خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً
١٥٣
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً
١٥٤
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٥٥
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
١٥٦
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً
١٥٧
بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٥٨
وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً
١٥٩
فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً
١٦٠
وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٦١
لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
١٦٢
إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
١٦٣
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً
١٦٤
رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٦٥
لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً
١٦٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلاً بَعِيداً
١٦٧
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً
١٦٨
إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
١٦٩
-النساء

الميزان في تفسير القرآن

بيان
الآيات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب من السماء عليهم حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحي الروح الأمين نجوماً، وتجيب عن مسألتهم.
قوله تعالى: { يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء }، أهل الكتاب هم اليهود والنصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد، وعليه فالسائل هو الطائفتان جميعاً دون اليهود فحسب.
ولا ينافيه كون المظالم والجرائم المعدودة في ضمن الآيات مختصة باليهود كسؤال الرؤية، واتخاذ العجل، ونقض الميثاق عند رفع الطور والأمر بالسجدة والنهي عن العدو في السبت وغير ذلك.
فإن الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد وهو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى وعيسى عليهما السلام وإن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بني إسرائيل كالروم والعرب والحبشة ومصر وغيرهم، وما قوم عيسى بأقل ظلماً لعيسى من اليهود لموسى عليه السلام.
ولعد الطائفتين جميعاً ذا أصل واحد يخص اليهود بالذكر فيما يخصهم من الجزاء حيث قال: { فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أُحلّت لهم } ولذلك أيضاً عد عيسى بين الرسل المذكورين بعد كما عد موسى عليه السلام بينهم ولو كان وجه الكلام إلى اليهود فقط لم يصح ذلك، ولذلك أيضاً قيل بعد هذه الآيات: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح } (الخ).
وبالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعاً ووجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة القومية وهو التحكم والقول بغير الحق والمجازفة وعدم التقيد بالعهود والمواثيق، والكلام جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختص منهم طائفة بشيء خص الكلام به.
والذي سألوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء، ولم يسألوه ما سألوه قبل نزول القرآن وتلاوته عليهم كيف والقصة إنما وقعت في المدينة وقد بلغهم من القرآن ما نزل بمكة وشطر مما نزل بالمدينة؟ بل هم ما كانوا يقنعون به دليلاً للنبوة، ولا يعدّونه كتاباً سماوياً مع أن القرآن نزل فيما نزل مشفَّعاً بالتحدي ودعوى الإعجاز كما في سور: أسرى، ويونس، وهود، والبقرة النازلة جميعاً قبل سورة النساء.
فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن إلا سؤالاً جزافياً لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة وإنما يلغو ويهذو بما قدمته له أيدي الأهواء من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس، نظير ما كانت تتحكم به قريش مع نزول القرآن، وظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله سبحانه عنهم:
{ { لولا أُنزل عليه آية من ربه } [يونس: 20] { أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [الإسراء: 93]. ولهذا الذي ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم (أولاً) بأنهم قوم متمادون في الجهالة والضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم وإن عظمت، والكفر والجحود وإن جاءت البينة، وعن نقض المواثيق وإن غلظت وغير ذلك من الكذب والبهتان وأي ظلم، ومن هذا شأنه لا يصلح لإجابة ما سأله والإقبال على ما اقترحه.
و (ثانياً) أن الكتاب الذي أنزله الله وهو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه وملائكته وهو الذي يفصح عن التحدي بعد التحدي بآياته الكريمة.
فقال تعالى في جوابهم أولاً: { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } أي مما سألوك من تنزيل كتاب من السماء إليهم { فقالوا أرنا الله جهرة } أي إراءة عيان نعاينه بأبصارنا، وهذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة والهذر والطغيان { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } والقصة مذكورة في سورة البقرة (آية 55 - 56) وسورة الأعراف (آية 55).
ثم قال تعالى: { ثم اتَّخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } وهذه عبادة الصنم بعد ظهور بطلانه أو بيان أن الله سبحانه منزه عن شائبة الجسمية والحدوث، وهو من أفظع الجهالات البشرية { فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } وقد أمرهم موسى في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله عنهم ولما يتم التقتيل ولما يقتل الجميع، وهو المراد بالعفو، وآتى موسى عليه السلام سلطاناً مبيناً حيث سلطه عليهم وعلى السامري وعجله، والقصة مذكورة في سورة البقرة (آية: 54).
ثم قال تعالى: { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } وهو الميثاق الذي أخذه الله منهم ثم رفع فوقهم الطور، والقصة مذكورة مرتين في سورة البقرة (آية 63، 93).
ثم قال تعالى: { وقلنا لهم ادخلوا الباب سجَّداً وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } والقصتان مذكورتان في سورة البقرة (آية: 58 - 65) وسورة الأعراف (161 - 163) وليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعاً إلى القصتين وإلى غيرهما فإن القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكرّراً كقوله تعالى:
{ { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاَّ الله } [البقرة: 83] الآية، وقوله تعالى: { { وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون } [البقرة: 84]. قوله تعالى: { فبما نقضهم ميثاقهم }، الفاء للتفريع والمجرور متعلق بما سيأتي بعد عدة آيات - يذكر فيها جرائمهم - من قوله: { حرَّمنا عليهم } والآيات مسوقة لبيان ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيوي والأخروي، وفيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم السيّئة أولاً.
وقوله: { فبما نقضهم ميثاقهم } تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق ولما لم يذكر من المواثيق المأخوذة منهم.
وقوله: { وكفرهم بآيات الله } تلخص لأنواع من الكفر كفروا بها في زمن موسى عليه السلام وبعده قص القرآن كثيراً منها، ومن جملتها الموردان المذكوران في صدر الآيات أعني قوله { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة }، وقوله { ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } وإنما قدما في الصدر، واخّرا في هذه الآية لأن المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإن صدر الآيات متعرض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء، وذكر سؤالهم أكبر من ذلك وعبادتهم العجل أنسب به وألصق، وهذه الآية وما بعدها متعرضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحق وذكر أسباب ذلك، والابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام وأقرب.
وقوله: { وقتلهم الأنبياء بغير حق } يعني بهم زكريا ويحيى وغيرهما ممن ذكر القرآن قتلهم إجمالاً من غير تسمية.
وقوله: { وقولهم قلوبنا غلف } جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة النبويّة، وقبول الحق لو دعيت إليه، وهذه كلمة ذكروها يريدون بها ردّ الدعوة، وإسناد عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم يدعون أنهم خلقوا غلف القلوب، أو أنهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم وصنعهم.
ولذلك ردَّ الله سبحانه عليهم بقوله { بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً } فبيّن أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم وجحودهم للحق، وكان أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم.
وقد تقدم الكلام في هذا الاستثناء، وأن هذه النقمة الإلهية إنما نزلت بهم بقوميتهم ومجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، ومطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، ولا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم.
قوله تعالى: { بكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } وهو قذفها عليها السلام في ولادة عيسى بالزنا، وهو كفر وبهتان معاً وقد كلمهم عيسى في أول ولادته وقال:
{ { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً } [مريم: 30]. قوله تعالى: { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم } قد تقدم في قصص عيسى عليه السلام في سورة آل عمران أنهم اختلفوا في كيفية قتله صلباً وغير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولاً ثم ذكر القتل والصلب معاً في مقام الرد والنفي لبيان النفي التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعاً خاصاً في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائماً، ولا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، وقد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفي القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلاً عادياً، ولا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلباً فلذلك ذكر تعالى بعد قوله { وما قتلوه } قوله { وما صلبوه } ليؤدي الكلام حقه من الصراحة، وينص على أنه عليه السلام لم يتوف بأيديهم لا صلباً ولا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح عليه السلام مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه، وليس من البعيد عادة، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجية والهجمة والغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره وقد قتله الجنديّون من الروميين، وليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره، ومع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه.
وربما ذكر بعض محققي التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه عليه السلام والحوادث المربوطة بدعوته وقصص معاصريه من الحكام والدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسمّيين بالمسيح - وبينهما ما يزيد على خمسمائة سنة -: المتقدم منهما محق غير مقتول، والمتأخر منهما مبطل مصلوب، وعلى هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى ابن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب. والله أعلم.
وقوله: { وإن الذين اختلفوا فيه } أي اختلفوا في عيسى أو في قتله { لفي شك منه } أي في جهل بالنسبة إلى أمره { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } وهو التخمين أو رجحان ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض.
وقوله: { وما قتلوه يقيناً } أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أُخبرك خبر يقين، وربما قيل: إن الضمير في قوله { وما قتلوه } راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقيناً. وقتل العلم لغة تمحيضه وتخليصه من الشك والريب، وربما قيل: إن الضمير يعود إلى الظن أي ما محّضوا ظنهم وما تثبتوا فيه، وهذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن.
قوله تعالى: { بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً } وقد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران فقال:
{ { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ } [آل عمران: 55] فذكر التوفي ثم الرفع.
وهذه الآية بحسب السياق تنفي وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه فقد سلم من قتلهم وصلبهم، وظاهر الآية أيضاً ان الذي ادعى إصابة القتل والصلب إياه، وهو عيسى عليه السلام بشخصه البدني هو الذي رفعه الله إليه، وحفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه وروحه لا إنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق فإن الإِضراب الواقع في قوله { بل رفعه الله إليه } لا يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل والموت حتف الأنف.
فهذا الرفع نوع التخليص الذي خلصه الله به وأنجاه من أيديهم سواء كان توفي عند ذلك بالموت حتف الأنف أو لم يتوف حتف الأنف ولا قتلاً وصلباً بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيّاً باقياً بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.
وليس من المستحيل أن يتوفّى الله المسيح ويرفعه إليه ويحفظه، أو يحفظ الله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصُّه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته وحياته بين قومه، وما يحكيه من معجزات إبراهيم وموسى وصالح وغيرهم، فكل ذلك يجري مجرى واحداً يدل الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذُّراً من لزوم خرق العادة وتعطل قانون العلّية العام، وقد مرّ في الجزء الأول من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز وخرق العادة.
وبعد ذلك كله فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته عليه السلام وعدم توفِّيه بعد.
قوله تعالى: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً }. "إن" نافية والمبتدأ محذوف يدل عليه الكلام في سياق النفي، والتقدير: وإن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن، والضمير في قوله: "به" وقوله { يكون } راجع إلى عيسى، وأما الضمير في قوله: { قبل موته } ففيه خلاف.
فقد قال بعضهم: إن الضمير راجع إلى المقدّر من المبتدأ وهو أحد، والمعنى: وكل واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أن عيسى كان رسول الله وعبده حقاً وإن كان هذا الإيمان منه إيماناً لا ينتفع به، ويكون عيسى شهيداً عليهم جميعاً يوم القيامة سواء آمنوا به إيماناً ينتفع به أو إيماناً لا ينتفع به كمن آمن به عند موته.
ويؤيده أن إرجاع ضمير { قبل موته } إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أن عيسى حيٌّ لم يمت، وأنه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذا يوجب تخصيص عموم قوله { وإن من أهل الكتاب } من غير مخصص، فإن مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممن وقع بين رفع عيسى ونزوله فمات ولم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصص ظاهر.
وقد قال آخرون: إن الضمير راجع إلى عيسى عليه السلام والمراد به إيمانهم به عند نزوله في آخر الزمان من السماء، استناداً إلى الرواية كما سمعت.
هذا ما ذكروه، والذي ينبغي التدبر والإمعان فيه هو أن وقوع قوله { ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } في سياق قوله { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } ظاهر في أن عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أن جميعهم يؤمنون به قبل الموت، وقد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاص، فقال عنه:
{ { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } } [المائدة: 117]. فقصَّر عليه السلام شهادته في أيام حياته فيهم قبل توفِّيه، وهذه الآية أعني قوله: { وإن من أهل الكتاب } (الخ) تدل على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفّى إلا بعد الجميع، وهذا ينتج المعنى الثاني، وهو كونه عليه السلام حياً بعد، ويعود إليهم ثانياً حتى يؤمنوا به. نهاية الأمر أن يقال: إن من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانياً يؤمن به عند موته، ومن أدرك ذلك آمن به إيماناً اضطراراً أو اختياراً.
على أن الأنسب بوقوع هذه الآية: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به }، فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } إلى أن قال { بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً } أن تكون الآية في مقام بيان أنه لم يمت وأنه حي بعد إذ لا يتعلق ببيان إيمانهم الاضطراري وشهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.
فهذا الذي ذكرناه يؤيد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعاً به قبل موته عليه السلام.
لكن ها هنا آيات أُخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى:
{ { إذ قال الله يا عيسى إني متوفِّيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } } [آل عمران: 55] حيث يدل على أن من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، وكقوله تعالى: { وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً } حيث إن ظاهره أنه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.
بل ظاهر ذيل قوله: { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم } حيث إن ذيله يدل على أنهم باقون بعد توفِّي عيسى عليه السلام.
