خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٢٥
وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
٢٦
وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ
٢٧
لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ
٢٨
ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٢٩
ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ
٣٠
حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
٣١
ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ
٣٢
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٣٣
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ
٣٤
ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلَٰوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ
٣٥
وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٣٦
لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٧
-الحج

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تذكر الآيات صد المشركين للمؤمنين عن المسجد الحرام وتقرعهم بالتهديد وتشير إلى تشريع حج البيت لأول مرة لإِبراهيم عليه السلام وأمره بتأذين الحج في الناس وجملة من أحكام الحج.
قوله تعالى: { الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس } الخ. الصد المنع، و { سواء } مصدر بمعنى الفاعل، والعكوف في المكان الإِقامة فيه، والبادي من البدو وهو الظهور، والمراد به - كما قيل - الطارئ أي الذي يقصده من خارج فيدخله، والإِلحاد الميل إلى خلاف الاستقامة وأصله إلحاد حافر الدابة.
والمراد بالذين كفروا مشركوا مكه الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول البعثة قبل الهجرة وكانوا يمنعون الناس عن الإِسلام وهو سبيل الله والمؤمنين عن دخول المسجد الحرام لطواف الكعبة وإقامة الصلاة وسائر المناسك فقوله: { يصدون } للإِستمرار ولا ضير في عطفه على الفعل الماضي في قوله: { الذين كفروا } والمعنى الذين كفروا قبل ويستمرون على منع الناس عن سبيل الله والمؤمنين عن المسجد الحرام.
وبذلك يظهر أن قوله: { والمسجد الحرام } عطف على { سبيل الله } والمراد بصدهم منعهم المؤمنين عن أداء العبادات والمناسك فيه وكان من لوازمه منع القاصدين للبيت من خارج مكة من دخولها.
وبه يتبين أن المراد بقوله: { الذي جعلناه للناس } - وهو وصف المسجد الحرام - جعله لعبادة الناس لا تمليك رقبته لهم فالناس يملكون أن يعبدوا الله فيه ليس لأحد أن يمنع أحداً من ذلك ففيه إشارة إلى أن منعهم وصدهم عن المسجد الحرام تعد منهم إلى حق الناس وإلحاد بظلم كما أن إضافة السبيل إلى الله تعد منهم إلى حق الله تعالى.
ويؤيد ذلك أيضاً تعقيبه بقوله: { سواء العاكف فيه والباد } أي المقيم فيه والخارج منه مساويان في أن لهما حق العبادة فيه لله، والمراد بالإِقامه فيه وفي الخارج منه إما الإِقامة بمكة وفي الخارج منها على طريق المجاز العقلي أو ملازمة المسجد للعبادة والطرو عليه لها.
وقوله: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } بيان لجزاء من ظلم الناس في هذا الحق المشروع لهم في المسجد ولازمه تحريم صد الناس عن دخوله للعبادة فيه ومفعول { يرد } محذوف للدلالة على العموم، والباء في { بإلحاد } للملابسة وفي { بظلم } للسببية والجملة تدل على خبر قوله: { إن الذين كفروا } في صدر الآية.
والمعنى: الذين كفروا ولا يزالون يمنعون الناس عن سبيل الله وهو دين الإِسلام ويمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام الذي جعلناه معبداً للناس يستوي فيه العاكف فيه والبادي نذيقهم من عذاب أليم لأنهم يريدون الناس فيه بإلحاد بظلم ومن يرد الناس فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.
وللمفسرين في إعراب مفردات الآية وجملها أقاويل كثيرة جداً ولعل ما أوردناه أنسب للسياق.
قوله تعالى: { وإذ بوأنا لإِبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } بوأ له مكاناً كذا أي جعله مباءة ومرجعاً له يرجع إليه ويقصده، والمكان ما يستقر عليه الشيء فمكان البيت القطعة من الأرض التي بني فيها، والمراد بالقائمين على ما يعطيه السياق هم الناصبون أنفسهم للعباده والصلاة والركع جمع راكع كسجّد جمع ساجد والسجود جمع ساجد كالركوع جمع راكع.
وقوله: { وإذ بوّأنا لإِبراهيم مكان البيت } الظرف فيه متعلق بمقدر أي واذكر وقت كذا وفيه تذكير لقصة جعل البيت معبداً للناس ليتضح به أن صد المؤمنين عن المسجد الحرام ليس إلا إلحاداً بظلم.
وتبوئته تعالى مكان البيت لإِبراهيم هي جعل مكانه مباءة ومرجعاً لعبادته لا لأن يتخذه بيت سكنى يسكن فيه، ويلوح إليه قوله بعد { طهر بيتي } بإضافة البيت إلى نفسه، ولا ريب أن هذا الجعل كان وحياً لإِبراهيم فقوله: { بوّأنا لإِبراهيم مكان البيت } في معنى قولنا: أوحينا إلى إبراهيم أن اتخذ هذا المكان مباءة ومرجعاً لعبادتي وإن شئت فقل: أوحينا إليه أن اقصد هذا المكان لعبادتي، وبعبارة أُخرى أن اعبدني في هذا المكان.
وبذلك يتضح أنّ { أن } في قوله: { أن لا تشرك بي شيئاً } مفسرة تفسر الوحي السابق باعتباره أنه قول من غير حاجة إلى تقدير أوحينا أو قلنا ونحوه.
ويتضح أيضاً أن قوله: { أن لا تشرك بي شيئاً } ليس المراد به - وهو واقع في هذا السياق - النهي عن الشرك مطلقاً وإن كان منهياً عنه مطلقاً بل المنهي عنه فيه هو الشرك في العبادة التي يأتي بها حينما يقصد البيت وبعبارة واضحة الشرك فيما يأتي به من أعمال الحج كالتلبية للأوثان والإِهلال لها ونحوهما.
وكذا قوله: { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } والتطهير إزالة الأقذار والأدناس عن الشيء ليعود إلى ما يقتضيه طبعه الأولي، وقد أضاف البيت إلى نفسه إذ قال: { بيتي } أي بيتاً يختص بعبادتي، وتطهير المعبد بما أنه معبد تنزيهه من الأعمال الدنسة والأرجاس التي تفسد العبادة وليست إلا الشرك ومظاهره.
فتطهير بيته إما تنزيهه من الأرجاس المعنوية خاصه بأن يشرع إبراهيم عليه السلام للناس ويعلمهم طريقاً من العبادة لا يداخلها قذارة شرك ولا يدنسها دنسه كما امر لنفسه بذلك، وإما إزالة مطلق النجاسات عن البيت أعم من الصورية والمعنوية لكن الذي يمس سياق الآية منها هو الرجس المعنوي فمحصل تطهير المعبد عن الأرجاس المعنوية وتنزيهه عنها للعبّاد الذين يقصدونه بالعبادة وضع عبادة فيه خالصة لوجه الله لا يشوبها شائب شرك يعبدون الله سبحانه بها ولا يشركون به شيئاً.
فالمعنى بناء على ما يهدي إليه السياق واذكر إذ أوحينا إلى إبراهيم أن اعبدني في بيتى هذا بأخذه مباءة ومرجعاً لعبادتي ولا تشرك بي شيئاً في عبادتي وسن لعبادي القاصدين بيتي من الطائفين والقائمين والركع السجود عبادة في بيتي خالصة من الشرك.
وفي الآية تلويح إلى أن عمدة عبادة القاصدين له طواف وقيام وركوع وسجود وإشعار بأن الركوع والسجود متقاربان كالمتلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر.
ومما قيل في الآية أن قوله: { بوأنا } معناه (قلنا تبوء) وقيل: معناه { أعلمنا } ومن ذلك أن { أن } في قوله: { أن لا } مصدرية وقيل: مخففة من الثقيلة، ومن ذلك أن المراد بالطائفين الطارؤن وبالقائمين المقيمون بمكة، وقيل: المراد بالقائمين والركع السجود: المصلون، وهي جميعاً وجوه بعيدة.
قوله تعالى: { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } التأذين الإِعلام برفع الصوت ولذا فسّر بالنداء، والحج القصد سمى به العمل الخاص الذي شرعه أولاً إبراهيم عليه السلام وجرت عليه شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من قصد البيت الحرام، ورجال جمع راجل خلاف الراكب، والضامر المهزول الذي أضمره السير، والفج العميق - على ما قيل - الطريق البعيد.
وقوله: { وأذن في الناس بالحج } أي نادِ الناس بقصد البيت أو بعمل الحج والجملة معطوفة على قوله: { لا تشرك بي شيئاً } والمخاطب به إبراهيم وما قيل: إن المخاطب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعيد من السياق.
وقوله: { يأتوك رجالاً } الخ، جواب الأمر أي أذن فيهم وإن تؤذن فيهم يأتوك راجلين وعلى كل بعير مهزول يأتين من كل طريق بعيد، ولفظة { كل } تفيد في أمثال هذه الموارد معنى الكثرة دون الاستغراق.
قوله تعالى: { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } الخ، اللام للتعليل أو الغاية والجار والمجرور متعلق بقوله: { يأتوك } والمعنى يأتوك لشهادة منافع لهم أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم وقد أُطلقت المنافع ولم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية.
والمنافع نوعان: منافع دنيوية وهي التي تتقدم بها حياة الإِنسان الاجتماعية ويصفو بها العيش وترفع بها الحوائج المتنوعة وتكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير وأقسام الرسوم والآداب والسنن والعادات ومختلف التعاونات والتعاضدات الاجتماعية وغيرها.
فإذا اجتمعت أقوام وأُمم من مختلف مناطق الأرض وأصقاعها على ما لهم من اختلاف الأنساب والألوان والسنن والآداب ثم تعارفوا بينهم وكلمتهم واحدة هي كلمة الحق وإلههم واحد وهو الله عز اسمه ووجهتهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام حملهم اتحاد الأرواح على تقارب الأشباح ووحدة القول على تشابه الفعل فأخذ هذا من ذاك ما يرتضيه وأعطاه ما يرضيه، واستعان قوم بآخرين في حل مشكلتهم وأعانوهم بما في مقدرتهم فيبدل كل مجتمع جزئي مجتمعاً أرقى، ثم امتزجت المجتمعات فكونت مجتمعاً وسيعاً له من القوة والعدة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، ولا تقوى عليه أي قوه جبارة طاحنة، ولا وسيلة إلى حل مشكلات الحياة كالتعاضد ولا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، ولا تفاهم كتفاهم الدين.
ومنافع أُخروية وهي وجوه التقرب إلى الله تعالى بما يمثل عبودية الإِنسان من قول وفعل وعمل الحج بما له من المناسك يتضمن أنواع العبادات من التوجه إلى الله وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش والسعي إليه بتحمل المشاق والطواف حول بيته والصلاة والتضحية والإِنفاق والصيام وغير ذلك.
وقد تقدم فيما مر أن عمل الحج بما له من الأركان والأجزاء يمثل دورة كاملة مما جرى على إبراهيم عليه السلام في مسيره في مراحل التوحيد ونفي الشريك وإخلاص العبودية لله سبحانه.
فإتيان الناس إبراهيم عليه السلام أي حضورهم عند البيت لزيارته يستعقب شهودهم هذه المنافع أُخرويها ودنيويها وإذا شهدوها تعلقوا بها فالإِنسان مجبول على حب النفع.
وقوله: { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } قال الراغب: والبهيمة ما لا نطق له وذلك لما في صوته من الإِبهام لكن خصّ في التعارف بما عدا السباع والطير فقال تعالى: { أحلت لكم بهيمة الأنعام }. انتهى.
وقال: والنعم مختص بالإِبل وجمعه أنعام وتسميته بذلك لكون الإِبل عندهم أعظم نعمة، لكن الأنعام تقال للإِبل والبقر والغنم، ولا يقال لها: أنعام حتى تكون في جملتها الإِبل. انتهى.
فالمراد ببهيمة الأنعام الثلاثة: الإِبل والبقر والغنم من معز أو ضأن والإِضافة بيانية.
والجملة أعني قوله: { ويذكروا } الخ، معطوف على قوله: { يشهدوا } أي وليذكروا اسم الله في أيام معلومات أي في أيام التشريق على ما فسرها أئمه أهل البيت عليهم السلام وهي يوم الأضحى عاشر ذي الحجة وثلاثة أيام بعده.
وظاهر قوله: { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } أنه متعلق بقوله: { يذكروا } وقوله: { من بهيمة الأنعام } بيان للموصول والمراد ذكرهم اسم الله على البهيمة - الاضحية - عند ذبحها أو نحرها على خلاف ما كان المشركون يهلونها لأصنامهم.
وقد ذكر الزمخشري أن قوله: { ويذكروا اسم الله } الخ كناية عن الذبح والنحر ويبعده أن في الكلام عناية خاصة بذكر اسمه تعالى بالخصوص والعناية في الكناية متعلقة بالمكنى عنه دون نفس الكناية، ويظهر من بعضهم أن المراد مطلق ذكر اسم الله في أيام الحج وهو كما ترى.
وقوله: { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } البائس من البؤس وهو شدة الضر والحاجة، والذي اشتمل عليه الكلام حكم ترخيصي إلزامي.
قوله تعالى: { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوّفوا بالبيت العتيق } التفث شعث البدن، وقضاء التفث إزالة ما طرأ بالإِحرام من الشعث بتقليم الأظفار وأخذ الشعر ونحو ذلك وهو كناية عن الخروج من الإِحرام.
والمراد بقوله: { وليوفوا نذورهم } إتمام ما لزمهم بنذر أو نحوه، وبقوله: { وليطوّفوا بالبيت العتيق } طواف النساء على ما في تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام فإن الخروج من الإِحرام يحلل له كل ما حرم به إلا النساء فتحلّ بطواف النساء وهو آخر العمل.
والبيت العتيق هو الكعبة المشرفة سميت به لقدمه فإنه أول بيت بني لعبادة الله كما قال تعالى:
{ { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } [آل عمران: 96]، وقد مضى على هذا البيت اليوم زهاء أربعة آلاف سنة وهو معمور وكان له يوم نزول الآيات أكثر من ألفين وخمسمائة سنة.
قوله تعالى: { ذلك ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربه } إلى آخر الآية، الحرمة ما لا يجوز انتهاكه ووجب رعايته، والأوثان جمع وثن وهو الصنم، والزور الميل عن الحق ولذا يسمى الكذب وقول الباطل زوراً.
وقوله: { ذلك } أي الأمر ذلك أي الذي شرعناه لإِبراهيم عليه السلام ومن بعده من نسك الحج هو ذلك الذي ذكرناه وأشرنا إليه من الإِحرام والطواف والصلاة والتضحية بالإِخلاص لله والتجنب عن الشرك.
وقوله: { ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له } ندب إلى تعظيم حرمات الله وهي الأُمور التي نهى عنها وضرب دونها حدوداً منع عن تعدّيها واقتراف ما وراءها وتعظيمها الكف عن التجاوز إليها.
والذي يعطيه السياق أن هذه الجملة توطئة وتمهيد لما بعدها من قوله: { وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم } فإن انضمام هذه الجملة إلى الجملة قبلها يفيد أن الأنعام - على كونها مما رزقهم الله وقد أحلها لهم - فيها حرمة إلهية وهي التي يدلُّ عليها الاستثناء - إلا ما يتلى عليكم -.
والمراد بقوله: { ما يتلى عليكم } استمرار التلاوة، فإن محرَّمات الأكل نزلت في سورة الأنعام وهي مكية وفي سورة النحل وهي نازلة في آخر عهده صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وأول عهده بالمدينة، وفي سورة البقرة وقد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضي ستة أشهر منها - على ما روي - ولا موجب لجعل { يتلى } للاستقبال وأخذه إشاره إلى آية سورة المائدة كما فعلوه.
والآيات المتضمنة لمحرَّمات الأكل وإن تضمنت منها عدة أُمور كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ به لغير الله إلا أن العناية في الآية بشهادة سياق ما قبلها وما بعدها بخصوص ما أُهلَّ به لغير الله فإن المشركين كانوا يتقرَّبون في حجهم - وهو السنَّة الوحيدة الباقية بينهم من ملة إبراهيم - بالأصنام المنصوبة على الكعبة وعلى الصفا وعلى المروة وبمنى ويهلّون بضحاياهم لها فالتجنب منها ومن الإِهلال بذكر أسمائها هو الغرض المعني به من الآية وإن كان أكل الميتة والدم ولحم الخنزير أيضاً من جملة حرمات الله.
ويؤيد ذلك أيضاً تعقيب الكلام بقوله: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } فإن اجتناب الأوثان واجتناب قول الزور وإن كانا من تعظيم حرمات الله ولذلك تفرع { فاجتنبوا الرجس } على ما تقدمه من قوله: { ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق آيات الحج بالذكر ليس إلا لكونهما مبتلى بهما في الحج يومئذ وإصرار المشركين على التقرب من الأصنام هناك وإهلال الضحايا باسمها.
وبذلك يظهر أن قوله: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } نهي عام عن التقرب إلى الأصنام وقول الباطل أُورد لغرض التقرب إلى الأصنام في عمل الحج كما كانت عادة المشركين جارية عليه، وعن التسمية باسم الأصنام على الذبائح من الضحايا، وعلى ذلك يبتني التفريع بالفاء.
وفي تعليق حكم الاجتناب أولاً بالرجس ثم بيانه بقوله: { من الأوثان } إشعار بالعلّية كأنه قيل: إجتنبوا الأوثان لأنها رجس، وفي تعليقه بنفس الأوثان دون عبادتها أو التقرب أو التوجه إليها أو مسّها ونحو ذلك - مع أن الاجتناب إنما يتعلق على الحقيقة بالأعمال دون الأعيان - مبالغة ظاهرة.
وقد تبين بما مرّ أن { من } في قوله: { من الأوثان } بيانية، وذكر بعضهم أنها ابتدائية والمعنى: اجتنبوا الرجس الكائن من الأوثان وهو عبادتها، وذكر آخرون أنها تبعيضية، والمعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو بعض جهات الأوثان وهو عبادتها، وفي الوجهين من التكلف وإخراج معنى الكلام عن استقامته ما لا يخفى.
قوله تعالى: { حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير } الخ، الحنفاء جمع حنيف وهو المائل من الأطراف إلى حاق الوسط. وكونهم حنفاء لله ميلهم عن الأغيار وهي الآلهة من دون الله إليه فيتحد مع قوله غير مشركين به معنى.
وهما أعني قوله: { حنفاء لله } وقوله: { غير مشركين به } حالان عن فاعل { فاجتنبوا } أي اجتنبوا التقرب من الأوثان والإِخلال لها حال كونكم مائلين إليه ممن سواه غير مشركين به في حجكم فقد كان المشركون يلبّون في الحج بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.
وقوله: { ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير } أي تأخذه بسرعة، شبّة المشرك في شركه وسقوطه به من أعلى درجات الإِنسانية إلى هاوية الضلال فيصيده الشيطان، بمن سقط من السماء فتأخذه الطير.
وقوله: { أو تهوي به الريح في مكان سحيق } أي بعيد في الغاية وهو معطوف على { تخطفه الطير } تشبيه آخر من جهة البعد.
قوله تعالى: { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } { ذلك } خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك الذي قلنا، والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، وشعائر الله الأعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته كما قال: { إن الصفا والمروة من شعائر الله }، وقال: { والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله } الآية.
والمراد بها البدن التي تساق هدياً وتشعر أي يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي على ما في تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام ويؤيده ظاهر قوله تلواً: { لكم فيها منافع } الخ، وقوله بعد: { والبدن جعلناها } الآية، وقيل: المراد بها جميع الأعلام المنصوبة للطاعة، والسياق لا يلائمه.
وقوله: { فإنها من تقوى القلوب } أي تعظيم الشعائر الإِلهية من التقوى، فالضمير لتعظيم الشعائر المفهوم من الكلام ثم كأنه حذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه فارجع إليه الضمير.
وإضافة التقوى إلى القلوب للإِشارة إلى أن حقيقة التقوى وهي التحرّز والتجنب عن سخطه تعالى والتورّع عن محارمه أمر معنوي يرجع إلى القلوب وهي النفوس وليست هي جسد الأعمال التي هي حركات وسكنات فإنها مشتركة بين الطاعة والمعصية كالمسّ في النكاح والزنا، وإزهاق الروح في القتل قصاصاً أو ظلماً والصلاة المأتي بها قربة أو رياء وغير ذلك، ولا هي العناوين المنتزعة من الأفعال كالإِحسان والطاعة ونحوها.
قوله تعالى: { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلّها إلى البيت العتيق } المحل بكسر الحاء اسم زمان بمعنى وقت حلول الأجل: وضمير { فيها } للشعائر، والمعنى على تقدير كون المراد بالشعائر بدن الهدي أن لكم في هذه الشعائر - وهي البدن - منافع من ركوب ظهرها وشرب ألبانها عنه الحاجة إلى أجل مسمى هو وقت نحرها ثم محلها أي وقت حلول أجلها للنحر منته إلى البيت العتيق أو بانتهائها إليه، والجملة في معنى قوله: { هدياً بالغ الكعبة } هذا على تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وأما على القول بكون المراد بالشعائر مناسك الحج فقيل: المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى ثم محل هذه المناسك ومنتهاها إلى البيت العتيق لأن آخر ما يأتي به من الأعمال الطواف بالبيت.
قوله تعالى: { ولكل أُمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } إلى آخر الآية. المنسك مصدر ميمي واسم زمان ومكان، وظاهر قوله: { ليذكروا اسم الله } الخ أنه مصدر ميمي بمعنى العبادة وهي العبادة التي فيها ذبح وتقريب قربان.
والمعنى: ولكل أُمة - من الأُمم السالفة المؤمنة - جعلنا عبادة من تقريب القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام التي رزقهم الله أي لستم معشر أتباع إبراهيم أول أُمة شرعت لهم التضحية وتقريب القربان فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك.
وقوله: { فإلهكم إله واحد فله أسلموا } أي إذ كان الله سبحانه هو الذي شرع لكم وللأُمم قبلكم هذا الحكم فإلهكم وإله من قبلكم إله واحد فأسلموا واستسلموا له بإخلاص عملكم له ولا تتقربوا في قرابينكم إلى غيره فالفاء في { فإلهكم } لتفريع السبب على المسبب وفي قوله: { فله أسلموا } لتفريع المسبب على السبب.
وقوله: { وبشر المخبتين } فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصاً فهو من المخبتين، وقد فسره بقوله: { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } وانطباق الصفات المعدودة في الآية وهي الوجل والصبر وإقامة الصلاة والإِنفاق، على من حج البيت مسلماً لربه معلوم.
قوله تعالى: { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير } إلى آخر الآية البدن بالضم فالسكون جمع بدنة بفتحتين وهي السمينة الضخمة من الإِبل، والسياق أنها من الشعائر باعتبار جعلها هدياً.
وقوله: { فاذكروا اسم الله عليها صواف } الصواف جمع صافة ومعنى كونها صافة أن تكون قائمة قد صفت يداها ورجلاها وجمعت وقد ربطت يداها.
وقوله: { فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ } الوجوب السقوط يقال: وجبت الشمس أي سقطت وغابت، والجنوب جمع جنب، والمراد بوجوب جنوبها سقوطها على الأرض على جنوبها وهو كناية عن موتها، والأمر في قوله: { فكلوا منها } للإِباحة وارتفاع الحظر، والقانع هو الفقير الذي يقنع بما أُعطيه سواء سأل أم لا، والمعتر هو الذي أتاك وقصدك من الفقراء، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } إلى آخر الآية. بمنزلة دفع الدخل كأن متوهماً بسيط الفهم يتوهم أن لله سبحانه نفعاً في هذه الضحايا ولحومها ودمائها فاجيب أن الله سبحانه لن يناله شيء من لحومها ودمائها لتنزهه عن الجسمية وعن كل حاجة وإنما يناله التقوى نيلاً معنوياً فيقرب المتصفين به منه تعالى.
أو يتوهم أن الله سبحانه لما كان منزهاً عن الجسمية وعن كل نقص وحاجة ولا ينتفع بلحم أو دم فما معنى التضحية بهذه الضحايا فأُجيب بتقرير الكلام وأن الأمر كذلك لكن هذه التضحية يصحبها صفة معنوية لمن يتقرب بها وهذه الصفة المعنوية من شأنها أن تنال الله سبحانه بمعنى أن تصعد إليه تعالى وتقرب صاحبها منه تقريباً لا يبقى معه بينه وبينه حجاب يحجبه عنه.
وقوله: { كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم } الظاهر أن المراد بالتكبير ذكره تعالى بالكبرياء والعظمة، فالهداية هي هدايته إلى طاعته وعبوديته والمعنى كذلك سخرها لكم ليكون تسخيرها وصلة إلى هدايتكم إلى طاعته والتقرب إليه بتضحيتها فتذكروه بالكبرياء والعظمة على هذه الهداية.
وقيل: المراد بالتكبير معرفته تعالى بالعظمة وبالهداية الهداية إلى تسخيرها والمعنى كذلك سخرها لكم لتعرفوا الله بالعظمة على ما هداكم إلى طريق تسخيرها.
وأول الوجهين أوجه وأمس بالسياق فإن التعليل عليه بأمر مرتبط بالمقام وهو تسخيرها لتضحى ويتقرب بها إلى الله فيذكر تعالى بالكبرياء على ما هدى إلى هذه العبادة التي فيها رضاه وثوابه، وأما مطلق تسخيرها لهم بالهداية إلى طريق تسخيرها لهم فلا اختصاص له بالمقام.
وقوله: { وبشّر المحسنين } أي الذين يأتون بالأعمال الحسنة أو بالإِحسان وهو الانفاق في سبيل الله.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: { ومن يرد فيه بإلحاد } الخ قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجري والآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإِسلام وهرب إلى مكة فنزلت فيه { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد يعني بميل عن الإِسلام.
أقول: نزول الآية فيما ذكر لا يلائم سياقها ورجوع الذيل إلى الصدر وكونه متمماً لمعناه كما مر.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { إن الذين كفروا } إلى قوله { والباد } قال: نزلت في قريش حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مكة، وقوله: { سواء العاكف فيه والباد } قال: أهل مكة ومن جاء من البلدان فهم سواء لا يمنع من النزول ودخول الحرم.
وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبو عبد الله عليه السلام هذه الآية { سواء العاكف فيه والباد } فقال كانت مكة ليس على شيء منها باب، وكان أول من علق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئاً من الدور ومنازلها.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة وتحرير المسألة في الفقه.
وفي الكافي عن ابن أبي عمير عن معاوية قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } قال: كل ظلم إلحاد، وضرب الخادم في غير ذنب من ذلك الإِلحاد.
وفيه بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عز وجل: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } فقال: كل ظلم يظلم الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظلم فإني أراه إلحاداً، ولذلك كان يتقى أن يسكن الحرم.
أقول: ورواه أيضاً في العلل عن أبي الصباح عنه عليه السلام وفيه: ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم، وفي معنى هذه الرواية والتي قبلها روايات أُخر.
وفي الكافي أيضاً بإسناده عن الربيع بن خثيم قال: شهدت أبا عبد الله عليه السلام وهو يطاف به حول الكعبة في محمل وهو شديد المرض فكان كلما بلغ الركن اليماني أمرهم فوضعوه بالأرض فأخرج يده من كوة المحمل حتى يجرها على الأرض ثم يقول: ارفعوني.
فلما فعل ذلك مراراً في كل شوط قلت له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إن هذا يشق عليك فقال: إني سمعت الله عز وجل يقول: { ليشهدوا منافع لهم } فقلت: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال الكل.
وفي المجمع في الآية وقيل: منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
أقول: وإثبات إحدى المنفعتين لا ينفي العموم كما في الرواية السابقة.
وفي العيون فيما كتبه الرضا عليه السلام إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل: وعلة الحج الوفادة إلى الله عز وجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف وليكون تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل وما فيه من استخراج الأموال وتعب الأبدان، وحظرها عن الشهوات واللذات والتقرب بالعبادة إلى الله عز وجل والخضوع والاستكانة، والذل شاخصاً في الحر والبرد والأمن والخوف، دائباً في ذلك دائماً.
وما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، والرغبة والرهبة إلى الله تعالى، ومنه ترك قساوة القلب وجساؤة النفس ونسيان الذكر وانقطاع الرجاء والأمل، وتجديد الحقوق وحظر النفس عن الفساد، ومنفعة من في شرق الأرض وغربها ومن في البر والبحر ممن يحج ومن لا يحج من تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين، وقضاء حوائج أهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم.
أقول: وروى فيه أيضاً ما يقرب منه عن الفضل بن شاذان عنه عليه السلام.
وفي المعاني بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } قال: هي أيام التشريق.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أُخر عن الباقر والصادق عليهما السلام، وهناك ما يعارضها كما يدل على أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة، وما يدل على أن المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق، والآية أشد ملاءمة لما يدل على أن المراد بالمعلومات أيام التشريق.
وفي الكافي بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { ثم ليقضوا تفثهم } قال: هو الحلق وما في جلد الإِنسان.
وفي الفقيه في رواية البزنطي عن الرضا عليه السلام قال: التفث تقليم الأظفار وطرح الوسخ وطرح الإِحرام عنه.
وفي التهذيب بإسناده عن حمّاد الناب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: { وليطَّوفوا بالبيت العتيق } قال: هو طواف النساء.
أقول: وفي معنى الروايات الثلاث روايات أُخرى عنهم عليهم السلام.
وفي الكافي بإسناده عن أبان عمن أخبره عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: لمَ سمّى الله البيت العتيق؟ قال: هو بيت حر عتيق من الناس لم يملكه أحد.
وفي تفسير القمي حدثني أبي عن صفوان بن يحيى عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث يذكر فيه غرق قوم نوح قال: وإنما سُمّي البيت العتيق لأنه أُعتق من الغرق.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسّنه وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إنما سمّى الله البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط"
]. أقول: أما هذه الرواية فالتاريخ لا يصدقها وقد خرّب البيت ثم غيّره عبد الله بن الزبير نفسه ثم الحصين بن نمير بأمر يزيد ثم الحجاج بأمر عبد الملك ثم القرامطة، ويمكن أن يكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم الإِخبار عما مضى على البيت وأما الرواية السابقة عليها فلم تثبت.
وفيه أخرج سفيان بن عيينة والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الحجر من البيت لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاف بالبيت من ورائه، قال الله: { وليطَّوفوا بالبيت العتيق }.
أقول: وفي معناه روايات عن أئمه أهل البيت عليهم السلام.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أي ساعة شاء من ليل أو نهار"
]. وفي المجمع { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } وروى أصحابنا أن اللعب بالشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار من ذلك. { واجتنبوا قول الزور } وروى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء وسائر الأقوال الملهبة.
وفيه وروى أيمن بن خزيم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطبنا فقال:
"أيها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور }"
]. أقول: وروى ما في الذيل في الدر المنثور عن أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أيمن.
وفي الكافي بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى } قال: أن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها وإن كان لها لبن حلبها حلاباً لا ينهكها.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: يركب الرجل بدنته بالمعروف.
أقول: وروى أيضاً نظيره عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي التفسير القمي قوله: { فله أسلموا وبشر المخبتين } قال: العابدين.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: { فاذكروا اسم الله عليها صوافّ } قال: ذلك حين تصف للنحر تربط يديها ما بين الخف إلى الركبة، ووجوب جنوبها إذا وقعت على الأرض.
وفيه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: { فإذا وجبت جنوبها } قال: إذا وقعت على الأرض { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ } قال: القانع الذي يرضى بما أعطيته ولا يسخط ولا يكلح ولا يلوي شدقه غضباً، والمعترّ المارّ بك لتطعمه.
وفي المعاني بإسناده عن سيف التمّار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن سعيد ابن عبد الملك قدم حاجاً فلقي أبي فقال: إني سقت هدياً فكيف أصنع؟ فقال: أطعم أهلك ثلثاً، وأطعم القانع ثلثاً، وأطعم المسكين ثلثاً، قلت: المسكين هو السائل؟ قال: نعم، والقانع يقنع بما أرسلت إليه من البضعة فما فوقها، والمعتر يعتريك لا يسألك.
أقول: والروايات في المعاني السابقة عن الأئمة كثيرة وما نقلناه نبذه منها.
وفي جوامع الجامع في قوله تعالى: { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } وروي أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لطخوا البيت بالدم فلما حجَّ المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت.
أقول: روى ما في معناه في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس.
وفي تفسير القمي قوله عز وجل: { لتكبروا الله على ما هداكم } قال: التكبير أيام التشريق في الصلوات بمنى في عقيب خمس عشرة صلاة، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات.