خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٦٣
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ
٦٩
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
٧٠
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٧٢
فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٧٣
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٧٤
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { ورفعنا فوقكم الطور }، الطور هو الجبل كما بدَّله منه في قوله تعالى:
{ { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلّة } [الأعراف: 171]، والنتق هو الجذب والاقتلاع، وسياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أولاً والأمر بأخذ ما أُوتوا وذكر ما فيه أخيراً ووضع رفع الطور فوقهم بين الأمرين مع السكوت عن سبب الرفع وغايتها يدل على أنه كان لإِرهابهم بعظمة القدرة من دون إن يكون لإِجبارهم وإكراههم على العمل بما أوتوه وإلاَّ لم يكن لأخذ الميثاق وجه، فما ربما يقال: إن رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة وأوجب إجبارهم وإكراههم على العمل. وقد قال سبحانه: { { لا إكراه في الدين } [البقرة: 256]، وقال تعالى: { { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [يونس: 99]، غير وجيه فإن الآية كما مرّ لا تدل على أزيد من الإِخافة والإِرهاب ولو كان مجرد رفع الجبل فوق بني إسرائيل إكراهاً لهم على الإِيمان أو العمل، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للإِكراه، نعم هذا التأويل وصرف الآية عن ظاهرها، والقول بأن بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل وزعزع حتى أظل رأسه عليهم، فظنوا أنه واقع بهم فعبر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبني على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات، وقد مرّ الكلام فيها ولو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور، ولا لبلاغة الكلام وفصاحته أصل تتكي عليه وتقوم به.
قوله تعالى: { لعلّكم تتقون }. لعلَّ كلمة ترجٍّ واللازم في الترجي صحته في الكلام سواء كان قائماً بنفس المتكلم أو المخاطب أو بالمقام، كأن يكون المقام مقام رجاء وإن لم يكن للمتكلم والمخاطب رجاء فيه وهو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الأمر، فالرجاء في كلامه تعالى إما بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام. وأما هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الأمور، كما نبّه عليه الراغب في مفرداته.
قوله تعالى: { كونوا قردة خاسئين } أي صاغرين.
قوله تعالى: { فجعلناها نكالاً }، أي عبرة يعتبر بها، والنكال هو ما يفعل من الإِذلال والإِهانة بواحد ليعتبر به آخرون.
قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } الخ، هذه قصة بقرة بني إسرائيل، وبها سميت السورة سورة البقرة. والأمر في بيان القرآن لهذه القصة عجيب فإن القصة فصل بعضها عن بعض حيث قال تعالى: { وإذ قال موسى لقومه }، إلى آخره، ثم قال: { وإذ قتلتم نفساً فادَّارأتم فيها } ثم إنه أخرج فصل منها من وسطها وقدم أولاً ووضع صدر القصة وذيلها ثانيا، ثم إن الكلام كان مع بني إسرائيل في الآيات السابقة بنحو الخطاب فانتقل بالالتفات إلى الغيبة حيث قال: { وإذ قال موسى لقومه }، ثم التفت إلى الخطاب ثانياً بقوله: { وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها }.
أما الالتفات في قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }، ففيه صرف الخطاب عن بني إسرائيل، وتوجيهه إلى النبي في شطر من القصة وهو أمر ذبح البقرة وتوصيفها ليكون كالمقدمة الموضحة للخطاب الذي سيخاطب به بنو إسرائيل بقوله: { وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلَّكم تعقلون } الآيتان في سلك الخطابات السابقة فهذه الآيات الخمس من قوله: { وإذ قال موسى } إلى قوله: { وما كادوا يفعلون }، كالمعترضة في الكلام تبين معنى الخطاب التالي مع ما فيها من الدلالة على سوء أدبهم وإيذائهم لرسولهم برميه بفضول القول ولغو الكلام مع ما فيه من تعنتهم وتشديدهم وإصرارهم في الاستيضاح والاستفهام المستلزم لنسبة الإِبهام إلى الأوامر الإِلهية وبيانات الأنبياء مع ما في كلامهم من شوب الإِهانة والاستخفاف الظاهر بمقام الربوبية فانظر إلى قول موسى عليه السلام لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وقولهم: { ادع لنا ربك يبيّن لنا ما هي }، وقولهم ثانياً: { ادع لنا ربك يبيّن لنا ما لونها }، وقولهم ثالثاً: { ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا }، فأَتوا في الجميع بلفظ ربك من غير أن يقولوا ربنا، ثم كرروا قولهم: { ما هي } وقالوا { إن البقر تشابه علينا }، فادعوا التشابه بعد البيان، ولم يقولوا: إن البقرة تشابهت علينا بل قالوا: إن البقر تشابه علينا كأنهم يدعون أن جنس البقر متشابه ولا يؤثر هذا الأثر إلاَّ بعض أفراد هذا النوع وهذا المقدار من البيان لا يجزي في تعيين الفرد المطلوب وتشخيصه، مع أن التأثير لله عزّ اسمه لا للبقرة، وقد أمرهم أن يذبحوا بقرة فاطلق القول ولم يقيده بقيد، وكان لهم أن يأخذوا بإطلاقه، ثم انظر إلى قولهم لنبيهم: أتتخذنا هزواً، المتضمن لرميه عليه السلام بالجهالة واللغو حتى نفاه عن نفسه بقوله: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }، وقولهم أخيراً بعد تمام البيان الإِلهي: { الآن جئت بالحق }، الدال على نفي الحق عن البيانات السابقة المستلزم لنسبة الباطل إلى طرز البيان الإِلهي والتبليغ النبوي.
وبالجملة فتقديم هذا الشطر من القصة لإِبانة الأمر في الخطاب التالي كما ذكر مضافاً إلى نكتة أخرى، وهي أن قصة البقرة غير مذكورة في التوراة الموجودة عند اليهود اليوم فكان من الحري أن لا يخاطبوا بهذه القصة أصلاً أو يخاطبوا به بعد بيان ما لعبت به أيديهم من التحريف، فأعرض عن خطابهم أولاً بتوجيه الخطاب إلى النبي ثم بعد تثبيت الأصل، عاد إلى ما جرى عليه الكلام من خطابهم المتسلسل، نعم في هذا المورد من التوراة حكم لا يخلو عن دلالة ما على وقوع القصة وهاك عبارة التوراة.
قال في الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنية الاشتراع: إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعاً في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل فالمدينة القريبة من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالغير وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا بإسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي ويصرخون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم انتهى.
إذا عرفت هذا على طوله، علمت أن بيان هذه القصة على هذا النحو ليس من قبيل فصل القصة، بل القصة مبيّنة على نحو الإِجمال في الخطاب الذي في قوله: { وإذ قتلتم نفساً } الخ وشطر من القصة مأتية بها ببيان تفصيلي في صورة قصة أخرى لنكتة دعت إليه.
فقوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه }، خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كلام في صورة قصة وإنما هي مقدمة توضيحية للخطاب التالي لم يذكر معها السبب الباعث على هذا الأمر والغاية المقصودة منها بل اطلقت إطلاقاً ليتنبه بذلك نفس السامع وتقف موقف التجسس، وتنشط إذا سمعت أصل القصة، ونالت الارتباط بين الكلامين، ولذلك لما سمعت بنو إسرائيل قوله: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }، تعجبوا من ذلك ولم يحملوه إلاَّ على أن نبي الله موسى يستهزىء بهم لعدم وجود رابطة عندهم بين ذبح البقرة وما يسألونه من فصل الخصومة والحصول على القاتل قالوا أتتخذنا هزواً وسخرية.
وإنما قالوا ذلك لفقدهم روح الإِطاعة والسمع واستقرار ملكة الاستكبار والعتو فيهم، وقولهم: إنا لا نحوم حول التقليد المذموم، وإنما نؤمن بما نشاهده ونراه كما قالوا لموسى: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }، وإنما وقعوا فيما وقعوا من جهة استقلالهم في الحكم والقضاء فيما لهم ذلك، وفيما ليس لهم ذلك فحكموا بالمحسوس على المعقول فطالبوا معاينة الرب بالحس الباصر وقالوا:
{ { يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } [الأعراف: 138]، وزعموا أن نبيهم موسى مثلهم يتهوس كتهوسهم، ويلعب كلعبهم، فرموه بالاستهزاء والسفه والجهالة حتى رد عليهم، وقال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، وإنما استعاذ بالله ولم يخبر عن نفسه بأنه ليس بجاهل لأن ذلك منه عليه السلام أخذ بالعصمة الإِلهية التي لا تتخلف لا الحكمة الخلقية التي ربما تتخلف.
وزعموا أن ليس للإٍنسان أن يقبل قولا إلاَّ عن دليل، وهذا حق، لكنهم غلطوا في زعمهم أن كل حكم يجب العثور على دليله تفصيلاً ولا يكفي في ذلك الإِجمال ومن أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة لحكمهم أن نوع البقر ليس فيه خاصة الأحياء، فإن كان ولا بد فهو في فرد خاص منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان ولذلك قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، وهذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة فشدد الله عليهم، وقال موسى: { إنه يقول إنها بقرة لا فارض }، أي ليست بمسنة انقطعت ولادتها ولا بكر، أي لم تلد عوان بين ذلك، والعوان من النساء والبهائم ما هو في منتصف السن أي واقعة في السن بين ما ذكر من الفارض والبكر، ثم ترحم عليهم ربهم فوعظهم أن لا يلحوا في السؤال، ولا يشددوا على أنفسهم ويقنعوا بما بين لهم فقال: { فافعلوا ما تؤمرون }، لكنهم لم يرتدعوا بذلك بل قالوا أُدع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع شديد الصفرة في صفاء لونها تسر الناظرين وتم بذلك وصف البقرة بياناً، واتضح أنها ما هي وما لونها وهم مع ذلك لم يرضوا به، وأعادوا كلامهم الأول، من غير تحجب وانقباض وقالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون، فأجابهم ثانياً بتوضيح في ماهيتها ولونها وقال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول أي غير مذللة بالحرث والسقي تثير الأرض بالشيار ولا تسقي الحرث فلما تمّ عليهم البيان ولم يجدوا ما يسألونه قالوا الآن جئت بالحق قول من يعترف بالحقيقة بالإِلزام والحجة من غير أن يجد إلى الرد سبيلاً، فيعترف بالحق اضطراراً، ويعتذر عن المبادرة إلى الإِنكار بأن القول لم يكن مبيناً من قبل، ولا بيناً تاماً. والدليل على ذلك قوله تعالى: { فذبحوها وما كادوا يفعلون }.
قوله تعالى: { وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها }، شروع في أصل القصة والتدارء هو التدافع من الدرء بمعنى الدفع فقد كانوا قتلوا نفساً - وكل طائفة منهم يدفع الدم عن نفسها إلى غيرها - وأراد الله سبحانه إظهار ما كتموه.
قوله تعالى: فقلنا إضربوه ببعضها، أول الضميرين راجع إلى النفس باعتبار أنه قتيل، وثانيهما إلى البقرة وقد قيل: أن المراد بالقصة بيان أصل تشريع الحكم حتى ينطبق على الحكم المذكور في التوراة الذي نقلناه، والمراد بإحياء الموتى العثور بوسيلة تشريع هذا الحكم على دم المقتول، نظير ما ذكره تعالى بقوله:
{ { ولكم في القصاص حياة } [البقرة: 179]، من دون أن يكون هناك إحياء بنحو الإِعجاز هذا، وأنت خبير بأن سياق الكلام وخاصة قوله تعالى: { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى } يأبى ذلك.
