خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ
٢٦
ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ
٢٧
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { إن الله لا يستحيي أن يضرب }، البعوضة الحيوان المعروف وهو من أصغر الحيوانات المحسوسة، وهذه الآية والتي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد
{ { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربّك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } [الرعد: 19-21]. وكيف كان فالآية تشهد على أن من الضلال والعمى ما يلحق الإِنسان عقيب أعماله السيئة غير الضلال والعمى الذي له في نفسه ومن نفسه حيث يقول تعالى: { وما يضل به إلاَّ الفاسقين }، فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدماً عليه هذا.
ثم إن الهداية والإِضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة والخذلان التي ترد منه تعالى على عباده السعداء والأشقياء، فإن الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عباده بأنه يحييهم حياة طيبة، ويؤيدهم بروح الإِيمان، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويجعل لهم نوراً يمشون به، وهو وليّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو معهم يستجيب لهم إذا دعوه ويذكرهم إذا ذكروه، والملائكة تنزّل عليهم بالبشرى والسلام إلى غير ذلك.
ووصف حال الأشقياء من عباده بأنه يضلهم ويخرجهم من النور إلى الظلمات ويختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ويطمس وجوههم على أدبارهم ويجعل في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، ويجعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فيغشيهم فهم لا يبصرون، ويُقيّض لهم شياطين قرناء يضلونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون، ويزيّنون لهم أعمالهم، وهم أولياؤهم، ويستدرجهم الله من حيث لا يشعرون، ويملي لهم أن كيده متين، ويمكر بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.
فهذه نبذة مما ذكره سبحانه من حال الفريقين، وظاهرها أن للإِنسان في الدنيا وراء الحياة التي يعيش بها فيها حياة أُخرى سعيدة أو شقية ذات أُصول وأعراق يعيش بها فيها، وسيطلع ويقف عليها عند انقطاع الأسباب وارتفاع الحجاب، ويظهر من كلامه تعالى أيضاً أن للإِنسان حياة أُخرى سابقة على حياته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حياته الدنيا فيما يتلوها. وبعبارة أُخرى أن للإِنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا وحياة بعدها، والحياة الثالثة تتبع حكم الثانية والثانية حكم الأولى، فالإِنسان في الدنيا واقع بين حياتين: سابقة ولاحقة، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن.
لكنّ الجمهور من المفسرين حملوا القسم الأول من الآيات وهي الواصفة للحياة السابقة على ضرب من لسان الحال واقتضاء الاستعداد، والقسم الثاني منها وهي الواصفة للحياة اللاحقة على ضروب المجاز والاستعارة هذا، إلاَّ أن ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك. أما القسم الأول وهي آيات الذر والميثاق فستأتي في مواردها، وأما القسم الثاني فكثير من الآيات دالّة على أن الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال وعينها كقوله تعالى:
{ { لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [التحريم: 7]، وقوله تعالى: { { ثم توفَّى كل نفس ما كسبت } [البقرة: 281]، الآية، وقوله تعالى: { { فَاتَّقوا النَّار التي وقودها الناس والحجارة } [البقرة: 24]، وقوله تعالى: { { فليدع ناديه سندع الزبانية } [العلق: 17-18]، وقوله تعالى: { { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء } [آل عمران: 30]، وقوله تعالى: { { ما يأكلون في بطونهم إلاَّ النار } [البقرة: 174]، وقوله: { { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [النساء: 10]، إلى غير ذلك من الآيات.
ولعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى - إلاَّ قوله:
{ { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 22]، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلاَّ عن معلوم حاضر، وكشف الغطاء لا يستقيم إلاَّ عن مغطى موجود، فلو لم يكن ما يشاهده الإِنسان يوم القيامة موجوداً حاضراً من قبل لما كان يصح أن يقال للإِنسان إن هذه أمور كانت مغفولة لك، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة.
ولعمري أنك لو سألت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلاَّ بنفس هذه البيانات والأوصاف التي نزل بها القرآن الكريم.
ومحصّل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين:
أحدهما: وجه المجازاة بالثواب والعقاب، وعليه عدد جمّ من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الإِنسان من خير أو شر كجنة أو نار إنما هو جزاءٌ لما عمله في الدنيا من العمل.
وثانيهما: وجه تجسم الأعمال وعليه عدة أخرى من الآيات، وهي تدل على أن الأعمال تُهيئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أموراً مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيراً أو شراً هي التي سيطلع عليه الإِنسان يوم يكشف عن ساق. وإيّاك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان، فإن الحقائق إنما تقرب إلى الأفهام بالأمثال المضروبة، كما ينص على ذلك القرآن.
وقوله تعالى: { إلاَّ الفاسقين }، الفسق كما قيل من الألفاظ التي أبدع القرآن استعمالها في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها وجلدها، ولذلك فسر بعده بقوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } الآية، والنقض إنما يكون عن إبرام، ولذلك أيضاً وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين، والإِنسان إنما يخسر فيما ملكه بوجه، قال تعالى:
{ { إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } [الزمر: 15]، وإياك أن تتلقى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الأشقياء مثل المقرّبين والمخلصين والمخبتين والصالحين والمطهّرين وغيرهم، ومثل الظالمين والفاسقين والخاسرين والغاوين والضالّين وأمثالها أوصافاً مبتذلة أو مأخوذة لمجرد تزيين اللفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه تعالى فتعطف الجميع على واد واحد، وتأخذها هجاءً عامياً وحديثاً ساذجاً سوقياً، بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحية ومقامات معنوية في صراطي السعادة والشقاوة، كل واحد منها في نفسة مبدأ لآثار خاصة ومنشأ لأحكام مخصوصة معيّنة، كما أن مراتب السنّ وخصوصيات القوى وأوضاع الخلقة في الإِنسان كل منها منشأ لأحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحداً منها من غير منشأه ومحتده، ولئن تدبّرت في مواردها من كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت صدق ما ادّعيناه.
(بحث الجبر والتفويض)
واعلم: أن بيانه تعالى، أن الإِضلال إنما يتعلق بالفاسقين يشرح كيفية تأثيره تعالى في أعمال العباد ونتائجها (وهو الذي يراد حله في بحث الجبر والتفويض).
بيان ذلك: أنه تعالى قال:
{ { لله ما في السماوات وما في الأرض } [البقرة: 284]، وقال: { { له ملك السماوات والأرض } [الحديد: 5]، وقال: { { له الملك وله الحمد } [التغابن: 1]، فأثبت فيها وفي نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم، بمعنى أنه تعالى مالك على الإِطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه ولا يملك على بعض الوجوه، كما أن الفرد من الإِنسان يملك عبداً أو شيئاً آخر فيما يوافق تصرفاته أنظار العقلاء، وأما التصرفات السفهية فلا يملكها، وكذا العالم مملوك لله تعالى مملوكية على الإِطلاق، لا مثل مملوكية بعض أجزاء العالم لنا حيث أن ملكنا ناقص إنما يصحح بعض التصرفات لا جميعها، فإن الإِنسان المالك لحمار مثلاً إنما يملك منه أن يتصرف فيه بالحمل والركوب مثلاً وأما أن يقتلة عطشاً أو جوعاً أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب، فالعقلاء لا يرون له ذلك، أي كل مالكية في هذا الاجتماع الإِنساني مالكية ضعيفة إنما تصحح بعض التصرفات المتصورة في العين المملوكة لا كل تصرف ممكن، وهذا بخلاف ملكه تعالى للأشياء، فإنها ليس لها من دون الله تعالى من رب يملكها وهي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً فكل تصرف متصور فيها فهو له تعالى، فأي تصرف تصرف به في عباده وخلقه، فله ذلك من غير أن يستتبع قبحاً ولا ذماً ولا لوماً في ذلك، إذ التصرف من بين التصرفات إنما يستقبح ويذم عليه فيما لا يملك المتصرف ذلك لأن العقلاء لا يرون له ذلك، فملك هذا المتصرف محدود مصروف إلى التصرفات الجائزة عند العقل، وأما هو تعالى فكل تصرف تصرف به فهو تصرف من مالك وتصرف في مملوك فلا قبح ولا ذم ولا غير ذلك، وقد أيّد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أي تصرف في ملكه إلاَّ ما يشاءه أو يأذن فيه وهو السائل المحاسب دون المسؤول المأخوذ، فقال تعالى: { { من ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه } [البقرة: 255]، وقال تعالى: { { ما من شفيع إلاَّ من بعد إذنه } [يونس: 3]، وقال تعالى: { { ولو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } [الرعد: 31]، وقال: { { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } [المدثر: 31]، وقال تعالى: { { وما تشاؤون إلاَّ أنْ يشآء الله } [التكوير: 29]، وقال تعالى: { { لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون } [الأنبياء: 23]، فالله هو المتصرف الفاعل في ملكه وليس لشيء غيره شيء من ذلك إلاَّ بإذنه ومشيئته، فهذا ما يقتضيه ربوبيته.
ثم انا نرى أنه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع وجرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الإِنساني، من استحسان الحسن والمدح والشكر عليه واستقباح القبيح والذم عليه كما قال تعالى:
{ إنْ تبدوا الصدقات فنعما هي } [البقرة: 271]، وقال: { { بئس الاسم الفسوق } [الحجرات: 11]، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الإِنسان ومفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الإِنسان فقال تعالى: { { إذا دعاكم لما يحييكم } [الأنفال: 24]، وقال تعالى: { { ذلكم خير لكم إنْ كنتم تعلمون } [الصف: 11]، وقال تعالى: { { إن الله يأمر بالعدل والإِحسان } [النحل: 90] (إلى أن قال) { { وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغى } [النحل: 90]، وقال تعالى: { { إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء } [النحل: 90] والآيات في ذلك كثيرة، وفي ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعنى أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذم وغير ذلك والأحكام المتعلقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما أنها هي الأساس للأحكام العامة العقلائية كذلك الأحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعى فيها ذلك، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض ومصالح عقلائية، ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للأحكام والقوانين، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الإِحسان بالإِحسان والإِساءة بالإِساءة إن شاؤوا فهذه كلها معللة بالمصالح والأغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الأوامر العقلائية ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، وكل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيرية والشريّة وبمقدار يناسب وكيف يناسب، ومن أحكامهم أن الأمر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلاَّ إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل وأيضاً أن الجزاء الحسن أو السيء أعني الثواب والعقاب لا يتعلقان إلاَّ بالفعل الاختياري اللهم إلاَّ فيما كان الخروج عن الاختيار والوقوع في الاضطرار مستنداً إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحاً، ولا يبالون بقصة اضطراره.
فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزاء المطيع بالجنة والعاصي بالنار إلاَّ جزافاً في مورد المطيع، وظلماً في مورد العاصي، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجح وهو قبيح عندهم أيضاً ولا حجة في قبيح، وقد قال تعالى:
{ { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [النساء: 165]، وقال تعالى: { { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } [الأنفال: 42]، فقد اتضح بالبيان السابق أمور:
أحدها: أن التشريع ليس مبنياً على أساس الإِجبار في الأفعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أولاً، وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانياً، والمكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختياراً.
ثانيها: أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الإِضلال والخدعة والمكر والإِمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإِنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح والمنكر، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الإِضلال وشعبه وأنواعه، وليس كل إضلال حتى الإِضلال البدوي وعلى سبيل الإِغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه، بل الثابت له الإِضلال مجازاة وخذلاناً لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك، كما قال تعالى: { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاَّ الفاسقين } الاية، وقال:
{ { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [الصف: 5]، وقال تعالى: { { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } [غافر: 34]. ثالثها: أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث أنها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي، وسيجيء لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى.
رابعها: أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للأمر والنهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئاً، مضافاً إلى أن التفويض لا يتم إلاَّ مع سلب إطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.
(بحث روائي)
استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام أنهم قالوا:
"(لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين" الحديث.
وفي العيون بعدة طرق، لما انصرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من صفين قام إليه شيخ ممن شهد الواقعة معه فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر، فقال له أمير المؤمنين (أجل يا شيخ فوالله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاَّ بقضاء من الله وقدر)، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال: (مهلاً يا شيخ لعلك تظن قضاءً حتماً وقدراً لازماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسيء لائمة ولا لمحسن محمدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالإِحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرَّحمن وقدرية هذه الأمة ومجوسها. يا شيخ إن الله كلف تخييراً ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكروهاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، الحديث).
أقول، قوله: بقضاء من الله وقدر إلى قوله: عند الله أحتسب عنائي. ليعلم أن من أقدم المباحث التي وقعت في الإِسلام مورداً للنقض والإِبرام، وتشاغبت فيه الأنظار مسألة الكلام ومسألة القضاء والقدر وإذ صوروا معنى القضاء والقدر وإستنتجوا نتيجته فإذا هي أن الإِرادة الإِلهية الأزلية تعلّقت بكل شيء من العالم فلا شيء من العالم موجوداً على وصف الإِمكان، بل إن كان موجوداً فبالضرورة، لتعلّق الإِرادة بها واستحالة تخلف مرادة تعالى عن إرادته، وإن كان معدوماً، فبالإِمتناع لعدم تعلق الإِرادة بها وإلاَّ لكانت موجودة، وإذا اطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الإِشكال في الأفعال الاختيارية الصادرة منا فإنا نرى في بادي النظر أن نسبة هذه الأفعال وجوداً وعدماً إلينا متساوية، وإنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الإِرادة به بعد اختيار ذلك الجانب، فأفعالنا اختيارية، والإِرادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده، ولكن فرض تعلق الإِرادة الإِلهية الأزلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل اختيارية الفعل أولاً، وتأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانياً وحينئذٍ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل، ولا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل وخاصة في صورة الخلاف والتمرد فيكون تكليفاً بما لا يطاق، ولا معنى لإِثابة المطيع بالجبر لأنه جزاف قبيح، ولا معنى لعقاب العاصي بالجبر لأنه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللوازم، وقد التزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا: القدرة غير موجودة قبل الفعل، والحسن والقبح أمران غير واقعيين لا يلزم تقيد أفعاله تعالى بهما بل كل ما يفعله فهو حسن ولا يتصف فعله تعالى بالقبح، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجح، ولا من الإِرادة الجزافية، ولا من التكليف بما لا يطاق، ولا من عقاب العاصي وإن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.
وبالجملة كان القول بالقضاء والقدر في الصدر الأول مساوقاً لارتفاع الحسن والقبح والجزاء بالاستحقاق ولذلك لما سمع الشيخ منه عليه السلام كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في مقام التأثر واليأس: عند الله أحتسب عنائي أي: إن مسيري وإرادتي فاقدة الجدوى من حيث تعلق الإِرادة الإِلهية بها فلم يبق لي إلاَّ العناء والتعب من الفعل فأحتسبه عند ربي فهو الذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الإِمام عليه السلام بقوله: لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب الخ، وهو أخذ بالأصول العقلائية التي أساس التشريع مبني عليها واستدل في آخر كلامه عليه السلام بقوله: ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً الخ، وذلك لأن صحة الإِرادة الجزافية التي هي من لوازم ارتفاع الغاية عن الخلقة والإِيجاد، وهذا الإِمكان يساوق الوجوب، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة والإِيجاد، وذلك خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، وفيه بطلان المعاد وفيه كل محذور، وقوله: ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكروهاً، كأنّ المراد لم يعص والحال أن عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال أن طوعه مكروه للمطيع.
وفي التوحيد والعيون عن الرضا عليه السلام قال: ذكر عنده الجبر والتفويض فقال: إلاَّ أعلمكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلاَّ كسرتموه؟ قلنا إن رأيت ذلك، فقال: إن الله عز وجل لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكة، هو المالك لما ملَّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادّاً، ولا منها مانعاً وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال عليه السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.
أقول: قد عرفت أن الذي ألزم المجبّرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء والقدر واستنتاج الحتم واللزوم فيهما وهذا البحث صحيح وكذلك النتيجة أيضاً نتيجة صحيحة غير أنهم أخطأوا في تطبيقها، واشتبه عليهم أمر الحقائق والاعتباريات، واختلط عليهم الوجوب والإِمكان، توضيح ذلك أن القضاء والقدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أن الأشياء في نظام الإِيجاد والخلقة على صفة الوجوب واللزوم فكل موجود من الموجودات وكل حال من أحوال الموجود مقدرة محدودة عند الله سبحانه، معيّن له جميع ما هو معه من الوجود وأطواره وأحواله لا يتخلف عنه ولا يختلف، ومن الواضح أن الضرورة والوجوب من شؤون العلة فإن العلة التامة هي التي إذا قيس إليها الشيء صار متصفاً بصفة الوجوب وإذا قيس إلى غيرها أي شيء كان لم يصر إلاَّ متصفاً بالإِمكان، فانبساط القدر والقضاء في العالم هو سريان العلية التامة والمعلولية في العالم بتمامه وجميعه، وذلك لا ينافي سريان حكم القوة والإِمكان في العام من جهة أُخرى وبنظر آخر، فالفعل الاختياري الصادر عن الإِنسان بإرادته إذا فرض منسوباً إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ومادة يتعلق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانية والمكانية كان ضروري الوجود، وهو الذي تعلقت به الإِرادة الإِلهية الأزلية، لكن كون الفعل ضرورياً بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة، ومن جهتها لا يوجب كونه ضرورياً إذا قيس إلى بعض أجزاء علته التامة، كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقية أجزاء علّته التامة فإنه لا يتجاوز حد الإِمكان، ولا يبلغ البتة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أن عموم القضاء وتعلق الإِرادة الإِلهية بالفعل يوجب زوال القدرة وارتفاع الاختيار، بل الإِرادة الإِلهية إنما تعلّقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصيانه الوجودية ومنها ارتباطاته بعلله وشرائط وجوده، وبعبارة أُخرى تعلّقت الإِرادة الإِلهية بالفعل الصادر من زيد مثلاً لا مطلقاً بل من حيث أنه فعل اختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا ومكان كذا، فإذن تأثير الإِرادة الإِلهية في الفعل يوجب كون الفعل اختيارياً وإلا تخلّف متعلق الإِرادة الإِلهية عنها، فإذن تأثير الإِرادة الإِلهية في صيرورة الفعل ضرورياً يوجب كون الفعل اختيارياً أي كون الفعل ضرورياً بالنسبة إلى الإِرادة الإِلهية ممكناً اختيارياً بالنسبة إلى الإِرادة الإِنسانية الفاعلة، فالإِرادة في طول الإِرادة وليست في عرضها حتى تتزاحما، ويلزم من تأثير الإِرادة الإِلهية بطلان تأثير الإِرادة الإِنسانية فظهر أن ملاك خطأ المجبرة فيما أخطأوا فيه عدم تمييزهم كيفية تعلق الإِرادة الإِلهية بالفعل، وعدم فرقهم بين الإِرادتين الطوليتين وبين الإِرادتين العرضيتين وحكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به.
والمعتزلة وإن خالفت المجبرة في اختيارية أفعال العبد وسائر اللوازم إلاَّ إنهم سلكوا في إثباته مسلكاً لا يقصر من قول المجبرة فساداً، وهو أنهم سلموا للمجبرة أن تعلق إرادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار، ومن جهة أخرى أصروا على اختيارية الأفعال الاختيارية فنفوا بالآخرة تعلق الإِرادة الإِلهية بالأفعال فلزمهم إثبات خالق آخر للأفعال وهو الإِنسان، كما أن خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنوية، ثم وقعوا في محاذير أُخرى أشد مما وقعت فيه المجبرة، كما قال عليه السلام: مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه الحديث.
فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفية يختار عبداً من عبيده ويزوجه إحدى فتياته ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث وغير ذلك مما يحتاج إليه الإِنسان في حياته إلى حين محدود وأجل مسمى، فإن قلنا إن المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى وملَّكه ما ملك فإنه لا يملك، وأين العبد من الملك كان ذلك قول المجبرة، وإن قلنا إن للمولى باعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكاً وانعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة، ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين وقلنا: إن المولى مقامه في المولوية وللعبد مقامه في الرقية وأن العبد إنما يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك، فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق الذى رآه أئمة أهل البيت عليه السلام، وقام عليه البرهان هذا.
وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعي الأسدي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في معنى الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له: قل يا عباية، قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث.
أقول: ومعنى الرواية واضح مما بيّناه آنفاً.
وفي شرح العقائد للمفيد قال: وقد روي عن أبي الحسن الثالث عليه السلام أنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى؟ فقال عليه السلام: لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه:
{ { أَنَّ الله بريء من المشركين } [التوبة: 3]، ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم.
أقول: للأفعال جهتان: جهة ثبوت ووجود، وجهة الانتساب إلى الفاعل، وهذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الأفعال بأنها طاعة أو معصية أو حسنه أو سيئة، فإن النكاح والزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت والتحقق، وإنما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لأمر الله تعالى، والزنا فاقد للموافقة المذكورة، وكذا قتل النفس بالنفس وقتل النفس بغير نفس، وضرب اليتيم تأديباً وضربه ظلماً، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الأمر أو الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها، وقد قال تعالى:
{ الله خالق كل شيء } [الزمر: 62]، والفعل شيء بثبوته ووجوده، وقد قال عليه السلام: (كل ما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله) الحديث، ثم قال تعالى: { { الذي أحسن كل شيء خلقه } [السجدة: 7]، فتبيّن أن كل شيء كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق حسن، فالخلقة والحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلاً، ثم إنه تعالى سمّى بعض الأفعال سيئة فقال: { { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاَّ مثلها } [الأنعام: 160]، وهي المعاصي التي يفعلها الإِنسان بدليل المجازاة، وعلمنا بذلك أنها من حيث أنها معاص عدمية غير مخلوقة وإلاَّ كانت حسنة، وقال تعالى: { { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاَّ في كتاب من قبل أن نبرأها } [الحديد: 22]، وقال: { { ما أصاب من مصيبة إلاَّ بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } [التغابن: 11]، وقال: { { ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [الشورى: 30]، وقال: { { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [النساء: 79]، وقال: { { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } [النساء: 78]، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الإِنسان المنعم بنعمة من نعم الله كالأمن والسلامة والصحة والغنى يعد واجداً، فإذا فقدها لنزول نازلة وإصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لأنها مقارنة لفقد ما وعدم ما، فكل نازلة فهى من الله وليست من هذه الجهة سيئة وإنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الإِنسان وهو واجد، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة وإن كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالإِذن فيه ونحو ذلك.
وفي قرب الإِسناد عن البزنطي، قال: قلت: للرضا عليه السلام أن أصحابنا بعضهم يقول: بالجبر، وبعضهم بالاستطاعة فقال لي: (اكتب، قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي وبنعمتي قوّيت على معصيتي جعلتك سميعاً بصيراً قوياً، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أني لا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون، فقد نظمت لك كل شيء تريد) الحديث، وهو أو ما يقربه مرويّ بطرق عامية وخاصية أُخرى وبالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الأفعال هي المعاصي من جهة أنها معاص خاصة، وبذلك يعلم معنى قوله عليه السلام في الرواية السابقة: لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها إلى قوله وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم الحديث.
وفي التوحيد: عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام "قالا: إن الله عزّ وجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون" قال: فسُئِلا عليهما السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا نعم أوسع مما بين السماء والأرض.
وفي التوحيد عن محمد بن عجلان، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام فوّض الله الأمر إلى العباد؟ قال: "الله أكرم من أن يفوّض إليهم" قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال: "الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثم يعذّبه عليه".
وفي التوحيد أيضاً عن مهزم، قال قال أبو عبد الله عليه السلام أخبرني عمّا اختلف فيه من خلفك من موالينا، قال: قلت في الجبر والتفويض، قال: فاسألني قلت: أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: "الله أقهر لهم من ذلك" قلت: ففوّض إليهم؟ قال: الله أقدر عليهم من ذلك، قال: قلت: فأيّ شيء هذا، أصلحك الله؟ قال: فقلّب يده مرتين أو ثلاثاً ثم قال: "لو أجبتك فيه لكفرت".
أقول: قوله عليه السلام: الله أقهر لهم من ذلك، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة، وأقهر منه وأقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرىاختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته واختياره إو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر.
وفي التوحيد أيضاً عن الصادق عليه السلام قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من زعم أنَّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أنَّ الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه"
]. وفي الطرائف: روي أن الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر، فكتب إليه الحسن البصري أن أحسن ما انتهى إليّ ما سمعت أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السلام، أنه قال: "أتظن أن الذي نهاك دهاك؟ وإنما دهاك أسفلك وأعلاك، والله بريء من ذاك". وكتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام "لو كان الزور في الأصل محتوماً لكان المزوّر في القصاص مظلوماً". وكتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق؟" وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "كلما استغفرت الله منه فهو منك، وكلما حمدت الله عليه فهو منه" فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال: لقد أخذوها من عين صافية.
وفي الطرائف أيضاً روي أن رجلاً سأل جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن القضاء والقدر فقال: "ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله، ويقول الله للعبد: لِمَ عصيت؟ لِمَ فسقت؟ لِمَ شربت الخمر؟ لِمَ زنيت؟ فهذا فعل العبد، ولا يقول له لِمَ مرضت؟ لِمَ قصرت، لِمَ ابيضضت، لِمَ اسوددت؟ لأنه من فعل الله تعالى"؟.
وفي النهج سئل عليه السلام عن التوحيد والعدل؟ فقال: "التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتَّهمه". أقول: والأخبار فيما مرّ متكاثرة جداً غير أن الذي نقلناه حاوٍ لمعاني ما تركناه ولئن تدبرت فيما تقدم من الأخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال.
منها: الاستدلال بنفس الأمر والنهي والعقاب والثواب وأمثالها على تحقق الاختيار من غير جبر ولا تفويض، كما في الخبر المنقول عن أمير المؤمنين علي عليه السلام فيما أجاب به الشيخ، وهو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى.
ومنها: الاستدلال بوقوع أمور في القرآن لا تصدق لو صدق جبر أو تفويض، كقوله تعالى:
{ { لله ملك السماوات والأرض } [الشورى: 49]، وقوله: { { وما ربُّك بظلاَّمٍ للعبيد } [فصلت: 46]، وقوله تعالى: { { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [الأعراف: 28] الآية، ويمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا وأما إذا نسب إليه تعالى فلا يسمى فاحشة ولا ظلماً فلا يقع منه تعالى فاحشة ولا ظلم، ولكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول: { { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [الأعراف: 28] الآية، فالإِشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجهاً إليه سواءٌ سمي فحشاء أو لم يسمّ.
ومنها: الاستدلال من جهة الصفات وهو أن الله تسمى بأسماء حسنى واتصف بصفات عليا لا تصدق ولا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فإنه تعالى قهّار قادر كريم رحيم، وهذه صفات لا تستقر معانيها إلاَّ عند ما يكون وجود كل شيء منه تعالى ونقص كل شيء وفساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد.
ومنها: الاستدلال بمثل الاستغفار وعروض اللوم، فإن الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفار، ولو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل وفعل في عروض اللوم على بعضها وعدم عروضه على بعض آخر.
وها هُنا روايات أُخر مرويّة فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الإِضلال والطبع والإِغواء وغير ذلك.
ففي العيون عن الرضا عليه السلام في قوله تعالى:
{ { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } [البقرة: 17] قال عليه السلام: "إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، لكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم".
وفي العيون أيضاً عنه عليه السلام في قوله تعالى:
{ { ختم الله على قلوبهم } [البقرة: 7] قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: { { بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً } [النساء: 155]. وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { إن الله لا يستحي } الآية، هذا القول من الله رد على من زعم أن الله تبارك وتعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم؛ الحديث. أقول: قد مرّ بيان معناها.
(بحث فلسفي)
لا ريب أن الأمور التي نسميها أنواعاً في الخارج هي التي تفعل الأفاعيل النوعية، وهي موضوعاتها، فإنا إنما أثبتنا وجود هذه الأنواع ونوعيتها الممتازة عن غيرها من طريق الآثار والأفاعيل، بأن شاهدنا من طرق الحواس أفاعيل متنوعة وآثاراً مختلفة من غير أن تنال الحواس في إحساسها أمراً وراء الآثار العرضية، ثم أثبتنا من طريق القياس والبرهان علّة فاعلة لها وموضوعاً يقومها ثم حكمنا باختلاف هذه الموضوعات، أعني الأنواع لاختلاف الآثار والأفاعيل المشهودة لنا، فالاختلاف المشهود في آثار الإِنسان وساير الأنواع الحيوانية مثلاً هو الموجب للحكم بأن هناك أنواعاً مختلفة تسمى بكذا وكذا ولها آثار وأفاعيل كذا وكذا، وكذا الاختلافات بين الأعراض والأفاعيل إنما نثبتها ونحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصها.
وكيف كان، فالأفاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولى إلى قسمين: الأول: الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء والنمو والتغذي للنبات والحركات للأجسام، ومن هذا القبيل الصحة والمرض وأمثال ذلك فإنها وإن كانت معلومة لنا وقائمة بنا إلاَّ أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها وصدورها شيئاً وإنما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي، والثاني: الفعل الصادر عن الفاعل من حيث أنه معلوم تعلق به العلم كما في الأفعال الإِرادية للإِنسان وساير ذوات الشعور من الحيوان، فهذا القسم من الفعل إنما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم به وتشخيصه وتمييزه، فالعلم فيه إنما يفيد تعيينه وتمييزه من غيره، وهذا التمييز والتعيين إنما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالاً للفاعل انطباقاً بواسطة العلم، فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله وتمام وجوده، فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو كمال له عمّا ليس بكمال له.
ومن هنا ما نرى أن الأفعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن الإِنسان المتكلم، وكذا الأفعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما ومداخلة من الطبيعة كصدور التنفس عن الإِنسان، وكذا الأفعال الصادرة عن الإِنسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج إلى تروّ من الفاعل، إذ ليس هناك إلاَّ صورة علمية واحدة منطبقة على الفعل والفاعل لا حالة منتظرة لفعلة، فيفعل البتة، وأما الأفعال التي لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق كمال الإِنسان حقيقة أو تخيلاً، ومن جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه ويمكن أن يكون مال الغير ويمكن أن يكون مسموماً ويمكن أن يكون قذراً يتنفر عنه الطبع، وهكذا والإِنسان إنما يتروى فيما يتروى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلاً، فإذا تعيّن أحد العناوين وسقطت بقيتها وصار مصداقاً لكمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلاً، والقسم الأول: نسميه فعلاً اضطرارياً كالتأثيرات الطبيعية. والقسم الثاني: نسميه فعلاً إرادياً كالمشي والتكلم.
والفعل الإِرادي: الصادر عن علم وإرادة ينقسم ثانياً إلى قسمين: فإن ترجيح أحد جانبي الفعل والترك إما مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجح أن يبقيه ولا يأكله لأنه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ واختاره أو رجح الأكل فأكله اختياراً، وإما أن يكون الترجيح والتعيين مستنداً إلى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجباراً من غير أن يكون متعيناً بانتخابه واختياره والقسم الأول يسمى فعلاً اختيارياً، والثاني فعلاً إجبارياً هذا، وأنت تجد بجودة التأمل أن الفعل الإِجباري وإن أسندناه إلى إجبار المجبر وأنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالاً وممتنعاً بواسطة الإِجبار فلا يبقى للفاعل إلاَّ طرف واحد، لكن الفعل الإِجباري أيضاً كالاختياري لا يقع إلاَّ بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك وإن كان الذي يجبره هو المتسبب إلى الفعل بوجه، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل وإن كان نظره مستنداً بوجه إلى إجبار المجبر وتهديده لم يقع، والوجدان الصحيح شاهد على ذلك، ومن هنا يظهر أن تقسيم الأفعال الإِرادية إلى اختيارية وجبرية ليس تقسيماً حقيقياً ينوّع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات والآثار، فإن الفعل الإِرادي إنما يحتاج إلى تعيين وترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله، وهو في الفعل الاختياري والجبري على حد سواء، وأما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله وفي آخر إلى آخر فلا يوجب اختلافاً نوعياً يؤدي إلى اختلاف الآثار. إلا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقضّ، فخرج خائفاً عدَّ فعله هذا اختيارياً؟ وأما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه، فخرج خائفاً عدَّ فعله هذا إجبارياً من غير فرق بين الفعلين والترجيحين أصلاً غير أن أحد الترجيحين مستند إلى إرادة الجبار.
فإن قلت: كفى فرقاً بين الفعلين أن الفعل الاختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل وهو فعل يترتب عليه المدح والذم ويتبعه الثواب والعقاب إلى غير ذلك من الآثار، وهذا بخلاف الفعل الإِجباري فإنه لا يترتب عليه شيء من ذلك.
قلت: الأمر على ما ذكر، غير أن هذه الآثار إنما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الأخير الاجتماعي، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية، فليس البحث عن الجبر والاختيار بحثاً فلسفياً لأن البحث الفلسفي إنما ينال الموجودات الخارجية وآثارها العينية، وأما الأمور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائية، فلا ينالها بحث فلسفي ولا يشملها برهان البتة، وإن كانت معتبرة في بابها، مؤثرة أثرها، فالواجب أن نرد البحث المزبور من طريق آخر، فنقول: لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة، والحكم ثابت من طريق البرهان، ولا شك أيضاً أن الشيء ما لم يجب لم يوجد إذ الشيء ما لم يتعيّن طرف وجوده بمعين كان نسبته إلى الوجود والعدم بالسوية، ولو وجد الشيء، وهو كذلك لم يكن مفتقراً إلى علة وهف، فإذا فرض وجود الشيء كان متصفاً بالضرورة ما دام موجوداً، وهذه الضرورة إنما اكتسبها من ناحية العلة، فإذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود، ولا موقع لأمر ممكن الوجود في هذه السلسلة.
ثم نقول: هذه النسبة الوجوبية إنما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علتها التامة البسيطة أو المركبة من أُمور كثيرة كالعلل الأربع والشرائط والمعدات وأما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلّة أو إلى شيء آخر، لو فرض كانت النسبة نسبة الإِمكان بالضرورة، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه وهي علة تامة وهف، ففي عالمنا الطبيعي نظامان: نظام الضرورة ونظام الإِمكان، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة ومعلولاتها ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة لا ذات ولا فعل ذات، ونظام الإِمكان منبسط على المادة والصور التي في قوة المادة التلبس بها والآثار التي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلاً من أفعال الإِنسان الاختيارية ونسبتها إلى تمام علتها، وهي الإِنسان والعلم والإِرادة ووجود المادة القابلة وتحقق الشرائط المكانية والزمانية وارتفاع الموانع، وبالجملة كل ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجباً ضرورياً، وإذا نسب إلى الإِنسان فقط، ومن المعلوم أنه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة بالإِمكان.
ثم نقول: سبب الاحتياج والفقر إلى العلة كما بيّن في محله كون الوجود (وهو مناط الجعل) وجوداً إمكانياً، أي رابطاً بحسب الحقيقة غير مستقل بنفسه، فما لم ينته سلسلة الربط إلى مستقل بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر والفاقة.
ومن هنا يستنتج أولاً: أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علّته عن الاحتياج إلى العلة الواجبة التي إليها تنتهي سلسلة الإِمكان.
وثانياً: أن هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود مع حفظ جميع خصوصياته الوجودية وارتباطاته بعلله وشرائطه الزمانية والمكانية إلى غير ذلك.
فقد تبين بهذا أمران: الأول: أن الإِنسان كما أنه مستند الوجود إلى الإِرادة الإِلهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية، فكذلك أفعال الإِنسان مستندة الوجود إلى الإِرادة الإِلهية، فما ذكره المعتزلة من كون الأفعال الإِنسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه وإنكار القدر ساقط من أصله، وهذا الاستناد حيث أنه استناد وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه، فكل معلول مستند إلى علته بحده الوجودي الذي له، فكما أن الفرد من الإِنسان إنما يستند إلى العلة الأولى بجميع حدوده الوجودية من أب وأم وزمان ومكان وشكل وكم وكيف وعوامل أُخر مادية، فكذلك فعل الإِنسان إنما يستند إلى العلة الأولى مأخوذاً بجميع خصوصياته الوجودية، فهذا الفعل إذا انتسب إلى العلة الأولى والإِرادة الواجبة مثلاً لا يخرجه ذلك عمّا هو عليه ولا يوجب بطلان الإِرادة الإِنسانية مثلاً في التأثير، فإن الإِرادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الإِنسان عن إرادة واختيار، فلو كان هذا الفعل حين التحقق غير إرادي وغير اختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده وهو محال، فما ذهب إليه المجبرة من الأشاعرة من أن تعلق الإِرادة الإِلهية بالأفعال الإِرادية يوجب بطلان تأثير الإِرادة والاختيار فاسد جداً، فالحق الحقيق بالتصديق أن الأفعال الإِنسانية لها نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى الواجب، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الأُخرى لكونهما طوليتين لا عرضيَّتين.
الثاني: الأفعال كما أن لها استناداً إلى عللها التامة (وقد عرفت أن هذه النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب) كذلك لها استناداً إلى بعض أجزاء عللها التامة كالإِنسان مثلاً، وقد عرفت أن هذه النسبة بالإِمكان، فكون فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكناً بنظر آخر، إذ النسبتان ثابتتان وهما غير متنافيتين كما مرّ، فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة وإنكار الاختيار باطل جداً بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها وأجزاء عللها ممكنة الوجود، وهذا هو الملاك في أعمال الإِنسان وأفعاله، فبنائه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريات على التربية والتعليم، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر.