خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً
٤١
إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً
٤٢
أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً
٤٣
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً
٤٤
أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً
٤٥
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً
٤٦
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً
٤٧
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً
٤٨
لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً
٤٩
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً
٥٠
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً
٥١
فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً
٥٢
وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
٥٣
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً
٥٤
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ ٱلْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيراً
٥٥
وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً
٥٦
قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
٥٧
وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً
٥٨
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً
٥٩
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً
٦٠
تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً
٦١
وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً
٦٢
-الفرقان

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تذكر الآيات بعض صفات أُولئك الكفار القادحين في الكتاب والرسالة والمنكرين للتوحيد والمعاد مما يناسب سنخ اعتراضاتهم واقتراحاتهم كاستهزائهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واتباعهم الهوى وعبادتهم لما لا ينفعهم ولا يضرهم واستكبارهم عن السجود لله سبحانه.
قوله تعالى: { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً } ضمير الجمع للذين كفروا السابق ذكرهم، والهزؤ الاستهزاء والسخرية فالمصدر بمعنى المفعول، والمعنى: وإذا رآك الذين كفروا لا يتخذونك إلا مهزوّاً به.
وقوله: { أهذا الذي بعث الله رسولاً } بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك.
قوله تعالى: { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } الخ { إن } مخففة من الثقيلة، والإِضلال كأنه مضمن معنى الصرف ولذا عدّي بعن، وجواب لولا محذوف يدل عليه ما تقدمه، والمعنى أنه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلاً لنا لولا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها.
وقوله: { وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً } توعد وتهديد منه تعالى لهم وتنبيه أنهم على غفلة مما سيستقبلهم من معاينة العذاب واليقين بالضلال والغي.
قوله تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً } الهوى ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل، والمراد باتخاذ الهوى إلهاً طاعته واتباعه من دون الله وقد أكثر الله سبحانه في كلامه ذم اتباع الهوى وعدَّ طاعة الشيء عبادة له في قوله:
{ { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني } } [يس: 60ـ71]. وقوله: { أَفأَنت تكون عليه وكيلاً } استفهام إنكاري أي لست أنت وكيلاً عليه قائماً على نفسه وباموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك وقد أضله الله وقطع عنه أسباب الهداية وفي معناه قوله: { { إنك لا تهدي من أحببت } [القصص: 56]، وقوله: { { وما أنت بمسمع من في القبور } [فاطر: 22]، والآية كالإِجمال للتفصيل الذي في قوله: { { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله } } [الجاثية: 23]. ويظهر مما تقدم من المعنى أن قوله: { اتخذ إلهه هواه } على نظمه الطبيعي أي إن { اتخذ } فعل متعد إلى مفعولين و { إلهه } مفعوله الأول و { هواه } مفعول ثان له فهذا هو الذي يلائم السياق وذلك أن الكلام حول شرك المشركين وعدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، وإعراضهم عن طاعة الحق التى هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الذي يزين لهم الشرك، وهؤلاء يسلّمون أن لهم إلهاً مطاعاً وقد أصابوا في ذلك، لكنهم يرون أن هذا المطاع هو الهوى فيتخذونه مطاعاً بدلاً من أن يتَّخذوا الحق مطاعاً فقد وضعوا الهوى موضع الحق لا أنهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم.
ومن هنا يظهر ما في قول عدة من المفسرين أن { هواه } مفعول أول لقوله { اتخذ } و { إلهه } مفعول ثان مقدم، وإنما قدم للاعتناء به من حيث إنه الذي يدور عليه أمر التعجيب في قوله: { أرأيت من اتخذ } الخ، كما قاله بعضهم، أو إنما قدّم للحصر على ما قاله آخرون، ولهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله.
قوله تعالى: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } أم منقطعة، والحسبان بمعنى الظن وضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى. والترديد بين السمع والعقل من جهة أن وسيلة الإِنسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إما أن يستقل بالتعقل فيعقل الحق فيتبعه أو يرجع إلى قول من يعقله وينصحه فيتبعه إن لم يستقل بالتعقل فالطريق إلى الرشد السمع أو عقل فالآية في معنى قوله:
{ { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } } [الملك: 10]. والمعنى: بل أتظن أن أكثرهم لهم استعداد استماع الحق ليتبعه أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجو اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم.
