خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً
١٣٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً
١٣٧
بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٣٨
ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً
١٣٩
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً
١٤٠
ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً
١٤١
إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٤٢
مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
١٤٣
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
١٤٤
إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً
١٤٥
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً
١٤٦
مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً
١٤٧
-النساء

الميزان في تفسير القرآن

بيان
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله }، أمر المؤمنين بالإيمان ثانياً بقرينة التفصيل في متعلق الإيمان الثاني أعني قوله { بالله ورسوله والكتاب } (الخ) وأيضاً بقرينة الإيعاد والتهديد على ترك الإيمان بكل واحد من هذا التفاصيل إنما هو أمر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق فإنها معارف مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها لبعض، فالله سبحانه لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهي الموجبة لأن يخلق خلقاً ويهديهم إلى ما يرشدهم ويسعدهم ثم يبعثهم ليوم الجزاء، ولا يتم ذلك إلا بإرسال رسل مبشرين ومنذرين، وإنزال كتب تحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وتبين لهم معارف المبدأ والمعاد، وأصول الشرائع والأحكام.
فالإيمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتم إلا مع الإيمان بجميعها من غير استثناء، والرد لبعضها مع الأخذ ببعض آخر كفر لو اظهر، ونفاق لو كتم واخفي، ومن النفاق أن يتخذ المؤمن مسيراً ينتهي به إلى رد بعض ذلك، كأن يفارق مجتمع المؤمنين ويتقرب إلى مجتمع الكفار ويواليهم، ويصدقهم في بعض ما يرمون به الإيمان وأهله، أو يعترضوا أو يستهزؤون به الحق وخاصته، ولذلك عقب تعالى هذه الآية بالتعرض لحال المنافقين ووعيدهم بالعذاب الأليم.
وما ذكرناه من المعنى هو الذي يقضي به ظاهر الآية وهو أوجه مما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله { يا أيها الذين آمنوا آمنوا }،: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالاقرار بالله ورسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم. وكذا ما ذكره بعضهم أن معنى { آمنوا } اثبتوا على إيمانكم، وكذا ما ذكره آخرون أن الخطاب لمؤمني أهل الكتاب أي يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله وهو القرآن.
وهذه المعاني وإن كانت في نفسها صحيحة لكن القرائن الكلامية ناهضة على خلافها، وأردأ الوجوه آخرها.
قوله تعالى: { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً } لما كان الشطر الأول من الآية أعني قوله { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } إلى قوله { من قبل } دعوة إلى الجمع بين جميع ما ذكر فيه بدعوى أن أجزاء هذا المجموع مرتبطة غير مفارق بعضها بعضاً كان هذا التفصيل ثانياً في معنى الترديد والمعنى: ومن يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أي من يكفر بشيء من أجزاء الإيمان فقد ضلّ ضلالاً بعيداً.
وليس المراد بالعطف بالواو الجمع في الحكم ليتم الجميع موضوعاً واحداً له حكم واحد بمعنى أن الكفر بالمجموع من حيث إنه مجموع ضلال بعيد دون الكفر بالبعض دون البعض. على أن الآيات القرآنية ناطقة بكفر من كفر بكل واحد مما ذكر في الآية على وجه التفصيل.
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } الآية لو أخذت وحدها منقطعة عما قبلها وما بعدها كانت دالة على ما يجازي به الله تعالى أهل الردة إذا تكررت منهم الردة بأن آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً فالله سبحانه يوعّدهم - وحالهم هذا الحال - بأنه لا يغفر لهم، ولا يهديهم سبيلاً، وليس من المرجو منه المتوقع من رحمته ذلك لعدم استقرارهم على إيمان، وجعلهم أمر الله ملعبة يلعبون بها، ومن كان هذا حاله لم يثبت بالطبع على إيمان جدي يقبل منه، وإن كانوا لو آمنوا إيماناً جدياً شملتهم المغفرة والهداية فإن التوبة بالإيمان بالله حقيقة مما لا يردّه الله في حال على ما وعد الله تعالى عباده، وقد تقدم الكلام فيه في قوله تعالى
{ إنما التوبة على الله } } [النساء: 17] الآية، في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
فالآية تحكم بحرمانهم على ما يجري عليه الطبع والعادة، ولا تأبى الاستثناء لو اتفق إيمان واستقامة عليه من هذه الطائفة نادراً كما يستفاد من نظير الآية، قال تعالى: { كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين } إلى أن قال
{ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون } [آل عمران: 89 - 90]. والآيات - كما ترى - تستثني ممن كفر بعد إيمانه، وقوبل بنفي المغفرة والهداية، وهي مع ذلك تنفي قبول توبة من ازداد كفراً بعد الإيمان، صدر الآيات فيمن كفر بعد الإيمان والشهادة بحقِّية الرسول وظهور الآيات البينات، فهو ردة عناداً ولجاجاً، والازدياد فيه لا يكون إلا مع استقرار العناد والعتوّ في قلوبهم، وتمكن الطغيان والاستكبار في نفوسهم، ولا يتحقق الرجوع والتوبة ممن هذا حاله عادة.
هذا ما يقتضيه سياق الآية لو أُخذت وحدها كما تقدم، لكن الآيات جميعاً لا تخلو عن ظهور ما أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متصلاً بعضها ببعض، وعلى هذا التقدير يكون قوله { إن الذين آمنوا ثم كفروا }، في مقام التعليل لقوله { ومن يكفر بالله } إلى قوله { فقد ضل ضلالاً بعيداً } ويكون الآيتان ذواتي مصداق واحد أي إن من يكفر بالله وملائكته وكتبه رسله واليوم الآخر هو الذي آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد كفراً، ويكون أيضاً هو من المنافقين الذين تعرّض تعالى لهم في قوله بعد { بشّر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً } إلى آخر الآيات.
وعلى هذا يختلف المعنى المراد بقوله { إن الذين آمنوا ثم كفروا } (إلى آخر الآيات) بحسب ما فسّر به قوله { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله } على ما تقدم من تفاسيره المختلفة.
فإن فسّر بأن آمنوا بالله ورسوله في الباطن كما آمنتم به في الظاهر كان معنى الإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر ما يبتلى به المنافقون من اختلاف الحال دائماً إذا لقوا المؤمنين وإذا لقوا الكفار.
وإن فسّر بأن اثبتوا على الإيمان الذي تلبستم به كان المراد من الإيمان ثم الكفر وهكذا هو الردة بعد الردة المعروفة.
وإن فسّر بأن المراد دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالله ورسوله كان المراد بالإيمان ثم الكفر وهكذا الإيمان بموسى ثم الكفر به بعبادة العجل ثم الإيمان بعزير أو بعيسى ثم الكفر به ثم الازدياد فيه بالكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند ربه، كما قيل.
وإن فسّر بأن ابسطوا اجمال إيمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه كان قوله { إن الذين آمنوا ثم كفروا }، تعليلاً منطبقاً على حال المنافقين المذكورين فيما بعد، المفسرين بقوله { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } فإن من اتصل بالكفار منفصلاً عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم والاستئناس بهم، والشركة في محاوراتهم، والتصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الذي لا يرتضيه الله سبحانه، وينسبونه إلى الدين وأوليائه من المطاعن والمساوي ويستهزؤون ويسخرون به.
فهو كلما لقي المؤمنين واشترك معهم في شيء من شعائر الدين آمن به، وكلما لقي الكفار وأمضى ما يتقوّلونه كفر، فلا يزال يؤمن زماناً ويكفر زماناً حتى إذا استحكم فيه هذه السجيَّة كان ذلك منه ازدياداً في الكفر، والله أعلم.
واذ كان مبتلى باختلاف الحال وعدم استقراره فلا توبة له لأنه غير ثابت على حال الندامة لو ندم على فعله، إلا أن يتوب ويستقر على توبته استقراراً لا يزلزله اختلاف الأحوال، ولا تحركه عواصف الأهواء، ولذا قيد الله سبحانه التوبة المقبولة من مثل هذا المنافق بقيود لا تبقي مجالاً للتغير والتحول فقال في الاستثناء الآتي: { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله } (الآية).
قوله تعالى: { بشّر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً الذين يتخذون } (الخ) تهديد للمنافقين، وقد وصفهم بموالاة الكافرين دون المؤمنين، وهذا وصف اعمَّ مصداقاً من المنافقين الذين لم يؤمن قلوبهم، وإنما يتظاهرون بالإيمان فإن طائفة من المؤمنين لا يزالون مبتلين بموالاة الكفار، والانقطاع عن جماعة المؤمنين، والاتصال بهم باطناً واتخاذ الوليجة منهم حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا يؤيد بعض التأييد أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين طائفة من المؤمنين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ويؤيده ظاهر قوله في الآية اللاحقة { وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم } إلى قوله { إنكم إذاً مثلهم } فإن ذلك تقرير لتهديد المنافقين، والخطاب فيه للمؤمنين، ويؤيده أيضاً ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله { ولا يذكرون الله إلا قليلاً } فأثبت لهم شيئاً من ذكر الله تعالى، وهو بعيد الانطباق على المنافقين الذين لم يؤمنوا بقلوبهم قط.
قوله تعالى: { أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً } استفهام انكاري ثم جواب بما يقرر الانكار فإن العزة من فروع الملك، والملك لله وحده، قال تعالى:
{ { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء } [آل عمران: 26]. قوله تعالى: { وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم } إلى قوله { مثلهم } يريد ما نزّله في سورة الأنعام: { { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } } [الأنعام: 68] فإن سورة الأنعام مكية، وسورة النساء مدنية.
ويستفاد من إشارة الآية إلى آية الأنعام أن بعض الخطابات القرآنية وجّه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، والمراد بها ما يعم الأمة.
وقوله { إنكم إذاً مثلهم } تعليل للنهي أي بما نهيناكم لأنكم إذا قعدتم معهم - والحال هذه - تكونون مثلهم، وقوله { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم }.
قوله تعالى: { الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله }، التربُّص: الانتظار. والاستحواذ: الغلبة والتسلط، وهذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنهم إنما حفظوا رابطة الاتصال بالفريقين جميعاً: المؤمنين والكافرين، يستدرُّون الطائفتين ويستفيدون ممن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: إنّا كنا معكم فليكن لنا سهم مما أُوتيتموه من غنيمة ونحوها، وإن كان للكافرين نصيب قالوا: ألم نغلبكم ونمنعكم من المؤمنين؟ أي من الإيمان بما آمنوا به والاتصال بهم فلنا سهم مما أُوتيتموه من النصيب أو منّة عليكم حيث جررنا إليكم النصيب.
قيل: عبّر عما للمؤمنين بالفتح لأنه هو الموعود لهم، وللكافرين بالنصيب تحقيراً له فإنه لا يعبأ به بعدما وعد الله المؤمنين أن لهم الفتح وأن الله وليهم، ولعله لذلك نسب الفتح إلى الله دون النصيب.
قوله تعالى: { فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } الخطاب للمؤمنين وإن كان سارياً إلى المنافقين والكافرين جميعاً، وأما قوله { ولن يجعل الله }، فمعناه أن الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، ولن ينعكس الأمر أبداً، وفيه إياس للمنافقين، أي لييأس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالأخرة.
ويمكن أن يكون نفي السبيل أعم من النشأتين: الدنيا والآخرة، فإن المؤمنين غالبون بإذن الله دائماً ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى:
{ { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139]. قوله تعالى: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } المخادعة هي الإكثار أو التشديد في الخدعة بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.
وقوله { وهو خادعهم } في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم ويؤول المعنى إلى أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الإيمان، والاقتراب من المؤمنين، والحضور في محاضرهم ومشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فيستدرُّوا منهم بظاهر إيمانهم وأعمالهم من غير حقيقة، ولا يدرون أن هذا الذي خلى بينهم وبين هذه الأعمال ولم يمنعهم منها هو الله سبحانه، وهو خدعة منه لهم ومجازاة لهم بسوء نياتهم وخباثة أعمالهم، فخدعتهم له بعينها خدعته لهم.
قوله تعالى: { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً } هذا وصف آخر من أوصافهم وهو القيام إلى الصلاة - إذا قاموا إليها - كسالى يراؤن الناس، والصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، ولو كانت قلوبهم متعلقة بربهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل والتواني في التوجه إليه وذكره، ولم يعملوا عملهم لمراءاة الناس، ولذكروا الله تعالى كثيراً على ما هو شأن تعلق القلب واشتغال البال.
قوله تعالى: { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء }، قال في المجمع: يقال: ذبذبته فذبذب أي حركته فتحرك فهو كتحريك شيء معلق (انتهى). فكون الشيء مذبذباً أن يتردد بين جانبين من غير تعلق بشيء منهما، وهذا نعت المنافقين، يتذبذبون بين ذلك - أي الذي ذكر من الإيمان والكفر - لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين فقط كالمؤمنين بالحقيقة، ولا إلى الكفار فقط كالكافرين محضاً.
وقوله { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } في مقام التعليل لما سبقه من حديث الذبذبة، فسبب ترددهم بين الجانبين من غير تعلق بأحدهما أن الله اضلهم عن السبيل فلا سبيل لهم يردونه.
ولهذه العلة بعينها قيل: { مذبذبين بين ذلك } ولم يقل: متذبذبين أي القهر الإِلهي هو الذي يجر لهم هذا النوع من التحريك الذي لا ينتهي إلى غاية ثابتة مطمئنة.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء } (إلى آخر الآيتين) السلطان هو الحجة. والدرك بفتحتين - وقد يسكن الراء - قال الراغب: الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتباراً بالصعود، والدرك اعتباراً بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنّة ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سمِّيت هاوية (انتهى).
والآية - كما ترى - تنهى المؤمنين عن الاتصال بولاية الكفار وترك ولاية المؤمنين، ثم الآية الثانية تعلل ذلك بالوعيد الشديد المتوجه إلى المنافقين، وليس إلا ان الله سبحانه يعد هذا الصنيع نفاقاً يحذر المؤمنين من الوقوع فيه.
والسياق يدل على أن قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا }، كالنتيجة المستنتجة مما تقدم أو الفرع المتفرع عليه، وهذا كالصريح في أن الآيات السابقة إنما تتعرض لحال مرضى القلوب وضعفاء الإيمان من المؤمنين ويسميهم المنافقين، ولا أقل من شمولها لهم، ثم يعظ المؤمنين أن لا يقربوا هذا الحمى ولا يتعرضوا لسخط الله، ولا يجعلوا لله تعالى على أنفسهم حجة واضحة فيضلهم ويخدعهم ويذبذبهم في الحياة الدنيا، ثم يجمع بينهم وبين الكافرين في جهنم جميعاً ثم يسكنهم في أسفل درك من النار، ويقطع بينهم وبين كل نصير ينصرهم، وشفيع يشفع لهم.
ويظهر من الآيتين أولاً: ان الاضلال والخدعة وكل سخط إلهي من هذا القبيل إنما عن حجة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهي إخزاء على طريق المقابلة والمجازاة، وحاشا الجناب الإلهي أن يبدأهم بالشر والشقوة من غير تقدّم ما يوجب ذلك من قبلهم، فقوله { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً }؟ يجري مجرى قوله
{ { وما يضل به إلا الفاسقين } [البقرة: 26]. وثانياً: أن في النار لأهلها مراتب تختلف في السفالة، ولا محالة يشتد بحسبها عذابهم يسميها الله تعالى بالدركات.
قوله تعالى: { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله } استثناء من الوعيد الذي ذكر في المنافقين بقوله: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } (الآية) ولازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، ولحوقهم بصف المؤمنين، ولذلك ذيَّل الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، وذكر ثواب المؤمنين جميعاً فقال تعالى: { فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً }.
وقد وصف الله هؤلاء الذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، وليست تنبت أصول النفاق وأعراقه إلا بها، فذكر التوبة وهي الرجوع إلى الله تعالى، ولا ينفع الرجوع والتوب وحده حتى يصلحوا كل ما فسد منهم من نفس وعمل، ولا ينفع الإصلاح إلا أن يعتصموا بالله أي يتبعوا كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا سبيل إلى الله إلا ما عينه وما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان.
ولا ينفع الاعتصام المذكور إلا إذا أخلصوا دينهم - وهو الذي فيه الاعتصام - لله، فإن الشرك ظلم لا يعفى عنه ولا يغفر، فإذا تابوا إلى الله وأصلحوا كل فاسد منهم واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب إيمانهم شرك، فأمنوا النفاق واهتدوا قال تعالى:
{ { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } } [الأنعام: 82]. ويظهر من سياق الآية أن المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضاً المخلصون للإيمان، وقد عرّفهم الله تعالى بأنهم الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، وهذه الصفات تتضمن تفاصيل جميع ما عده الله تعالى في كتابه من صفاتهم ونعوتهم كقوله تعالى { { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون } } [المؤمنون: 1 - 8] (إلى آخر الآيات)، وقوله تعالى { { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً } } [الفرقان: 63 - 64] (الآيات)، وقوله { { فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } [النساء: 65]. فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقاً من غير قرينة تدل على خلافه.
وقد قال تعالى: { فأولئك مع المؤمنين } ولم يقل: فأولئك من المؤمنين لأنهم بتحقق هذه الأوصاف فيهم أول تحقّقها يلحقون بهم، ولن يكونوا منهم حتى تستمر فيهم الأوصاف على استقرارها، فافهم ذلك.
قوله تعالى: { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم }، ظاهره أنه خطاب للمؤمنين، لأن الكلام جار على خطابهم وإنما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغض عن إيمانهم وفرضهم كالعاري عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب.
وهو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم، وأنهم لو لم يستوجبوا العذاب بتركهم الشكر والإيمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لأنه لا ينتفع بعذابهم حتى يؤثره، ولا يستضر بوجودهم حتى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا موجب لعذابكم إن شكرتم نعمة الله بأداء واجب حقه وآمنتم به وكان الله شاكراً لمن شكره وآمن به، عليماً لا يجهل مورده.
وفي الآية دلالة على أن العذاب الشامل لأهله إنما هو من قبلهم لا من قبله، وكذا كل ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، ولو كان شيء من ذلك من قبله تعالى لكان العذاب الذي يستتبعه أيضاً من قبله لأن المسبّب يستند إلى من استند إليه السبب.
(بحث روائي)
في تفسير العيّاشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في قول الله { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً } قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر ثم ازداد كفراً حين لم يبق فيه من الإيمان شيء.
وفيه عن أبي بصير قال: سمعته يقول: { إن الذين آمنوا ثم كفروا } (الآية) من زعم أن الخمر حرام ثم شربها، ومن زعم أن الزنا حرام ثم زنا، ومن زعم أن الزكاة حق ولم يؤدها.
أقول: فيه تعميم للآية على الكفر بجميع مراتبه، ومن مراتبه ترك الواجبات وفعل المحرمات، وتأييد ما لما تقدّم في البيان.
وفيه عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في قول الله { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله } إلى قوله { إنكم إذاً مثلهم } قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في أهله فقم من عنده ولا تقاعده.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أُخر.
وفي العيون بإسناده عن أبي الصلت الهرويّ عن الرضا عليه السلام في قول الله جلّ جلاله { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } قال: فإنه يقول: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجة، ولقد أخبر تعالى عن كفّار قتلوا نبيهم بغير الحق ومع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلاً.
وفي الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن عليّ { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } قال: في الآخرة.
أقول: وقد تقدم أن ظاهر السياق هو الآخرة ولو عمم لغيرها بأخذ الجملة وحدها شملت الحجّة في الدنيا.
وفي العيون بإسناده عن الحسن بن فضال قال: سألت علي بن موسى الرضا عليهما السلام عن قوله { يخادعون الله وهو خادعهم } فقال: الله تبارك وتعالى لا يخادع، ولكنه يُجازيهم جزاء الخديعة.
وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل: فيما النجاة غداً؟ فقال:
"النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله يخدعه، ويخلع منه الإيمان ونفسه يخدع لو يشعر"
]. فقيل: فكيف يخادع الله؟ قال: يعمل بما أمر الله ثم يريد به غيره فاتقوا الرئاء فإنه شرك بالله، إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له.
وفي الكافي بإسناده عن أبي المعزا الخصّاف رفعه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: من ذكر الله عزّ وجلّ في السر فقد ذكر الله كثيراً، إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية، ولا يذكرونه في السر فقال الله عزّ وجلّ: { يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً }.
أقول: وهذا معنى آخر لقلة الذكر لطيف.
وفي الدرّ المنثور: أخرج ابن المنذر عن علي قال: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟.
أقول: وهذا أيضاً معنى لطيف، ومرجعه بالحقيقة إلى ما مر في الخبر السابق.
وفيه: أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في سننه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً"
]. أقول: وهذا معنى آخر لقلة الذكر فإن لمثل هذا المصلي من الذكر مجرد التوجه إلى الله بقيامه إلى الصلاة، وكان يمكنه أن يستغرق في ذكره بالحضور والطمأنينة في صلاته.
والمراد بكون الشمس بين قرني الشيطان دنوّها من أُفق الغروب كأنه يجعل النهار والليل قرنين للشيطان ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم.
وفيه: أخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه ومسلم وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدرى أيهما تتبع"
]. وفيه: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة.
وفيه: وأخرج ابن أبي شيبة والمروزي في زوائد الزهد وأبو الشيخ بن حبان عن مكحول قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أخلص عبد لله أربعين صباحاً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
أقول: والرواية من المشهورات، وقد رويت بلفظها أو بمعناها بطرق أخرى.
وفيه: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة" ، قيل: يا رسول الله وما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن المحارم.
أقول: والرواية مستفيضة معنى وقد رويت بطرق مختلفة في جوامع أهل السنة والشيعة عن النبي وأئمة أهل البيت صلى الله عليهم وسلم، وسنورد عمدة ألفاظها المنقولة في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.
وفي ذيل هذه الآيات روايات في أسباب النزول مختلفة متشتّة، تركنا إيرادها لظهورها في الجري وتطبيق المصداق. والله أعلم.