خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ
٨٠
كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ
٨١
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ
٨٢
وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ
٨٣
قَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ
٨٤
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ
٨٥
فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي
٨٦
قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ
٨٧
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ
٨٨
أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً
٨٩
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوۤاْ أَمْرِي
٩٠
قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ
٩١
قَالَ يٰهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ
٩٢
أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي
٩٣
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِيۤ إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
٩٤
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ
٩٥
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي
٩٦
قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً
٩٧
إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً
٩٨
-طه

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الفصل الأخير من قصة موسى عليه السلام الموردة في السورة يعدّ سبحانه فيه جملاً من مننه على بني إسرائيل كإنجائهم من عدوهم ومواعدتهم جانب الطور الأيمن وإنزال المنّ والسلوى عليهم، ويختمه بذكر قصة السامري وإضلاله القوم بعبادة العجل وللقصة اتصال بمواعدة الطور.
وهذا الجزء من الفصل - وفيه بيان تعرض بني إسرائيل لغضبه تعالى - هو المقصود بالأصالة من هذا الفصل ولذا فصل فيه القول ولم يبين غيره إلا بإشارة وإجمال.
قوله تعالى: { يا بني اسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم } إلى آخر الآية كأن الكلام بتقدير القول أي قلنا يا بني إسرائيل وقوله: { قد أنجيناكم من عدوكم } المراد به فرعون أغرقه الله وأنجى بني إسرائيل منه بعد طول المحنة.
وقوله: { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } بنصب أيمن على أنه صفة جانب ولعل المراد بهذه المواعدة مواعدة موسى أربعين ليلة لإِنزال التوراة وقد مرت القصة في سورة البقرة وغيرها وكذا قصة إنزال المنّ والسلوى.
وقوله: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } إباحة في صورة الأمر وإضافه الطيبات إلى { ما رزقناكم } من إضافة الصفه إلى الموصوف إذ لا معنى لأن ينسب الرزق إلى نفسه ثم يقسّمه إلى طيّب وغيره كما يؤيده قوله في موضع آخر:
{ { ورزقناهم من الطيبات } [الجاثية: 16]. قوله: { ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي } ضمير فيه راجع إلى الأكل المتعلق بالطيبات وذلك بكفران النعمة وعدم أداء شكره كما قالوا: { { يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادعُ لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثَّائها وفومها وعدسها وبصلها } [البقرة: 61]. وقوله: { فيحلّ عليكم غضبي } أي يجب غضبي ويلزم من حلَّ الدين يحلّ من باب ضرب إذا وجب أداؤه والغضب من صفاته تعالى الفعلية مصداقه إرادته تعالى إصابة المكروه للعبد بتهيئة الأسباب لذلك عن معصية عصاها.
وقوله: { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } أي سقط من الهويّ بمعنى السقوط وفسّر بالهلاك.
قوله تعالى: { وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } وعد بالرحمة المؤكدة عقيب الوعيد الشديد ولذا وصف نفسه بكثرة المغفرة فقال: { وإني لغفار } ولم يقل: وأنا غافر أو سأغفر.
والتوبة وهي الرجوع كما تكون عن المعصية إلى الطاعة كذلك تكون من الشرك إلى التوحيد، والإِيمان أيضاً كما يكون بالله كذلك يكون بآيات الله من أنبيائه ورسله وكل حكم جاءوا به من عند الله تعالى، وقد كثر استعمال الإِيمان في القرآن في كل من المعنيين كما كثر استعمال التوبة في كل من المعنيين المذكورين وبنو إسرائيل كما تلَّبسوا بمعاصي فسقوا بها كذلك تلَّبسوا بالشرك كعبادة العجل وعلى هذا فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهر إطلاقه في التوبة عن الشرك والمعصية جميعاً والإِيمان بالله وآياته وكذلك إطلاقه بالنسبة إلى التائبين والمؤمنين من بني إسرائيل وغيرهم وإن كان بنو إسرائيل مورد الخطاب فإن الصفات الإِلهية كالمغفره لا تختص بقوم دون قوم.
فمعنى الآية - والله أعلم - وإني لكثير المغفرة لكل إنسان تاب وآمن سواء تاب عن شرك أو عن معصية وسواء آمن بي أو بآياتي من رسلي، أو ما جاؤوا به من أحكامي بأن يندم على ما فعل ويعمل عملاً صالحاً بتبديل المخالفة والتمرد فيما عصى فيه بالطاعة فيه وهو المحقق لأصل معنى الرجوع من شيء وقد مرَّ تفصيل القول فيه في تفسير قوله تعالى:
{ { إنما التوبة على الله } [النساء: 17] في الجزء الرابع من الكتاب.
وأما قوله: { ثم اهتدى } فالاهتداء يقابل الضلال كما يشهد به قوله تعالى:
{ { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإنما يضل عليها } [الإسراء: 15]، وقوله: { { لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم } [المائدة: 105]، فهل المراد أن لا يضلَّ في نفس ما تاب فيه بأن يعود إلى المعصية ثانياً فيفيد أن التوبة عن ذنب إنما تنفع بالنسبة إلى ما اقترفه قبل التوبة ولا تكفي عنه لو عاد إليه ثانياً أو المراد أن لا يضلَّ في غيره فيفيد أن المغفرة إنما تنفعه بالنسبة إلى المعصية التي تاب عنها وبعبارة أُخرى إنما تنفعه نفعاً تاماً إذا لم يضل في غيره من الأعمال، أو المراد ما يعمّ المعنيين؟.
ظاهر العطف بثم أن يكون المراد هو المعنى الأول فيفيد معنى الثبات والاستقامة على التوبة فيعود إلى اشتراط الإِصلاح الذي هو مذكور في عدة من الآيات كقوله:
{ { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } [آل عمران: 89]. لكن يبقى على الآية بهذا المعنى أمران: أحدهما نكتة التعبير بالغفّار بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة فما معنى كثرة مغفرته تعالى لمن اقترف ذنباً واحداً ثم تاب؟ وثانيهما أن لازمها أن يكون من خالف حكماً من أحكامه كافراً به وإن اعترف بأنه من عند الله وإنما يعصيه اتباعاً للهوى لاردّاً للحكم اللهم إلا أن يقال: إن الآية لاشتمالها على قوله: { تاب وآمن } إنما تشمل المشرك أو الردّ لحكم من أحكام الله وهو كما ترى.
فيمكن أن يُقال: إن المراد بالتوبة والإِيمان التوبة من الشرك والإِيمان بالله كما أن المعنيين هما المرادان في أغلب المواضع من كلامه التي ذكر التوبة والإِيمان فيها معاً، وعلى هذا كان المراد من قوله: { وعمل صالحاً } الطاعة لأحكامه تعالى بالائتمار لأوامره والإِنتهاء عن نواهيه، ويكون معنى الآية أن من تاب من الشرك وآمن بالله وأتى بما كلف به من أحكامه فإني كثير المغفرة لسيآته أغفر له زلة بعد زله فتكثر المغفرة لكثرة مواردها.
وقد ذكر تعالى نظير المعنى وهو مغفرة السيآت في قوله:
{ { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [النساء: 31]. فقوله: { وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } ينطبق على آية النساء ويبقى فيه شرط زائد يقيد حكم المغفرة وهو مدلول قوله: { ثم اهتدى } وهو الإِهتداء إلى الطريق ويظهر أن المغفرة إنما يسمح بها للمؤمن العامل بالصالحات إذا قصد ذلك من طريقه ودخل عليه من بابه.
ولا نجد في كلامه تعالى ما يقيد الإِيمان بالله والعمل الصالح في تأثيره وقبوله عند الله إلا الإِيمان بالرسول بمعنى التسليم له وطاعته في خطير الأُمور ويسيرها وأخذ الدين عنه وسلوك الطريق التي يخطها واتباعه من غير استبداد وابتداع يؤل إلى اتباع خطوات الشيطان وبالجملة ولايته على المؤمنين في دينهم ودنياهم فقد شرع الله تعالى ولايته وفرض طاعته وأوجب الأخذ عنه والتأسّي به في آيات كثيرة جداً لا حاجة إلى إيرادها ولا مجال لاستقصائها فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وكان جل بني إسرائيل على إيمانهم بالله سبحانه وتصديقهم رسالة موسى وهارون متوقفين في ولايتهما أو كالمتوقف كما هو صريح عامة قصصهم في كتاب الله ولعل هذا هو الوجه في وقوع الآية - وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى بعد نهيهم عن الطغيان وتخويفهم من غضب الله.
فقد تبيّن أن المراد بالاهتداء في الآية على ما يهدي إليه سائر الآيات هو الإِيمان بالرسول باتباعه في أمر الدين والدنيا وبعبارة أُخرى هو الاهتداء إلى ولايته.
وبذلك يظهر حال ما قيل في تفسير قوله: { ثم اهتدى } فقد قيل: الاهتداء لزوم الإِيمان والاستمرار عليه ما دامت الحياة، وقيل: أن لا يشك ثانياً في إيمانه، وقيل: { الأخذ بسنة النبي وعدم سلوك سبيل البدعة، وقيل: الاهتداء هو أن يعلم أن لعمله ثواباً يجزى عليه، وقيل: هو تطهير القلب من الأخلاق الذميمة، وقيل: هو حفظ العقيدة من أن تخالف الحق في شيء فإن الاهتداء بهذا الوجه غير الإِيمان وغير العمل، والمطلوب على جميع هذه الأقوال تفسير الاهتداء بمعنى لا يرجع إلى الإِيمان والعمل الصالح غير أن الذي ذكروه لا دليل على شيء من ذلك.
قوله تعالى: { وما أعجلك عن قومك يا موسى } إلى قوله { لترضى } حكاية مكالمة وقعت بينه تعالى وبين موسى عليه السلام في ميعاد الطور الذي نزلت عليه فيه التوراة كما قص في سورة الأعراف تفصيلاً.
وظاهر السياق أنه سؤال عن السبب الذي أوجب لموسى أن يستعجل عن قومه فيحضر ميعاد الطور قبلهم كأنه كان المترقب أن يحضروا الطور جميعاً فتقدّم عليهم موسى في الحضور وخلّفهم فقيل له: { وما أعجلك عن قومك يا موسى } فقال: { هم أُولاء على أثري } أي إنهم لسائرون على أثري وسيلحقون بي عن قريب { وعجلت إليك رب لترضى } أي والسبب في عجلي هو أن احصّل رضاك يا رب.
والظاهر أن المراد بالقوم وقد ذكر أنهم على أثره هم السبعون رجلاً الذين اختارهم لميقات ربه، فإن ظاهر تخليفه هارون على قومه بعده وسائر جهات القصة وقوله بعد: { أفطال عليكم العهد } أنه لم يكن من القصد أن يحضر بنو إسرائيل كلهم الطور.
وهذا الخطاب يمكن أن يخاطب به موسى عليه السلام في بدء حضوره في ميعاد الطور كما يمكن أن يخاطب في أواخر عهده به فإن السؤال عن العجل غير نفس العجل الذي يقارن المسير واللقاء وإذا لم يكن السؤال في بدء الورود والحضور استقام قوله بعد: { فإنا قد فتنا قومك من بعدك } الخ، بناءً على أن الفتنة كانت بعد استبطائهم غيبة موسى على ما في الآثار ولا حاجة إلى تمحّلاتهم في توجيه الآيات.
قوله تعالى: { قال فإنا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلَّهم السامري } الفتنة الامتحان والاختبار ونسبة الإِضلال إلى السامري - وهو الذي سبك العجل وأخرجه لهم فعبدوه وضلُّوا - لأنه أحد أسبابه العاملة فيه.
والفاء في قوله: { فإنا قد فتنّا قومك } للتعليل يعلل به ما يفهم من سابق الكلام فإن المفهوم من قول موسى: { هم أُولاء على أثري } أن قومه على حسن حال لم يحدث فيهم ما يوجب قلقاً فكأنه قيل: لا تكن واثقاً على ما خلَّفتهم فيه فإنا قد فتنَّاهم فضلُّوا.
وقوله: { قومك } من وضع الظاهر موضع المضمر ولعل المراد غير المراد به في الآية السابقة بأن يكون ما ها هنا عامة القوم وما هناك السبعون رجلاً الذين اختارهم موسى للميقات.