وقوله: { إن هم إلا كالأنعام } بيان للجملة السابقة فإنه في معنى: أن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون فتنبّه أنهم ليسوا إلا كالأنعام والبهائم في أنها لا تعقل ولا تسمع إلا اللفظ دون المعنى.
وقوله: { بل هم أضل سبيلاً } أي من الأنعام وذلك أنَّ الأنعام لا تقتحم على ما يضرها وهؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم، وأيضاً الأنعام إن ضلت عن سبيل الحق فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه وهؤلاء مجهزون وقد ضلوا.
واستدل بعضهم بالآية على أن الأنعام لا علم لها بربها. وفيه أن الآية لا تنفي عنها ولا عن الكفار أصل العلم بالله وإنما تنفي عن الكفار اتباع الحق الذي يهدي إليه عقل الإِنسان الفطري لاحتجابه باتباع الهوى، وتشبههم في ذلك بالأنعام التي لم تجهز بهذا النوع من الإِدراك.
وأما ما أجاب به بعضهم أن الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال.
قوله تعالى: { ألم ترَ إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } هاتان الآيتان وما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظير لما تضمنته الآيتان السابقتان بل الآيات الأربع السابقة من أن الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد وإنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممن شاء الله وأما غيرهم ممن اتخذ إلهه هواه فصار لا يسمع ولا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله.
فهى تبين أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه وبيّنات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه وهو على صراط مستقيم، وذلك كمدّ الظل وجعل الشمس دليلاً عليه تنسخه، وكجعل الليل لباساً والنوم سباتاً والنهار نشوراً، وكجعل الرياح بشراً وإنزال المطر وإحياء الأرض الميتة وإرواء الأنعام والأناسي به.
ثم ما مثل المؤمن والكافر في اهتداء هذا وضلال ذاك - وهم جميعاً عباد الله يعيشون في أرض واحدة - إلا كمثل المائين العذب الفرات والملح الاجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً، وكالماء خلق الله سبحانه منه بشراً ثم جعله نسباً وصهراً فاختلف بذلك المواليد وكان ربك قديراً.
هذا ما يهدي إليه التدبر في مضامين الآيات وخصوصيات نظمها، وبه يظهر وجه اتصالها بما تقدمها، وأما ما ذكروه من أن الآيات مسوقة لبيان بعض أدلة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم فالسياق لا يساعد عليه وسنزيد لك إيضاحاً.
فقوله: { ألم ترَ إلى ربك كيف مدَّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً } تنظير - كما تقدمتا الإِشارة إليه - لشمول الجهل والضلال للناس ورفعه تعالى ذلك بالرسالة والدعوة الحقة كما يشاء ولازم ذلك أن يكون المراد بمد الظل ما يعرض الظل الحادث بعد الزوال من التمدد شيئاً فشيئاً من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الأفق حتى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد وهو الليل، وهو في جميع أحواله متحرك ولو شاء الله لجعله ساكناً.
وقوله: { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } والدليل هي الشمس من حيث دلالتها بنورها على أن هناك ظلاً وبانبساطه شيئاً فشيئاً على تمدُّد الظل شيئاً فشيئاً ولولاها لم يتنبه لوجود الظل فإن السبب العام لتمييز الإِنسان بعض المعاني من بعض تحوّل الأحوال المختلفة عليه من فقدان ووجدان فإذا فقد شيئاً كان يجده تنبّه لوجوده وإذا وجد ما كان يفقده تنبّه لعدمه، وأما الأمر الثابت الذي لا تتحول عليه الحال فليس إلى تصوّره بالتنبه سبيل.
وقوله: { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } أي أزلنا الظل بإشراق الشمس وارتفاعها شيئاً فشيئاً حتى ينسخ بالكلية، وفي التعبير عن الإِزالة والنسخ بالقبض، وكونه إليه، وتوصيفه باليسير دلالة على كمال القدرة الإِلهية وأنها لا يشق عليها فعل، وأن فقدان الأشياء بعد وجودها ليس بالانعدام والبطلان بل بالرجوع إليه تعالى.
