٠
مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً
٥١
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً
٥٢
وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً
٥٣
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً
٥٤
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً
٥٥
وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً
٥٦
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٥٧
وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً
٥٨
وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
٥٩
-الكهف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات متصلة بما قبلها تسير مسيرها في تعقيب بيان أن هذه الأسباب الظاهرية وزخارف الدنيا الغارة زينة الحياة سيسرع إليها الزوال ويتبين للإِنسان أنها لا تملك له نفعاً ولا ضراً وإنما يبقى للإِنسان أو عليه عمله فيجازى به.
وقد ذكرت الآيات أولاً قيام الساعة وجيء الإِنسان فرداً ليس معه إلا عمله ثم تذكر إبليس وإباءه عن السجدة لآدم وفسقه عن أمر ربه وهم يتخذونه وذريته أولياء من دون الله وهم لهم عدو ثم تذكر يوم القيامة وإحضارهم وشركاءهم وظهور انقطاع الرابطة بينهم وتعقب ذلك آيات أُخر في الوعد والوعيد، والجميع بحسب الغرض متصل بما تقدم.
قوله تعالى: { يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً } الظرف متعلق بمقدر والتقدير { واذكر يوم نسير } وتسيير الجبال بزوالها عن مستقرها وقد عبر سبحانه عنه بتعبيرات مختلفة كقوله:
{ { وكانت الجبال كثيباً مهيلاً } [المزمل: 14] وقوله: { { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } [القارعة: 5] وقوله: { { فكانت هباء منبثاً } [الواقعة: 6]، وقوله: { { وسيرت الجبال فكانت سراباً } } [النبأ: 20]. والمستفاد من السياق أن بروز الأرض مترتب على تسيير الجبال فإذا زالت الجبال والتلال ترى الأرض بارزه لا تغيب ناحية منها عن أُخرى بحائل حاجز ولا يستتر صقع منها عن صقع بساتر، وربما احتمل أن تشير إلى ما في قوله: { { وأشرقت الأرض بنور ربها } [الزمر: 69]. وقوله: { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً } أي لم نترك منهم أحداً فالحشر عام للجميع.
قوله تعالى: { وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } الخ السياق يشهد على أن ضمير الجمع في قوله: { عرضوا } وكذا ضميراً الجمع في الآية السابقة للمشركين وهم الذين اطمأنوا إلى أنفسهم والأسباب الظاهرية التي ترتبط بها حياتهم، وتعلقوا بزينة الحياة كالمتعلق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعاً منه عن ربهم، وإنكاراً للرجوع إليه، وعدم مبالاة بما يأتون به من الأعمال أرضى الله أم أسخطه.
وهذه حالهم ما دام أساس الامتحان الإِلهي والزينة المعجلة بين أيديهم والأسباب الظاهرية حولهم ولما يقض الأمر أجله ثم إذا حان الحين وتقطعت الأسباب وطاحت الآمال وجعل الله ما عليها من زينة صعيداً جرزاً لم يبق إذ ذاك لهم إلا ربهم وأنفسهم وصحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، وعرضوا على ربهم - وليسوا يرونه رباً لهم وإلا لعبدوه - صفاً واحداً لا تفاضل بينهم بنسب أو مال أو جاه دنيوي لفصل القضاء تبين لهم عند ذلك أن الله هو الحق المبين وأن ما يدعونه من دونه وتعلقت به قلوبهم من زينة الحياة واستقلال أنفسهم والأسباب المسخرة لهم ما كانت إلا أوهاماً لا تغني عنهم من الله شيئاً وقد أخطأوا إذ تعلقوا بها وأعرضوا عن سبيل ربهم ولم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لأنهم توهموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه فيحاسبون عليه.
وبهذا البيان يظهر أن هذه الجمل الأربع: { وعرضوا } الخ { لقد جئتمونا } الخ { بل ظننتم } الخ { ووضع الكتاب } الخ نكت أساسية مختارة من تفصيل ما يجري يومئذ بينهم وبين ربهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، واكتفي بها إيجازاً في الكلام لحصول الغرض بها.