قوله تعالى: { ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة }، القسوة في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر وكلمة أو بمعنى بل والمراد بكونها بمعنى بل انطباق معناه على موردها، وقد بيّن شده قسوة قلوبهم بقوله: { وإن من الحجرة لما يتفجر منه الأنهار }، وقوبل فيه بين الحجارة والماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الأنهار على لين مائها وتشقق فيخرج منها الماء على لينه وصلابتها، ولا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق، ولا قول حق يلائم الكمال الواقع.
قوله تعالى: { وإن منها لما يهبط من خشية الله }، وهبوط الحجارة ما نشاهد من انشقاق الصخور على قلل الجبال، وهبوط قطعات منها بواسطة الزلازل، وصيرورة الجمد الذي يتخللها في فصل الشتاء ماءً في فصل الربيع إلى غير ذلك، وعد هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعية هبوطاً من خشية الله تعالى لأن جميع الأسباب منتهية إلى الله سبحانه، فانفعال الحجارة في هبوطها عن سببها الخاص بها إنفعال عن أمر الله سبحانه إيّاها بالهبوط، وهي شاعرة لأمر ربها شعوراً تكوينياً، كما قال تعالى:
{ { وإن من شيء إلاَّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [الإسراء: 44]، وقال تعالى: { { كل له قانتون } [البقرة: 116] [الروم: 26]، والانفعال الشعوري هو الخشية فهي هابطة من خشية الله تعالى، فالآية جارية مجرى قوله تعالى: { { ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته } [الرعد: 13]، وقوله تعالى: { { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال } [الرعد: 15]، حيث عد صوت الرعد تسبيحاً بالحمد وعد الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات التي جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى.
وبالجملة فقوله: { وإن منها لما يهبط }، بيان ثان لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإن الحجارة تخشى الله تعالى، فتهبط من خشيته، وقلوبهم لا تخشى الله تعالى ولا تهابه.
(بحث روائي)
في المحاسن: عن الصادق عليه السلام: في قول الله { خذوا ما آتيناكم بقوة }، أقوة الأبدان أو قوة القلب؟ قال عليه السلام: فيهما جميعاً.
أقول: ورواه العياشي أيضاً في تفسيره.
وفي تفسير العياشي. عن الحلبي في قوله تعالى: { واذكروا ما فيه }، قال: قال اذكروا ما فيه واذكروا ما في تركه من العقوبة.
أقول: وقد استفيد ذلك من المقام من قوله تعالى: { ورفعنا فوقكم الطور خذوا }.
وفي الدر المنثور: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لولا أن بني إسرائيل قالوا وإنا إن شاء الله لمتهدون ما أعطوا أبداً ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم"
]. وفي تفسير القمي: عن ابن فضال قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: إن الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة وإنما كانوا يحتاجون إلى ذنبها فشدد الله عليهم.
وفي المعاني وتفسير العياشي: عن البزنطي قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: إن رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى ان سبط آل فلان قتلوا فلاناً فأخبر من قتله قال: إيتوني ببقرة قالوا: أتتخذنا هزواً؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قالوا أدع لنا ربك يبيّن لنا ما هي؟ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر، يعني لا صغيرة ولا كبيرة، عوان بين ذلك، ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قالوا: ادع لنا ربك يبيّن لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا: ادع لنا ربك يبيّن لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون. قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها. قالوا الآن جئت بالحق، فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلاَّ بملؤ مسك ذهباً، فجاؤوا إلى موسى وقالوا له ذلك، قال اشتروها فاشتروها وجاؤوا بها فأمر بذبحها ثم أمر أن يضربوا الميت بذنبها فلما فعلوا ذلك حيي المقتول وقال: يا رسول الله أن ابن عمي قتلني، دون من ادعى عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه إن هذه البقرة لها نبأ، فقال وما هو؟ قال إن فتى من بني إسرائيل كان باراً بأبيه وإنه اشترى بيعاً فجاء إلى أبيه والأقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره فقال: أحسنت، هذه البقرة فهي لك عوضاً مما فاتك فقال له رسول الله موسى: انظر إلى البر ما بلغ بأهله.
