خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ
٦٦
وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
٦٧
وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
٦٨
وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
٦٩
لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٧٠
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ
٧١
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ
٧٢
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
٧٣
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ
٧٤
لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ
٧٥
فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٦
أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٧٧
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
٧٨
قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
٧٩
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ
٨٠
أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ
٨١
إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٨٢
فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٨٣
-يس

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
بيان تلخيصي للمعاني السابقة في سياق آخر ففيه تهديد لهم بالعذاب، والإِشارة إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم رسول وأن كتابه ذكر وقرآن وليس بشاعر ولا كتابه بشعر، والإِشارة إلى خلق الأنعام آية للتوحيد، والاحتجاج على الميعاد.
قوله تعالى: { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون } قال في مجمع البيان: الطمس محو الشيء حتى يذهب أثره فالطمس على العين كالطمس على الكتاب ومثله الطمس على المال وهو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك، وأعمى مطموس وطميس وهو أن يذهب الشق الذي بين الجفنين، انتهى.
فقوله: { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } أي لو أردنا لأذهبنا أعينهم فصارت ممسوحة لا أثر منها فذهبت به أبصارهم وبطل إبصارهم.
وقوله: { فاستبقوا الصراط } أي أرادوا السبق إلى الطريق الواضح الذي لا يخطئ قاصده ولا يظل سالكه فلم يبصروه ولن يبصروه فالاستبعاد المفهوم من قوله: { فأنى يبصرون } كناية عن الامتناع.
وقول بعضهم: إن المراد باستباق الصراط مبادرتهم إلى سلوك طريق الحق وعدم اهتدائهم إليها، لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: { ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون } قال في المجمع: والمسخ قلب الصورة إلى خلقة مشوهة كما مسخ قوم قردة وخنازير وقال: والمكانة والمكان واحد. انتهى. والمراد بمسخهم على مكانتهم تشويه خلقهم وهم قعود في مكانهم الذي هم فيه من غير أن يغيرهم عن حالهم بعلاج وتكلف بل بمجرد المشيئة فهو كناية عن كونه هيناً سهلاً عليه تعالى من غير أي صعوبة.
وقوله: { فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون } أي مضياً في العذاب ولا يرجعون إلى حالهم قبل العذاب والمسخ فالمضي والرجوع كنايتان عن الرجوع إلى حال السلامة والبقاء على حال العذاب والمسخ.
وقيل: المراد مضيهم نحو مقاصدهم ورجوعهم إلى منازلهم وأهليهم ولا يخلو من بعد.
قوله تعالى: { ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون } التعمير التطويل في العمر، والتنكيس تقليب الشيء بحيث يعود أعلاه أسفله ويتبدل قوته ضعفاً وزيادته نقصاً والإِنسان في عهد الهرم منكس الخلق يتبدل قوته ضعفاً وعلمه جهلاً وذكره نسياناً.
والآية في مقام الاستشهاد بتنكيس الخلق على إمكان مضمون الآيتين السابقتين والمراد أن الذي ينكس خلق الإِنسان إذا عمره قادر على أن يطمس على أعينهم وعلى أن يمسخهم على مكانتهم.
وفي قوله: { أفلا يعقلون } توبيخهم على عدم التعقل وحثهم على التدبر في هذه الأُمور والاعتبار بها.
قوله تعالى: { وما علمناه الْشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } عطف ورجوع إلى ما تقدم في صدر السورة من تصديق رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكون كتابه تنزيلاً من عنده تعالى.
فقوله: { وما علمناه الشعر } نفي أن يكون علمه الشعر ولازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه ويمتنع من قوله لنهي من الله متوجه إليه، ولا أن النازل من القرآن ليس بشعر وإن أمكنه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله.
وبه يظهر أن قوله: { وما ينبغي له } في مقام الامتنان عليه بأنه نزهه عن أن يقول شعراً فالجملة في مقام دفع الدخل والمحصل أن عدم تعليمنا إياه الشعر ليس يوجب نقصاً فيه ولا أنه تعجيز له بل لرفع درجته وتنزيه ساحته عما يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيلات الشعرية الكاذبة التي كلما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، وتنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول الشعر وهو رسول من الله وآية رسالته ومتن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي هو ذكر وقرآن مبين.
وقوله: { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } تفسير وتوضيح لقوله: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } بما أن لازم معناه أن القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من قوله: { إن هو إلا ذكر } الخ من قصر القلب والمعنى ليس هو بشعر ما هو إلا ذكر وقرآن مبين.
ومعنى كونه ذكراً وقرآناً أنه ذكر مقرو من الله ظاهر ذلك.
قوله تعالى: { لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين } تعليل متعلق بقوله: { وما علمناه الشعر } والمعنى ولم نعلمه الشعر لينذر بالقرآن المنزه من أن يكون شعراً من كان حياً الخ. أو متعلق بقوله: { إن هو إلا ذكر } الخ والمعنى ليس ما يتلوه على الناس إلا ذكراً وقرآناً مبيناً نزلناه إليه لينذر من كان حياً الخ ومآل الوجهين واحد.
والآية - كما ترى - تعد غاية إرسال الرسول وإنزال القرآن إنذار من كان حياً - وهو كناية عن كونه يعقل الحق ويسمعه - وحقية القول ووجوبه على الكافرين فمحاذاة الآية لما في صدر السورة من الآيات في هذا المعنى ظاهر.
قوله تعالى: { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون } ذكر آية من آيات التوحيد تدل على ربوبيته تعالى وتدبيره للعالم الإِنساني وهي نظيرة ما تقدم في ضمن آيات التوحيد السابقة من إحياء الأرض الميتة بإخراج الحب والثمرات وتفجير العيون.
والمراد بكون الأنعام مما عملته أيديه تعالى عدم إشراكهم في خلقها واختصاصه به تعالى فعمل الأيدي كناية عن الاختصاص.
وقوله: { فهم لها مالكون } تفريع على قوله: { خلقنا لهم } فإن المعنى خلقنا لأجلهم فهي مخلوقة لأجل الإِنسان ولازمه اختصاصها به وينتهي الاختصاص إلى الملك فإن الملك الاعتباري الذي في المجتمع من شعب الاختصاص.
وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن في تفرع قوله: { فهم لها مالكون } على قوله: { خلقنا لهم } خفاء، والظاهر تفرعها على مقدر والتقدير خلقناها لهم فهم لها مالكون، وأنت خبير بعدم خفاء تفرعها على { خلقنا لهم } وعدم الحاجة إلى تقدير.
وقيل: الملك بمعنى القدرة والقهر، وفيه أنه مفهوم من قوله بعد: { وذللناها لهم } والتأسيس خير من التأكيد.
قوله تعالى: { وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } تذليل الأنعام جعلها منقادة لهم غير عاصية وهو تسخيرها لهم، والركوب بفتح الراء الحمولة كالإِبل والبقر، وقوله: { ومنها يأكلون } أي من لحمها يأكلون.
قوله تعالى: { ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون } المراد بالمنافع ما ينتفعون به من شعرها ووبرها وجلودها وغير ذلك، والمشارب جمع مشرب - مصدر ميمي بمعنى المفعول - والمراد بها الألبان، والكلام في معنى الشكر كالكلام فيما تقدم في قوله: { وما عملته أيديهم أفلا يشكرون }.
ومعنى الآيات الثلاث: أولم يعلموا أنا خلقنا لأجلهم ولتدبير أمر حياتهم الدنيا أنعاماً من الإِبل والبقر والغنم فتفرع على ذلك أنهم مالكون لها ملكاً يصحح لهم أنواع تصرفاتهم فيها من غير معارض، وذللناها لهم بجعلها مسخرة لهم منقادة غير عاصية فمنها ركوبهم الذي يركبونه، ومنها أي من لحومها يأكلون، ولهم فيها منافع ينتفعون بأشعارها وأوبارها وجلودها ومشروبات من ألبانها يشربونها أفلا يشكرون الله على هذا التدبير الكامل الذي يكشف عن ربوبيته لهم؟ أولا يعبدونه شكراً لأنعمه؟.
قوله تعالى: { واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون } ضمائر الجمع للمشركين، و المراد بالآلهة الأصنام أو الشياطين وفراعنة البشر دون الملائكة المقربين والأولياء من الإِنسان لعدم ملاءمة ذيل الكلام: { وهم لهم جند محضرون } لذلك.
وإنما اتخذوهم آلهة رجاء أن ينصروا من ناحيتهم لأن عامتهم تتخذ إلهاً زعماً منهم أن تدبير أمره مفوض إلى من اتخذه إلهاً من خير أو شر فيعبده العابد منهم ليرضيه بعبادته فلا يسخط فيقطع النعمة أو يرسل النقمة.
قوله تعالى: { لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون } أي لا يستطيع هؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم آلهة نصر هؤلاء المشركين لأنهم لا يملكون شيئاً من خير أو شر.
وقوله: { وهم لهم جند محضرون } الظاهر أن أول الضميرين للمشركين وثانيهما للآلهة من دون الله والمراد أن المشركين جند للآلهة وذلك أن من لوازم معنى الجندية التبعية والملازمة والمشركون هم المعدودون أتباعاً لآلهتهم مطيعين لهم دون العكس.
والمراد بالإِحضار في قوله: { محضرون } الإِحضار للجزاء يوم القيامة قال تعالى:
{ { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } [الصافات: 158] وقال: { { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } [الصافات: 57]. ومحصل المعنى لا يستطيع الآلهة المتخذون نصر المشركين وهم أي المشركون لهم أي لآلهتهم أتباع مطيعون محضرون معهم يوم القيامة.
وأما قول القائل: إن المعنى أن المشركين جند لآلهتهم معدون للذب عنهم في الدنيا، أو أن المعنى وهم أي الآلهة لهم أي للمشركين جند محضرون لعذاب المشركين يوم القيامة لأنهم وقود النار التي يعذب بها المشركون، أو محضرون لعذابهم إظهاراً لعجزهم عن النصر أو لإِقناط المشركين عن شفاعتهم فهي معان رديئة.
قوله تعالى: { فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } الفاء لتفريع النهي عن الحزن على حقيقة اتخاذهم الآلهة من دون الله رجاء للنصر أي إذا كان هذا حقيقة حالهم أن الذين استنصروهم لا يستطيعون نصرهم أبداً وأنهم سيحضرون معهم للعذاب فلا يحزنك قولهم ما قالوا به من الشرك فإنا لسنا بغافلين عنهم حتى يعجزونا أو يفسدوا علينا بعض الأمر بل نعلم ما يسرون من أقوالهم وما يعلنون، وفي تركيب الآية بعض أقوال رديئة أضربنا عنه.
قوله تعالى: { أولم ير الإِنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } رجوع إلى ما تقدم من حديث البعث والاحتجاج عليه إثر إنكارهم، ولا يبعد أن يكون بياناً تفصيلياً لقولهم المشار إليه في قوله تعالى: { فلا يحزنك قولهم } الخ والمراد بالرؤية العلم القطعي أي أولم يعلم الإِنسان علماً قاطعاً أنا خلقناه من نطفة، وتنكير نطفة للتحقير والخصيم المصر على خصومته وجداله.
والاستفهام للتعجب والمعنى من العجيب أن الإِنسان يعلم أنا خلقناه من نطفة مهينة فيفاجؤه أنه خصيم مجادل مبين.
قوله تعالى: { وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } الرميم البالي من العظام، و { نسي خلقه } حال من فاعل ضرب، وقوله: { قال من يحيي العظام وهي رميم } بيان للمثل الذي ضربه الإِنسان، ولذلك جيء به مفصولاً من غير عطف لأن الكلام في معنى أن يُقال: فماذا ضرب مثلاً؟ فقيل: قال من يحيي العظام وهي رميم.
والمعنى: وضرب الإِنسان لنا مثلاً وقد نسي خلقه من نطفة لأول مرة، ولو كان ذاكره لم يضرب المثل الذي ضربه وهو قوله: "من يحيي العظام وهي بالية"؟ لأنه كان يرد على نفسه ويجيب عن المثل الذي ضربه بخلقه الأول كما لقنه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم جواباً عنه.
قوله تعالى: { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } تلقين الجواب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الإِنشاء هو الإِيجاد الابتدائي وتقييده بقوله: { أول مرة } للتأكيد، وقوله: { وهو بكل خلق عليم } إشارة إلى أنه تعالى لا ينسى ولا يجهل شيئاً من خلقه فإذا كان هو خالق هذه العظام لأول مرة وهو لا يجهل شيئاً مما كانت عليه قبل الموت وبعده فإحياؤه ثانياً بمكان من الإِمكان لثبوت القدرة وانتفاء الجهل والنسيان.
قوله تعالى: { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون } بيان لقوله: { الذي أنشأها أول مرة } والإِيقاد إشعال النار.
والآية مسوقة لرفع استبعاد جعل الشيء الموات شيئاً ذا حياة والحياة والموت متنافيان والجواب أنه لا استبعاد فيه فإنه هو الذي جعل لكم من الشجر الأخضر الذي يقطر ماء ناراً فإذا أنتم منه توقدون وتشعلون النار، والمراد به على المشهور بين المفسرين شجر المرخ والعفار كانوا يأخذون منهما على خضرتهما فيجعل العفار زنداً أسفل ويجعل المرخ زنذاً أعلى فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله فحصول الحي من الميت ليس بأعجب من انقداح النار من الشجرة الخضراء وهما متضادان.
قوله تعالى: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } الاستفهام للإِنكار والآية بيان للحجة السابقة المذكورة في قوله: { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } الخ. ببيان أقرب إلى الذهن وذلك بتبديل إنشائهم أول مرة من خلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق الإِنسان كما قال تعالى:
{ { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } [غافر: 57]. فالآية في معنى قولنا: وكيف يمكن أن يقال: إن الله الذي خلق عوالم السماوات والأرض بما فيها من سعة الخلقة البديعة وعجيب النظام العام المتضمن لما لا يحصى من الأنظمة الجزئية المدهشة للعقول المحيرة للألباب والعالم الإِنساني جزء يسير منها، لا يقدر أن يخلق مثل هؤلاء الناس، بلى وإنه خلاق عليم.
والمراد بمثلهم قيل: هم وأمثالهم وفيه أنه مغاير لمعنى مثل على ما يعرف من اللغة والعرف.
وقيل: المراد بمثلهم هم أنفسهم بنحو الكناية على حد قولهم: مثلك غني عن كذا أي أنت غني عنه، وفيه أنه لو كان كناية لصح التصريح به لكن لا وجه لقولنا: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلقهم فإن الكلام في بعثهم لا في خلقهم والمشركون معترفون بأن خالقهم هو الله سبحانه.
وقيل: ضمير { مثلهم } للسماوات والأرض فإنهما تشملان ما فيهما من العقلاء فأعيد إليهما ضمير العقلاء تغليباً فالمراد أن الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله.
وفيه أن المقام مقام إثبات بعث الإِنسان لا بعث السماوات والأرض. على أن الكلام في الإِعادة وخلق مثل الشيء ليس إعادة لعينه بل بالضرورة.
فالحق أن يُقال: إن المراد بخلق مثلهم إعادتهم للجزاء بعد الموت كما يستفاد من كلام الطبرسيرحمه الله في مجمع البيان.
بيانه أن الإِنسان مركب من نفس وبدن، والبدن في هذه النشأة في معرض التحلل والتبدل دائماً فهو لا يزال يتغير أجزاؤه والمركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فهو في كل آن غيره في الآن السابق بشخصه وشخصية الإِنسان محفوظة بنفسه - روحه - المجردة المنزهة عن المادة والتغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت والفساد.
والمتحصل من كلامه تعالى أن النفس لا تموت بموت البدن وأنها محفوظة حتى ترجع إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى:
{ { وقالوا ءإذا ضللنا في الأرض ءإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون } [السجدة: 10 - 11]. فالبدن اللاحق من الإِنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه لكن الإِنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإِنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله لأن الشخصية بالنفس وهي واحدة بعينها.
ولما كان استبعاد المشركين في قولهم: { من يحيي العظام وهي رميم } راجعاً إلى خلق البدن الجديد دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم وأما عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس والأرواح المحفوظة عند الله بالأبدان المخلوقة جديداً، فتكون الأشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال تعالى:
{ { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى } [الأحقاف: 33] فعلق الإِحياء على الموتى بأعيانهم فقال: على أن يحيي الموتى ولم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى.
قوله تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } الآية من غرر الآيات القرآنية تصف كلمة الإِيجاد وتبين أنه تعالى لا يحتاج في إيجاد شيء مما أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في إيجاده أو يدفع عنه مانعاً يمنعه.
وقد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه فقال:
{ { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [النحل: 40]، وقال: { { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [البقرة: 117]. فقوله: { إنما أمره } الظاهر أن المراد بالأمر الشأن، وقوله في آية النحل المنقولة آنفاً: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه } إن كان يؤيد كون الأمر بمعنى القول وهو الأمر اللفظي بلفظة كن إلا أن التدبر في الآيات يعطي أن الغرض فيها وصف الشأن الإِلهي عند إرادة خلق شيء من الأشياء لا بيان أن قوله تعالى عند خلق شيء من الأشياء هذا القول دون غيره، فالوجه حمل القول على الأمر بمعنى الشأن بمعنى أنه جيء به لكونه مصداقاً للشأن لا حمل الأمر على القول بمعنى ما يقابل النهي.
وقوله: { إذا أراد شيئاً } أي إذا أراد إيجاد شيء كما يعطيه سياق الآية وقد ورد في عدة من الآيات القضاء مكان الإِرادة كقوله:
{ { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [آل عمران: 47] ولا ضير فالقضاء هو الحكم والقضاء والحكم والإِرادة من الله شيء واحد وهو كون الشيء الموجود بحيث ليس له من الله سبحانه إلا أن يوجد فمعنى إذا أردناه إذا أوقفناه موقف تعلق الإِرادة.
وقوله: { أن يقول له كن } خبر إنما أمره أي يخاطبه بكلمة كن ومن المعلوم أن ليس هناك لفظ يتلفظ به وإلا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر وهلم جرا فيتسلسل ولا أن هناك مخاطباً ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به لأدائه إلى الخلف فالكلام تمثيل لإِفاضته تعالى وجود الشيء من غير حاجة إلى شيء آخر وراء ذاته المتعالية ومن غير تخلف ولا مهل.
وبه يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال: الظاهر أن هناك قولاً لفظياً هو لفظ كن وإليه ذهب معظم السلف وشؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الافهام فدع عنك الكلام والخصام. انتهى.
وذلك أن ما ذكره من كون شؤونه تعالى وراء طور الأفهام لو أبطل الحجة العقلية القطعية بطلت بذلك المعارف الدينية من أصلها فصحة الكتاب مثلاً بما يفيده من المعارف الحقيقية إنما تثبت بالحجة العقلية فلو بطلت الحجة العقلية بكتاب أو سنة أو شيء آخر مما يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلاً لنفسه أو لا فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
ومن المعلوم أن ليس هناك إلا الله عز اسمه والشيء الذي يوجد لا ثالث بينهما وإسناد العلية والسببية إلى إرادته دونه تعالى - والإِرادة صفة فعلية منتزعة من مقام الفعل كما تقدم - يستلزم انقطاع حاجة الأشياء إليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الأشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى وتقدس.
ومن المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمى إيجاد أو وجوداً ثم يتصل بالشيء فيصير به موجوداً وهو ظاهر فليس بعده تعالى إلا وجود الشيء فحسب.
ومن هنا يظهر أن كلمة الإِيجاد وهي كلمة كن هي وجود الشيء الذي أوجده لكن بما أنه منتسب إليه قائم به وأما من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا إيجاد ومخلوق لا خلق.
ويظهر أيضاً أن الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة ولا نظرة ولا يتحمل تبدلاً ولا تغيراً، ولا يتلبس بتدريج وما يترآى في الخلق من هذه الأُمور إنما يتأتى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه وهذا باب ينفتح منه ألف باب.
وفي الآيات للتلويح إلى هذه الحقائق إشارات لطيفة كقوله تعالى:
{ { كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [آل عمران: 59]، وقوله تعالى: { { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } [القمر: 50]، وقوله تعالى: { { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } [الأحزاب: 38] إلى غير ذلك.
وقوله في آخر الآية: { فيكون } بيان لطاعة الشيء المراد له تعالى وامتثاله لأمر { كن } ولبسه الوجود.
قوله تعالى: { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون } الملكوت مبالغة في معنى الملك كالرحموت والرهبوت في معنى الرحمة والرهبة.
وانضمام الآية إلى ما قبلها يعطي أن المراد بالملكوت الجهة التالية له تعالى من وجهي وجود الأشياء، وبالملك الجهة التالية للخلق أو الأعم الشامل للوجهين. وعليه يحمل قوله تعالى:
{ { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [الأنعام: 57]. وقوله: { { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } }: [الأعراف: 185] وقوله: { { قل من بيده ملكوت كل شيء } [المؤمنون: 88]. وجعل الملكوت بيده تعالى للدلالة على أنه متسلط عليها لا نصيب فيها لغيره.
ومآل المعنى في قوله: { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } تنزيهه تعالى عما استبعدوا منكرين للمعاد لغفلتهم عن أن ملكوت كل شيء بيده وفي قبضته.
وقوله: { وإليه ترجعون } خطاب لعامة الناس من مؤمن ومشرك، وبيان لنتيجة البيان السابق بعد التنزيه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } الآية قال: كانت قريش تقول: إن هذا الذي يقوله محمد شعر فرد الله عليهم فقال: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شعراً قط.
وفي المجمع روي عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى الإِسلام والشيب للمرء ناهياً فقال له أبو بكر: يا رسول الله إنما قال: كفى الشيب والإِسلام للمرء ناهياً وأشهد أنك رسول الله وما علمك الله الشعر وما ينبغي لك.
وفيه عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتمثل ببيت أخي بني قيس:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيــك بالأخبـــار من لم تزود

فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار فيقول أبو بكر: ليس هكذا يارسول الله فيقول: إني لست بشاعر ولا ينبغي لي.
أقول: وروى في الدر المنثور الخبرين عن الحسن وعائشة كما رواه وروى في الدر المنثور غير ذلك مما تمثل به صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال في المجمع: فأما قوله:

أنــــا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، وقال آخرون: إنما هو اتفاق منه وليس يقصد إلى شعر انتهى. والبيت منقول عنه صلى الله عليه وآله وسلم وقد أكثروا من البحث فيه وطرح الرواية أهون من نفي كونه شعراً أو شعراً مقصوداً إليه.
وفيه في قوله تعالى: { لينذر من كان حياً } الآية ويجوز أن يكون المراد بمن كان حياً عاقلاً وروي ذلك عن علي عليه السلام.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى { واتخذوا من دون الله } إلى قوله { محضرون } يقول: لا تستطيع الآلهة لهم نصراً وهم للآلهة جند محضرون.
وعن تفسير العياشي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء أُبي بن خلف فأخذ عظماً باليا من حائط ففته ثم قال: إذا كنا عظاماً ورفاتا ءإنا لمبعثون خلقاً؟ فأنزل الله: قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم.
أقول: وروى مثله في الدر المنثور بطرق كثيرة عن ابن عباس وعروة بن الزبير وعن قتادة والسدي وعكرمة وروى أيضاً عن ابن عباس أن القائل هو العاص بن وائل وبطريق آخر عنه أن القائل هو عبد الله بن أُبي.
وفي الاحتجاج: في احتجاج أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال السائل: أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:
"بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس ثم أُعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين"
]. قال: وأنى له بالبعث والبدن قد بلى والأعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكله سباعها وعضو باخرى تمزقه هوامها وعضو قد صار تراباً يبنى به مع الطين في حائط. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الذي أنشأه من غير شيء وصوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه"
]. قال: أوضح لي ذلك. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسيء في ضيق وظلمة والبدن يصير تراباً كما منه خلق وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها فما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ويعلم عدد الأشياء ووزنها وإن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب.
فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء والزبد من اللبن إذا مخض فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها ويلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً"
]. وفي نهج البلاغة: يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع ولا نداء يسمع وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً.
وفيه: يقول ولا يلفظ ويريد ولا يضمر.
وفي الكافي بإسناده عن صفوان بن يحيي قال. قلت لأبي الحسن عليه السلام: أخبرني عن الإِرادة من الله ومن الخلق قال: فقال: الإِرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق.
فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.
أقول: والروايات عنهم عليه السلام في كون إرادته من صفات الفعل مستفيضة.