خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٤٣
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ
٤٤
وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
٤٥
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٤٦
وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٧
فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
٤٨
قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٩
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٠
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٥١
ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ
٥٢
وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ
٥٣
أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٥٤
وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ
٥٥
إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
٥٦
-القصص

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
سياق الآيات يشهد أن المشركين من قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجعوا بعض أهل الكتاب واستفتوهم في أمره صلى الله عليه وآله وسلم وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه وهو مصدق للتوراة فأجابوا بتصديقه والإِيمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة وأنهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى: { وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين }.
فساء المشركين ذلك وشاجروهم وأغلظوا عليهم في القول وقالوا: إن القرآن سحر والتوراة سحر مثله { سحران تظاهرا } { وإنا بكل كافرون } فأعرض الكتابيون عنهم وقالوا: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
هذا ما يلوح إليه الآيات الكريمة بسياقها، وهو سبحانه لما ساق قصة موسى عليه السلام وأنبأ أنه كيف أظهر قوماً مستضعفين معبدين معذبين يذبح أبناؤهم وتستحيى نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم ربَّاه في حجر عدوه الذي يذبح بأمره الأُلوف من أبنائهم ثم أخرجه لما نشأ من بينهم ثم بعثه وردّه إليهم وأظهره عليهم حتى أغرقهم أجمعين وأنجا شعب إسرائيل فكانوا هم الوارثين.
عطف القول على الكتاب السماوي الذي هو المتضمن للدعوة وبه تتم الحجة وهو الحامل للتذكرة فذكر أنه أنزل التوراة على موسى عليه السلام فيه بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الأُولى بمعاصيهم.
وكذا أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وقص عليه قصص موسى عليه السلام ولم يكن هو شاهداً لنزول التوراة عليه ولا حاضراً في الطور لما ناداه وكلمه، وقص عليه ما جرى بين موسى وشعيب عليهما السلام ولم يكن هو ثاوياً في مدين يتلو عليهم آياته ولكن أنزله وقص عليه ما قصه رحمة منه لينذر به قوماً ما أتاهم من نذير من قبله لأنهم بسبب كفرهم وفسوقهم في معرض نزول العذاب وإصابة المصيبة فلو لم ينزل الكتاب ولم يبلغ الدعوة لقالوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك وكانت الحجة لهم على الله سبحانه.
فلما جاءهم الحق من عنده ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن قالوا: لولا أُوتي مثل ما أُوتي موسى أو لم يكفروا بما أُوتي موسى من قبل حين راجعوا أهل الكتاب في أمره فصدقوه فقال المشركون: سحران تظاهرا يعنون التوراة والقرآن، وقالوا إنَّا بكل كافرون.
ثم لقن سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة عليهم بقوله: { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين } أي إن من الواجب في حكمة الله أن يكون هناك كتاب نازل من عند الله يهدي إلى الحق وتتم به الحجة على الناس وهم يعرفون فإن لم تكن التوراة والقرآن كتابي هدى وكافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى منهما وليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقة مؤيدة بالإِعجاز وبدلالة البراهين العقلية. على أنه ليس هناك كتاب سماوي هو أهدى منهما فالكتابان كتابا هدى والقوم في الإِعراض عنهما متبعون للهوى ضالون عن الصراط المستقيم وهو قوله: { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } الخ.
ثم مدح سبحانه قوماً من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن فأظهروا لهم الإِيمان والتصديق وأعرضوا عن لغو القول الذي جبهوهم به.
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأُولى بصائر للناس } الخ، اللام للقسَم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة بوحيه إليه.
وقوله: { من بعد ما أهلكنا القرون الأُولى } أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح ومن بعدهم من الأُمم الهالكة ولعل منهم قوم فرعون، وفي هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لا ندراس معالم الدين الإِلهي بمضيّ الماضين وليشار في الكتاب الإِلهي إلى قصصهم وحلول العذاب الإِلهي بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون ويتذكر به المتذكرون.
وقوله: { بصائر للناس } جمع بصيرة بمعنى ما يبصر به، وكأن المراد بها الحجج البيّنة التي يبصّر بها الحق ويميّز بها بينه وبين الباطل، وهي حال من الكتاب وقيل: مفعول له.
وقوله: { وهدى } بمعنى الهادي أو ما يهتدى به وكذا قوله: { ورحمة } بمعنى ما يرحم به وهما حالان من الكتاب كبصائر، وقيل: كل منهما مفعول له.
والمعنى: وأُقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة من بعد ما أهلكنا الأجيال الأُولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة والإِنذار حال كون الكتاب حججاً بيّنة يبصر بها الناس المعارف الحقة وهدى يهتدون به إليها { ورحمة } يرحمون بسبب العمل بشرائعه وأحكامه { لعلهم يتذكرون } فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد والعمل.
قوله تعالى: { وما كنت بجانب الغربيّ إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين } الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والغربي صفة محذوفة الموصوف والمراد جانب الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي.
وقوله: { إذ قضينا إلى موسى الأمر } كأن القضاء مضمّن معنى العهد، والمراد بعهد الأمر إليه - على ما قيل - إحكام أمر نبوّته بإنزال التوراة إليه وأما العهد إليه بأصل الرسالة فيدلّ عليه قوله بعد: { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } وقوله: { وما كنت من الشاهدين } تأكيد لسابقه.
والمعنى: وما كنت حاضراً وشاهداً حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربي من الوادي أو الجبل.
قوله تعالى: { ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر } تطاول العمر تمادي الأمد والجملة استدراك عن النفي في قوله: { وما كنت بجانب الغربي }، والمعنى: ما كنت حاضراً هناك شاهداً لما جرى فيه ولكنا أوجدنا أجيالاً بعده فتمادى بهم الأمد ثم أنزلنا عليك قصته وخبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام إيجاز بالحذف لدلالة المقام عليه.
قوله تعالى: { وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين } الثاوي المقيم يقال: ثوى في المكان إذا أقام فيه، والضمير في { عليهم } لمشركي مكة الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو عليهم آيات الله التي تقصّ ما جرى على موسى عليه السلام في مدين زمن كونه فيه.
وقوله: { ولكنا كنا مرسلين } استدراك من النفي في صدر الأية.
والمعنى: وما كنت مقيماً في أهل مدين - وهم شعيب وقومه - مشاهداً لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصّة لخبره هناك ولكنا كنا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم.
قوله تعالى: { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك } إلى آخر الآية، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق: { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا } الخ، أن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التي آنس فيها من جانب الطور ناراً.
وقوله: { ولكن رحمة من ربك } الخ، استدراك عن النفي السابق، والظاهر أن { رحمة } مفعول له، والالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: { من ربك } للدلالة على كمال عنايته تعالى به صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } الظاهر أن المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبوية أو هم ومن يقارنهم من آبائهم فإن العرب خلت فيهم رسل منهم كهود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم السلام.
والمعنى: وما كنت حاضراً في جانب الطور إذ نادينا موسى وكلَّمناه واخترناه للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة إخبار الحاضر المشاهد ولكن لرحمة منا أخبرناك بها لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك { لعلهم يتذكرون }.
قوله تعالى: { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدَّمت أيديهم فيقولوا ربنا } الخ، المراد بما قدّمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد والعمل بدليل ذيل الآية، والمراد بالمصيبة التي تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا والآخرة فإن الإِعراض عن الحق بالكفر والفسوق يستتبع المؤاخذة الإِلهية في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة، وقد تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله:
{ { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [الأعراف: 96] وغيره.
وقوله: { فيقولوا ربنا لولا أرسلت } متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم إرسال الرسول وجواب لولا محذوف لظهوره والتقدير: لما أرسلنا رسولاً.
ومحصّل المعنى: أنه لولا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم إرسال الرسول وأخذهم بالعذاب بما قدَّمت أيديهم من الكفر والفسوق لما أرسلنا إليهم رسولاً لكنهم يقولون ربنا لولا أرسلت { إلينا رسولاً فنتّبع آياتك } التي يتلوها علينا { ونكون من المؤمنين }.
قوله تعالى: { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أُوتي مثل ما أُوتي موسى } الخ، أي فارسلنا إليهم الرسول بالحق وأنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا والظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول وهو القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والمراد بقولهم: { لولا أُوتي مثل ما أُوتي موسى } أي لولا أُوتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل التوراة التي أُوتيها موسى عليه السلام، وكأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله:
{ { وقال الذين كفروا لولا نزَّل عليه القرآن جملة واحدة } } [الفرقان: 32]. وقد أجاب الله عن قولهم بقوله: { أو لم يكفروا بما أُوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا } يعنون القرآن والتوراة { وقالوا إنا بكل كافرون }. والفرق بين القولين أن الأول كفر بالكتابين والثاني كفر بأصل النبوة ولعله الوجه لتكرار { قالوا } في الكلام.
قوله تعالى: { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعه إن كنتم صادقين } تفريع على كون القرآن والتوراة سحرين تظاهرا، ولا يصح هذا التفريع إلا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم ويجب عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما، وهو كذلك على ما تبين بقوله: { ولولا أن تصيبهم مصيبة } الخ، أن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب ويرسل إليهم الرسول، ولذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتّبعه.
ثم الكتابان لو كانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلّين لا هدى فيهما حتى يكون غيرهما من الكتاب الذي يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضّل والمفضل عليه في أصل الوصف - لكن المقام لما كان مقام المحاجة أدعى أن الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فإن لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما.