وما تقدم من تفسير مد الظل بتمديد الفيء بعد زوال الشمس وإن كان معنى لم يذكره المفسرون لكن السياق - على ما أشرنا إليه - لا يلائم غيره مما ذكره المفسرون كقول بعضهم: إن المراد بالظل الممدود ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقول بعض: ما بين غروب الشمس وطلوعها، وقول بعض: ما يحدث من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس بعد طلوعها، وقول بعض - وهو أسخف الأقوال - هو ما كان يوم خلق الله السماء وجعلها كالقبة ثم دحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها.
وفي الآية أعني قوله: { ألم ترَ إلى ربك } الخ، التفات من سياق التكلم بالغير في الآيات السابقة إلى الغيبة، والنكتة فيه أن المراد بالآية وما يتلوها من الآيات بيان أن أمر الهداية إلى الله سبحانه وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأمر شيء وهو تعالى لا يريد هدايتهم وأن الرسالة والدعوة الحقة في مقابلتها للضلال المنبسط على أهل الضلال ونسخها ما تنسخ منه من شعب السنة العامة الإِلهية في بسط الرحمة على خلقه نظير إطلاع الشمس على الأرض ونسخ الظل الممدود فيها بها، ومن المعلوم أن الخطاب المتضمن لهذه الحقيقة مما ينبغي أن يختص به صلى الله عليه وآله وسلم وخاصة من جهة سلب القدرة على الهداية عنه، وأما الكفار المتخذون إلههم هواهم وهم لا يسمعون ولا يعقلون فلا نصيب لهم فيه.
وفي قوله: { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا } رجوع إلى السياق السابق، وفي ذلك مع ذلك من إظهار العظمة والدلالة على الكبرياء ما لا يخفى.
والكلام في قوله الآتي: { وهو الذي جعلكم الليل } الخ، وقوله: { وهو الذي أرسل الرياح }، وقوله: { وهو الذي مرج البحرين }، وقوله: { وهو الذي خلق من الماء بشراً } كالكلام في قوله: { ألم ترَ إلى ربك } والكلام في قوله: { وأنزلنا من السماء ماء } الخ، وقوله: { ولقد صرّفناه بينهم }، وقوله: { ولو شئنا لبعثنا }، كالكلام في قوله: { ثم جعلنا الشمس }.
قوله تعالى: { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً } كون الليل لباساً إنما هو ستره الإِنسان بغشيان الظلمة كما يستر اللباس لابسه.
وقوله: { والنوم سباتاً } أي قطعاً للعمل، وقوله: { وجعل النهار نشوراً } أي جعل فيه الانتشار وطلب الرزق على ما ذكره الراغب في معنى اللفظتين.
وحال ستره تعالى الناس بلباس الليل وقطعهم به عن العمل والحركة ثم نشرهم للعمل والسعي بإظهار النهار وبسط النور كحال مد الظل ثم جعل الشمس عليه دليلاً وقبض الظل بها إليه.
قوله تعالى: { وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } البشر بالضم فالسكون مخفف بشر بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي هو الذي أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته وهي المطر.
وقوله: { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } أي من جهة العلو وهي جو الأرض ماء طهوراً أي بالغاً في طهارته فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره يزيل الأوساخ ويذهب بالأرجاس والأحداث - فالطهور على ما قيل صيغة مبالغة -.
قوله تعالى: { لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيّ كثيراً }، البلدة معروفة قيل: وأُريد بها المكان كما في قوله:
{ { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [الأعراف: 58]، ولذا اتصف بالميت وهو مذكر والمكان الميت ما لا نبات فيه وإحياؤه إنباته، والأناسي جمع إنسان، ومعنى الآية ظاهر.
وحال شمول الموت للأرض والحاجة إلى الشرب والري للأنعام والأناسي ثم إنزاله تعالى من السماء ماء طهوراً ليحيي به بلدة ميتاً ويسقيه أنعاماً وأناسي كثيراً من خلقه كحال مد الظل ثم الدلالة عليه بالشمس ونسخه بها كما تقدم.
قوله تعالى: { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } ظاهر إتصال الآية بما قبلها أن ضمير { صرفناه } للماء وتصريفه بينهم صرفه عن قوم إلى غيرهم تارة وعن غيرهم إليهم أُخرى فلا يدوم في نزوله على قوم فيهلكوا ولا ينقطع عن قوم دائماً فيهلكوا بل يدور بينهم حتى ينال كل نصيبه بحسب المصلحة، وقيل: المراد بالتصريف التحويل من مكان إلى مكان.
وقوله: { ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } تعليل للتصريف أي وأُقسم لقد صرّفنا الماء بتقسيمه بينهم ليتذكّروا فيشكروا فأبى وامتنع أكثر الناس إلا كفران النعمة.
قوله تعالى: { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } أي لو أردنا أن نبعث في كل قرية نذيراً ينذرهم ورسولاً يبلغهم رسالاتنا لبعثنا ولكن بعثناك إلى القرى كلها نذيراً ورسولاً لعظيم منزلتك عندنا. هكذا فسرت الآية ولا تخلو الآية التالية من تأييد لذلك، وهذا المعنى لما وجهنا به اتصال الآيات أنسب.
أو أن المراد أنّا قادرون على أن نبعث في كل قرية رسولاً وإنما اخترناك لمصلحة في اختيارك.
قوله تعالى: { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً } متفرع على معنى الآية السابقة، وضمير { به } للقرآن بشهادة سياق الآيات، والمجاهدة والجهاد بذل الجهد والطاقة في مدافعة العدو وإذ كان بالقرآن فالمراد تلاوته عليهم وبيان حقائقه لهم وإتمام حججه عليهم.
فمحصل مضمون الآية أنه إذا كان مثل الرسالة الإِلهية في رفع حجاب الجهل والغفلة المضروب على قلوب الناس بإظهار الحق لهم وإتمام الحجة عليهم مثل الشمس في الدلالة على الظل الممدود ونسخه بأمر الله، ومثل النهار بالنسبة إلى الليل وسبته، ومثل المطر بالنسبة إلى الأرض الميتة والأنعام والأناسيّ الظامئة، وقد بعثناك لتكون نذيراً لأهل القرى فلا تطع الكافرين لأن طاعتهم تبطل هذا الناموس العام المضروب للهداية. وابذل مبلغ جهدك ووسعك في تبليغ رسالتك وإتمام حجتك بالقرآن المشتمل على الدعوة الحقة وجاهدهم به مجاهدة كبيرة.
قوله تعالى: { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أُجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً } المرج الخلط ومنه أمر مريج أي مختلط، والعذب من الماء ما طاب طعمه، والفرات منه ما كثر عذوبته، والملح هو الماء المتغير طعمه. والاجاج شديد الملوحة، والبرزخ هو الحد الحاجز بين شيئين، وحجراً محجوراً أي حراماً محرماً أن يختلط أحد الماءين بالآخر.
وقوله: { وجعل بينهما } الخ قرينة على أن المراد بمرج لبحرين إرسال الماءين متقارنين لا الخلط بمعنى ضرب الأجزاء بعضها ببعض.
والكلام معطوف على ما عطف عليه قوله: { وهو الذي أرسل الرياح } الخ، وفيه تنظير لامر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة مختلطين وهما مع ذلك غير متمازجين كما تقدمت الإِشارة إليه في أول الآيات التسع.
قوله تعالى: { وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً } الصهر على ما نقل عن الخليل الختن وأهل بيت المرأة فالنسب هو التحرّم من جهة الرجل والصهر هو التحرم من جهة المرأة - كما قيل - ويؤيده المقابلة بين النسب والصهر.
وقد قيل: إن كلاً من النسب والصهر بتقدير مضاف والتقدير فجعله ذا نسب وصهر، والضمير للبشر، والمراد بالماء النطفة، وربما احتمل أن يكون المراد به مطلق الماء الذي خلق الله منه الأشياء الحية كما قال:
{ { وجعلنا من الماء كل شيء حي } } [الأنبياء: 30]. والمعنى: وهو الذي خلق من النطفة - وهي ماء واحد - بشراً فقسَّمه قسمين ذا نسب وذا صهر يعني الرجل والمرأة وهذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أن لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة والتفرق في عين الاتحاد وهكذا يحفظ اختلاف النفوس والآراء بالإِيمان والكفر مع اتحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الذي من شأنه غشيانه لولا الدعوة الحقة.
وقوله: { وكان ربك قديراً } في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب من النكتة نظير ما تقدم في قوله: { ألم ترَ إلى ربك }.
قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيراً } معطوف على قوله: { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً }. والظهير بمعنى المظاهر على ما قيل والمظاهرة المعاونة.
والمعنى: ويعبدون - هؤلاء الكفار المشركون - من دون الله ما لا ينفعهم بإيصال الخير على تقدير العبادة ولا يضرهم بإيصال الشر على تقدير ترك العبادة وكان الكافر معاوناً للشيطان على ربه.