أقول: والروايات كما ترى منطبقة على إجمال ما استفدناه من الآيات الشريفة.
(بحث فلسفي)
السورة كما ترى مشتملة على عدة من الآيات المعجزة، في قصص بني إسرائيل وغيرهم، كفرق البحر وإغراق آل فرعون في قوله تعالى: { وإذ فرقنا بكم البحر وأغرقنا آل فرعون } الآية، وأخذ الصاعقة بني إسرائيل وإحيائهم بعد الموت في قوله تعالى: { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك } الآية، وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى عليهم في قوله تعالى: { وظللنا عليكم الغمام } الآية، وانفجار العيون من الحجر في قوله تعالى: { وإذ استسقى موسى لقومه } الآية، ورفع الطور فوقهم في قوله تعالى: { ورفعنا فوقكم الطور } الآية، ومسخ قوم منهم في قوله تعالى: { فقلنا لهم كونوا قردة } الآية، وإحياء القتيل ببعض البقرة المذبوحة في قوله: { فقلنا اضربوه ببعضها } الآية، وكإحياء قوم آخرين في قوله: { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } الآية، وكإحياء الذي مرّ على قرية خربة في قوله: { أو كالذى مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها } الآية، وكإحياء الطير بيد إبراهيم في قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى } الآية، فهذه اثنتا عشرة آية معجزة خارقة للعادة جرت أكثرها في بني إسرائيل - ذكرها القرآن - وقد بيّنا فيما مرّ إمكان وقوع المعجزة وأن خوارق العادات جائزة الوقوع في الوجود وهي مع ذلك ليست ناقضة لقانون العلية والمعلولية الكلي، وتبين به أن لا دليل على تأويل الآيات الظاهرة في وقوع الإِعجاز، وصرفها عن ظواهرها ما دامت الحادثة ممكنة، بخلاف المحالات كانقسام الثلاثة بمتساويين وتولد مولود يكون أباً لنفسه، فإنه لا سبيل إلى جوازها.
نعم تختص بعض المعجزات كإحياء الموتى والمسخ ببحث آخر، فقد قيل: إنه قد ثبت في محله أن الموجود الذي له قوة الكمال والفعلية إذا خرج من القوة إلى الفعل فإنه يستحيل بعد ذلك رجوعه إلى القوة ثانياً، وكذلك كل ما هو أكمل وجوداً فإنه لا يرجع في سيره الاستكمالي إلى ما هو أنقص وجوداً منه من حيث هو كذلك. والإِنسان بموته يتجرد بنفسه عن المادة فيعود موجوداً مجرداً مثالياً أو عقلياً، وهاتان الرتبتان فوق مرتبة المادة، والوجود فيهما أقوى من الوجود المادي، فمن المحال أن تتعلق النفس بعد موتها بالمادة ثانياً، وإلاَّ لزم رجوع الشيء إلى القوة بعد خروجه إلى الفعل، وهو محال، وأيضاً الإِنسان أقوى وجوداً من سائر أنواع الحيوان، فمن المحال أن يعود الإِنسان شيئاً من سائر أنواع الحيوان بالمسخ.