فقوله: { وعرضوا على ربك صفاً } إشارة أولاً إلى أنهم ملجؤون إلى الرجوع إلى ربهم ولقائه فيعرضون عليه عرضاً من غير أن يختاروه لأنفسهم، وثانياً أن لا كرامة لهم في هذا اللقاء، ويشعر به قوله { على ربك } ولو أكرموا لقيل: ربهم كما قال:
{ { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن } [البينة: 8] وقال: { { إنهم ملاقوا ربهم } [هود: 79] أو قيل: عرضوا علينا جرياً على سياق التكلم السابق، وثالثاً أن أنواع التفاضل والكرامات الدنيوية التي أختلقتها لهم الأوهام الدنيوية من نسب ومال وجاه قد طاحت عنهم فصفوا صفاً واحداً لا تميز فيه لعال من دان ولا لغني من فقير ولا لمولى من عبد، وإنما الميز اليوم بالعمل وعند ذلك يتبين لهم أنهم أخطأوا الصواب في حياتهم الدنيا وضلوا السبيل فيخاطبون بمثل قوله: { لقد جئتمونا } الخ.
وقوله: { لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } مقول القول والتقدير وقال لهم أو قلنا لهم: لقد جئتمونا الخ، وفي هذا بيان خطإهم وضلالهم في الدنيا إذ تعلقوا بزينتها وزخرفها فشغلهم ذلك عن سلوك سبيل الله والأخذ بدينه.
وقوله: { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً } في معنى قوله:
{ { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [المؤمنون: 115] والجملة إن كانت إضراباً عن الجمله السابقة على ظاهر السياق فالتقدير ما في معنى قولنا: شغلتكم زينه الدنيا وتعلقكم بأنفسكم وبظاهر الأسباب عن عبادتنا وسلوك سبيلنا بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعداً تلقوننا فيه فتحاسبوا وبتعبير آخر: إن اشتغالكم بالدنيا وتعلقكم بزينتها وإن كان سبباً في الاعراض عن ذكرنا واقتراف الخطيئات لكن كان هناك سبب هو أقدم منه وهو الأصل وهو أنكم ظننتم أن لن نجعل لكم موعداً فنسيان المعاد هو الأصل في ترك الطريق وفساد العمل قال تعالى: { { إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } [ص: 26]. والوجه في نسبة الظن بنفي المعاد إليهم أن انقطاعهم إلى الدنيا وتعلقهم بزينتها ومن يدعونه من دون الله فعل من ظن أنها دائمة باقية لهم وأنهم لا يرجعون إلى الله فهو ظن حالي عملي منهم ويمكن أن يكون كناية عن عدم اعتنائهم بأمر الله واستهانتهم بما أُنذروا به نظير قوله تعالى: { { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } } [فصلت: 22]. ومن الجائز ان يكون قوله: { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً } اضراباً عن اعتذار لهم مقدر بالجهل ونحوه والله أعلم.
قوله تعالى: { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا } إلى آخر الآية وضع الكتاب نصبه ليحكم عليه، ومشفقين من الشفقة واصلها الرقة، قال الراغب في المفردات: الاشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه قال تعالى: { وهم من الساعة مشفقون } فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى: { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } { مشفقون منها } انتهى.
والويل الهلاك، ونداؤه عند المصيبة - كما قيل - كناية عن كون المصيبة أشد من الهلاك فيستغاث بالهلاك لينجي من المصيبة كما ربما يتمنى الموت عند المصيبة قال تعالى:
{ { يا ليتني مت قبل هذا } [مريم: 23]. وقوله: { ووضع الكتاب } ظاهر السياق أنه كتاب واحد يوضع لحساب أعمال الجميع ولا ينافي ذلك وضع كتاب خاص بكل إنسان والآيات القرآنية دالة على أن لكل إنسان كتاباً ولكل أُمة كتاباً وللكل كتاباً قال تعالى: { { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً } [الإسراء: 13] وقد تقدم الكلام فيها، وقال: { { كل أُمه تدعى إلى كتابها } [الجاثية: 28] وقال: { { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } [الجاثية: 29] وسيجيء الكلام في الآيتين إن شاء الله تعالى.
وقيل: المراد بالكتاب كتب الأعمال واللام للاستغراق، والسياق لا يساعد عليه.