قوله تعالى: { فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً } إلى قوله { فأخلفتم موعدي } الغضبان صفة مشبهة من الغضب، وكذا الأسف من الأسف بفتحتين وهو الحزن وشدة الغضب، والموعد الوعد، وإخلافهم موعده هو تركهم ما وعدوه من حسن الخلافة بعده حتى يرجع إليهم، ويؤيده قوله في موضع آخر: { بئسما خلفتموني من بعدي }.
والمعنى: فرجع موسى إلى قومه والحال أنه غضبان شديد الغضب - أو حزين - وأخذ يلومهم على ما فعلوا، { قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً } - وهو أن ينزل عليهم التوراة فيها حكم الله وفي الأخذ بها سعادة دنياهم وأُخراهم - أو وعده تعالى أن ينجيهم من عدوّهم ويمكنهم في الأرض ويخصّهم بنعمه العظام { أفطال عليكم العهد } وهو مدة مفارقة موسى إياهم حتى يكونوا آيسين من رجوعه فيختل النظم بينهم { أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم } فطغوتم بالكفر به بعد الإِيمان وعبدتم العجل { فأخلفتم موعدي } وتركتم ما وعدتموني من حسن الخلافة بعدي.
وربما قيل في معنى قوله: { فأخلفتم موعدي } بعض معان أُخر:
كقول بعضهم إن إخلافهم موعده أنه أمرهم أن يلحقوا به فتركوا المسير على أثره، وقول بعضهم هو أنه أمرهم بطاعة هارون بعده إلى أن يرجع إليهم فخالفوه إلى غير ذلك.
قوله تعالى: { قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } إلى آخر الآية الملك بالفتح فالسكون مصدر ملك يملك وكأن المراد بقولهم: { ما أخلفنا موعدك بملكنا } ما خالفناك ونحن نملك من أمرنا شيئاً - كما قيل - ومن الممكن أن يكون المراد أنَّا لم نصرف في صوغ العجل شيئاً من أموالنا حتى نكون قاصدين لهذا الأمر متعمدين فيه ولكن كنا حاملين لأثقال من خليّ القوم فطرحناها فأخذها السامري وألقاها في النار فأخرج العجل.
والأوزار جمع وزر وهو الثقل، والزينة الحلي كالعقد والقرط والسوار والقذف والإِلقاء والنبذ متقاربة معناها الطرح والرمي.
ومعنى قوله: { ولكنا حملنا أوزاراً } الخ لكن كانت معنا أثقال { من زينة القوم } ولعل المراد به قوم فرعون - { فقذفناها فكذلك ألقى السامري } - ألقى ما طرحناها في النار أو ألقى ما عنده كما ألقينا ما عندنا مما حملنا - فأخرج العجل.
قوله تعالى: { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي }، في لفظ الإِخراج دلالة على أن كيفيه صنع العجل كانت خفية على الناس في غير مرأى منهم حتى فاجأهم بإظهاره وإراءته والجسد هو الجثة التى لا روح فيه فلا يطلق الجسد على ذي الروح البتة، وفيه دليل على أن العجل لم يكن له روح ولا فيه شيء من الحياة والخوار بضمِّ الخاء صوت العجل.
وربما أُخذ قوله: { فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم } الخ كلاماً مستقلاً إما من كلام الله سبحانه باختتام كلام القوم في قولهم: { فقذفناها } وإما من كلام القوم وعلى هذا فضمير { قالوا } لبعض القوم وضمير { فأخرج لهم } لبعض آخر كما هو ظاهر.
وضمير { نسي } قيل: لموسى والمعنى قالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى موسى إلهه هذا وهو هنا وذهب يطلبه في الطور وقيل: الضمير للسامري والمراد به نسيانه تعالى بعد ذكره والإِيمان به أي نسي السامري ربه فأتى بما أتى وأضلَّ القوم.
وظاهر قوله: { فقالوا هذا إلهكم وإله موسى } حيث نسب القول إلى الجمع أنه كان مع السامري في هذا الأمر من يساعده.
قوله تعالى: { أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً } توبيخ لهم حيث عبدوه وهم يرون أنه لا يرجع قولاً بأن يستجيب لمن يدعوه، ولا يملك لهم ضراً فيدفعه عنهم ولا نفعاً بأن يجلبه ويوصله إليهم، ومن ضروريات عقولهم أن الرب يجب أن يستجيب لمن دعاه لدفع ضرّ أو لجلب نفع وأن يملك الضر والنفع لمربوبه.
قوله تعالى: { ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتَّبعوني وأطيعوا أمري } تأكيد لتوبيخهم وزيادة تقرير لجرمهم، والمعنى: أنهم مضافاً إلى عدم تذكّرهم بما تذكرهم به ضرورة عقولهم وعدم انتهائهم عن عبادة العجل إلى البصر والعقل لم يعتنوا بما قرعهم من طريق السمع أيضاً، فلقد قال لهم نبيُّهم هارون إنه فتنة فتنوا به وإن ربهم الرحمن عزَّ اسمه وإن من الواجب عليهم أن يتبعوه ويطيعوا أمره.
فردُّوا على هارون قائلين: لن نبرح ولن نزال عليه عاكفين أي ملازمين لعبادته حتى يرجع الينا موسى فنرى ماذا يقول فيه وماذا يأمرنا به.
قوله تعالى: { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري } رجع عليه السلام بعد تكليم القوم في أمر العجل إلى تكليم أخيه هارون إذ هو أحد المسؤولين الثلاثة في هذه المحنة استخلفه عليهم وأوصاه حين كان يوادعه قائلا: { أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين }.
وكأن قوله: { منعك } مضمّن معنى دعاك، أي ما دعاك إلى أن لا تتبعن مانعاً لك عن الاتباع أو ما منعك داعياً لك إلى عدم اتباعي فهو نظير قوله:
{ { قال ما منعك ألاَّ تسجد إذ أمرتك } [الأعراف: 12]. والمعنى: قال موسى معاتباً لهارون: ما منعك عن اتباع طريقتي وهو منعهم عن الضلال والشدة في جنب الله أفعصيت أمري أن تتبعني ولا تتبع سبيل المفسدين؟.
قوله تعالى: { قال يا بن أُمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } الخ، { يا بن أُمّ } أصله يا ابن أُمي وهى كلمة استرحام واسترآف قالها لإِسكات غضب موسى، ويظهر من قوله: { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } أنه أخذ بلحيته ورأسه غضباً ليضربه كما أخبر به في موضع آخر:
{ وأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه } [الأعراف: 150]. وقوله: { إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } تعليل لمحذوف يدلُّ عليه اللفظ ومحصّله لو كنت مانعتهم عن عبادة العجل وقاومتهم بالغة ما بلغت لم يطعني إلا بعض القوم وأدّى ذلك إلى تفرّقهم فرقتين: مؤمن مطيع، ومشرك عاص، وكان في ذلك إفساد حال القوم بتبديل اتحادهم واتفاقهم الظاهر تفرُّقاً واختلافاً وربما انجرَّ إلى قتال وقد كنت أمرتني بالإِصلاح إذ قلت لي: { أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } فخشيت أن تقول حين رجعت وشاهدت ما فيه القوم من التفرق والتحزب: فرَّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. هذا ما اعتذر به هارون وقد عذره موسى ودعا له ولنفسه كما في سورة الأعراف بقوله: { { رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين } [الأعراف: 151]. قوله تعالى: { قال فما خطبك يا سامري } رجوع منه عليه السلام بعد الفراغ من تكليم أخيه إلى تكليم السامري وهو أحد المسؤولين الثلاثة وهو الذي أضل القوم.
والخطب: الأمر الخطير الذي يهمّك، يقول: ما هذا الأمر العظيم الذي جئت به؟.
قوله تعالى: { قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي } قال الراغب في المفردات: البصر يقال للجارحة الناظرة نحو قوله: { كلمح البصر } { وإذ زاغت الأبصار } وللقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر نحو قوله: { فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } وقال: { ما زاغ البصر وما طغى } وجمع البصر أبصار وجمع البصيرة بصائر، قال تعالى: { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم } ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، ويقال من الأول: أبصرت، ومن الثاني: أبصرته وبصرت به، وقلما يقال في الحاسة بصرت إذا لم تضامّه رؤية القلب. انتهى.
وقوله: { فقبضت قبضة } قيل: إن القبضة مصدر بمعنى اسم المفعول وأُورد عليه أن المصدر إذا استعمل كذلك لم تلحق به التاء، يقال: هذه حلة نسج اليمن، ولا يقال نسجة اليمن، فالمتعين حمله في الآية على أنه مفعول مطلق. وردّ بأن الممنوع لحوق التاء الدالة على التحديد والمرة لا على مجرد التأنيث كما هنا، وفيه أن كون التاء هنا للتأنيث لا دليل عليه فهو مصادرة.
وقوله: { من أثر الرسول } الأثر شكل قدم المارّة على الطريق بعد المرور، والأصل في معناه ما بقي من الشيء بعده بوجه بحيث يدلُّ عليه كالبناء أثر الباني والمصنوع أثر الصانع والعلم أثر العالم وهكذا، ومن هذا القبيل أثر الأقدام على الأرض من المارَّة.
والرسول هو الذي يحمل رسالة وقد أُطلق في القرآن على الرسول البشري الذي يحمل رسالة الله تعالى إلى الناس وأُطلق بهذه اللفظة على جبريل ملك الوحي، قال تعالى:
{ { إنه لقول رسول كريم } [التكوير: 19]، وكذا أُطلق لجمع من الملائكة الرسل كقوله: { { بلى ورسلنا لديهم يكتبون } [الزخرف: 80]، وقال أيضاً في الملائكة: { { جاعل الملائكة رسلاً أُولي أجنحة } [فاطر: 1]. والآية تتضمن جواب السامري عما سأله موسى عليه السلام بقوله: { فما خطبك يا سامريّ } وهو سؤال عن حقيقة ذاك الأمر العظيم الذي أتى به وما حمله على ذلك، والسياق يشهد على أن قوله: { وكذلك سوّلت لي نفسي } جوابه عن السبب الذي دعاه إليه وحمله عليه وأن تسويل نفسه هو الباعث له إلى فعل ما فعل وأما بيان حقيقة ما صنع فهو الذي يشير إليه بقوله: { بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول } ولا نجد في كلامه تعالى في هذه القصة ولا فيما يرتبط بها في الجملة ما يوضح المراد منه ولذا اختلفوا في تفسيره.
ففسره الجمهور وفاقاً لبعض الروايات الواردة في القصة أن السامري رأى جبريل وقد نزل على موسى للوحي أو رآه وقد نزل راكباً على فرس من الجنة قدام فرعون وجنوده حين دخلوا البحر فاغرقوا فأخذ قبضة من تراب أثر قدمه أو أثر حافر فرسه ومن خاصة هذا التراب أنه لا يلقى على شيء إلا حلت فيه الحياة ودخلت فيه الروح فحفظ التراب حتى إذا صنع العجل ألقى فيه من التراب فحيّ وتحرك وخار.
فالمراد بقوله: { بصرت بما لم يبصروا به } إبصاره جبريل حين نزل راجلاً أو راكباً رآه وعرفه ولم يره غيره من بني إسرائيل، وبقوله: { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } فقبضت قبضة من تراب أثر جبريل أو من تراب أثر فرس جبريل - والمراد بالرسول جبريل - فنبذتها أي ألقيت القبضة على الحلي المذاب فحي العجل فكان له خوار!.
وأعظم ما يرد عليه مخالفة هذه الروايات - وستوافيك في البحث الروائي التالي - للكتاب فإن كلامه تعالى ينص على أن العجل كان جسداً له خوار والجسد هو الجثة التي لا روح لها ولا حياة فيها، ولا يطلق على الجسم ذي الروح والحياة البتة.
مضافاً إلى ما أوردوه من وجوه الإِشكال على الروايات مما سيجيء نقله في البحث الروائي الآتي.
ونقل عن أبي مسلم في تفسير الآية أنه قال: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وأثره سنته ورسمه الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه.
وتقرير الآية على ذلك أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئاً من دينك فنبذتها أي طرحتها ولم أتمسك بها وتعبيره عن موسى بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير: ما قول الأمير في كذا؟ ويكون إطلاق الرسول منه عليه نوعاً من التهكم حيث كان كافراً مكذباً به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة: { يا أيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون } انتهى ومن المعلوم أن خوار العجل على هذا الوجه كان لسبب صناعي بخلاف الوجه السابق.
وفيه أن سياق الآية يشهد على تفرع النبذ على القبض والقبض على البصر ولازم ما ذكره تفرع النبذ على البصر والبصر على القبض فلو كان ما ذكره حقاً كان من الواجب أن يُقال: بصرت بما لم يبصروا به فنبذت ما قبضته من أثر الرسول أو يقال: قبضت قبضة من أثر الرسول فبصرت بما لم يبصروا به فنبذتها.
وثانياً: أن لازم توجيهه أن يكون قوله تعالى: { وكذلك سوّلت لي نفسي } إشارة إلى سبب عمل العجل وجواباً عن مسألة موسى { ما خطبك }؟ ومحصله أنه إنما سواه لتسويل من نفسه أن يضل الناس فيكون مدلول صدر الآية أنه لم يكن موحداً ومدلول ذيلها أنه لم يكن وثنياً فلا موحد ولا وثني مع أن المحكي من قول موسى بعد: { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه } الخ أنه كان وثنياً.
وثالثاً: أن التعبير عن موسى وهو مخاطب بلفظ الغائب بعيد.
ويمكن أن يتصور للآية معنى آخر بناء على ما ذكره بعضهم أن أوزار الزينة التى حملوها كانت حلي ذهب من القبط أمرهم موسى أن يحملوها وكانت لموسى أو منسوبة إليه وهو المراد بأثر الرسول فالسامري يصف ما صنعه بأنه كان ذا بصيرة في أمر الصياغة والتقليب يحسن من صنعة التماثيل ما لا علم للقوم به فسولت له نفسه أن يعمل لهم تمثال عجل من ذهب فأخذ وقبض قبضة من أثر الرسول وهو الحلي من الذهب فنبذها وطرحها في النار وأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار، وكان خواره لدخول الهواء في فراغ جوفه وخروجه من فيه على ضغطة بتعبئة صناعية، هذا.
ويبقى الكلام على التعبير عن موسى وهو يخاطبه بالرسول، وعلى تسمية حليّ القوم أثر الرسول، وعلى تسمية عمل العجل وكان يعبده تسويلاً نفسانياً.
قوله تعالى: { قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعداً لن تخلفه } هذه مجازاة له من موسى عليه السلام بعد ثبوت الجرم.
فقوله: { قال فاذهب } قضاء بطرده عن المجتمع بحيث لا يخالط القوم ولا يمسّ أحداً ولا يمسّه أحد بأخذ أو عطاء أو إيواء أو صحبة أو تكليم وغير ذلك من مظاهر الاجتماع الإِنساني وهو من أشق أنواع العذاب، وقوله: { فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } - ومحصله أنه تقرَّر وحقَّ عليك أن تعيش فرداً ما دمت حياً - كناية عن تحسّره المداوم من الوحدة والوحشة.
وقيل: إنه دعاء من موسى عليه وأنه ابتلي إثر دعائه بمرض عقام لا يقترب منه أحد إلا حمي حمّى شديدة فكان يقول لمن اقترب منه: لا مساس لا مساس، وقيل: ابتلي بوسواس فكان يتوحش ويفرّ من كل من يلقاه وينادي لا مساس وهو وجه حسن لو صحَّ الخبر.
وقوله: { وإن لك موعداً لن تخلفه } ظاهره أنه إخبار عن هلاكه في وقت عيَّنه الله وقضاه قضاء محتوماً ويحتمل الدعاء عليه، وقيل: المراد به عذاب الآخرة.
قوله تعالى: { وانظر إلى إلهك الذي ظلتّ عليه عاكفاً لنحرقنّه ثم لننسفنّه في اليمِّ نسفاً } قال في المجمع: يقال: نسف فلان الطعام إذا ذراه بالمنسف ليطير عنه قشوره. انتهى.
وقوله: { وانظر إلى إلهك الذي ظلتَ عليه عاكفاً } أي ظللت ودمت عليه عاكفاً لازماً، وفيه دلالة على أنه كان اتخذه إلهاً له يعبده.
وقوله: { لنحرقنّه ثم لننسفنّه في اليمّ نسفاً } أي أُقسم لنحرقنّه بالنار ثم لنذرينّه في البحر ذرواً، وقد استدلَّ بحديث إحراقه على أنه كان حيواناً ذا لحم ودم ولو كان ذهباً لم يكن لإِحراقه معنى، وهذا يؤيد تفسير الجمهور السابق أنه صار حيواناً ذا روح بإلقاء التراب المأخوذ من أثر جبريل عليه. لكن الحق أنه إنما يدلُّ على أنه لم يكن ذهباً خالصاً لا غير.
وقد احتمل بعضهم أن يكون لنحرقنه من حرق الحديد إذا برده بالمبرد، والمعنى: لنبردنّه بالمبرد ثم لنذرينّ برادته في البحر وهذا أنسب.
قوله تعالى: { إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً } الظاهر أنه من تمام كلام موسى عليه السلام يخاطب به السامري وبني إسرائيل وقد قرَّر بكلامه هذا توحدّه تعالى في أُلوهيته فلا يشاركه فيها غيره من عجل أو أي شريك مفروض، وهو بسياق من لطيف الاستدلال فقد استدلَّ فيه بأنه تعالى هو الله على أنه لا إله إلا هو وبذلك على أنه لا غير إلههم.
قيل: وفي قوله: { وسع كل شيء علماً } دلالة على أن المعدوم يسمى شيئاً لكونه معلوماً وفيه مغالطة فإن مدلول الآية أن كل ما يسمى شيئاً فقد وسعه علمه لا أن كل ما وسعه علمه فهو يسمى شيئاً والذي ينفع المستدلّ هو الثاني دون الأول.
(بحث روائي)
في التوحيد بإسناده إلى حمزة بن الربيع عمن ذكره قال: كنت في مجلس أبي جعفر عليه السلام إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى: { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: هو العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله عز وجل زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق، إن الله عز وجل لا يستفزّه شيء ولا يغيره.
أقول وروى ما في معناه الطبرسي في الاحتجاج مرسلاً.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود فمن وفى لله بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل وعده إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى، وشرع لهم فيها المنار، وأخبرهم كيف يسلكون؟ فقال: { وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } وقال: { إنما يتقبَّل الله من المتقين } فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي المجمع: قال أبو جعفر عليه السلام { ثم اهتدى } إلى ولايتنا أهل البيت، فوالله لو أن رجلاً عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ثم مات ولم يجيء بولايتنا لأكبه الله في النار على وجهه، رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده وأورده العياشي في تفسيره بعدّة طرق.
أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن سدير عنه عليه السلام وفي تفسير القمي بإسناده عن الحارث بن عمر عنه عليه السلام وفي مناقب ابن شهر اشوب عن أبي الجارود وأبي الصباح الكناسيّ عن الصادق عليه السلام وعن أبي حمزة عن السجّاد عليه السلام مثله ولفظه: إلينا أهل البيت.
والمراد بالولاية في الحديث ولاية أمر الناس في دينهم ودنياهم وهي المرجعية في أخذ معارف الدين وشرائعه وفي إدارة أُمور المجتمع، وقد كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ينص عليه الكتاب في أمثال قوله: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } ثم جعلت لعترته أهل بيته بعده في الكتاب بمثل آية الولاية وبما تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث الثقلين وحديث المنزله ونظائرها.
والآية وإن وقعت بين آيات خوطب بها بنو إسرائيل وظاهرها ذلك لكنها غير مقيدة بشيء يخصها بهم ويمنع جريانها في غيرهم فهي جارية في غيرهم كما تجري فيهم أما جريانها فيهم فلأن لموسى بما كان إماماً في أُمته كان له من سنخ هذه الولاية ما لغيره من الأنبياء فعلى أُمته أن يهتدوا به ويدخلوا تحت ولايته، وأما جريانها في غيرهم فلأن الآية عامة غير خاصة بقوم دون قوم فهي تهدي الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ولايته وبعده إلى ولاية الأئمة من أهل بيته عليهم السلام فالولاية سنخ واحد لها معناها إلى أيّ من نسبت.
إذ عرفت ما تقدم ظهر لك سقوط ما ذكره الألوسي في تفسير روح المعاني فإنه بعد ما نقل رواية مجمع البيان السابقة عن أبي جعفر عليه السلام قال: وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الإِهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعي القول بأنه عز وجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولايتهم إذ ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الأخبار انتهى موضع الحاجة من كلامه.
والذي أوقعه فيما وقع فيه تفسيره الولاية بمعنى المحبة ثم أخذه الآية خاصة ببني إسرائيل حتى استنتج المعنى الذي ذكره وليست الولاية في آياتها وأخبارها بمعنى المحبة وإنما هي ملك التدبير والتصرف في الأُمور الذي من شؤونه لزوم الاتباع وافتراض الطاعة وهو الذي يدَّعيه أئمة أهل البيت لأنفسهم وأما المحبة فهي معنى توسعي للولاية بمعناها الحقيقي ومن لوازمها العادية وهي التي تدل عليه بالمطابقة أدلة مودة ذي القربى من آية أو رواية.
ولولاية أهل البيت عليهم السلام معنى آخر ثالث وهو أن يلي الله أمر عبده فيكون هو المدبر لأُموره والمتصرف في شؤونه لإِخلاصه في العبودية وهذه الولاية هي لله بالأصالة فهو الولي لا وليّ غيره وإنما تنسب إلى أهل البيت عليهم السلام لأنهم السابقون الأولون من الأُمة في فتح هذا الباب وهي أيضاً من التوسع في النسبة كما ينسب الصراط المستقيم في كلامه تعالى إليه بالأصالة وإلى الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين بنوع من التوسع.
فتلخص أن الولاية في حديث المجمع بمعنى ملك التدبير وأن الآية الكريمة عامة جارية في غير بني إسرائيل كما فيهم وانه عليه السلام إنما فسّر الإِهتداء إلى الولاية من جهة الآية في هذه الأُمة وهو المعنى المتعين.
وفي تفسير القمي، وقوله: { فإنا قد فتنا قومك من بعدك } قال اختبرناهم بعدك { وأضلهم السامري } قال: بالعجل الذي عبدوه.
وكان سبب ذلك أن موسى لما وعده الله أن ينزل عليه التوراة والألواح إلى ثلاثين يوماً أخبر بني إسرائيل بذلك وذهب إلى الميقات وخلَّف أخاه على قومه، فلما جاء الثلاثون يوماً ولم يرجع موسى إليهم عصوا وأرادوا أن يقتلوا هارون وقالوا: إن موسى كذب وهرب منا، فجاءهم إبليس في صورة رجل فقال لهم: إن موسى قد هرب منكم ولا يرجع إليكم أبداً فاجمعوا لي حليّكم حتى أتخذ لكم إلهاً تعبدونه.
وكان السامري على مقدمة قوم موسى يوم أغرق الله فرعون وأصحابه فنظر إلى جبرئيل وكان على حيوان في صورة رمكة وكانت كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرّك ذلك الموضع فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسى فأخذ التراب من حافر رمكة جبرئيل وكان يتحرك فصرَّه في صرَّة فكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل فلما جاءهم إبليس واتخذوا العجل قال للسامري: هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه في جوف العجل فلما وقع التراب في جوفه تحرّك وخار ونبت عليه الوبر والشعر فسجد له بنو إسرائيل وكان عدد الذين سجدوا له سبعين ألفاً من بني إسرائيل فقال لهم هارون كما حكى الله: { يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } فهمُّوا بهارون فهرب منهم وبقوا في ذلك حتى تمّ ميقات موسى أربعين ليلة.
فلما كان يوم عشرة من ذي الحجة أنزل الله علم الألواح فيها التوراة وما يحتاج إليه من أحكام السير والقصص فأوحى الله إلى موسى أنّا فتنّا قومك من بعدك وأضلَّهم السامري وعبدوا العجل وله خوار، فقال: يا رب العجل من السامري فالخوار ممّن؟ فقال: مني يا موسى، إني لما رأيتهم قد ولّوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة.
{ فرجع موسى } كما حكى الله { إلى قومه غضبان أسِفاً قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحلَّ عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي }، ثم رمى بالألواح وأخذ بلحية أخيه ورأسه يجرُّه إليه فقال: { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري }؟ فقال هارون - كما حكى الله -: { يا بن أُمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرَّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي }.
فقال له بنو إسرائيل: { ما أخلفنا موعدك بملكنا } قال: ما خالفناك { ولكنا حُمِّلنا أوزاراً من زينة القوم } يعني من حليهم { فقذفناها } قال: التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه. ثم أخرج السامري العجل وله خوار فقال له موسى: { ما خطبك يا سامري؟ } قال السامري: { بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول } يعني من تحت حافر رمكة جبرئيل في البحر فنبذتها أي أمسكتها { وكذلك سوَّلت لي نفسي } أي زيّنت.
فأخرج موسى العجل فأحرقه بالنار وألقاه في البحر، ثم قال موسى للسامري: { إذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } يعني ما دمت حياً وعقبك هذه العلامة فيكم قائمة: أن تقول: لا مساس حتى يعرفوا أنكم سامرية فلا يغترّ بكم الناس فهم إلى الساعة بمصر والشام معروفين لا مساس، ثم همَّ موسى بقتل السامري فأوحى الله إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخيّ، فقال له موسى: { انظر إلى إلهك الذي ظلتَ عليه عاكفاً لنحرقنّه ثم لننسفنّه في اليمِّ نسفاً، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً }.
أقول: ظاهر هذا الذي نقلناه أن قوله: (والسبب في ذلك) الخ، ليس ذيلاً للرواية التي في أول الكلام (قال بالعجل الذي عبدوه) بل هو من كلام القمي اقتبسه من أخبار آخرين كما هو دأبه في أغلب ما أورده في تفسيره من أسباب نزول الآيات وعلى ذلك شواهد في خلال القصة التي ذكرها، نعم قوله في أثناء القصة: { قال ما خالفناك } رواية، وكذا قوله: (قال التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه) رواية، وكذا قوله: (ثم همَّ موسى) الخ، مضمون رواية مرويّة عن الصادق عليه السلام.
ثم على تقدير كونه رواية وتتمة للرواية السابقة هي رواية مرسلة مضمره.
وفي الدر المنثور أخرج الفاريابى وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي عليه السلام قال: لما تعجّل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي بني إسرائيل فضربه عجلاً ثم ألقى القبضي في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فقال لهم هارون: يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً. الحديث.
أقول: وما نسب فيه من القول إلى هارون حكاه القرآن عن موسى عليهما السلام.
وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه وكان فرعون على فرس أدهم حصان هاب الحصان أن يقتحم البحر فمثل له جبريل على فرس أُنثى فلما رآها الحصان هجم خلفها وعرف السامري جبريل لأن أُمه حين خافت ان يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة لبناً وفي الأخرى عسلاً وفي الأُخرى سمناً فلم يزل يغذوه حتى نشأ فلما عاينه في البحر عرفه فقبض قبضة من أثر فرسه قال: أخذ من تحت الحافر قبضة وأُلقي في روع السامري أنك لا تلقيها على شيء فتقول: كن كذا إلا كان.
فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر أغرق الله آل فرعون قال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتّبِع سبيل المفسدين ومضى موسى لموعد ربه، وكان مع بني إسرائيل حليّ من حليّ آل فرعون فكأنهم تأثموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه قال السامري بالقبضة هكذا فقذفها فيه فقال: كن عجلاً جسداً له خوار فصار عجلاً جسداً له خوار فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت فقال: هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى.
أقول: والخبر - كما ترى - لا يتضمن كون تراب الحافر ذا خاصيّة الإِحياء لكنه مشتمل على أعظم منه وهو كونه ذا خاصية كلمة التكوين فالسامري على هذا إنما استعمله ليخرج الحلي من النار في صورة عجل جسد له خوار فخرج كما أراد من غير سبب طبيعي عادي وأما الحياة فلا ذكر لها فيه بل ظاهر قوله بدخول الريح في جوفه وخروجه بصوت عدم اتصافه بالحياة.
على أن ما فيه من إخفاء أُم السامري إياه لما ولدته في غار خوفاً من أن يذبحه فرعون وأن جبريل كان يأتيه فيغذوه بأصابعه حتى نشأ مما لا يعتمد عليه وكون السامري من بني إسرائيل غير معلوم بل أنكره ابن عباس نفسه في خبر سعيد بن جبير المفصل في القصة وروى عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان من أهل كرمان.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أُولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فلما خبره خبرهم قال: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أرأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا، قال: يا رب فأنت إذاً أضللتهم.
ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال: حزيناً قال: يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً - إلى قوله - ما أخلفنا موعدك بملكنا يقول: بطاقتنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم يقول: من حلي القبط فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فعكفوا عليه يعبدونه وكان يخور ويمشي فقال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به يقول: ابتليتم بالعجل قال: فما خطبك يا سامري ما بالك - إلى قوله - وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه.
قال: فأخذه وذبحه ثم حرقه بالمبرد يعني سحكه ثم ذراه في اليم فلم يبق نهر يجري يومئذ إلا وقع فيه منه شيء ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول: وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. الحديث.
أقول: ومن عجيب ما اشتمل عليه قصة إنبات الذهب على شوارب محبي العجل عن شرب الماء، وحمله قوله تعالى: { وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } عليه ولفظة { في قلوبهم } نعم الدليل على أن المراد بالإِشراب حلول حبه ونفوذه في قلوبهم دون شرب الماء الذي نسف فيه بعد السحك.
وأعجب منه جمعه بين ذبحه وسحكه ولا يكون ذبح إلا في حيوان ذي لحم ودم ولا يتيسر السحك والبرد إلا في جسد مسبوك من ذهب أو فلز آخر.