لكن الإنصاف أن الآيات لا تنافي ما مر فإن قوله { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } لا يدل على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنهم أهل الكتاب.
وكذا قوله تعالى: { بل طبع الله عليها بكفرهم } (الآية) إنما يدل على أن الإيمان لا يستوعبهم جميعاً، ولو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلاً من كثير. على أن قوله { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ به قبل موته } لو دل على إيمانهم به قبل موته فإنما يدل على أصل الإيمان، وأما كونه إيماناً مقبولاً غير اضطراري فلا دلالة له على ذلك.
وكذا قوله { فلما توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم } (الآية) مرجع الضمير فيه إنما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام:
{ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأُمّي إلهين من دون الله } } [المائدة: 116] (الآية)، ويدل على ذلك أيضاً أنه عليه السلام من أُولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافة، وشهادته على أعمالهم تعم بني إسرائيل والمؤمنين به وغيرهم.
وبالجملة، الذي يفيده التدبر في سياق الآيات وما ينضم إليها من الآيات المربوطة بها هو أن عيسى عليه السلام لم يتوفَّ بقتل أو صلب ولا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدمت الإشارة إليه - وقد تكلمنا بما تيسر لنا من الكلام في قوله تعالى:
{ { يا عيسى إني متوفِّيك ورافعك إليّ } } [آل عمران: 55] في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
ومن غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشري في الكشّاف: أنه يجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله، وما أُنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، وهذا، قول بالرجعة!.
وفي معنى الآية بعض وجوه رديئة أُخرى:
منها: ما يظهر من الزجَّاج أن ضمير قوله: { قبل موته } يرجع إلى الكتابي وأن معنى قوله { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } أن جميعهم يقولون: إن عيسى الذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.
وهذا معنى سخيف فإن الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسى عليه السلام وصلبه والرد عليهم دون كفرهم به ولا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتى يذيَّل به الكلام.
على أنه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله: { قبل موته } لارتفاع الحاجة بدونه، وكذا قوله { ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } لأنه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.
ومنها: ما ذكره بعضهم أن المراد بالآية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد قبل موت ذلك الكتابي.
وهذا في السخافة كسابقه فإنه لم يجر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ذكر في سابق الكلام حتى يعود إليه الضمير. ولا أن المقام يدل على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات مما سيمر بك في البحث الروائي التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه وهذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبّع فيها.
قوله تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرَّمنا عليهم طيبات أُحلت لهم } الفاء للتفريع، وقد نكر لفظ الظلم وكأنه للدلالة على تفخيم أمره أو للإِبهام، إذ لا يتعلق على تشخيصه غرض مهم وهو بدل مما تقدم ذكره من فجائعهم غير أنه ليس بدل الكل من الكل كما ربما قيل، بل بدل البعض من الكل، فإنه تعالى جعل هذا الظلم منهم سبباً لتحريم الطيبات عليهم، ولم تحرَّم عليهم إلا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، وبها تختتم شريعة موسى، وقد ذكر فيما ذكر من فجائعهم ومظالمهم أُمور جرت ووقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم وغير ذلك.
فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرَّم عليهم من الطيبات بعد إحلالها.
ثم ضم إلى ذلك قوله { وبصدهم عن سبيل الله كثيراً } وهو إعراضهم المتكرر عن سبيل الله { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل }.
قوله تعالى: { وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً } معطوف على قوله { حرّمنا عليهم طيّبات } فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيوي عام وهو تحريم الطيّبات، وجزاء أُخروي خاص بالكافرين منهم وهو العذاب الأليم.
قوله تعالى: { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك } استثناء واستدراك من أهل الكتاب، { والراسخون } وما عطف عليه مبتدأ و { يؤمنون } خبره، وقوله { منهم } متعلق بالراسخون و "من" فيه تبعيضيّة.
والظاهر أن { المؤمنون } يشارك { الراسخون } في تعلق قوله { منهم } به معنى والمعنى: لكن الراسخون في العلم والمؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك وبما أُنزل من قبلك، ويؤيده التعليل الآتي في قوله { إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيّين من بعده } (الخ)، فإن ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنهم آمنوا بك لما وجدوا أن نبوتك والوحي الذي أكرمناك به يماثل الوحي الذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح والنبيون من بعده، والأنبياء من آل إبراهيم، وآل يعقوب، وآخرون ممن لم نقصصهم عليك من غير فرق.
وهذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الذين وصفهم الله سبحانه بقوله
{ { لتنذر قوماً ما أُنذر آبائهم فهم غافلون } [يس: 61]. وقوله { والمقيمين الصلاة } معطوف على { الراسخون } ومنصوب على المدح، ومثله في العطف قوله { والمؤتون الزكاة } وقوله { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } مبتدأ خبره قوله { أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً } ولو كان قوله { والمقيمين الصلاة } مرفوعاً كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو وما عطف عليه مبتدأ خبره قوله { أُولئك }.
قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه والبصريون إلى أنه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم وأنت تريد أن تعرّف زيداً الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجر، وإذا أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت وقلت: مررت بزيد الكريم كأنك قلت: أذكر الكريم، وإن شئت رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم.
وقال الكسائي: موضع المقيمين جر، وهو معطوف على "ما" من قوله { بما أُنزل إليك } أي وبالمقيمين الصلاة.
وقال قوم: إنه معطوف على الهاء والميم من قوله "منهم" على معنى: لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة، وقال آخرون: إنه معطوف على الكاف من { قبلك } أي مما أُنزل من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة.
وقيل: إنه معطوف على الكاف في { إليك } أو الكاف في قبلك. وهذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريين لأنه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار.
قال: وأما ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله { والمقيمين الصلاة } وعن قوله { والصابئين } وعن قوله { إن هذان } فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتَّاب أخطأوا في الكتاب، وما روي عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: وفي مصحف ابن مسعود: { والمقيمون الصلاة } فمما لا يلتفت إليه لأنه لو كان كذلك لم يكن ليعلِّمه الصحابة الناس على الغلط وهم القدوة والذين أخذوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (انتهى).
وبالجملة قوله { لكن الراسخون في العلم } استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما تقدم أن لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم من الكتاب والحكمة المصدقين لما أُنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه ورسله، في دعوتهم إلى الحق وإثباته، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتهم إلا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، ولم يعش فيهم ولم يعاشرهم إلا بما عاشوا به وعاشروا به كما قال تعالى
{ { قل ما كنت بدعاً من الرسل } [الأحقاف: 19]، وقال تعالى { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين } إلى أن قال { { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون } }[الأنبياء: 10]. فذكر الله سبحانه في فصل من القول: إن هؤلاء السائلين وهم أهل الكتاب ليست عندهم سجية اتباع الحق ولا ثبات ولا عزم ولا رأي، وكم من آية بينة ظلموها، ودعوة حق صدوا عنها، إلا أن الراسخين في العلم منهم لما كان عندهم ثبات على علمهم وما وضح من الحق لديهم، وكذا المؤمنون حقيقة منهم لما كان عندهم سجية اتباع الحق يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك لما وجدوا أن الذي نزّل إليك من الوحي يماثل ما نزّل من قبلك على سائر النبيين: نوح ومن بعده.
ومن هنا يظهر (أولاً) وجه توصيف من اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب بالراسخين في العلم والمؤمنين، فإن الآيات السابقة تقص عنهم أنهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرين على شيء من الحق وإن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، وأنهم غير مؤمنين بآيات الله صادون عنها وإن جاءتهم البينات، فهؤلاء الذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.
و (ثانياً) وجه ذكر ما أُنزل قبلاً مع القرآن في قوله { يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك } لأن المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.
و (ثالثاً) أن قوله في الآية التالية: { إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا } (الخ) في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.
قوله تعالى: { إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } في مقام التعليل لقوله { يؤمنون بما أُنزل إليك } كما عرفت آنفاً. ومحصَّل المعنى - والله أعلم - أنهم آمنوا بما أُنزل إليك لأنَّا لم نؤتك أمراً مبتدعاً يختص من الدعاوي والجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، ونوح أول نبي جاء بكتاب وشريعة، وكما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده من آله، وهم يعرفونهم ويعرفون كيفية بعثتهم ودعوتهم، فمنهم من أُوتي بكتاب كداود أُوتي زبوراً وهو وحي نبوي، وموسى أُوتي التكليم وهو وحي نبوي، وغيرهما كإسماعيل وإسحاق ويعقوب أُرسلوا بغير كتاب، وذلك أيضاً عن وحي نبوي.
ويجمع الجميع أنهم رسل مبشّرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام الحجة على الناس ببيان ما ينفعهم وما يضرهم في أُخراهم ودنياهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
قوله تعالى: { والأسباط } تقدَّم في قوله تعالى:
{ { ويعقوب والأسباط } } [البقرة: 136] أنهم أنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.
قوله تعالى: { وآتينا داود زبوراً } قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.
قوله تعالى: { رسلاً مبشّرين ومنذرين } أحوال ثلاثة أو الأول حال والأخيران وصفان له. وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل وتمام الحجة من الله على الناس، وأن العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهية في الكلام على قوله تعالى:
{ { كان الناس أُمة واحدة } } [البقرة: 213] في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
قوله تعالى: { وكان الله عزيزاً حكيماً } وإذا كانت له العزة المطلقة والحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة، قال تعالى:
{ { قل فلله الحجة البالغة } [الأنعام: 149]. قوله تعالى: { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون }، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإن الذي ذكر الله تعالى في رد سؤالهم بقوله { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } (إلى آخر الآيات) لازم معناه أن سؤالهم مردود إليهم، لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوحي من ربه لا يغاير نوعاً ما جاء به سائر النبيين من الوحي، فمن ادعى أنه مؤمن بما جاؤا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.
ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً.
ومتن شهادته قوله { أنزله بعلمه } فإن مجرد النزول لا يكفي في المدعى، لأن من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهية فيضع سبيلاً باطلاً مكان سبيل الله الحق، أو يخلط فيدخل شيئاً من الباطل في الوحي الإِلهي الحق فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله:
{ { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً } } [الجن: 26 - 28] وقال تعالى: { { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } [الأنعام: 121]. وبالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام، لكن تقييده بقوله { بعلمه } يوضح المراد كل الوضوح، ويفيد أن الله سبحانه أنزله إلى رسوله وهو يعلم ماذا ينزل، ويحيط به ويحفظه من كيد الشياطين.
وإذا كانت الشهادة على الإنزال والإنزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل عليه قوله تعالى:
{ { من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك } } [البقرة: 97] وقال تعالى في وصف هذا الملك المكرَّم: { { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } } [التكوير: 19 - 21] فدل على أن تحت أمره ملائكة أخرى وهم الذين ذكرهم إذ قال: { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة } [عبس: 11 - 16]. وبالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضاً شهداء كما أنه تعالى شهيد وكفى بالله شهيداً.
والدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى:
{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } } [الإسراء: 88] وقوله { { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [النساء: 82]، وقوله { { فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله } [يونس: 38]. قوله تعالى: { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيداً } لمّا ذكر تعالى الحجة البالغة في رسالة نبيه ونزول كتابه من عند الله، وأنه من سنخ الوحي الذي أوحي إلى النبيين من قبله وأنه مقرون بشهادته وشهادة ملائكته وكفى به شهيداً حقق ضلال من كفر به وأعرض عنه كائناً من كان من أهل الكتاب.
وفي الآية تبديل الكتاب الذي كان الكلام في نزوله من عند الله بسبيل الله حيث قال: { وصدوا عن سبيل الله } وفيه إيجاز لطيف كأنه قيل: إن الذين كفروا وصدوا عن هذا الكتاب والوحي الذي يتضمنه فقد كفروا وصدوا عن سبيل الله، والذين كفروا وصدوا عن سبيل الله (الخ).
قوله تعالى: { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم } (الخ) تحقيق وتثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة، وعلى هذا يكون المراد بالظلم هو الصد عن سبيل الله كما هو ظاهر.
ويمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبين فيها وجه ضلالهم البعيد، والمعنى ظاهر.
(بحث روائي)
وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: { وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادق عليه السلام في حديث قال: ألم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنها حملت بصبي من رجل نجار اسمه يوسف؟.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } (الآية) قال: حدثني أبي، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيها الأمير أية آية هي؟ فقال: قوله { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } والله إني لآمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أوَّلت قال: كيف هو: قلت: إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا غيره إلا آمن به قبل موته، ويصلي خلف المهدي قال: ويحك أنى لك هذا؟ ومن أين جئت به؟ فقلت: حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: والله جئت بها من عين صافية.
وفي الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها الا اعترض في نفسي منها شيء قال الله: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } وإني أوتى بالاسارى فأضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئاً، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن النصراني إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، وإن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته، عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن علي قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: وأيم الله ما حدَّثنيه إلا أم سلمة، ولكني أحببت أن اغيظه.
أقول: ورواه أيضاً ملخصاً عن عبد بن حميد وابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن علي بن أبي طالب، وهو ابن الحنفيّة، والظاهر أنه روي عن محمد بن علي، ثم اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفية أو الباقر عليه السلام، والرواية - كما ترى - تؤيد ما قدمناه في بيان معنى الآية.
وفيه: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والبيهقي في الأسماء والصفات قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم؟" ]. وفيه: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يقتل الدجّال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويقبض المال، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين، واقرؤا إن شئتم: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } موت عيسى بن مريم" . ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرّات.
أقول: والروايات في نزول عيسى عليه السلام عند ظهور المهدي عليه السلام مستفيضة من طرق أهل السنّة، وكذا من طرق الشيعة عن النبي والأئمة من أهل بيته عليهم الصلاة والسلام.
وفي تفسير العياشي عن الحارث بن مغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } قال: هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: ظاهره وإن كان مخالفاً لظاهر سياق الآيات المتعرضة لأمر عيسى عليه السلام لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن، بمعنى أنه بعد ما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء بكتاب وشريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كل كتابي أن يؤمن به ويؤمن بعيسى ومن قبله في ضمن الإيمان به، فلو انكشف لكتابي عند الاحتضار مثلاً حقِّية رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنما ينكشف في ضمن انكشاف حقية رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإيمان كل كتابي لعيسى عليه السلام إنما يعد إيماناً إذا آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أصالة وبعيسى عليه السلام تبعاً، فالذي يؤمن به كل كتابي حقيقة ويكون عليهم يوم القيامة شهيداً هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد بعثته، وإن كان عيسى عليه السلام كذلك أيضاً فلا منافاة، والخبر التالي لا يخلو من ظهور ما في هذا المعنى.
وفيه: عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله في عيسى: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } فقال: إيمان أهل الكتاب إنما هو لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه: عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قوله { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } قال: ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام حقاً من الأولين والآخرين.
أقول: وكون الرواية من الجري أظهر. على أن الرواية غير صريحة في كون ما ذكره عليه السلام ناظراً إلى تفسير الآية وتطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاماً اورد في ذيل الكلام على الآية، ولذلك نظائر في الروايات.
وفيه: عن المفضّل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } فقال: هذه نزلت فينا خاصة، إنه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتى يقرّ للإمام وبإمامته، كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: { تالله لقد آثرك الله علينا }.
أقول: الرواية من الآحاد، وهي مرسلة، وفي معناها روايات مروية في ذيل قوله تعالى:
{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } [فاطر: 32] سنستوفي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
وفيه: في قوله تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } (الآية) عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قال: إني أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح والنبيين من بعده، فجمع له كل وحي.
أقول: الظاهر أن المراد أنه لم يشذ عنه صلى الله عليه وآله وسلم من سنخ الوحي ما يوجب تفرق السبيل وتفاوت الدعوة، لا أن كل ما اوحي به إلى نبي على خصوصياته فقد أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا مما لا معنى له، ولا أن ما أوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة، فإن الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى، ويؤيد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.
وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام: قال الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده }، وأمر كل نبي بالسبيل والسنَّة.
وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: وكان بين آدم وبين نوح من الأنبياء مستخفين ومستعلنين، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء، وهو قول الله عزّ وجلّ: { ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً } يعني لم اسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء.
أقول: ورواه في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة عنه عليه السلام، وفيه: من الأنبياء مستخفين، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء، وهو قول الله عزّ وجلّ: { رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك } يعني لم اسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء (الحديث).
والمراد بالرواية على أي حال أن الله تعالى لم يذكر قصة المستخفين أصلاً ولا سمّاهم، كما قص بعض قصص المستعلنين وسمى من سمى منهم. ومن الجائز أن يكون قوله: { يعني لم أسم } (الخ) من كلام الراوي.
وفي تفسير العياشي عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً.
أقول: وروى هذا المعنى القمي في تفسيره مسنداً عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام وهو من قبيل الجري والتطبيق فإن من القرآن ما نزل في ولايته عليه السلام، وليس المراد به تحريف الكتاب ولا هو قراءة منه عليه السلام.
ونظيره ما رواه في الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام، والقمي في تفسيره عن أبي عبد الله عليه السلام: إن الذين كفروا وظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم (الآية) وما رواه في المجمع عن أبي جعفر عليه السلام في قوله { قد جاءكم الرسول بالحق } أي بولاية من أمر الله بولايته.