خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ
٩
مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
١٠
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ
١٣
إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
١٤
-فاطر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
احتجاجات على وحدانيته تعالى في أُلوهيته بعد جملة من النعم السماوية والأرضية التي يتنعم بها الإِنسان ولا خالق لها ولا مدبر لأمرها إلا الله سبحانه، وفيها بعض الإِشارة إلى البعث.
قوله تعالى: { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت } الخ.
العناية في المقام بتحقق وقوع الأمطار وإنبات النبات بها، ولذلك قال: { الله الذي أرسل الرياح } وهذا بخلاف ما في سورة الروم من قوله:
{ { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً } [الروم: 48]. وقوله: { فتثير سحاباً } عطف على { أرسل } والضمير للرياح والإِتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية والإِثارة إفعال من ثار الغبار يثور ثوراناً إذا انتشر ساطعاً.
وقوله: { فسقناه إلى بلد ميت } أي إلى أرض لا نبات فيها { فأحيينا به الأرض بعد موتها } وأنبتنا فيها نباتاً بعد ما لم تكن، ونسبة الإِحياء إلى الأرض وإن كانت مجازية لكن نسبته إلى النبات حقيقية وأعمال النبات من التغذية والنمو وتوليد المثل وما يتعلق بذلك أعمال حيوية تنبعث من أصل الحياة.
ولذلك شبه البعث وإحياء الأموات بعد موتهم بإحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات بعد توقفه عن العمل وركوده في الشتاء فقال: { كذلك النشور } أي البعث فالنشور بسط الأموات يوم القيامة بعد إحيائهم وإخراجهم من القبور.
وفي قوله: { فسقناه إلى بلد ميت } الخ. التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله: { والله أرسل } بنعت الغيبة وفي قوله: { فسقناه } الخ. بنعت التكلم مع الغير ولعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال: { والله أرسل الرياح } أخذ لنفسه نعت الغيبة ويتبعه فيه الإِرسال فإن فعل الغائب غائب، ثم لما قال: { فتثير سحاباً } على نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل ويشاهد الرياح وهي تثير السحاب وتنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لأن مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غيّر سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم واختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.
وقوله: { فأحيينا به الأرض } ولم يقل: فأحييناه مع كفايته وكذا قوله: { بعد موتها } مع جواز الاكتفاء بما تقدمه للأخذ بصريح القول الذي لا ارتياب دونه.
قوله تعالى: { من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً } قال الراغب في المفردات: العزة حالة مانعة للإِنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة قال تعالى: { أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً } انتهى.
فالصلابة هو الأصل في معنى العزة ثم توسع فاستعمل العزيز فيمن يقهر ولا يُقهر كقوله تعالى:
{ { يا أيها العزيز مسنا } [يوسف: 88]. وكذا العزة بمعنى الغلبة قال تعالى: { { وعزني في الخطاب } [ص: 23] والعزة بمعنى القلة وصعوبة المنال، قال تعالى: { { وإنه لكتاب عزيز } [فصلت: 41] والعزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى: { { عزيز عليه ما عنتم } [التوبة: 128] والعزة بمعنى الأنفة والحمية قال تعالى: { { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } [ص: 2] إلى غير ذلك.
ثم إن العزة بمعنى كون الشيء قاهراً غير مقهور أو غالباً غير مغلوب تختص بحقيقة معناها بالله عز وجل إذ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئاً إلا أن يرحمه الله ويؤتيه شيئاً من العزة كما فعل ذلك بالمؤمنين به قال تعالى:
{ { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [المنافقون: 8]. وبذلك يظهر أن قوله: { من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً } ليس بمسوق لبيان اختصاص العزة بالله بحيث لا ينالها غيره وأن من أرادها فقد طلب محالاً وأراد ما لا يكون بل المعنى من كان يريد العزة فليطلبها منه تعالى لأن العزة له جميعاً لا توجد عند غيره بالذات.
فوضع قوله: { فللَّه العزة جميعاً } في جزاء الشرط من قبيل وضع السبب موضع المسبب وهو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبودية التي لا تحصل إلا بالإِيمان والعمل الصالح.
قوله تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } الكلم - كما قيل - اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث، وقال في المجمع: والكلم جمع كلمة يُقال؟ هذا كلم وهذه كلم فيذكر ويؤنث، وكل جمع ليس بينه وبين واحدة إلا الهاء يجوز فيه التذكير والتأنيث انتهى.
والمراد بالكلم على أي حال ما يفيد معنى تاماً كلامياً ويشهد به توصيفه بالطيب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه ومتكلمه بحيث تنبسط منه وتستلذه وتستكمل به وذلك إنما يكون بإفادته معنى حقاً فيه سعادة النفس وفلاحها.
وبذلك يظهر أن المراد به ليس مجرد اللفظ بل بما أن له معنى طيباً فالمراد به الاعتقادات الحقة التي يسعد الإِنسان بالإِذعان لها وبناء عمله عليها والمتيقن منها كلمة التوحيد التي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقة وهي المشمولة لقوله تعالى:
{ { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها } [إبراهيم: 24] وتسمية الاعتقاد قولاً وكلمة أمر شائع بينهم.
وصعود الكلم الطيب إليه تعالى هو تقربه منه تعالى اعتلاء وهو العلي الأعلى رفيع الدرجات، وإذ كان اعتقاداً قائماً بمعتقده فتقربه منه تعالى تقرب المعتقد به منه، وقد فسروا صعود الكلم الطيب بقبوله تعالى له وهو من لوازم المعنى.
ثم إن الاعتقاد والإِيمان إذا كان حق الاعتقاد صادقاً إلى نفسه صدقه العمل ولم يكذبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم وآثاره التي لا تنفك عنه، وكلما تكرر العمل زاد الاعتقاد رسوخاً وجلاء وقوي في تأثيره فالعمل الصالح وهو العمل الحري بالقبول الذي طبع عليه بذل العبودية والإِخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحق في ترتب أثره عليه وهو الصعود إليه تعالى وهو المعزي إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
فقد تبين بما مر معنى قوله: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وأن ضمير { إليه } لله سبحانه والمراد بالكلم الطيب الاعتقاد الحق كالتوحيد، وبصعوده تقربه منه تعالى، وبالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحق ويلائمه وأن الفاعل في { يرفعه } ضمير مستكن راجع إلى العمل الصالح وضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيب.
ولهم في الآية أقوال أُخر:
فقد قيل: إن المراد بصعود الكلم الطيب قبوله والإِثابة عليه كما تقدمت الإِشارة إليه، وقيل: المراد صعود الملائكة بما كتب من الإِيمان والطاعات إلى الله سبحانه، وقيل: المراد صعودهم به إلى السماء فسمي الصعود إلى السماء صعوداً إلى الله مجازاً.
وقيل: إن فاعل { يرفعه } ضمير عائد إلى الكلم الطيب وضمير المفعول للعمل الصالح والمعنى أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح أي أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد، وقيل: فاعل { يرفعه } ضمير مستكن راجع إليه تعالى والمعنى العمل الصالح يرفعه الله.
وجملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد والأسبق إلى الذهن ما قدمناه من المعنى.
قوله تعالى: { والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أُولئك هو يبور } ذكروا أن { السيئات } وصف قائم مقام موصوف محذوف وهو المكرات، ووضع اسم الإِشارة موضع الضمير في { مكر أُولئك } للدلالة على أنهم متعينون لا مختلطون بغيرهم والمعنى والذين يمكرون المكرات السيئات لهم عذاب شديد ومكر أُولئك الماكرين هو يبور ويهلك فلا يستعقب أثراً حياً فيه سعادتهم وعزتهم.
وقد بان أن المراد بالسيئات أنواع المكرات والحيل التي يتخذها المشركون وسائل لكسب العزة، والآية مطلقة، وقيل: المراد المكرات التي اتخذتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار الندوة وغيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فرد الله كيدهم إليهم وأخرجهم إلى بدر وقتلهم وأثبتهم في القليب فجمع عليهم الإِثبات والإِخراج والقتل وهذا وجه حسن لكن الآية مطلقة.
ووجه اتصال ذيل الآية بصدرها أعني اتصال قوله: { إليه يصعد } إلى آخر الآية بقوله: { من كان يريد العزة فللَّه العزة جميعاً } أن المشركين كانوا يعتزون بآلهتهم كما قال تعالى:
{ { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً } [مريم: 81] فدعاهم الله سبحانه وهم يطلبون العز إلى نفسه بتذكيرهم أن العزة لله جميعاً وبيّن تعالى ذلك بأن توحيده يصعد إليه والعمل الصالح يرفعه فيكتسب الإِنسان بالتقرب منه عزة من منبع العزة وأما الذين يمكرون كل مكر سيء لاكتساب العزة فلهم عذاب شديد وما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محل ولا يكسب لهم عزاً.
قوله تعالى: { والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً } الخ. يشير تعالى إلى خلق الإِنسان فابتدأ خلقه من تراب وهو المبدأ البعيد الذي تنتهي إليه الخلقة ثم من نطفة وهي مبدأ قريب تتعلق به الخلقة.
وقيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن الشيء يضاف إلى أصله وقيل: بل المراد خلق آدم نفسه وقيل: بل المراد خلقهم خلقاً إجمالياً من تراب في ضمن خلق آدم من تراب والخلق التفصيلي هو من النطفة كما قال: ثم من نطفة.
والفرق بين الوجوه الثلاثة أن في الأول نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقلي، وفي الثاني المراد بخلقهم خلق آدم ولا مجاز في النسبة، وفي الثالث المراد خلق كل واحد من الأفراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلا أنه خلق إجمالي لا تفصيلي وبهذا يفارق ما قدمناه من الوجه.
ويمكن تأييد القول الأول بقوله تعالى:
{ { خلق الإِنسان من صلصال كالفخار } [الرحمن: 14]، والثاني بنحو قوله: { { وبدأ خلق الإِنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } [السجدة: 7 - 8]، والثالث بقوله: { { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [الأعراف: 11] ولكل وجه.
وقوله: { ثم جعلكم أزواجاً } أي ذكوراً وإناثاً، وقيل: أي قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم من بعض، وهو كما ترى، وقيل: أي أصنافاً وشعوباً. وهو كسابقه.
وقوله: { وما تحمل من أُنثى ولا تضع إلا بعلمه } من زائدة لتأكيد النفي، والباء في { بعلمه } للمصاحبة وهو حال من الحمل والوضع، والمعنى ما تحمل ولا تضع أُنثى إلا وعلمه يصاحب حمله ووضعه، وذكر بعضهم أنه حال من الفاعل وأن كونه حالاً من الحمل والوضع وكذا من مفعوليهما أي المحمول والموضوع خلاف الظاهر وهو ممنوع.
وقوله: { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } أي وما يمد ويزاد في عمر أحد فيكون معمراً ولا ينقص من عمره أي عمر أحد إلا في كتاب.
فقوله: { وما يعمر من معمر } من قبيل قوله:
{ { إني أراني أعصر خمراً } } [يوسف: 36] فوضع معمر موضع نائب الفاعل وهو أحد بعناية أنه بعد تعلق التعمير به يصير معمراً وإلا فتعمير المعمر لا معنى له.
وقوله: { ولا ينقص من عمره } الضمير في { عمره } راجع إلى { معمر } باعتبار موصوفه المحذوف وهو أحد والمعنى ولا ينقص من عمر أحد وإلا فنقص عمر المفروض معمراً تناقض خارق للفرض.
وقوله: { إلا في كتاب } وهو اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغيير إليه فقد كتب فيه أن فلاناً يزاد في عمره كذا لسبب كذا وفلاناً ينقص من عمره كذا لسبب كذا وأما كتاب المحو والإِثبات فهو مورد التغير وسياق الآية يفيد وصف العلم الثابت ولهم في قوله: { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره } وجوه أُخر ضعيفة لا جدوى في التعرض لها.
وقوله: { إن ذلك على الله يسير } تعليل وتقرير لما في الآية من وصف خلق الإِنسان وكيفية إحداثه وإبقائه والمعنى أن هذا التدبير الدقيق المتين المهيمن على كليات الحوادث وجزئياتها المقرر كل شيء في مقره على الله يسير لأنه الله العليم القدير المحيط بكل شيء بعلمه وقدرته فهو تعالى رب الإِنسان كما أنه رب كل شيء.
قوله تعالى: { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أُجاج } إلى آخر الآية قيل: العذب من الماء طيبه، والفرات الماء الذي يكسر العطش أو البارد كما في المجمع، والسائغ هو الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته والاجاج الذي يحرق لملوحته أو المر.
وقوله: { ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها } اللحم الطري الغض الجديد، والمراد لحم السمك أو السمك والطير البحري، والحلية المستخرجة من البحر اللؤلؤ والمرجان والأصداف قال تعالى:
{ { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [الرحمن: 22]. وفي الآية تمثيل للمؤمن والكافر بالبحر العذب والمالح يتبين به عدم تساوي المؤمن والكافر في الكمال الفطري وإن تشاركا في غالب الخواص الإِنسانية وآثارها فالمؤمن باق على فطرته الأصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة والكافر منحرف فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الإِنسانية وسيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة وملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الأصلية وهي العذوبة والخروج عنها بالملوحة وإن اشتركا في بعض الآثار التي ينتفع بها، فمن كل منهما تأكلون لحماً طرياً وهو لحم السمك والطير المصطاد من البحر وتستخرجون حلية تلبسونها كاللؤلؤ والمرجان والأصداف.
فظاهر الآية أن الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب والبحر المالح لكن جمعاً من المفسرين استشكلوا ذلك بأن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من البحر المالح دون العذب، وقد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة.
منها أن الآية مسوقة لبيان اشتراك البحرين في مطلق الفائدة وإن اختص ببعضها كأنه قيل: ومن كل تنتفعون وتستفيدون كما تأكلون منهما لحماً طرياً وتستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر.
ومنها أنه شبه المؤمن والكافر بالعذب والاجاج ثم فضل الاجاج على الكافر بأن في الاجاج بعض النفع والكافر لا نفع في وجوده فالآية على طريقة قوله تعالى: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة } ثم قال:
{ { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله } [البقرة: 74]. ومنها أن قوله: { وتستخرجون حلية تلبسونها } من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض المنافع تفاوتاً فيما هو المقصود بالذات لأن احدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته والمؤمن والكافر وإن اتفقا أحياناً في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الأصلية دون الآخر.
ومنها أنه لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره فالإشكال باختصاص الحلية بالماء المالح ممنوع.
ومنها منع أصل الدعوى وهو كون الآية { وما يستوي البحران } الخ. تمثيلاً للمؤمن والكافر بل هي واقعة في سياق تعداد النعم لإِثبات الربوبية كقوله قبلاً: { والله الذي أرسل الرياح } وقوله بعداً: { يولج الليل في النهار } الخ. فالآية مسوقة لبيان نعمة البحر واختلافه بالعذوبة والملوحة وما فيهما من المنافع المشتركة والمختصة.
ويؤيد هذا الوجه أن نظير الآية في سورة النحل واقعة في سياق الآيات العادة لنعم الله سبحانه وهو قوله:
{ { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } [النحل: 14]. والحق أن أصل الاستشكال في غير محله وأن البحرين يشتركان في وجود الحلية فيهما كما هو مذكور في الكتب الباحثة عن هذه الشؤون مشروح فيها.
قوله تعالى: { وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } ضمير { فيه } للبحر، ومواخر جمع ماخرة من المخر بمعنى الشق عدت السفينة ماخرة لشقها الماء بجؤجئتها.
قيل: إنما أُفرد ضمير الخطاب في قوله: { ترى } بخلاف الخطابات المتقدمة والمتأخرة لأن الخطاب لكل أحد يتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط.
وقوله: { لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } أي مخر الفلك البحر بتسخيره لتطلبوا من عطائه وهو الرزق ورجاء أن تشكروا الله سبحانه، وقد تقدم أن الترجي الذي تفيده { لعل } في كلامه تعالى قائم بالمقام دون المتكلم.
وقد قيل في هذه الآية: { وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله } وفي سورة النحل: { وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله } فاختلفت الآيتان في تقديم { فيه } على { مواخر } وتأخيره منه وعطف { لتبتغوا } وعدمه.
ولعل النكتة في ذلك أن آية النحل مصدرة بكلمة التسخير فهي مسوقة لبيان كيفية التسخير والأنسب لذلك تأخير { فيه } ليتعلق بمواخر ويشير إلى مخر البحر فيصرح بالتسخير بخلاف ما ها هنا ثم التسخير له غايات كثيرة منها ابتغاء الفضل والأنسب لذلك عطف { لتبتغوا } على محذوف ليدل على عدم انحصار الغاية في ابتغاء الفضل بخلاف ما ها هنا فإن الغرض بيان أنه الرازق المدبر ليرتدع المكذبون - وقد تقدم ذكر تكذيبهم - عن تكذيبهم ويكفي في ذلك بيان ابتغائهم الفضل غاية من غير حاجة إلى العطف. والله أعلم.
وقال في روح المعاني في المقام: والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذلك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطراداً أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفاً فقدم فيه { فيه } إيذاناً بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، وكان الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية: { ولتبتغوا } بالواو ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله: { لتبتغوا } انتهى.
قوله تعالى: { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } الخ. إيلاج الليل في النهار قصر النهار بطول الليل وإيلاج النهار في الليل قصر الليل بطول النهار، والمراد بالجملتين الإِشارة إلى اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر المستمر في أيام السنة بتغير الأيام ولذا عبر بقوله: { يولج } الدال على استمرار التغيير بخلاف جريان الشمس والقمر فإنه ثابت على حاله ولذا عبر فيه بقوله: { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } والعناية صورية مسامحية.
وقوله: { ذلكم الله ربكم } بمنزلة النتيجة لما تقدم أي إذا كان أمر خلقكم وتدبيركم براً وبحراً وأرضاً وسماء منتسباً إليه مدبراً بتدبيره فذلكم الله ربكم الذي يملككم ويدبر أمركم.
وقوله: { له الملك } مستنتج مما قبله وتوطئة وتمهيد لما بعده من قوله: { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير }.
وقوله: { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } القطمير على ما قاله الراغب الأثر على رأس النواة وذلك مثل للشيء الطفيف، وفي المجمع: القطمير لفافة النواة.
وقيل: الحبة في بطن النواة انتهى والكلام على أي حال مبالغة في نفي أصل الملك والمراد بالذين تدعون من دون الله آلهتهم الذين كانوا يدعونها من الأصنام وأربابها.
قوله تعالى: { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } الخ. بيان وتقرير لما تقدم من قوله: { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } أي تصديق كونهم لا يملكون شيئاً أنكم إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأن الأصنام جمادات لا شعور لها ولا حس وأرباب الأصنام كالملائكة والقديسين من البشر في شغل شاغل من ذلك على أنهم لا يملكون سمعاً من عند أنفسهم فلا يسمعون إلا بإسماعه.
وقوله: { ولو سمعوا ما استجابوا لكم } إذ لا قدرة لهم على الاستجابة قولاً ولا فعلاً أما الأصنام فظاهر وأما أرباب الأصنام فقدرتهم من الله سبحانه ولن يأذن الله لأحد أن يستجيب أحداً يدعوه بالربوبية قال تعالى:
{ { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً } [النساء: 172]. وقوله: { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } أي يردون عبادتكم إليكم ويتبرؤون منكم بدلاً من أن يكونوا شفعاء لكم { { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } [البقرة: 166]. فالآية في نفي الاستجابة وكفر الشركاء يوم القيامة في معنى قوله: { { من أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 17]. وقوله: { ولا ينبئك مثل خبير } أي لا يخبرك عن حقيقة الأمر مخبر مثل مخبر خبير وهو خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الإِعراض عن خطابهم لعدم تفقههم بالبيان الحق أو خطاب عام في صورة الخطاب الخاص خوطب به السامع أي من كان كقوله: { وترى الفلك فيه مواخر } الآية السابقة، وقوله: { { وترى الشمس إذا طلعت } [الكهف: 17] الآية، وقوله: { { وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود } [الكهف: 18]. (بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { كذلك النشور } حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم.
أقول: وفي هذا المعنى عدة روايات أُخر.
وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قال: بلى. قال: كذلك يحيي الله الموتى وكذلك النشور.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن لكل قول مصداقاً من عمل يصدقه أو يكذبه فإذا قال ابن آدم وصدق قوله بعمله رفع قوله بعمله إلى الله، وإذا قال وخالف عمله قوله رد قوله على عمله الخبيث وهوى به في النار"
]. وفي التوحيد بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه عليه السلام في حديث قال: وإن لله تبارك وتعالى بقاعاً في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه. ألا تسمع الله عز وجل يقول: { تعرج الملائكة والروح إليه } ويقول في قصة عيسى ابن مريم عليهما السلام { بل رفعه الله } ويقول عز وجل: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }.
أقول: وعن الفقيه مثله.
وفي نهج البلاغة: ولولا إقرارهن له بالربوبية وإذعانهن له بالطواعية لما جعلهن موضعاً لعرشه ولا مسكناً لملائكته ولا مصعداً للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أُجاج } الأجاج المر.
وفيه في قوله: { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } قال: الجلدة الرقيقة التي على ظهر النوى.