أقول: ما ذكره من استحاله رجوع ما بالقوة بعد خروجه إلى الفعل إلى القوة ثانياً حق لا ريب فيه، لكن عود الميت إلى حياته الدنيا ثانياً في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه. بيان ذلك: أن المحصل من الحس والبرهان أن الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فإنه يتحرك إلى الحيوانية، فيتصور بالصورة الحيوانية وهي صورة مجردة بالتجرد البرزخي، وحقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئي خيالي وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوة تلبس بها بالحركة الجوهرية ومن المحال أن ترجع يوماً إلى الجوهر المادي فتصير إياه إلاَّ أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسداً لا حراك به، ثم إن الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها، وأحوال علمية تترتب عليها، تنتقش النفس بكل واحد من تلك الأحوال بصدورها منها، ولا يزال نقش عن نقش، وإذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلة للزوال، وملكة راسخة، وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيواني فتصير حيواناً خاصاً ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتاً ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية، ولو أن النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أول وجودها لكنها تتكامل بواسطة أفعالها الإِدراكية المتعلقة بالمادة شيئاً فشيئاً حتى تصير حيواناً خاصاً إن عمّر العمر الطبيعي أو قدراً معتداً به، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية، ثم إن الحيوان إذا وقع في صراط الإِنسانية وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلاً كلياً مجرداً عن المادة ولوازمها من المقادير والألوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرد العقلي، وتحققت له صورة الإِنسان بالفعل، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حد ما ذكر في الحيوان.
ثم إن لهذه الصورة أيضاً أفعالاً وأحوالاً تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الإِنسانية على حد ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.
إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنا لو فرضنا إنساناً رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدد لنفسه التعلق بالمادة وخاصة المادة التي كانت متعلقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجردة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضاً وهي مع التعلق ثانياً حافظة لتجردها، والذي كان لها بالموت أن الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والأدوات اللازمة لها؛ فإذا عادت النفس إلى تعلقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الأحوال والملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالاً جديداً من غير أن يكون ذلك منه رجوعاً قهقري وسيراً نزولياً من الكمال إلى النقص، ومن الفعل إلى القوة.
فإن قلت: هذا يوجب القول: بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه، فإن النفس المجردة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة الأفعال المادية بالتعلق بالمادة ثانياً كان بقاؤها على الحرمان من الكمال إلى الأبد حرماناً عمّا تستدعيه بطباعها، فما كل نفس براجعة إلى الدنيا بإعجاز أو خرق عادة، والحرمان المستمر قسر دائم.
قلت: هذه النفوس التي خرجت من القوة إلى الفعل في الدنيا واتصلت إلى حد وماتت عندها لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائماً بل يستقر على فعليتها الحاضرة بعد حين أو تخرج إلى الصورة العقلية المناسبة لذلك وتبقى على ذلك، وتزول الإِمكان المذكور بعد ذلك، فالإِنسان الذي مات وله نفس ساذجة غير أنه فعل أفعالاً وخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لو عاش حيناً أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورة سعيده أو شقيه وكذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا وعاش أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورة خاصة جديدة وإذا لم يعد فهو في البرزخ مثاب أو معذب بما كسبته من الأفعال حتى يتصور بصورة عقلية مناسبة لصورته السابقة المثالية وعند ذلك يبطل الإِمكان المذكور ويبقى إمكانات الاستكمالات العقلية، فإن عاد إلى الدنيا كالأنبياء والأولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم أمكن أن يحصل صورة أخرى عقلية من ناحية المادة والأفعال المتعلقة بها ولو لم يعد فليس له إلاَّ ما كسب من الكمال والصعود في مدارجه، والسير في صراطه، هذا.
ومن المعلوم أن هذا ليس قسراً دائماً ولو كان مجرد حرمان موجود عن كماله الممكن له بواسطة عمل عوامل وتأثير علل مؤثرة قسراً دائماً لكان أكثر حوادث هذا العالم الذي هو دار التزاحم، وموطن التضاد أو جميعها قسراً دائماً، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعي مؤثرة في الجميع، وإنما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الأنواع إقتضاء كمال من الكمالات أو استعداد ثم لا يظهر أثر ذلك دائماً إما لأمر في داخل ذاته أو لأمر من خارج ذاته متوجه إلى إبطاله بحسب الغريزة، فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعد للكمال تغريزاً باطلاً وتجبيلاً هباء لغواً، فافهم ذلك، وكذا لو فرضنا إنساناً تغيرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير فإنما هي صورة على صورة، فهو إنسان خنزير أو إنسان قرد، لا إنسان بطلت إنسانيته، وحلت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها، فالإِنسان إذا كسب صورة من صور الملكات تصورت نفسه بها ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت، وقد مرً أن النفس الإِنسانية في أول حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوع بصورة خاصة تخصصها بعد الإِبهام وتقيدها بعد الإِطلاق والقبول فالممسوخ من الإِنسان إنسان ممسوخ لا أنه ممسوخ فاقد للإٍنسانية هذا، ونحن نقرأ في المنشورات اليومية من أخبار المجامع العلمية بأوروبا وأمريكا ما يؤخذ جواز الحياة بعد الموت، وتبدل صورة الإِنسان بصورة المسخ، وإن لم نتكل في هذه المباحث على أمثال هذه الأخبار، لكن من الواجب على الباحثين من المحصلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالأمس.
فإن قلت: فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ.
قلت: كلا فإن التناسخ وهو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر محال، فإن هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلق نفسين ببدن واحد، وهو وحدة الكثير، وكثرة الواحد، وإن لم تكن ذا نفس استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوة، كرجوع الشيخ إلى الصبا، وكذلك يستحيل تعلق نفس إنساني مستكملة مفارقة ببدن نباتي أو حيواني بما مرّ من البيان.
(بحث علمي وأخلاقي)
أكثر الأمم الماضية قصة في القرآن أمة بني إسرائيل، وأكثر الأنبياء ذكراً فيه موسى بن عمران عليه السلام، فقد ذكر اسمه في القرآن، في مائة وستة وثلاثين موضعاً ضعف ما ذكر إبراهيم عليه السلام الذي هو أكثر الأنبياء ذكراً بعد موسى، فقد ذكر في تسعة وستين موضعاً على ما قيل فيهما، والوجه الظاهر فيه أن الإِسلام هو الدين الحنيف المبني على التوحيد الذي أسس أساسه إبراهيم عليه السلام وأتمه الله سبحانه وأكمله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى:
{ { ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل } [الحج: 78]، وبنو إسرائيل أكثر الأمم لجاجاً وخصاماً، وأبعدهم من الانقياد للحق، كما أنه كان كفار العرب الذين ابتلى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الصفة، فقد آل الأمر إلى أن نزل فيهم: { { إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6] ولا ترى رذيلة من رذائل بني إسرائيل في قسوتهم وجفوتهم مما ذكره القرآن إلاَّ وهو موجود فيهم، وكيف كان فأنت إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، وأمعنت فيها، وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوماً غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحس، ولا تنقاد إلاَّ إلى اللذة والكمال المادي، وهم اليوم كذلك. وهذا الشأن هو الذي صيّر عقلهم وإرادتهم تحت انقياد الحس والمادة، لا يعقلون إلاَّ ما يجوزانه، ولا يريدون إلاَّ ما يرخصان لهم ذلك فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولاً إلاَّ إذا دل عليه الحس وإن كان حقاً، وانقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبرائهم ممن أوتي جمال المادة وزخرف الحياة وإن لم يكن حقاً، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولاً وفعلاً، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد وإن كان مما ينبغي إذا كان بعيداً من حسهم، ويمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحياة، وإن كان مما لا ينبغي إذا كان ملائماً لهوساتهم المادية، وقد ساعدهم على ذلك وأعانهم على مكثهم الممتد وقطونهم الطويل بمصر تحت استذلال المصريين، واسترقاقهم، وتعذيبهم، يسومونهم سوء العذاب ويذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وفي ذلك بلاء من ربهم عظيم.
وبالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبياؤهم، والربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم ومعادهم (تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى وغيره) وسريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم.
وقد ابتليت الحقيقة والحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية التي أتحفها إليها عالم الغرب، فهي مبنية القاعدة على الحس والمادة، فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس ولا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإِنسانية في أحكامها، وارتحال المعارف العالية والأخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدد الإِنسانية بالانهدام، وجامعة البشر بأشد الفساد وليعلمن نبأه بعد حين.
واستيفاء البحث في الأخلاق ينتج خلاف ذلك، فما كل دليل بمطلوب، وما كل تقليد بمذموم، بيان ذلك: أن النوع الإِنساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله الحيوي بأفعاله الإِرادية المتوقفة على الفكر والإِرادة منه مستحيلة التحقق إلاَّ عن فكر، فالفكر هو الأساس الوحيد الذي يبتنى عليه الكمال الوجودي الضروري فلا بد للإٍنسان من تصديقات عملية أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطاً بلا واسطة أو بواسطة، وهي القضايا التي نعلل بها أفعالنا الفرديه أو الاجتماعية أو نحضرها في أذهاننا، ثم نحصّلها في الخارج بأفعالنا، هذا.
ثم إن في غريزة الإِنسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث، أو يهاجم إلى ذهنه من المعلومات، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلاَّ إذا حضر في ذهنه علته الموجبة، ولا يقبل تصديقاً نظرياً إلاَّ إذا اتكى على التصديق بعلته بنحو، وهذا شأن الإِنسان لا يتخطاه البته، ولو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمل والإِمعان تنحل الشبهة، ويظهر البحث عن العلة، والركون والطمأنينة إليها فطري، والفطرة لا تختلف ولا يتخلف فعلها، وهذا يؤدي الإِنسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكري والفعل المتفرع عليه لسعة الاحتياج الطبيعي، بحيث لا يقدر الإِنسان الواحد إلى رفعه معتمداً على نفسه ومتكئاً إلى قوة طبيعتة الشخصية فاحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع وهو المدينة والحضارة ووزعت أبواب الحاجة الحيوية بين أفراد الاجتماع، ووكل بكل باب من أبوابها طائفة كأعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها وعائدتها في نفسه، ولا تزال الحوائج الإِنسانية تزداد كمية واتساعاً وتنشعب الفنون والصناعات والعلوم، ويتربى عند ذلك الأخصائيون من العلماء والصنّاع، فكثير من العلوم والصناعات كانت علماً أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس، واليوم نرى كل باب من أبوابه علماً أو علوماً أو صنعة أو صنائع، كالطب المعدود قديماً فناً واحداً من فروع الطبيعيات وهو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الأخصائيين بأزيد من أمر فن واحد منها.
وهذا يدعو الإِنسان بالإِلهام الفطري، أن يستقل بما يخصه من الشغل الإِنساني في البحث عن علته ويتبع في غيره من يعتمد على خبرته ومهارته.
فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة وحقيقة هذا الاتباع، والتقليد المصطلح والركون إلى الدليل الاجمالي فيما ليس في وسع الإِنسان أن ينال دليل تفاصيله كما أنه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيلي فيما يسعه أن ينال تفصيل علته ودليله، وملاك الأمر كله أن الإِنسان لا يركن إلى غير العلم، فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد، وهو الاستقلال في البحث عن العلة فيما يسعه ذلك والتقليد وهو الاتباع ورجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك، ولما استحال أن يوجد فرد من هذا النوع الإِنساني مستقلاً بنفسه قائماً بجميع شؤون الأصل الذي يتكي عليه الحياة استحال أن يوجد فرد من الإِنسان من غير اتباع وتقليد، ومن ادعى خلاف ذلك أو ظن من نفسه أنه غير مقلد في حياته فقد سفه نفسه.
نعم: التقليد فيما للإٍنسان أن ينال علته وسببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه والنيل منه، من الرذائل التي هي من مهلكات الاجتماع، ومفنيات المدنية الفاضلة ولا يجوز الاتباع المحض إلاَّ في الله سبحانه لأنه السبب الذي إليه تنتهي الأسباب.