وقوله: { فترى المجرمين مشفقين مما فيه } تفريع الجملة على وضع الكتاب وذكر إشفاقهم مما فيه دليل على كونه كتاب الأعمال أو كتاباً فيه الأعمال، وذكرهم بوصف الاجرام للإِشارة إلى علة الحكم وأن إشفاقهم مما فيه لكونهم مجرمين فالحكم يعم كل مجرم وإن لم يكن مشركاً.
وقوله: { ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } الصغيرة والكبيرة وصفان قامتا مقام موصوفهما وهو الخطيئة أو المعصية أو الهنة ونحوها.
وقولهم هذا إظهار للدهشة والفزع من سلطه الكتاب في إحصائه للذنوب أو لمطلق الحوادث ومنها الذنوب في صورة الاستفهام التعجيبي، ومنه يعلم وجه تقديم الصغيرة على الكبيرة في قوله: { صغيرة ولا كبيرة } مع أن الظاهر أن يُقال: لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها بناء على أن الكلام في معنى الإِثبات وحق الترقي فيه أن يتدرج من الكبير إلى الصغير هذا، وذلك لأن المراد - والله أعلم - لا يغادر صغيرة لصغرها ودقتها ولا كبيرة لكبرها ووضوحها، والمقام مقام الاستفزاع في صورة التعجيب واحصاء الصغيرة على صغرها ودقتها أقرب إليه من غيرها.
وقوله: { ووجدوا ما عملوا حاضراً } ظاهر السياق كون الجملة تأسيساً لا عطف تفسير لقوله: { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة } الخ وعليه فالحاضر عندهم نفس الأعمال بصورها المناسبة لها لا كتابتها كما هو ظاهر أمثال قوله:
{ { يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [التحريم: 7]، ويؤيده قوله بعده: { وما يظلم ربك أحداً } فإن انتفاء الظلم بناء على تجسم الأعمال أوضح لأن ما يجزون به إنما هو عملهم يرد إليهم ويلحق بهم لا صنع في ذلك لأحد فافهم ذلك.
قوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } تذكير ثان لهم بما جرى بينه تعالى وبين إبليس حين أمر الملائكة بالسجود لأبيهم آدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن فتمرد عن أمر ربه.
أي واذكر هذه الواقعة حتى يظهر لهم أن إبليس - وهو من الجن - وذريته عدو لهم لا يريدون لهم الخير فلا ينبغي لهم أن يفتتنوا بما يزينه لهم هو وذريته من ملاذ الدنيا وشهواتها والاعراض عن ذكر الله ولا أن يطيعوهم فيما يدعونهم إليه من الباطل.
وقوله: { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } تفريع على محصل الواقعة والاستفهام للإِنكار أي ويتفرع على الواقعة أن لا تتخذوه وذريته أولياء والحال أنهم أعداء لكم معشر البشر، وعلى هذا فالمراد بالولاية ولاية الطاعة حيث يطيعونه وذريته فيما يدعونهم فقد اتخذوهم مطاعين من دون الله، وهكذا فسرها المفسرون.
وليس من البعيد أن يكون المراد بالولاية ولاية الملك والتدبير وهو الربوبية فإن الوثنية كما يعبدون الملائكة طمعاً في خيرهم كذلك يعبدون الجن اتقاء من شرهم، وهو سبحانه يصرح بأن إبليس من الجن وله ذرية وأن ضلال الإِنسان في صراط سعادته وما يلجمه من أنواع الشقاء إنما هو بإغواء الشيطان فالمعنى أفتتخذونه وذريته آلهة وأرباباً من دوني تعبدونهم وتتقربون إليهم وهم لكم عدو؟.
ويؤيده الآية التالية فإن عدم إشهادهم الخلقة انما يناسب انتفاء ولاية التدبير عنهم لا انتفاء ولاية الطاعة وهو ظاهر.
وقد ختم الآية بتقبيح اتخاذهم إياهم أولياء من دون الله الذي معناه اتخاذهم إبليس بدلاً منه سبحانه فقال: { بئس للظالمين بدلاً } وما أقبح ذلك فلا يقدم عليه ذو مسكة، وهو السر في الالتفات الذي في قوله: { من دوني } فلم يقل: من دوننا على سياق قوله: { وإذ قلنا } ليزيد في وضوح القبح كما أنه السر أيضاً في الالتفات السابق في قوله: { عن أمر ربه } ولم يقل: عن أمرنا.
وللمفسرين ها هنا أبحاث في معنى شمول أمر الملائكة لإِبليس؛ وفي معنى كونه من الجن وفي معنى، وقد قدمنا بعض القول في ذلك في تفسير سورة الأعراف.
قوله تعالى: { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً } ظاهر السياق كون ضميري الجمع لإِبليس وذريته والمراد بالإِشهاد الإِحضار والإِعلام عياناً كما أن الشهود هو المعاينة حضوراً، والعضد ما بين المرفق والكتف من الإِنسان ويستعار للمعين كاليد وهو المراد ها هنا.
وقد اشتملت الآية في نفي ولاية التدبير عن إبليس وذريته على حجتين إحداهما: أن ولاية تدبير أُمور شيء من الأشياء تتوقف على الإِحاطة العلمية - بتمام معنى الكلمة - بتلك الأُمور من الجهة التي تدبر فيها وبما لذلك الشيء وتلك الأُمور من الروابط الداخلية والخارجية بما يبتدئ منه وما يقارنه وما ينتهي إليه والارتباط الوجودي سار بين أجزاء الكون؛ وهؤلاء وهم إبليس وذريته لم يشهدهم الله سبحانه خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم فلا كانوا شاهدين إذ قال للسماوات والأرض كن فكانت ولا إذ قال لهم: كونوا فكانوا فهم جاهلون بحقيقة السماوات والأرض وما في أوعية وجوداتها من أسرار الخلقة حتى بحقيقة صنع أنفسهم فكيف يسعهم أن يلوا تدبير أمرها أو تدبير أمر شطر منها فيكونوا آلهة وأرباباً من دون الله وهم جاهلون بحقيقة خلقتها وخلقة أنفسهم.
وأما أنهم لم يشهدوا خلقها فلأن كلاً منهم شيء محدود لا سبيل له إلى ما وراء نفسه فغيره في غيب منه مضروب عليه الحجاب، وهذا بين وقد أنبأ الله سبحانه عنه في مواضع من كلامه؛ وكذا كل منهم مستور عنه شأن الأسباب التي تسبق وجوده واللواحق التي ستلحق وجوده.
وهذه حجه برهانية غير جدلية عند من أجاد النظر وأمعن في التدبر حتى لا يختلط عنده هذه الالعوبة الكاذبة التي نسميها تدبيراً بالتدبير الكوني الذي لا يلحقه خطأ ولا ضلال، وكذا الظنون والمزاعم الواهية التي نتداولها ونركن إليها بالعلم العياني الذي هو حقيقه العلم وكذا العلم بالأُمور الغائبة عنا بالظفر على أماراتها الأغلبية بالعلم بالغيب الذي يتبدل به الغيب شهادة.
والثانيه أن كل نوع من أنواع المخلوقات متوجه بفطرته نحو كماله المختص بنوعه وهذا ضروري عند من تتبعها وأمعن النظر في حالها فالهداية الإِلهية عامة للجميع كما قال:
{ { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50] والشياطين أشرار مفسدون مضلون فتصديهم تدبير شيء من السماوات والأرض أو الإِنسان - ولن يكون إلا بإذن من الله سبحانه - مؤد إلى نقضه السنة الإِلهية من الهداية العامة أي توسله تعالى إلى الاصلاح بما ليس شأنه إلا الإِفساد وإلى الهداية بما خاصته الإِضلال وهو محال.
وهذا معنى قوله سبحانه: { وما كنت متخذ المضلين عضداً } الظاهر في أن سنته تعالى أن لا يتخذ المضلين عضداً فافهم.
وفي قوله: { ما أشهدتهم } وقوله: { وما كنت } ولم يقل: ما شهدوا وما كانوا دلالة على أنه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كل حال، والقائلون بإشراك الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأن أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوض إليهم بتفويض منه وأنهم أرباب وآلهة والله رب الأرباب وإله الآلهة.
وما تقدم من معنى الآية مبني على حمل الإِشهاد على معناه الحقيقي وإرجاع الضميرين في { ما أشهدتهم } و { أنفسهم } إلى إبليس وذريته كما هو الظاهر المتبادر من السياق، وللمفسرين أقوال أُخر:
منها قول بعضهم: إن المراد من الإِشهاد في خلقها المشاورة مجازاً فإن أدنى مراتب الولاية على شيء أن يشاوره في أمره، والمراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب الاستعانة المؤدية إلى الولاية والسلطة على المولى عليه بوجه ما فكأنه قيل: ما شاورتهم في أمر خلقها ولا استعنت بهم بشيء من أنواع الاستعانة فمن أين يكونون أولياء لهم؟.
وفيه أنه لا قرينة على هذا المجاز ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي على أنه لا رابطة بين الإِشارة بالشيء والولاية عليه حتى تعد المشاورة من مراتب التولية أو الإِشارة من درجات الولاية، وقد وجه بعضهم هذا المعنى بأن المراد بالإِشهاد المشاورة كنايه ولازم المشاورة أن يخلق كما شاؤا أي أن يخلقهم كما أحبوا أي أن يخلقهم كاملين فالمراد بنفي إشهاد الشياطين خلق أنفسهم نفي أن يكونوا كاملين في الخلقة حتى يسع لهم ولاية تدبير الأُمور.
وفيه مضافاً إلى أنه يرد عليه ما أورد على سابقه أولاً أن ذلك يرجع إلى إطلاق الشيء وإرادة لازمه بخمس مراتب من اللزوم فالمشاورة لازم الإِشهاد على ما يدعيه وخلق ما يشاؤه المشير لازم المشاورة وخلق ما يحبه لازم خلق ما يشاؤه، وكمال الخلقة لازم خلق ما يحبه، وصحة الولاية لازم كمال الخلقة فإطلاق الإِشهاد وإرادة كمال الخلقة أو صحة الولاية من قبيل التكنية عن لازم المعنى من وراء لزومات أربع أو خمس، والكتاب المبين يجل عن أمثال هذه الالغازات.
وثانياً: أنه لو صح فإنما يصح في إشهادهم خلق أنفسهم دون إشهادهم خلق السماوات والأرض فلازمه التفكيك بين الاشهادين.
وثالثاً: أن لازمه صحة ولاية من كان كاملاً في خلقه كالملائكة المقربين ففيه اعتراف بإمكان ولايتهم وجواز ربوبيتهم والقرآن يدفع ذلك بأصرح البيان فأين الممكن المفتقر لذاته إلى الله سبحانه من الاستقلال في تدبير نفسه أو تدبير غيره؟ وأما نحو قوله تعالى:
{ { فالمدبرات أمراً } [النازعات: 5] فسيجيء توضيح معناه إن شاء الله.
ومنها قول بعضهم: إن المراد بالإِشهاد حقيقة معناه والضميران للشياطين لكن المراد من إشهادهم خلق أنفسهم إشهاد بعضهم خلق بعض لا إشهاد كل خلق نفسه.
وفيه أن المراد بنفي الإِشهاد استنتاج انتفاء الولاية، ولم يقل أحد من المشركين بولاية بعض الشياطين لبعض ولا تعلق الغرض بنفيها حتى يحمل لفظ الآية على إشهاد بعضهم خلق بعض.
ومنها قول بعضهم: إن أول الضميرين للشياطين والثاني للكفار أو لهم ولغيرهم من الناس. والمعنى ما أشهدت الشياطين خلق السماوات والأرض ولا خلق الكفار أو الناس حتى يكونوا أولياء لهم.
وفيه أن فيه تفكيك الضميرين.
ومنها قول بعضهم: برجوع الضميرين إلى الكفار، قال الإِمام الرازي في تفسيره والأقرب عندي عودهما يعني الضميرين على الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له: لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها؟.
ويؤكده أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات، وهو في الآية أُولئك الكفار لأنهم المراد بالظالمين في قوله تعالى: { بئس للظالمين بدلاً } انتهى.
وفيه أن فيه خرق السياق بتعليق مضمون الآية بما تعرض به في قوله: { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } بنحو الإِشارة قبل ثلاث وعشرين آية وقد تحول وجه الكلام بالانعطاف على أول السورة مرة بعد مرة بالتمثيل بعد التمثيل والتذكير بعد التذكير فما احتمله من المعنى في غاية البعد.
على أن ما ذكره من اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لم تطرد هؤلاء الفقراء من مجلسك لم نؤمن بك" ليس باقتراح فيه مداخلة في تدبير أمر العالم حتى يرد عليهم بمثل قوله { ما أشهدتهم } الخ بل اشتراط لإِيمانهم بطرد أُولئك من غير أن يبتني على دعوى ترد بمثل ذلك، نعم لو قيل: اطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء واكتفي به لكان لما قاله بعض الوجه.
وكأن التنبه لهذه النكتة دعا بعضهم إلى توجيه معني الآية على تقدير رجوع الضميرين إلى الكفار بأن المراد أنهم جاهلون بما جرى عليه القلم في الأزل من أمر السعادة والشقاء إذ لم يشهدوا الخلقة فكيف يقترحون عليك أن تقربهم إليك وتطرد الفقراء.
ومثله قول آخرين: إن المراد أني ما أطلعتهم على أسرار الخلقة ولم يختصوا مني بما يمتازون به من غيرهم حتى يكونوا قدوة يقتدي بهم الناس في الإِيمان بك فلا تطمع في نصرتهم فلا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين.
وكلا الجهين أبعد مما ذكره الإِمام من الوجه فأين الآية من الدلالة على ما اختلقاه من المعنى؟ .
ومنها أن الضميرين للملائكة والمعنى ما أشهدت الملائكه خلق العالم ولا خلق أنفسهم حتى يعبدوا من دوني، وينبغي أن يضاف إليه أن قوله: { وما كنت متخذ المضلين عضداً } أيضاً متعرض لنفي ولاية الشياطين فتدل الآية حينئذ بصدرها وذيلها على نفي ولاية الفريقين جميعاً وإلا دفعه ذيل الآية.
وفيه أن الآية السابقة إنما خاطبت الكفار في قولهم بولاية الشياطين ثم ذكرتهم بضمير الجمع في قولها: { وهم لكم عدو } ولم يتعرض لشيء من أمر الملائكه فإرجاع الضميرين إلى الملائكة دون الشياطين تفكيك، والاشتغال بنفي ولاية الملائكة تعرض لما لم يحوج إليه السياق ولا اقتضاه المقام.
قوله تعالى: { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم } إلى آخر الآية هذا تذكير ثالث يذكر فيه ظهور بطلان الرابطة بين المشركين وبين شركائهم يوم القيامة ويتأكد بذلك أنهم ليسوا على شيء مما يدعيه لهم المشركون.
فقوله: { ويوم يقول } الخ الضمير له تعالى بشهادة السياق، والمعنى واذكر لهم يوم يقول الله لهم نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم لي شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وبان أنهم ليسوا لي شركاء ولو كانوا لاستجابوا.
وقوله: { وجعلنا بينهم موبقاً } الموبق بكسر الباء إسم مكان من وبق وبوقاً بمعنى هلك، والمعنى جعلنا بين المشركين وشركائهم محل هلاك وقد فسر القوم هذا الموبق والمهلك بالنار أو بمحل من النار يهلك فيه الفريقان المشركون وشركاءهم لكن التدبر في كلامه تعالى لا يساعد عليه فإن الآية قد أطلقت الشركاء وفيهم - ولعلهم الأكثر - الملائكة وبعض الأنبياء والأولياء، وأرجع إليهم ضمير أُولي العقل مرة بعد مرة، ولا دليل على اختصاصهم بمردة الجن والإِنس، وكون جعل الموبق بينهم دليلاً على الاختصاص أول الكلام.
فلعل المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة ورفعها من بينهم وقد كانوا يرون في الدنيا أن بينهم وبين شركائهم رابطه الربوبيه والمربوبيه أو السببية والمسببية فكني عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة والعلقة من غير أن يهلك الطرفان، ويومي إلى ذلك بلطيف الإِشارة تعبيره عن دعوتهم أولاً بالنداء حيث قال: { نادوا شركائي } والنداء إنما يكون في البعيد فهو دليل على بعد ما بينهما.
وإلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في موضع آخر من كلامه:
{ { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } [الأنعام: 94]، وقوله تعالى: { { ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } [يونس: 28]. قوله تعالى { ورأى المجرمون النار وظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً } في أخذ المجرمين مكان المشركين دلالة على أن الحكم عام لجميع أهل الإِجرام، والمراد بالظن هو العلم - على ما قيل - ويشهد به قوله: { ولم يجدوا عنها مصرفاً }.
والمراد بمواقعة النار الوقوع فيها - على ما قيل ولا يبعد أن يكون المراد حصول الوقوع من الجانبين فهم واقعون في النار بدخولهم فيها والنار واقعة فيهم باشتعالهم بها. وقوله: { ولم يجدوا عنها مصرفاً } المصرف بكسر الراء اسم مكان من الصرف أي لم يجدوا محلاً ينصرفون إليه ويعدلون عن النار ولا مناص.
قوله تعالى: { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل وكان الإِنسان أكثر شيء جدلاً } قد مر الكلام في نظير صدر الآية في سورة الإِسراء آيه 89 والجدل الكلام على سبيل المنازعة والمشاجرة والآية إلى تمام ست آيات مسوقة للتهديد بالعذاب بعد التذكيرات السابقة.
قوله تعالى: { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم } و { يستغفروا } عطف على قوله: { يؤمنوا } أي وما منعهم من الإِيمان والاستغفار حين مجيء الهدى.
وقوله: { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } أي إلا طلب أن تأتيهم السنة الجارية في الأُمم الأولين وهي عذاب الاستئصال، وقوله: { أو يأتيهم العذاب قبلاً } عطف على سابقه أي أو طلب أن يأتيهم العذاب مقابلة وعياناً ولا ينفعهم الإِيمان حينئذ لأنه إيمان بعد مشاهدة البأس الإِلهي قال تعالي:
{ { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده } [غافر: 85]. فمحصل المعنى أن الناس لا يطلبون إيماناً ينفعهم والذي يريدونه أن يأخذهم عذاب الاستئصال على سنة الأولين فيهلكوا ولايؤمنوا أو يقابلهم العذاب عياناً فيؤمنوا اضطراراً فلا ينفعهم الإِيمان.
وهذا المنع والاقتضاء في الآية أمر ادعائي يراد به أنهم معرضون عن الحق لسوء سريرتهم فلا جدوى للإِطناب الذي وقع في التفاسير في صحة ما مر من التوجيه والتقدير إشكالاً ودفعاً.
قوله تعالى: { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } الخ تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يضيق صدره من إنكار المنكرين وإعراضهم عن ذكر الله فما كانت وظيفة المرسلين إلا التبشير والإِنذار وليس عليهم وراء ذلك من بأس ففيه إنعطاف إلى مثل ما مر في قوله في أول السورة: { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } وفي الآية أيضاً نوع تهديد للكفار المستهزئين.
والدحض الهلاك والإِدحاض الإِهلاك والإِبطال، والهزوء: الاستهزاء والمصدر بمعنى اسم المفعول ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه } إعظام وتكبير لظلمهم والظلم يعظم ويكبر بحسب متعلقه، وإذا كان هو الله سبحانه بآياته فهو أكبر من كل ظلم.
والمراد بنسيان ما قدمت يداه عدم مبالاته بما يأتيه من الإِعراض عن الحق والاستهزاء به وهو يعلم أنه حق، وقوله: { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } كأنه تعليل لإِعراضهم عن آيات الله أوله ولنسيانهم ما قدمت أيديهم، وقد تقدم الكلام في معنى جعل الأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم في الكتاب مراراً.
وقوله: { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً } إيآس من إيمانهم بعدما ضرب الله الحجاب على قلوبهم وآذانهم فلا يسعهم بعد ذلك أن يهتدوا بأنفسهم بتعقل الحق ولا أن يسترشدوا بهداية غيرهم بالسمع والاتباع، والدليل على هذا المعنى قوله: { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً } حيث دل على تأييد النفي وقيده بقوله: { إذاً } وهو جزاء وجواب.
قال في روح المعاني: واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم، والقدرية بالآية التي قبلها. قال الإِمام: وقل ما تجد في القرآن آية لاحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر، وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين. انتهى.
أقول: وكلتا الآيتين حق ولازم ذلك ثبوت الاختيار للعباد في أعمالهم وانبساط سلطنته تعالى في ملكه حتى على أعمال العباد وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام.
قوله تعالى: { وربك الغفور ذو الرحمة } إلى آخر الآية، الآيات - كما سمعت - مسرودة لتهديدهم بالعذاب وهم فاسدون في أعمالهم فساداً لا يرجى منهم صلاح وهذا مقتض لنزول العذاب وأن يكون معجلاً لا يمهلهم إذ لا أثر لبقائهم إلا الفساد لكن الله سبحانه لم يعجل لهم العذاب وإن قضى به قضاء حتم بل أخره إلى أجل مسمى عينه بعلمه.
فقوله: { وربك الغفور ذو الرحمة } صدرت به الآية المتضمنة لصريح القضاء في تهديدهم ليعدل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب المعجل فيقضي ويمضي أصل العذاب أداء لحق مقتضيه وهو عملهم، ويؤخر وقوعه لأن الله غفور ذو رحمة.
فالجملة أعني قوله: { الغفور ذو الرحمة } مع قوله: { لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب } بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي، وقوله: { بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } أي ملجأ يلجؤون منه إليه بمنزلة الحكم الصادر عنه بما فيه إرضاء الجانبين ومراعاة الحقين فاعطي وصف الانتقام الإِلهي باستدعاء مما كسبوا أصل العذاب، وأُعطيت صفة المغفره والرحمة أن يؤجل العذاب ولا يعجل؛ وعند ذلك أخذت المغفره الإِلهية تمحو أثر العمل الذي هو استعجال العذاب، والرحمة تفيض عليهم حياة معجلة.
ومحصل المعنى: لو يؤاخذهم ربك لعجل لهم العذاب لكن لم يعجل لأنه الغفور ذو الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعداً لا ملجأ لهم يلجؤون منه إليه. فقوله: { بل لهم موعد } الخ كلمة قضاء وليس بحكاية محضة وإلا قيل: بل جعل لهم موعداً الخ فافهم ذلك.
والغفور صيغة مبالغة تدل على كثرة المغفرة، وذو الرحمة - ولامه للجنس - صفة تدل على شمول الرحمة لكل شيء فهي أشمل معنى من الرحمن والرحيم الدالين على الكثرة أو الثبوت والاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنه يصلح المورد لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذو الرحمة، فللغفور السعي وكثرة العمل ولذي الرحمة الانبساط والشمول على ما لا مانع عنده، ولهذه النكتة جيء في المغفرة بالغفور وهو صيغة مبالغة وفي الرحمة بذي الرحمة الحاوي لجنس الرحمة فافهم ذلك ودع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين.
قوله تعالى: { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً } المراد بالقرى أهلها مجازاً بدليل الضمائر الراجعة إليها، والمهلك بكسر اللام اسم زمان.
ومعنى الآية ظاهر وهي مسوقة لبيان أن تأخير مهلكهم وتأجيله ليس ببدع منا بل السنة الإِلهية في الأُمم الماضين الذين أهلكهم الله لما ظلموا كانت جارية على ذلك فكان الله يهلكهم ويجعل لمهلكهم موعداً.
ومن هنا يظهر أن العذاب والهلاك الذي تتضمنه الآيات ليس بعذاب يوم القيامة بل عذاب دنيوي وهو عذاب يوم بدر إن كان المراد تهديد صناديد قريش أو عذاب آخر الزمان إن كان المراد تهديد الأُمة كما مر في تفسير سورة يونس.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي: في قوله تعالى: { يا ويلتنا ما لهذا الكتاب } الآية عن خالد بن نجيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة دفع للإِنسان كتابه ثم قيل له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إنه يذكره فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعله إلا ذكره كأنه فعله تلك الساعة. ولذلك قالوا: { يا ويلتنا مالهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها }.
أقول: والرواية كما ترى تجعل ما يذكره الإِنسان هو ما عرفه من ذلك الكتاب فمذكوره هو المكتوب فيه، ولولا حضور ما عمله لم تتم عليه الحجة ولأمكنه أن ينكره.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { ولا يظلم ربك أحداً } قال: يجدون كل ما عملوا مكتوباً.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن أبي معمر السعدان عن علي عليه السلام قال: قوله: { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها } أي أيقنوا أنهم داخلوها.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"ينصب الكافر يوم القيامة مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر يرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة" ]. أقول: وهو يؤيد ما تقدم أن المواقعة في الآية مأخوذة بين الأثنين.