خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
٤٨
وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ
٤٩
فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٥٠
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ
٥١
فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ
٥٢
وَمَآ أَنتَ بِهَادِ ٱلْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ
٥٣
-الروم

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجة من طريق أفعاله تعالى وإن شئت فقل: أسماء أفعاله وعمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، ولما كان عمدة إنكارهم وجحودهم متوجهاً إلى المعاد وبإنكاره يلغو الأحكام والشرائع فيلغو التوحيد عقَّب الاحتجاج بإيئاس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإِيمان وصلاحية الإِسلام والتسليم للحق.
قوله تعالى: { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء } إلى آخر الآية، الإِثارة التحريك والنشر والسحاب الغمام والسماء جهة العلو فكل ما علاك وأظلَّك فهو سماء والكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة وهي القطعة والودق القطر من المطر والخلال جمع خلة وهي الفرجة.
والمعنى: الله الذي يرسل الرياح فتحرك وتنشر سحاباً ويبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجو كيف يشاء سبحانه ويجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنه مادة حياتهم وحياة الحيوان والنبات.
قوله تعالى: { وإن كانوا من قبل أن ينزَّل عليهم من قبله لمبلسين } الإِبلاس: اليأس والقنوط.
وضمير { ينزل } للمطر وكذا ضمير { من قبله } على ما قيل، وعليه يكون { من قبله } تأكيداً لقوله: { من قبل أن ينزل عليهم } وفائدة التأكيد - على ما قيل - الإِعلام بسرعة تقلّب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: { من قبل أن ينزل عليهم } يحتمل الفسحة في الزمان فجاء { من قبله } للدلالة على الاتصال ودفع ذلك الاحتمال.
وفي الكشاف أن قوله: { من قبله } من باب التكرير والتوكيد كقوله تعالى: { فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها } ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.
وربما قيل: أن ضمير { من قبله } لإِرسال الرياح، والمعنى: وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآئسين قانطين.
قوله تعالى: { فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير } الآثار جمع الأثر وهو ما يبقى بعد الشيء فيدلّ عليه كأثر القدم وأثر البناء واستعير لكل ما يتفرع على شيء، والمراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الذي بسطته الرياح، وآثارها ما يترتب على نزول المطر من النبات والأشجار والأثمار وهي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.
ولذا قال: { فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها } فجعل آثار الرحمة التي هي المطر كيفية إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها من آثار الرحمة والنبات والأشجار والأثمار من آثار حياتها وهي أيضاً من آثار الرحمة والتدبير إلهي يتفرع على خلقة الرياح والسحاب والمطر.
وقوله: { إن ذلك لمحيي الموتى } الإِشارة بذلك بذلك إليه تعالى بماله من الرحمة التي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، وفي الإِشارة البعيدة تعظيم، والمراد بالموتى موتى الإِنسان أو الإِنسان وغيره من ذوي الحياة.
والمراد بقوله: { إن ذلك لمحيي الموتى } الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة وإحياء الموتى إذ في كل منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شيء محفوظ وحياة هي تجدد تلك الآثار بعد سقوطها، وقد تحقق الإِحياء في الأرض والنبات وحياة الإِنسان وغيره من ذوي الحياة مثلها وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الإِحياء في بعض هذه الأمثال وهو الأرض والنبات فليجز في البعض الآخر.
وقوله: { وهو على كل شيء قدير } تقرير للإِحياء المذكور ببيان آخر وهو عموم القدرة فإن القدرة غير محدودة ولا متناهية فيشمل الإِحياء بعد الموت وإلا لزم تقيّدها وقد فرضت مطلقة غير محدودة.
قوله تعالى: { ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفرّاً لظلّوا من بعده يكفرون } ضمير { فرأوه } للنبات المفهوم من السياق، وقوله: { لظلّوا } جواب للقسم قائم مقام الجزاء والمعنى: وأُقسم لئن أرسلنا ريحاً باردة فضربت زروعهم وأشجارهم بالصفار ورأوه لظلوا بعده كافرين بنعمه.
ففي الآية توبيخهم بالتقلب السريع في النعمة والنقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، وإذا أُخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلّمات من النعم.
وقيل: ضمير { فرأوه } للسحاب لأن السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، وقيل: للريح فإنه يذكَّر ويؤنث، والقولان بعيدان.
قوله تعالى: { فإنك لا تُسمع الموتى } إلى قوله { فهم مسلمون } تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنه قيل: لا تشتغل ولا تحزن بهؤلاء الذين تتبدل بهم الأحوال من إبلاس واستبشار وكفر ومن عدم الإِيمان بآياتنا وعدم تعقّلها فإنهم موتى وصمّ وعمي وأنت لا تقدر على إسماعهم وهدايتهم وإنما تُسمع وتهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج ويصدّقها فهم مسلمون. وقد تقدم تفسير الآيتين في سورة النمل.