وكون هؤلاء المعبودين وهم الأصنام ظاهراً لا ينفعون ولا يضرون لا ينافي كون عبادتهم مضرة فلا يستلزم نفي الضرر عنهم أنفسهم حيث لا يقدرون على شيء نفي الضرر عن عبادتهم المضرة المؤدية للإِنسان إلى شقاء لازم وعذاب دائم.
قوله تعالى: { وما أرسلناك إلا مبشّراً ونذيراً } أي لم نجعل لك في رسالتك إلا التبشير والإِنذار وليس لك وراء ذلك من الأمر شيء فلا عليك إن كانوا معاندين لربهم مظاهرين لعدوه عليه فليسوا بمعجزين لله وما يمكرون إلا بأنفسهم، هذا هو الذي يعطيه السياق.
وعليه فقوله: { وما أرسلناك إلا مبشّراً ونذيراً } هذا الفصل من الكلام نظير قوله: { أفأنت تكون عليه وكيلاً } في الفصل السابق.
ومنه يظهر أن أخذ بعضهم الآية تسلية منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال والمراد ما أرسلناك إلا مبشّراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم. غير سديد.
قوله تعالى: { قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } ضمير { عليه } للقرآن بما أن تلاوته عليهم تبلغ للرسالة كما قال تعالى:
{ { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } [الإنسان: 29]ٍ، وقال: { { قل ما أسألكم عليه أجراً وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين } } [ص: 86ـ87]. وقوله: { إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } استثناء منقطع في معنى المتصل فإنه في معنى إلا أن يتخذ إلى ربه سبيلاً من شاء ذلك على حد قوله تعالى: { { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [الشعراء: 88ـ89]، أي إلا أن يأتي الله بقلب سليم من أتاه به.
ففيه وضع الفاعل وهو من اتخذ السبيل موضع فعله وهو اتخاذ السبيل شكراً له ففي الكلام عدَّ اتخاذهم سبيلاً إلى الله سبحانه باستجابة الدعوة أجراً لنفسه ففيه تلويح إلى نهاية استغنائه عن أجر مالي أو جاهي منهم، وأنه لا يريد منهم وراء استجابتهم للدعوة واتباعهم للحق شيئاً آخر من مال أو جاه أو أي أجر مفروض فليطيبوا نفساً ولا يتهموه في نصيحته.
وقد علَّق اتخاذ السبيل على مشيتهم للدلالة على حريتهم الكاملة عن قبله صلى الله عليه وآله وسلم فلا إكراه ولا إجبار إذ لا وظيفة له عن قبل ربه وراء التبشير والإِنذار وليس عليهم بوكيل بل الأمر إلى الله يحكم فيهم ما يشاء.
فقوله: { قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ } الخ بعد ما سجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ليس له إلا الرسالة بالتبشير والإِنذار يأمره أن يبلغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلا أن يستجيبوا له ويتخذوا إلى ربهم سبيلاً من غير غرض زائد من الاجر أياً ما كان، وأن لهم الخيرة في أمرهم من غير أي إجبار وإكراه فهم والدعوة إن شاءوا فليؤمنوا وإن شاءوا فليكفروا.
هذا ما يرجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم وهو تبليغ الرسالة فحسب من غير طمع في أجر ولا تحميل عليهم بإكراه أو انتقام منهم بنكال، وأما ما وراء ذلك فهو لله فليرجعه إليه وليتوكل عليه كما أشار إليه في الآية التالية: { وتوكل على الحي الذي لا يموت }.
وذكر جمهور المفسرين أن الاستثناء منقطع، والمعنى لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً أي بالإِنفاق القائم مقام الأجر كالصدقة والإِنفاق في سبيل الله فليفعل، وهو ضعيف لا دليل عليه لا من جهة لفظ الجملة ولا من جهة السياق.
وقال بعضهم: إنه متصل والكلام بحذف مضاف والتقدير إلا فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً بالإِيمان والطاعة حسبما أدعو إليهما. وفيه أخذ استجابتهم له أجراً لنفسه وقطعاً لشائبة الطمع بالكلية وتطييباً لأنفسهم، ويرجع هذا الوجه بحسب المعنى إلى ما قدمناه ويمتاز منه بتقدير مضاف والتقدير خلاف الأصل.
وقال آخرون: إنه متصل بتقدير مضاف والتقدير لا أسألكم عليه من أجر إلا أجر من شاء "الخ" أي إلا الأجر الحاصل لي من إيمانه فإن الدال على الخير كفاعله. وفيه أن مقتضى هذا المعنى أن يقال: إلا من اتخذ إلى ربه سبيلاً فلا حاجة إلى تعليق الاتخاذ بالمشيئة والأجر إنما يترتب على العمل دون مشيئته.
قوله تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبّح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً } لما سجل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ليس له من أمرهم شيء إلا الرسالة وأمره أن يبلغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلا الاستجابة لها وأنهم على خيرة من أمرهم إن شاءوا آمنوا وإن شاءوا كفروا تمم ذلك بأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذ تعالى وكيلاً في أمرهم فهو تعالى عليهم وعلى كل شيء وكيل وبذنوب عباده خبير.
فقوله: { وتوكل على الحي الذي لا يموت } أي اتخذه وكيلاً في أمرهم يحكم فيهم ما يشاء ويفعل بهم ما يريد فإنه الوكيل عليهم وعلى كل شيء وقد عدل عن تعليق التوكل بالله إلى تعليقه بالحي الذي لا يموت ليفيد التعليل فإن الحي الذي لا يموت لا يفوته فائت فهو المتعين لأن يكون وكيلاً.
وقوله: { وسبّح بحمده } أي نزهه عن العجز والجهل وكل ما لا يليق بساحة قدسه مقارناً ذلك للثناء عليه بالجميل فإن أمهلهم واستدرجهم بنعمه فليس عن عجز فعل بهم ذلك ولا عن جهل بذنوبهم وإن أخذهم بذنوبهم فبحكمة اقتضته وباستحقاق منهم استدعى ذلك فسبحانه وبحمده.
وقوله: { وكفى به بذنوب عباده خبيراً } مسوق للدلالة على توحيده في فعله وصفته فهو الوكيل المتصرف في أُمور عباده وحده وهو خبير بذنوبهم وحاكم فيهم وحده من غير حاجة إلى من يعينه في علمه أو في حكمه.
ومن هنا يظهر أن الآية التالية: { الذي خلق السماوات والأرض } متممة لقوله: { وتوكل على الحي الذي لا يموت } الخ، لاشتمالها على توحيده في ملكه وتصرفه كما يشتمل قوله: { وكفى به } الخ على علمه وخبرته وبالحياة والملك والعلم معاً يتم معنى الوكالة وسنشير إليه.
قوله تعالى: { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً } ظاهر السياق أن الموصول صفة لقوله في الآية السابقة: { الحي الذي لا يموت } وبهذه الآية تم البيان في قوله: { وتوكل على الحي الذي لا يموت } فإن الوكالة كما تتوقف على حياة الوكيل تتوقف على العلم، وقد ذكره في قوله: { وكفى به بذنوب عباده خبيراً } وتتوقف على السلطنة على الحكم والتصرف وهو الذي تتضمنه هذه الآية بما فيها من حديث خلق السماوات والأرض والاستواء على العرش.
وقد تقدم تفسير صدر الآية في مواضع من السور السابقة، وأما قوله: { الرحمن فاسأل به خبيراً } فالذي يعطيه السياق ويهدي إليه النظم أن يكون الرحمن خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير هو الرحمن، وقوله: { فاسأل } متفرّعاً عليه والفاء للتفريع، والباء في قوله: { به } للتعدية مع تضمين السؤال معنى الاعتناء. وقوله: { خبيراً } حال من الضمير.
والمعنى: هو الرحمن - الذي استوى على عرش الملك والذي برحمته وإفاضته يقوم الخلق والأمر ومنه يبتدي كل شيء وإليه يرجع - فاسأله عن حقيقة الحال يخبرك بها فإنه خبير.
فقوله: { فاسأل به خبيراً } كناية عن أن الذي أخبر به حقيقة الأمر التي لا معدل عنها وهذا كما يقول من سئل عن أمر: سلني أُجبك إن كذا وكذا ومن هذا الباب قولهم: على الخبير سقطت.
ولهم في قوله: { الرحمن فاسأل به خبيراً } أقوال أُخرى كثيرة: فقيل: إن الرحمن مرفوع على القطع للمدح، وقيل: مبتدأ خبره قوله: { فاسأل به }، وقيل: خبر مبتدؤه { الذي } في صدر الآية، وقيل: بدل من الضمير المستكن في { استوى }.
وقيل في { فاسأل به } إنه خبر للرحمن كما تقدم والفاء فصيحة، وقيل: جملة مستقلة متفرعة على ما قبلها والفاء للتفريع ثم الباء في { به } للصلة أو بمعنى عن والضمير راجع إليه تعالى أو إلى ما تقدم من الخلق والاستواء.
وقيل: { خبيراً } حال عن الضمير وهو راجع إليه تعالى، والمعنى فاسأل الله حال كونه خبيراً، وقيل: مفعول فاسأل والباء بمعنى عن والمعنى فاسأل عن الرحمن أو عن حديث الخلق والاستواء خبيراً، والمراد بالخبير هو الله سبحانه، وقيل جبريل وقيل: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قيل: من قرأ الكتب السماوية القديمة ووقف على صفاته وأفعاله تعالى وكيفية الخلق والإِيجاد، وقيل: كل من كان له وقوف على هذه الحقائق.
وهذه الوجوه المتشتتة جلها أو كلها لا تلائم ما يعطيه سياق الآيات الكريمة ولا موجب للتكلم عليها والغور فيها.
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً } هذا فصل آخر من معاملتهم السوء مع الرسول ودعوته الحقة يذكر فيه استكبارهم عن السجود لله سبحانه إذا دعوا إليه ونفورهم منه وللآية اتصال خاص بما قبلها من حيث ذكر الرحمن فيها وقد وصف في الآية السابقة بما وصف ولعل اللام فيه للعهد.
فقوله: { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن } الضمير للكفار، والقائل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله بعد: { أنسجد لما تأمرنا } ولم يذكر اسمه ليتوجه استكبارهم إلى الله سبحانه وحده.
وقوله: { قالوا وما الرحمن } سؤال منهم عن هويته ومائيته مبالغة منهم في التجاهل به استكباراً منهم على الله ولولا ذلك لقالوا: ومن الرحمن، وهذا كقول فرعون لموسى لما دعاه إلى رب العالمين:
{ { وما رب العالمين } [الشعراء: 23]، وقول إبراهيم لقومه: { { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } [الأنبياء: 52]، ومراد السائل في مثل هذا السؤال أنه لا معرفة له من المسؤول عنه بشيء أزيد من اسمه كقول هود لقومه: { { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } } [الأعراف: 71]. وقوله حكاية عنهم: { أنسجد لما تأمرنا } في تكرار التعبير عنه تعالى بما إصرار على الاستكبار، والتعبير عن طلبه عنهم السجدة بالأمر لا يخلو من تهكم واستهزاء.
وقوله: { وزادهم نفوراً } معطوف على جواب إذا والمعنى: وإذا قيل لهم اسجدوا استكبروا وزادهم ذلك نفوراً ففاعل (زادهم) ضمير راجع إلى القول المفهوم من سابق الكلام.
وقول بعضهم: إن الفاعل ضمير راجع إلى السجود بناء على ما رووا أنه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين ليس بسديد فإن وقوع واقعة ما لا يؤثر في دلالة اللفظ ما لم يتعرض له لفظاً. ولا تعرّض في الآية لهذه القصة أصلاً.
قوله تعالى: { تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً } الظاهر أن المراد بالبروج منازل الشمس والقمر من السماء أو الكواكب التي عليها كما تقدم في قوله:
{ { ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيّناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم } [الحجر: 16ـ17]، وإنما خصّت بالذكر في الآية للإِشارة إلى الحفظ والرجم المذكورين.
والمراد بالسراج الشمس بدليل قوله:
{ { وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً } } [نوح: 16]. وقد قرروا الآية أنها احتجاج بوحدة التدبير العجيب السماوي والأرضي على وحدة المدبّر فيجب التوجه بالعبادات إليه وصرف الوجه عن غيره.
والتدبر في اتصال الآيتين بما قبلهما وسياق الآيات لا يساعد عليه لأن مضمون الآية السابقة من استكبارهم على الرحمن إذا أُمروا بالسجود له واستهزائهم بالرسول لا نسبة كافية بينه وبين الاحتجاج على توحيد الربوبية حتى يعقَّب به، وإنما المناسب لهذا المعنى إظهار العزة والغنى وأنهم غير معجزين لله بفعالهم هذا ولا خارجون عن ملكه وسلطانه.
والذي يعطيه التدبر أن قوله: { تبارك الذي جعل في السماء بروجاً } الخ، مسوق سوق التعزز والاستغناء، وأنهم غير معجزين باستكبارهم على الله واستهزائهم بالرسول بل هؤلاء ممنوعون عن الاقتراب من حضرة قربه والصعود إلى سماء جواره والمعارف الإِلهية مضيئة مع ذلك لأهله وعباده بما نوّرها الله سبحانه بنور هدايته وهو نور الرسالة.
وعلى هذا فقد أثنى الله سبحانه على نفسه بذكر تباركه بجعل البروج المحفوظة الراجمة للشياطين بالشهب في السماء المحسوسة وجعل الشمس المضيئة والقمر المنير فيها لإِضاءة العالم المحسوس، وأشار بذلك إلى ما يناظره في الحقيقة من إضاءة العالم الإِنساني بنور الهداية من الرسالة ليتبصر به عباده، كما يذكر حالهم بعد هذه الآيات ودفع أولياء الشياطين عن الصعود إليه بما هيّأ لدفعهم من بروج محفوظة راجمة.
هذا ما يعطيه السياق وعلى هذا النمط من البيان سيقت هذه الآيات والتي قبلها كما تقدمت الإِشارة إليه في تفسير قوله: { ألم ترَ إلى ربك كيف مدَّ الظل } فليس ما ذكرناه من التأويل بمعنى صرف الآيات عن ظاهرها.
قوله تعالى: { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً } الخلفة هي الشيء يسدّ مسدّ شيء آخر وبالعكس وكأنه بناء نوع أُريد به معنى الوصف فكون الليل والنهار خلفة أن كلاً منهما يخلف الآخر، وتقييد الخلفة بقوله: { لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً } للدلالة على نيابة كل منهما عن الآخر في التذكر والشكر.
والمقابلة بين التذكر والشكر يعطي أن المراد بالتذكر الرجوع إلى ما يعرفه الإِنسان بفطرته من الحجج الدالة على توحيد ربه وما يليق به تعالى من الصفات والأسماء وغايته الإِيمان بالله، وبالشكور القول أو الفعل الذي يُنبئ عن الثناء عليه بجميل ما أنعم، وينطبق على عبادته وما يلحق بها من صالح العمل.
وعلى هذا فالآية اعتزاز أو امتنان بجعله تعالى الليل والنهار بحيث يخلف كل صاحبه فمن فاته الإِيمان به في هذه البرهة من الزمان تداركه في البرهة الأخرى منه، ومن لم يوفّق لعبادة أو لأي عمل صالح في شيء منهما أتى به في الآخر.
هذا ما تفيده الآية ولها مع ذلك ارتباط بقوله في الآية السابقة: { وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً } ففيه إشارة إلى أن الله سبحانه وإن دفع أُولئك المستكبرين عن الصعود إلى ساحة قربه لكنه لم يمنع عباده عن التقرب إليه والاستضاءة بنوره فجعل نهاراً ذا شمس طالعة وليلاً ذا قمر منير وهما ذوا خلفة من فاته ذكر أو شكر في أحدهما أتى به في الآخر.
وفسَّر بعضهم التذكر بصلاة الفريضة والشكور بالنافلة والآية تقبل الانطباق على ذلك وإن لم يتعين حملها عليه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متَّبع"
]. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: { ألم ترَ إلى ربك كيف مدّ الظل } فقال: الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وفي المجمع في قوله تعالى: { وهو الذي خلق من الماء } الآية، قال ابن سيرين: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب زوج فاطمة علياً فهو ابن عمه وزوج ابنته فكان نسباً وصهراً.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { وكان الكافر على ربه ظهيراً } يعني أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل بن هشام.
أقول: والروايتان بالجري والتطبيق أشبه.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: { تبارك الذي جعل في السماء بروجاً } فالبروج الكواكب والبروج التي للربيع والصيف الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة، وبروج الخريف والشتاء: الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وهي اثنا عشر برجاً.
وفي الفقيه قال الصادق عليه السلام: كلما فاتك بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك وتعالى: { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً } يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار وما فاته بالنهار بالليل.