وفيه أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي قال: إن جبريل لما نزل فصعد بموسى إلى السماء بصر به السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس وحمل جبريل موسى خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه.
أقول: وهو يتضمن ما هو أعجب من سوابقه وهو عروج جبريل بموسى إلى السماء وسياق آيات القصة في هذه السورة وغيرها لا يساعده، وأعجب منه أخذ التراب من أثر حافر فرس جبريل حين نزل للعروج بموسى وهو في الطور والسامري مع بني إسرائيل، ولو صح هذا النزول والصعود فقد كان في آخر الميقات وإضلال السامري بني إسرائيل قبل ذلك بأيام.
ونظير هذا الإِشكال وارد على سائر الأخبار التي تتضمن أخذه التربة من تحت حافر فرس جبريل حين تمثل لفرعون حتى دخل فرسه البحر فإن فرعون وأصحابه إنما دخلوا البحر بعد خروج بني إسرائيل ومعهم السامري - لو كان هناك - من البحر على ما لعرض البحر من المسافة فأين كان السامري من فرعون؟.
وأعظم ما يرد على هذه الأخبار - كما تقدمت الإِشارة إليه - أولاً: كونها مخالفة للكتاب حيث أن الكتاب ينص على كون العجل جسداً غير ذي روح وهي تثبت له جسماً ذا حياة وروح ولا حجية لخبر وإن كان صحيحاً اصطلاحاً مع مخالفة الكتاب ولولا ذلك لسقط الكتاب عن الحجية مع مخالفة الخبر فيتوقف حجية الكتاب على موافقة الخبر أو عدم مخالفته مع توقف حجية الخبر بل نفس قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحكيه الخبر بل نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حجية ظاهر الكتاب وهو دور ظاهر، وتمام البحث في علم الأصول.
وثانياً: كونها أخبار آحاد ولا معنى لجعل حجية أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية فان حقيقة الجعل التشريعي إيجاب ترتيب أثر الواقع على الحجة الظاهرية وهو متوقف على وجود أثر عملي للحجة كما في الأحكام، وأما غيرها فلا أثر فيه حتى يترتب على جعل الحجية مثلاً إذا وردت الرواية بكون البسملة جزءاً من السورة كان معنى جعل حجيتها وجوب الإِتيان بالبسملة في القراءة في الصلاة وأما إذا ورد مثلاً أن السامري كان رجلاً من كرمان وهو خبر واحد ظني كان معنى جعل حجيته أن يجعل الظن بمضمونه قطعاً وهو حكم تكويني ممتنع وليس من التشريع في شيء وتمام الكلام في علم الأصول.
وقد أورد بعض من لا يرتضي تفسير الجمهور للآية بمضمون هذه الأخبار عليها إيرادات أُخر ردية وأجاب عنها بعض المنتصرين لهم بوجوه هي أردأ منها.
وقد أيد بعضهم التفسير المذكور بأنه تفسير بالمأثور من خير القرون - القرن الأول قرن الصحابة والتابعين - وليس مما يقال فيه بالرأي فهو في حكم الخبر المرفوع والعدول عنه ضلال.
وفيه أولاً: أن كون قرن ما خير القرون لا يوجب حجّية كل قول انتهى إليه ولا ملازمة بين خيرية القرن وبين كون كل قول فيه حقاً صدقاً وكل رأي فيه صواباً وكل عمل فيه صالحاً، ويوجد في الأخبار المأثورة عنهم كمية وافرة من الأقوال المتناقضة والروايات المتدافعة وصريح العقل يقضي ببطلان أحد المتناقضين وكذب أحد المتدافعين، ويوجب على الباحث الناقد أن يطالبهم الحجة على قولهم كما يطالب غيرهم ولهم فضلهم فيما فضّلوا.
وثانياً: أن كون المورد الذي ورد عنهم الأثر فيه مما لا يقال فيه بالرأي كجزئيات القصص مثلاً مقتضياً لكون أثرهم في حكم الخبر المرفوع إنما ينفع إذا كانوا منتهين في رواياتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنا نجدهم حتى الصحابة كثيراً ما يروون من الروايات ما ينتهي إلى اليهود وغيرهم كما لا يرتاب فيه من راجع الأخبار المأثورة في قصص ذي القرنين وجنة إرم وقصة موسى والخضر والعمالقة ومعجزات موسى وما ورد في عثرات الأنبياء وغير ذلك مما لا يعدّ ولا يحصى فكونها في حكم المرفوعة لا يستلزم رفعها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وثالثاً: سلّمنا كونها في حكم المرفوعة لكن المرفوعة منها وحتى الصحيحة في غير الأحكام لا حجّية فيها وخاصة ما كان مخالفاً للكتاب منها كما تقدم.
وفي المحاسن بإسناده عن الوصّافي عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن فيما ناجى الله به موسى أن قال: يا رب هذا السامري صنع العجل، الخوار من صنعه؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: إن تلك فتنتي فلا تفحص عنها.
أقول: وهذا المعنى وارد في مختلف الروايات بألفاظ مختلفة وعمدة الوجه في ذلك شيوع النقل بالمعنى وخاصة في النبويات من جهة منعهم كتابة الحديث في القرن الأول الهجري حتى ضربه بعض الرواة في قالب الجبر وليس به فإنه إضلال مجازاة وليس بإضلال ابتدائي. وقد نسب هذا النوع من الإِضلال في كتابه إلى نفسه كثيراً كما قال:
{ { يضلُّ به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضلُّ به إلا الفاسقين } [البقرة: 26]. وأحسن تعبير عن معنى هذا الإِضلال في الروايات ما تقدم في رواية القمي: (فقال يعني موسى: يا رب العجل من السامري فالخوار ممَّن؟ فقال: مني يا موسى إني لما رأيتهم قد ولّوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة).
وما وقع في رواية راشد بن سعد المنقولة في الدرّ المنثور وفيه "قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت يا رب أضللتهم! قال: يا موسى يا رأس النبيين ويا أبا الحكام، إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسَّرته لهم". الحديث.
وفي المجمع قال الصادق عليه السلام: إن موسى همَّ بقتل السامري فأوحى الله سبحانه إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخيّ.