خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
٢
وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ
٣
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٤
مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٥
وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ
٦
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٧
وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ
٩
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلْعَالَمِينَ
١٠
وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ
١١
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١٢
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
١٣
-العنكبوت

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
يلوح من سياق آيات السورة وخاصة ما في صدرها من الآيات أن بعضاً ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة رجع عنه خوفاً من فتنة كانت تهدّده من قِبل المشركين فإن المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملّتهم ويضمنون لهم أن يحملوا خطاياهم إن اتَّبعوا سبيلهم فإن أبوا فتنوهم وعذَّبوهم ليعيدوهم إلى ملّتهم.
يشير إلى ذلك قوله تعالى: { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتَّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } الآية، وقوله: { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } الآية.
وكأن في هؤلاء الراجعين عن إيمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن يرجع وإلحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشم من قوله تعالى: { ووصينا الإِنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } الآية، وقد نزلت السورة في شأن هؤلاء.
فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها وختامها والسياق الجاري فيها أن الذي يريده الله سبحانه من الإِيمان ليس هو مجرد قولهم: آمنا بالله بل هو حقيقة الإِيمان التي لا تحركها عواصف الفتن ولا تغيّرها غِيَر الزمن وهي إنما تتثبّت وتستقر بتوارد الفتن وتراكم المحن، فالناس غير متروكين بمجرد أن يقولوا: آمنا بالله دون أن يفتنوا ويمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الإِيمان أو وصمة الكفر فليعلمن الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
فالفتنة والمحنة سنَّة إلهية لا معدل عنها تجري في الناس الحاضرين كما جرت في الأُمم الماضين كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم ولوط وشعيب وموسى فاستقام منهم من استقام وهلك منهم من هلك وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على إيمانه ويعبد الله وحده فإن تعذّر عليه القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة ولا يخف عسر المعاش فإن الرزق على الله وكأيّن من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياه.
وأما المشركون الذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه إلا أن يقولوا ربنا الله فلا يحسبوا أنهم يعجزون الله ويسبقونه فأما فتنتهم للمؤمنين وإيذاؤهم وتعذيبهم فإنما هي فتنة لهم وللمؤمنين غير خارجة عن علم الله وتقديره، فهي فتنة وهي محفوظة عليهم إن شاء أخذهم بوبالها في الدنيا وإن شاء أخّرهم إلى يوم يرجعون فيه إليه وما لهم من محيص.
وأما ما لفَّقوه من الحجة وركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم والحجة قائمة تامة عليهم.
فهذا محصّل غرض السورة ومقتضى ذلك كون السورة كلها مكية، وقول القائل: إنها مدنية كلها أو معظمها أو بعضها - وسيجيء في البحث الروائي التالي - غير سديد، فمضامين آيات السورة لا تلائم إلا زمن العسرة والشدة قبل الهجرة.
قوله تعالى: { الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } الحسبان هو الظن، وجملة { أن يتركوا } قائمة مقام مفعوليه، وقوله: { أن يقولوا } بتقدير باء السببية، والفتنة الامتحان وربما تطلق على المصيبة والعذاب، والأوفق للسياق هو المعنى الأول، والاستفهام للإِنكار.
والمعنى: أظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم ولا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم أو كذبهم في دعوى الإِيمان بمجرد قولهم: آمنا؟.
وقيل: المعنى: أظن الناس أن يتركوا فلا يبتلوا ببليَّة ولا تصيبهم مصيبة لقولهم: آمنا بأن تكون لهم على الله كرامة بسبب الإِيمان يسلموا بها من كل مكروه يصيب الإِنسان مدى حياته؟ ولا يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الآيات.
قوله تعالى: { ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } اللامان للقسم، وقوله: { ولقد فتنا الذين من قبلهم } حال من الناس في قوله: { أحسب الناس } أو من ضمير الجمع في قوله { لا يفتنون } وعلى الأول فالإِنكار والتوبيخ متوجه إلى ظنهم أنهم لا يفتنون مع جريان السنة الإِلهية على الفتنة والامتحان وعلى الثاني إلى ظنهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوماً ولا يفتن آخرين، ولعل الوجه الأول أوفق للسياق.
فالظاهر أن المراد بقوله: { ولقد فتنا الذين من قبلهم } أن الفتنة والامتحان سنة جارية لنا وقد جرت في الذين من قبلهم وهي جارية فيهم ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وقوله: { فليعلمن الله الذين صدقوا } الخ تعليل لما قبله، والمراد بعلمه تعالى بالذين صدقوا بالكاذبين ظهور آثار صدقهم وكذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة والامتحان الملازم لثبوت الإِيمان في قلوبهم حقيقة وعدم ثبوته فيها حقيقة فإن السعادة التي تترتب على الإِيمان المدعو إليه وكذا الثواب إنما تترتب على حقيقة الإِيمان الذي له آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره والصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله لا على دعوى الإِيمان المجردة.
ويمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعلي الذي هو نفس الأمر الخارجي فإن الأُمور الخارجية بنفسها من مراتب علمه تعالى، وأما علمه تعالى الذاتي فلا يتوقف على الامتحان البتة.
والمعنى: أحسبوا أن يتركوا ولا يفتنوا بمجرد دعوى الإِيمان وإظهاره والحال أن الفتنة سنتنا وقد جرت في الذين من قبلهم فمن الواجب أن يتميز الصادقون من الكاذبين بظهور آثار صدق هؤلاء وآثار كذب أُولئك الملازم لاستقرار الإِيمان في قلوب هؤلاء وزوال صورته الكاذبة عن قلوب أُولئك.
والالتفات في قوله: { فليعلمن الله } إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل وتربية المهابة والظاهر أنه في أمثال المقام لإفادة نوع من التعليل وذلك أن الدعوة إلى الإِيمان والهداية إليه والثواب عليه لما كانت راجعة إلى المسمّى بالله الذي منه يبدأ كل شيء وبه يقوم كل شيء وإليه ينتهي كل شيء بحقيقته فمن الواجب أن يتميز عنده حقيقة الإِيمان من دعواه الخالية ويخرج عن حال الإِبهام إلى حال الصراحة ولذلك عدل عن مثل قولنا: فلنعلمن إلى قوله: { فليعلمن الله }.
قوله تعالى: { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } أم منقطعة، والمراد بقوله: { الذين يعملون السيئات } المشركون الذين كانوا يفتنون المؤمنين ويصدونهم عن سبيل الله كما أن المراد بالناس في قوله: { أحسب الناس } هم الذين قالوا: آمنا وهم في معرض الرجوع عن الإِيمان خوفاً من الفتنة والتعذيب.
والمراد بقوله: { أن يسبقونا } الغلبة والتعجيز بسبب فتنة المؤمنين وصدّهم عن سبيل الله - على ما يعطيه السياق.
وقوله: { ساء ما يحكمون } تخطئة لظنهم أنهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة وصدّ فإن ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم وصدّ لهم عن سبيل السعادة ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
وقيل: مفاد الآية توبيخ العصاة من المؤمنين وهم المراد بقوله: { الذين يعملون السيئات } والمراد بالسيئات المعاصي التي يقترفونها غير الشرك، وأنت خبير بأن السياق لا يساعد عليه.
وقيل: المراد بعمل السيئات أعم من الشرك واقتراف سائر المعاصي فالآية عامة لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك.
وفيه أن اعتبار الآية من حيث وقوعها في سياق خاص من السياقات أمر واعتبارها مستقلة في نفسها أمر آخر والذي يقتضيه الاعتبار الأول وهو العمدة بالنظر إلى غرض السورة هو ما قدمناه من المعنى، وأما الاعتبار الثاني: فمقتضاه العموم ولا ضير فيه على ذلك التقدير.
قوله تعالى: { من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم } إلى تمام ثلاث آيات. لما وبّخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الإِيمان ورجوعهم عنه بأي فتنة وإيذاء من المشركين ووبّخ المشركين على فتنتهم وإيذائهم المؤمنين وصدّهم عن سبيل الله إرادة لإِطفاء نور الله وتعجيزاً له فيما شاء وخطَّأ الفريقين فيما ظنوا.
رجع إلى بيان الحق الذي لا معدل عنه والواجب الذي لا مخلص منه، فبيَّن في هذه الآيات الثلاث أن من يؤمن بالله لتوقّع الرجوع إليه ولقائه فليعلم أنه آتٍ لا محالة وإن الله سميع لأقواله عليم بأحواله وأعماله فليأخذ حذره وليؤمن حقَّ الإِيمان الذي لا يصرفه عنه فتنة ولا إيذاء وليجاهد في الله حق جهاده، وليعلم أن الذي ينتفع بجهاده هو نفسه ولا حاجة لله سبحانه إلى إيمانه ولا إلى غيره من العالمين وليعلم أنه إن آمن وعمل صالحاً فإن الله سيكفر عنه سيئاته ويجزيه بأحسن أعماله، والعلمان الأخيران يؤكدان العلم الأول ويستوجبان لزومه الإِيمان وصبره على الفتن والمحن في جنب الله.
فقوله: { من كان يرجوا لقاء الله } رجوع إلى بيان حال من يقول: آمنت فإنه إنما يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة إذ لولا المعاد لغى الدين من أصله، فالمراد بقوله: { من كان يرجوا لقاء الله } من كان يؤمن بالله أو من كان يقول: آمنت بالله، فالجملة من قبيل وضع السبب موضع المسبب.
والمراد بلقاء الله وقوف العبد موقفاً لا حجاب بينه وبين ربه كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى: { ويعلمون أن الله هو الحق المبين }.
وقيل: المراد بلقاء الله هو البعث، وقيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء ملك الموت والحساب والجزاء، وقيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب وقيل: ملاقاة حكمه يوم القيامة، والرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف.
وهذه وجوه مجازية بعيدة لا موجب لها إلا أن يكون من التفسير بلازم المعنى.
وقوله: { فإن أجل الله لآت } الأجل هو الغاية التي ينتهي إليها زمان الدين ونحوه وقد يطلق على مجموع ذلك الزمان والغالب في استعماله هو المعنى الأول.
و { أجل الله } هو الغاية التي عيّنها الله تعالى للقائه، وهو آت لا ريب فيه وقد أكّد القول تأكيداً بالغاً، ولازم تحتم إتيان هذا الأجل وهو يوم القيامة أن لا يسامح في أمره ولا يستهان بأمر الإِيمان بالله حق الإِيمان والصبر عليه عند الفتن والمحن من غير رجوع وارتداد، وقد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله: { وهو السميع العليم } إذ هو تعالى لما كان سميعاً لأقوالهم عليماً بأحوالهم فلا ينبغي أن يقول القائل: آمنت بالله إلا عن ظهر القلب ومع الصبر على كل فتنة ومحنة.
ومن هنا يظهر أن ذيل الآية: { فإن أجل الله لآت } الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبب كما كان صدرها: { من كان يرجوا لقاء الله } أيضاً كذلك، والأصل من قال: آمنت بالله. فليقله مستقيماً صابراً عليه مجاهداً في ربه.
وقوله: { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين } المجاهدة والجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، وفيه تنبيه لهم أن مجاهدتهم في الله بلزوم الإِيمان والصبر على المكاره دونه ليست مما يعود نفعه إلى الله سبحانه حتى لا يهمهم ويلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل إنما يعود نفعه إليهم أنفسهم لغناه تعالى عن العالمين فعليهم أن يلزموا الإِيمان ويصبروا على المكاره دونه.
فقوله: { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } تأكيد لحجة الآية السابقة، وقوله: { إن الله لغني عن العالمين } تعليل لما قبله.
والالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مرَّ من الالتفات في قوله: { فليعلمن الله الذين صدقوا } الآية.
وقوله: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفِّرن عنهم سيئاتهم ولنجزينّهم أحسن الذي كانوا يعملون } بيان لعاقبة إيمانهم حق الإِيمان المقارن للجهاد ويتبين به أن نفع إيمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه وأنه عطيَّة من الله وفضل.
وعلى هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الإِيمان والعمل الصالح فإنها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة: { ومن جاهد } من قوله في هذه الآية: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات }.
وتكفير السيئات هو العفو عنها والأصل في معنى الكفر هو الستر، وقيل: تكفير السيئات هو تبديل كفرهم السابق إيماناً ومعاصيهم السابقة طاعات، وليس بذاك.
وجزاؤهم بأحسن الذي كانوا يعملون هو رفع درجتهم إلى ما يناسب أحسن أعمالهم أو عدم المناقشة في أعمالهم عند الحساب إذا كانت فيها جهات رداءة وخِسّة فيعاملون في كل واحد من أعمالهم معاملة من أتى بأحسن عمل من نوعه فتحتسب صلاتهم أحسن الصلاة وإن اشتملت على بعض جهات الرداءة وهكذا.
قوله تعالى: { ووصّينا الإِنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } الخ، التوصية العهد وهو ها هنا الأمر، وقوله: { حسناً } مصدر في معنى الوصف قائم مقام مفعول مطلق محذوف والتقدير: ووصّينا الإِنسان بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن إليهما وهذا مثل قوله: { وقولوا للناس حسناً } أي قولاً حسناً أو ذا حسن، ويمكن أن يكون وضع المصدر موضع الوصف للمبالغة نحو زيد عدل، وربما وجّه بتوجيهات أُخر.
وقوله: { وإن جاهداك لتشرك بي } الخ، تتميم للتوصية بخطاب شفاهي للإِنسان بنهيه عن إطاعة والديه إن دعواه إلى الشرك والوجه في ذلك أن التوصية في معنى الأمر فكأنه قيل: وقلنا للإِنسان أحسن إلى والديك وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما.
ولم يقل: وأن لا يطيعهما إن جاهداه على أن يشرك الخ، لما في الخطاب من الصراحة وارتفاع الإِبهام ولذلك قال أيضاً: { لتشرك بي } بضمير المتكلم وحده فافهمه ويؤل معنى الجملة إلى أنّا نهيناه عن الشرك طاعة لهما ورفعنا عنه كل إبهام.
وفي قوله: { ما ليس لك به علم } إشارة إلى علة النهي عن الطاعة فإن دعوتهما إلى الشرك بعبادة إله من دون الله دعوة إلى الجهل وعبادة ما ليس له به علم افتراء على الله وقد نهى الله عن اتَّباع غير العلم قال:
{ { ولا تقفُ ما ليس لك به علم } [الإسراء: 36]، وبهذه المناسبة ذيلها بقوله: { إليَّ مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون } أي ساعلمكم ما معنى أعمالكم ومنها عبادتكم الأصنام وشرككم بالله سبحانه.
ومعنى الآية: وعهدنا الى الإِنسان في والديه عهداً حسناً - وأمرناه أن أحسن إلى والديك - وإن بذلا جهدهما أن تشرك بي فلا تطعهما لأنه اتّباع ما ليس لك به علم.
وفي الآية - كما تقدمت الإِشارة إليه - توبيخ تعريضي لبعض من كان قد آمن ثم رجع عن إيمانه بمجاهدة من والديه.
قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين } معنى الآية ظاهر، وفي وقوعها بعد الآية السابقة وفي سياقها، دلالة على وعد جميل منه تعالى وتطييب نفس لمن ابتلي من المؤمنين بوالدين مشركين يجاهدانه على الشرك فعصاهما وفارقهما، يقول سبحانه: إن جاهداه على الشرك فعصاهما وهجرهما ففاتاه لم يكن بذلك بأس فإنّا سنرزقه خيراً منهما وندخله بإيمانه وعمله الصالح في الصالحين وهم العباد المنعَّمون في الجنة، قال تعالى:
{ { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } } [الفجر: 27ـ30]. وأما إرادة المجتمع الصالح في الدنيا فبعيد من السياق.
قوله تعالى: { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } إلى آخر الآية، لما كان إيمان هؤلاء مقيداً بالعافية والسلامة مغيّى بالإِيذاء والابتلاء لم يعدّه إيماناً بقول مطلق ولم يقل: ومن الناس من يؤمن بالله بل قال: { ومن الناس من يقول آمنا بالله } فالآية بوجه نظيرة قوله:
{ { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } } [الحج: 11]. وقوله: { فإذا أُوذي في الله } أي أُوذي لأجل الإِيمان بالله بناء على أن في للسببية كما قيل وفيه عناية كلامية لطيفة بجعله تعالى - أي جعل الإِيمان بالله - ظرفاً للإِيذاء ولمن يقع عليه الإِيذاء ليفيد أن الإِيذاء منتسب إليه تعالى انتساب المظروف إلى ظرفه وينطبق على معنى السببية والغرضية ونظيره قوله: { { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } [الزمر: 56]، وقوله: { { والذين جاهدوا فينا } } [العنكبوت: 69]. وقيل: معنى الإِيذاء في الله هو الإِيذاء في سبيل الله وكأنه مبني على تقدير مضاف محذوف.
وفيه أن العناية الكلامية مختلفة فالإِيذاء في الله ما كان السبب فيه محض الإِيمان بالله وهو قولهم: ربنا الله، والإِيذاء في سبيل الله ما كان سببه سلوك السبيل التي هي الدين قال تعالى:
{ { فالذين هاجروا وأُخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي } [آل عمران: 195] ومن الشاهد على تغاير الاعتبارين قوله في آخر السورة: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } حيث جعل الجهاد في الله طريقاً الى الاهتداء إلى سبله ولو كانا بمعنى واحد لم يصح ذلك.
وقوله: { جعل فتنة الناس كعذاب الله } أي نزل العذاب والإِيذاء الذي يصيبه من الناس في وجوب التحرز منه منزلة عذاب الله الذي يجب أن يتحرز منه فرجع عن الإِيمان إلى الشرك خوفاً وجزعاً من فتنتهم مع أن عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة أو موت ولا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبد الذي يستتبع الهلاك الدائم.
وقوله: { ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم } أي لئن أتاكم من قبله تعالى ما فيه فرج ويسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدة والعسرة من قبل أعداء الله ليقولن هؤلاء إنا كنا معكم فلنا منه نصيب.
و { ليقولن } بضم اللام صيغة جمع، والضمير راجع إلى { من } باعتبار المعنى كما أن ضمائر الإِفراد الاخر راجعة إليها باعتبار اللفظ.
وقوله: { أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } استفهام إنكاري فيه رد دعواهم أنهم مؤمنون بأن الله أعلم بما في الصدور ولا تنطوي قلوب هؤلاء على إيمان.
والمراد بالعالمين الجماعات من الإِنسان أو الجماعات المختلفه من أُولي العقل إنساناً كان أو غيره كالجن والملك، ولو كان المراد به جميع المخلوقات من ذوي الشعور وغيرهم كان المراد بالصدور البواطن وهو بعيد.
قوله تعالى: { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } من تتمة الكلام في الآية السابقة والمحصّل أن الله مع ذلك يميز بين المؤمنين والمنافقين بالفتنة والامتحان.
وفي الآية إشارة إلى كون هؤلاء منافقين وذلك لكون إيمانهم مقيداً بعدم الفتنة وهم يظهرونه مطلقاً غير مقيد والفتنة سنة إلهية جارية لا معدل عنها.
وقد استدل بالآيتين على أن السورة أو خصوص هذه الآيات مدنية وذلك أن الآية تحدث عن النفاق والنفاق إنما ظهر بالمدينة بعد الهجرة وأما مكة قبل الهجرة فلم يكن للإِسلام فيها شوكة ولا للمسلمين فيها إلا الذلة والإِهانة والشدة والفتنة ولا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المجتمع العربي يومئذ وخاصة عند قريش عزة ولا منزلة فلم يكن لأحد منهم داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالإِيمان وهو ينوي الكفر.
على أن قوله في الآية { ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم } يخبر عن النصر وهو الفتح والغنيمة وقد كان ذلك بالمدينة دون مكة.
ونظير الآيتين قوله السابق: { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } ضرورة أن الجهاد والقتال إنما كان بالمدينة بعد الهجرة.
وهو سخيف: أما حديث النفاق فالذي جعل في الآية ملاكاً للنفاق وهو قولهم: آمنا بالله حتى إذا اوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقق في مكة كما في غيرها وهو ظاهر بل الذي ذكر من الإِيذاء والفتنة إنما كان بمكة فلم تكن في المدينة بعد الهجرة فتنة.
وأما حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح والغنيمة فله مصاديق أُخر يفرج الله بها عن عباده. على أن الآية لا تخبر عنه بما يدل على التحقق فقوله: { فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك قالوا إنا كنا معكم } يدل على تحقق الإِيذاء والفتنة حيث عبر بإذا الدالة على تحقق الوقوع بخلاف مجيئ النصر حيث عبر عنه بإن الشرطية الدالة على إمكان الوقوع دون تحققه.
وأما قوله تعالى: { ومن جاهد } الخ فقد اتضح مما تقدم أن المراد به جهاد النفس دون مقاتلة الكفار فالحق أن لا دلالة في شيء من الآيات على كون السورة أو بعضها مدنية.
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتَّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون } المراد بالذين كفروا مشركو مكة الذين أبدوا الكفر أول مرة بالدعوة الحقة، وبالذين آمنوا المؤمنون بها أول مرة وقولهم لهم: { اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } نوع استمالة لهم وتطييب لنفوسهم أن لو رجعوا إلى الشرك واتّبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أي حال: إذ لو لم تكن في ذلك خطيئة فهو، وإن كانت فهم حاملون لها عنهم، ولذلك لم يقولوا: ولنحمل خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد.
فكأنهم قالوا: لنفرض أن اتباعكم لسبيلنا خطيئة فإنا نحملها عنكم ونحمل كل ما يتفرع عليه من الخطايا أو إنا نحمل عنكم خطاياكم عامة ومن جملتها هذه الخطيئة.
وقوله: { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } رد لقولهم: { ولنحمل خطاياكم } وهو رد محفوف بحجة إذ لو كان اتباعهم لسبيلهم ورجوعهم عن الإِيمان بالله خطيئة كان خطيئة عند الله لاحقة بالراجعين وانتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى إذن من الله ورضى فهو الذي يؤاخذهم به ويجازيهم وهو سبحانه يصرح ويقول: { ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } وقد عمّم النفي لكل شيء من خطاياهم.
وقوله: { إنهم لكاذبون } تكذيب لهم لما أن قولهم: { ولنحمل خطاياكم } يشتمل على دعوى ضمني أن خطاياهم تنتقل اليهم لو اشتملوها وإن الله يجيز لهم ذلك.
قوله تعالى: { وليحملنَّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } من تمام القول السابق في ردهم وهو في محل الاستدراك أي إنهم لا يحملون خطاياهم بعينها فهي لازمة لفاعليها لكنهم حاملون أثقالاً وأحمالاً من الأوزار مثل أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافاً إلى أثقال أنفسهم وأحمالها لما أنهم ضالون مضلُّون.
فالآية في معنى قوله تعالى:
{ { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } } [النحل: 25]. وقوله: { وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } فشركهم افتراء على الله سبحانه وكذا دعواهم القدرة على إنجاز ما وعده وأن الله يجيز لهم ذلك.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس وأيضاً ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قالا: نزلت سورة العنكبوت بمكة.
أقول: وقد نقل في روح المعاني عن البحر عن ابن عباس أن السورة مدنية.
وفي المجمع قيل: نزلت الآية يعني قوله تعالى: { أحسب الناس أن يتركوا } في عمار بن ياسر وكان يعذَّب في الله. عن ابن جريج.
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبى في قوله: { الم أحسب الناس أن يتركوا } الآية، قال: أُنزلت في أُناس بمكة قد أقرُّوا بالإِسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا. قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتّبعهم المشركون فردُّوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنه نزل فيكم آية كذا وكذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله فيهم: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم }.
وفيه أخرج ابن جرير عن قتادة { ومن الناس من يقول آمنا بالله } إلى قوله { وليعلمن المنافقين } قال: هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردّهم المشركون إلى مكة، وهذه الآيات العشر مدنية.
وفيه أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: { ومن الناس من يقول آمنا بالله } قال: ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أُوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر والشرك مخافة من يؤذيهم وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله.
وفيه أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أُمي: لا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بمحمد فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يسجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الآية { ووصّينا الإِنسان بوالديه حسناً } الآية.
وفي المجمع قال الكلبي نزل قوله: { ومن الناس من يقول } الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحلفت أُمه أسماء بنت مخرمة بن أبي جندل التميمي أن لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل كناً حتى يرجع إليها فلما رأى إبناها أبو جهل والحارث إبنا هشام - وهما أخوا عياش لأُمه - جزعها ركبا في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه وذكرا له القصة فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه وتبعهما وقد كانت أُمه صبرت ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت.
فلما خرجوا من المدينة أخذاه وأوثقاه كتافاً وجلده كل واحد منهما مائة جلدة حتى برئ من دين محمد جزعاً من الضرب وقال ما لا ينبغي فنزلت الآية وكان الحارث أشدَّهما عليه فحلف عياش لئن قدر عليه خارجاً من الحرم ليضربنَّ عنقه.
فلما رجعوا الى مكة مكثوا حيناً ثم هاجرالنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إلى المدينة وهاجر عياش وحسن إسلامه وأسلم الحارث بن هشام وهاجر إلى المدينة وبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإِسلام ولم يحضر عياش فلقيه عياش يوماً بظهر قبا ولم يشعر بإسلامه فضرب عنقه فقيل له: إن الرجل قد أسلم فاسترجع عياش وبكى ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك فنزل: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } الآية.
أقول: وأنت ترى اختلاف الروايات في سبب نزول الآيات وقد تقدم أن الذي يعطيه سياق آيات السورة أنها مكية محضة.
وفي الكافي عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن معمّر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: { الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا بالله وهم لا يفتنون }. ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين فقال: "يفتنون كما يفتن الذهب". ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب.
وفي المجمع قيل: إن معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم وأموالهم. وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفيه في قوله تعالى: { أو يلبسكم شيعاً } وفي تفسير الكلبي أنه لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتوضأ وأسبغ وضوءه ثم قام وصلّى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعاً ولا يذيق بعضهم بأس بعض.
فنزل جبرئيل ولم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل ما بقاء أُمتي مع قتل بعضهم بعضاً؟ فقام وعاد إلى الدعاء فنزل: { الم أحسب الناس أن يتركوا } الآيتان فقال: لا بد من فتنة يبتلى بها الأُمة بعد نبيها ليتعين الصادق من الكاذب لأن الوحي انقطع وبقي السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.
وفي نهج البلاغة: وقام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها؟ فقال عليه السلام: لما أنزل الله سبحانه قوله: { الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا على إن أُمتي سيفتنون من بعدي.
وفي التوحيد عن علي عليه السلام - في حديث طويل: وقد سأله رجل عن آيات من القرآن - وقوله: { من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت } يعني بقوله: من كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب والعقاب فاللقاء ها هنا ليس بالرؤية واللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنه يعني بذلك البعث.
أقول: مراده عليه السلام نفى الرؤية الحسية والتفسير بلازم المعنى.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { من كان يرجوا لقاء الله } الآية قال: من أحب لقاء الله جاءه الأجل { ومن جاهد } نفسه عن اللذات والشهوات والمعاصي { فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين }. { ووصّينا الإِنسان بوالديه حسناً } قال: هما اللذان ولداه.
وفيه في قوله تعالى: { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } قال: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فإن الذي تخافون أنتم ليس بشيء فإن كان حقاً نتحمل عنكم ذنوبكم، فيعذبهم الله عزّ وجلّ مرتين: مرة بذنوبهم ومرة بذنوب غيرهم.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن ابن الحنفية قال: كان أبو جهل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون يقولون: إنه يحرّم الخمر ويحرّم الزنا ويحرّم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية: { وليحملنَّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم }.
وفيه أخرج أحمد عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمسك القوم ثم إن رجلاً أعطاه فأعطى القوم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"من سنَّ خيراً فاستنَّ به كان له أجره ومن أُجور من تبعه غير منتقص من أُجورهم شيئاً، ومن سنَّ شراً فاستنَّ به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً"
]. أقول: وفي هذا المعنى روايات أُخر وفي بعضها تفسير قوله: { وليحملنَّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } بذلك.