والقرآن الكريم وإن كان يصرّح بتسرّب التحريف والخلل في التوراة الحاضرة وذلك لا يلائم عدّها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة على موسى عليه السلام وهي التي يصدقها القرآن.
على أن موضوع الكلام هما معاً والقرآن يقوّم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معاً هدى لا كتاب أهدى منهما.
وقوله: { إن كنتم صادقين } أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا.
قوله تعالى: { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتّبعون أهواءهم } إلى آخر الآية، الاستجابة والإِجابة بمعنى واحد، قال في الكشاف: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه والى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب فيقال: استجاب الله دعاءه أو استجاب له، ولا يكاد يُقال: استجاب له دعاءه. انتهى.
فقوله: { فإن لم يستجيبوا لك } تفريع على قوله: { قل فأتوا بكتاب هو أهدى منهما أتّبعه } أي فإن قلت لهم كذا وكلّفتهم بذالك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن والتوراة وتعيّن أن لا هدى أتمَّ وأكمل من هداهما وهم مع ذلك يرمونهما بالسحر ويعرضون عنهما فاعلم أنهم ليسوا في طلب الحق ولا بصدد اتباع ما هو صريح حجّة العقل وإنما يتبعون أهواءهم ويدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل: { سحران تظاهرا } { إنا بكل كافرون }.
ويمكن أن يكون المراد بقوله: { إنما يتّبعون أهواءهم } إنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما وهم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم إنما يبنون سنة الحياة على اتّباع الأهواء ولا يعتقدون بأصل النبوة وأن لله ديناً سماوياً نازلاً عليهم من طريق الوحي وعليهم أن يتّبعوه ويسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم، وربما أيد هذا المعنى قوله بعد: { ومن أضل ممن اتّبع هواه بغير هدى من الله } الخ.
وقوله: { ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدى من الله } استفهام إنكاري والمراد به استنتاج أنهم ضالون، وقوله: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } تعليل لكونهم ضالين باتباع الهوى فإن اتّباع الهوى إعراض عن الحق وانحراف عن صراط الرشد وذلك ظلم والله لا يهدي القوم الظالمين وغير المهتدي هو الضال.
ومحصل الحجة أنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما وليسوا مؤمنين بهما فهم متبعون للهوى، ومتبع الهوى ظالم والظالم غير مهتد وغير المهتدي ضال فهم ضالون.
قوله تعالى: { ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون } التوصيل تفعيل من الوصل يفيد التكثير كالقطع والتقطيع والقتل والتقتيل، والضمير لمشركي مكة والمعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولاً بعضه ببعض: الآية بعد الآية، والسورة إثر السورة من وعد ووعيد ومعارف وأحكام وقصص وعبر وحكم ومواعظ لعلهم يتذكرون.
قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } الضميران للقرآن وقيل: للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. والأول أوفق للسياق، وفي الآية وما بعدها مدح طائفة من مؤمني أهل الكتاب بعد ما تقدم في الآيات السابقة من ذم المشركين من أهل مكة.
وسياق ذيل الآيات يشهد على أن هؤلاء الممدوحين طائفة خاصة من أهل الكتاب آمنوا به فلا يعبأ بما قيل أن المراد بهم مطلق المؤمنين منهم.
قوله تعالى: { وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا } الخ، ضمائر الإِفراد للقرآن، واللام في { الحق } للعهد والمعنى وإذا يقرأ القرآن عليهم قالوا: آمنا به إنه الحق الذي نعهده من ربنا فإنه عرفناه من قبل.
وقوله: { إنا كنا من قبله مسلمين } تعليل لكونه حقاً معهوداً عندهم أي إنا كنا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الذي يدعو إليه ويسميه إسلاماً.
وقيل: الضميران للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما تقدم أوفق للسياق، وكيف كان فهم يعنون بذلك ما قرؤه في كتبهم من أوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب النازل عليه كما يشير إليه قوله تعالى:
{ { الذين يتبعون الرسول النبي الأُمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل } [الأعراف: 157]، وقوله: { { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } } [الشعراء: 197]. قوله تعالى: { أُولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة } الخ في الآية وعد جميل لهم على ما فعلوا ومدح لهم على حسن سلوكهم ومداراتهم مع جهلة المشركين ولذا كان الأقرب إلى الفهم أن يكون المراد بإيتائهم أجرهم مرتين إيتاؤهم أجر الإِيمان بكتابهم وأجر الإِيمان بالقرآن وصبرهم على الإِيمان بعد الإِيمان بما فيهما من كلفة مخالفة الهوى.
وقيل: المراد إيتاؤهم الأجر بما صبروا على دينهم وعلى أذى الكفار وتحمّل المشاق وقد عرفت ما يؤيده السياق.
وقوله: { ويدرؤن بالحسنة السيئة } الخ الدرء الدفع، والمراد بالحسنة والسيئة قيل: الكلام الحسن والكلام القبيح، وقيل: العمل الحسن والسيء وهما المعروف والمنكر، وقيل: الخلق الحسن والسيء وهما الحلم والجهل، وسياق الآيات أوفق للمعنى الأخير فيرجع المعنى إلى أنهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمداراة، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } الخ، المراد باللغو لغو الكلام بدليل تعلقه بالسمع، والمراد سقط القول الذي لا ينبغي الاشتغال به من هذر أو سبّ وكل ما فيه خشونة، ولذا لما سمعوه أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم وهو متاركة، وقوله: { سلام عليكم } أي أمان منا لكم، وهو أيضاً متاركة وتوديع تكرّماً كما قال تعالى: { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً }.
وقوله: { لا نبتغي الجاهلين } أي لا نطلبهم بمعاشرة ومجالسة، وفيه تأكيد لما تقدمه، وهو حكاية عن لسان حالهم إذ لو تلفظوا به لكان من مقابلة السيىء بالسيىء.
قوله تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } المراد بالهداية الإِيصال إلى المطلوب ومرجعه إلى إفاضة الإِيمان على القلب ومعلوم أنه من شأنه تعالى لا يشاركه فيه أحد، وليس المراد بها إراءة الطريق فإنه من وضيفة الرسول لا معنى لنفيه عنه، والمراد بالاهتداء قبول الهداية.
لما بيّن في الآيات السابقة حرمان المشركين وهم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نعمة الهداية وضلالهم باتباع الهوى واستكبارهم عن الحق النازل عليهم وإيمان أهل الكتاب به واعترافهم بالحق ختم القول في هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية إلى الله لا إليك يهدي هؤلاء وهم من غير قومك الذين تدعوهم ولا يهدي هؤلاء وهم قومك الذين تحب اهتداءهم وهو أعلم بالمهتدين.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ما أهلك الله قوماً ولا قرناً ولا أُمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة. ألم ترَ إلى قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأُولى }"
]؟. أقول: وفي دلالة الآية على الإِهلاك بخصوص العذاب السماوي ثم انقطاعه بنزول التوراة خفاء.
وفيه في قوله تعالى: { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } الآية، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما قرّب الله موسى إلى طور سيناء نجيّاً قال: أي رب هل أحد أكرم عليك مني؟ قرّبتني نجيّاً وكلَّمتني تكليماً. قال: نعم، محمد أكرم عليَّ منك. قال: فإن كان محمد أكرم عليك مني فهل أُمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت لهم البحر وأنجيتهم من فرعون وعمله وأطعمتهم المنّ والسلوى. قال: نعم، أُمة محمد أكرم عليَّ من بني إسرائيل. قال: إلهي أرِنيهم. قال: إنك لن تراهم وإن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم إلهي.
فنادى ربنا أُمة محمد: أجيبوا ربكم، فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أُمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبَّيك أنت ربنا حقاً ونحن عبيدك حقاً. قال: صدقتم وأنا ربكم وأنتم عبيدي حقاً قد غفرت لكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة.
قال ابن عباس: فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يمنّ عليه بما أعطاه وبما أعطى أُمته فقال: يا محمد { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا }.
أقول: ورواه فيه أيضاً بطرق أُخرى عن غيره، وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق في العيون عن الرضا عليه السلام لكن حمل الآية على هذا المعنى يوجب اختلال السياق وفساد ارتباط الجمل المتقدمة والمتأخره بعضها ببعض.
وفي البصائر بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: { ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدى من الله } يعني من اتخذ دينه هواه بغير هدى من أئمة الهدى.
أقول: وروى مثله بإسناده عن المعلّى عن أبي عبد الله عليه السلام وهو من الجري أو من البطن.
وفي المجمع في قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب } الآيات، نزل قوله: { الذين آتيناهم الكتاب } وما بعده في عبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود والعبدي وسلمان الفارسي فإنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات. عن قتادة.
وقيل: نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإِنجيل كانوا مسلمين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه إثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه وثمانية قدموا من الشام منهم بحيرا وأبرهة والأشرف وأيمن وإدريس ونافع وتميم.
أقول: وروي غير ذلك.
وفيه في معنى قوله تعالى: { ويدرؤن بالحسنة السيئة } وقيل: يدفعون بالحلم جهل الجاهل. عن يحيى بن سلام، ومعناه يدفعون بالمداراة مع الناس أذاهم عن أنفسهم، وروي مثل ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عماه قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لولا أن يعيرني قريش يقولون ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عليك فأنزل الله عليه: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين }.
أقول: وروى ما في معناه عن ابن عمر وابن المسيّب وغيرهما، وروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام مستفيضة على إيمانه والمنقول من اشعار مشحون بالإِقرار على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقّية دينه، وهو الذي آوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صغيراً وحماه بعد البعثه وقبل الهجرة فقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين والأنصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة.