خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً
٦٤
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً
٦٥
-مريم

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيتان معترضتان بين آيات السورة وسياقهما يشهد بأنهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإن النظم نظم قرآني بلا ريب.
وبذلك يتأيد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنة ورواه في مجمع البيان أيضاً عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استبطأ نزول جبريل فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى: { وما نتنزل إلا بأمر ربك } إلى آخر الآيتين.
وقد تكلف جمع في بيان اتصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إن التقدير: هذا وقال جبريل: وما نتنزل إلا بأمر ربك الخ، وقال آخرون: إنهما متصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقاً: { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } الآية، وذكر قوم إن قوله: { وما نتنزل إلا بأمر ربك } إلى آخر الآية من كلام المتقين حين يدخلون الجنة فالتقدير وقال المتقون وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربّك "الخ" وقيل غير ذلك.
وهي جميعاً وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق ولا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها. وسيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتصال.
قوله تعالى: { وما نتنزل إلا بأمر ربك } إلى آخر الآية، التنزل هو النزول على مهل وتؤدة فإن تنزل مطاوع نزّل يُقال: نزله فتنزل والنفي والاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزل الملائكة إلا بأمر من الله كما قال:
{ { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [التحريم: 6]. وقوله: { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } يقال: كذا قدّامه وأمامه وبين يديه والمعنى واحد غير أن قولنا: بين يديه إنما يطلق فيما كان بقرب منه وهو مشرف عليه له فيه نوع من التصرف والتسلط فظاهر قوله: { ما بين أيدينا } أن المراد به ما نشرف عليه مما هو مكشوف علينا مشهود لنا: وظاهر قوله: { وما خلفنا } بالمقابلة ما هو غائب عنا مستور علينا.
وعلى هذا فلو أُريد بقوله: { ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } المكان شمل بعض المكان الذي أمامهم والمكان الذي هم فيه وجميع المكان الذي خلفهم ولم يشمل كل مكان، وكذا لو أُريد به الزمان شمل الماضي كله والحال والمستقبل القريب فقط وسياق قوله: { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك }، ينادي بالإِحاطة ولا يلائم التبعيض.
فالوجه حمل { ما بين أيدينا } على الأعمال والآثار المتفرعة على وجودهم التي هم قائمون بها متسلطون عليها، وحمل { ما خلفنا } على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدّمهم وتحقق قبلهم، وحمل { ما بين ذلك } على وجودهم أنفسهم وهو من أبدع التعبير وألطفه وبذلك تتم الإِحاطة الإِلهية بهم من كل جهة لرجوع المعنى إلى أن الله تعالى هو المالك لوجودنا وما يتعلق به وجودنا من قبل ومن بعد.
ولقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو قدّامنا من الزمان المستقبل وبما خلفنا الماضي وبما بين ذلك الحال، وقيل: ما بين أيدينا ما قبل الإِيجاد من الزمان. وما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة وما بين ذلك هو مدة الحياة. وقيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الأُولى وما خلفهم هو ما بعد النفخه الثانية وما بين ذلك ما بين النفختين وهو أربعون سنة، وقيل: ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا، وقيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق وما خلفهم ما بعد الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والآخرة، وقيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا وما خلفهم ما مضى منه وما بين ذلك ما هم فيه وقيل: المعنى ابتداء خلقنا ومنتهى آجالنا و مدة حياتنا.
وقيل: ما بين أيديهم السماء وما خلفهم الأرض وما بين ذلك ما بينهما، وقيل: بعكس ذلك، وقيل: ما بين أيديهم المكان الذي ينتقلون إليه وما خلفهم المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه.
وتشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أن الماء آت عليها مكانية كما يشترك السبعة في أن الماء آت عليها زمانية وهناك قول بكون الآية تعم الزمان والمكان فهذه أحد عشر قولاً ولا دليل على شيء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإِنسان والوجه ما قدمناه.
فقوله: { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكاً حقيقياً لا يجري فيه تصرف غيره ولا إرادة من سواه إلا عن إذن منه ومشيئة وإذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلاً إلا عن أمره ومن بعد إذنه ولا تريد إلا ما أراده الله فلا يتنزل ملك إلا بأمر ربه.
وقد تقرر بهذا البيان أن قوله: { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } في مقام التعليل لقوله: { وما نتنزل إلا بأمر ربك } وأن قوله: { وما كان ربك نسياً } - والنسيّ فعول من النسيان - من تمام التعليل أي إنه تعالى لا ينسى شيئاً من ملكه حتى يختلّ بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب وهكذا وكأن هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان.
وقيل المعنى وما كان ربك نسياً أي تاركاً لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم تكن عن تركه تعالى لك وتوديعه إياك.
وفيه أنه وإن وافق ما تقدم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل بقوله: { له ما بين أيدينا } الخ، ناقصاً وينقطع قوله: { ربّ السماوات والأرض وما بينهما } عما تقدمه كما سيتضح.
قوله تعالى: { رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميّاً } صدر الآية أعني قوله: { رب السماوات والأرض وما بينهما } تعليل لقوله في الآية السابقة { له ما بين أيدينا وما خلفنا } إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وكيف يكون نسياً وهو تعالى ربّ السماوات والأرض وما بينهما؟ ورب الشيء هو مالكه، المدبر لأمره، فملكه وعدم نسيانه مقتضى ربوبيّته.
وقوله: { فاعبده واصطبر لعبادته } تفريع على صدر الآية والمعنى إذا كنا لا نتنزل إلا بأمر ربك وقد نزلنا عليك هذا الكلام المتضمن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه والدعوة دعوته فاعبده وحده واصطبر لعبادته فليس هناك من يسمّى رباً غير ربك حتى لا تصطبر على عبادة ربك وتنتقل إلى عبادة ذلك الغير الذي يسمّى رباً فتكتفي بعبادته عن عبادة ربك أو تشرك به وربما قيل: إن الجملة تفريع على قوله: { رب السماوات والأرض } أو على قوله: { وما كان ربك نسياً } أي لم ينسك ربك فاعبده "الخ" والوجهان كما ترى.
وقد بان بهذا التقرير أُمور:
أحدها أن قوله: { هل تعلم له سمياً } من تمام البيان المقصود بقوله: { فاعبده واصطبر لعبادته } وهو في مقام التعليل له.
والثاني أن المراد بالسميّ المشارك في الاسم والمراد بالاسم هو الربّ لأن مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبية المطلقة له تعالى على كل شيء فهو يقول: هل تعلم من اتصف بالربوبية فسمّي لذلك رباً حتى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.
وبذلك يظهر عدم استقامة عامة ما قيل في معنى السميّ في الآية فقد قيل: إن المراد بالسميّ المماثل مجازاً، وقيل: السميّ بمعنى الولد وقيل: هو بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالاسم الذي لا مشاركة فيه هو رب السماوات والأرض وقيل: هو اسم الجلالة، وقيل: هو الإِله، وقيل: هو الرحمن، وقيل: هو الإِله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب والعقاب.
والثالث: أن النكتة في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب وتكراره في الآية الأُولى إذ قال: بأمر ربك وقال: وما كان ربك ولم يقل: ربنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الرب ففي قوله: { ربّك } إشارة إلى أن ربنا الذي نتنزل عن أمره هو ربك فالدعوة دعوته فاعبده، ويمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال: { ذكر رحمة ربك } الخ لأنّ الآيات كما نبّهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.
والرابع: أن قوله: { فاعبده واصطبر لعبادته } مسوق لتوحيد العبادة وليس أمراً بالعبادة وأمراً بالثبات عليها وإدامتها إلا من جهة الملازمة فافهم ذلك.
ويمكن أن يستفاد من التفريع أنه تأكيد للبيان الذي يتضمنه السياق السابق على هاتين الآيتين وبذلك يظهر اتصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذا معترضتين من كل جهة.
فكأن ملك الوحي لما تنزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم بالسورة وأوحى إليه الآيات الثلاث والستين منها وهي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يتنزل وليس يتنزل بما تنزل به من عند نفسه بل عن أمر من ربه وبرسالة من عنده فالكلام كلامه والدعوة دعوته وهو رب النبي ورب كل شيء فليعبده وحده فليس هناك رب آخر يعدل عنه إليه فالآيتان مما أُوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تثبيتاً له وتأكيداً للآيات السابقة.
وهذا نظير أن يرسل ملك رسولاً بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عماله فيأتيه الرسول ثم إذا قرأ الكتاب أو أدى الرسالة قال للعامل: إني ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك وإشارة منه والكتاب كتابه والرسالة قوله وحكمه وهو مليكك ومليك عامة من في المملكة فاسمع له وأطع وأقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتى تعدل عنه إليه.
فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك، وإذا فرض أن الملك هو الذي أمره أن يعقّب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاماً للرسول ورسالة أيضاً عن قبل الملك وكلامه.
وغير خفيّ عليك أن هذا الوجه أوفق بالآيتين وأوضح انطباقاً عليهما مما تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف والوهن.