خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
٩٥
دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٩٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً
٩٧
إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً
٩٨
فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً
٩٩
وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٠
-النساء

الميزان في تفسير القرآن

بيان
قوله تعالى: { لا يستوي القاعدون } إلى قوله { وأنفسهم } الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد والقتال كالعمى، والعرج، والمرض، والمراد بالجهاد بالأموال إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين، وبالأنفس القتال.
وقوله { وكلاًّ وعد الله الحسنى }، يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين، هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حدّ الكفاية، فالكلام مسوق لترغيب الناس وتحريضهم على القيام بأمر الجهاد والتسابق فيه والمسارعة إليه.
ومن الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أُولي الضرر، ثم حكم بعدم الاستواء مع أن أُولي الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله، وإن قلنا: إن الله سبحانه يتدارك ضررهم بنيّاتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد والشهادة أو الغلبة على عدوّ الله من الفضائل التي فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم، وبالجملة ففي الكلام تحضيض للمؤمنين وتهييج لهم، وإيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير والفضيلة.
قوله تعالى: { فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } الجملة في مقام التعليل لقوله: { لا يستوي }، ولذا لم توصل بعطف ونحوه، والدرجة هي المنزلة، والدرجات المنزلة بعد المنزلة، وقوله: { وكلاًّ وعد الله الحسنى } أي وعد الله كلاً من القاعدين والمجاهدين، أو كلاً من القاعدين غير أُولي الضرر والقاعدين أُولي الضرر، والمجاهدين الحسنى، والحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنة أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك، والجملة مسوقة لدفع الدخل، فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله: { لا يستوي } إلى قوله { درجة } أنه صفر الكفّ لا فائدة تعود إليه من إيمانه وسائر أعماله فدفع ذلك بقوله { وكلاً وعد الله الحسنى }.
قوله تعالى: { وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة } هذا التفضيل بمنزلة البيان والشرح لإجمال التفضيل المذكور أولاً، ويفيد مع ذلك فائدة أُخرى، وهي الإشارة إلى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذي يتضمّنه قوله: { وكلاً وعد الله الحسنى } فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله، والواجب من السعي في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل، فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة والرحمة.
وأمر الآية في سياقها عجيب، أما أولاً: فلأنها قيدت المجاهدين (أولاً) بقوله: { في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } و (ثانياً) بقوله: { بأموالهم وأنفسهم } و (ثالثاً) أوردته من غير تقييد. وأما ثانياً: فلأنها ذكرت في التفضيل (أولاً) أنها درجة، و(ثانياً) أنها درجات منه.
أما الأول: فلأن الكلام في الآية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود، والفضل إنما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس، وبالسماحة والجود بأعز الأشياء عند الإنسان وهو المال، وبما هو أعز منه وهو النفس، ولذلك قيل أولاً: { والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } ليتبين بذلك الأمر كل التبيّن، ويرتفع به اللبس، ثم لمّا قيل: { وفضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة }، لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لأن اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان، غير أن الجملة لما قارنت قوله: { وكلاًّ وعد الله الحسنى } مسّت حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل، وهو إنفاق المال وبذل النفس على حبهما، فلذا اكتفي بذكرهما قيداً للمجاهدين فقيل: { المجاهدين بأموالهم وأنفسهم } وأما قوله ثالثاً { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً } فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلاً لا جميعها ولا بعضها ولذلك تركت كلاً.
وأما الثاني فقوله: { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } { درجة } منصوب على التمييز، وهو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة والمنزلة من غير أن يتعرض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر، وقوله: { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه }، كأنّ لفظة { فضل } فيه مضمّنة معنى الإعطاء أو ما يشابه، وقوله: { درجات منه }، بدل أو عطف بيان لقوله: { أجراً عظيماً } والمعنى: وأعطى الله المجاهدين أجراً عظيماً مفضلاً إياهم على القاعدين معطياً أو مثيباً لهم أجراً عظيماً وهو الدرجات من الله، فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة، ويبين بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل ودرجات كثيرة، وهي الأجر العظيم الذي يثاب به المجاهدون.
ولعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولاً: { درجة } وثانياً: { درجات منه }، وقد ذكر المفسرون للتخلص من الإشكال وجوهاً لا يخلو جلها أو كلها من تكلف.
منها: أن المراد بالتفضيل في صدر الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين أُولي الضرر بدرجة، وفي ذيل الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير أُولي الضرر بدرجات.
ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة الدنيوية كالغنيمة وحسن الذكر ونحوهما، وبالدرجات في آخر الآية المنازل الاخروية وهي أكثر بالنسبة إلى الدنيا، قال تعالى:
{ { وللآخرة أكبر درجات } [الإسراء: 21]. ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة عند الله، وهي أمر معنوي، وبالدرجات في ذيل الآية منازل الجنة ودرجاتها الرفيعة وهي حسية، وأنت خيبر بأن هذه الأقوال لا دليل عليها من جهة اللفظ.
والضمير في قوله: { منه } لعله راجع إلى الله سبحانه، ويؤيده قوله: { ومغفرة ورحمة } بناء على كونه بياناً للدرجات، والمغفرة والرحمة من الله، ويمكن رجوع الضمير إلى الأجر المذكور قبلاً.
وقوله: { ومغفرة ورحمة } ظاهره كونه بياناً للدرجات، فإن الدرجات وهي المنازل من الله سبحانهاً أياً ما كانت فهي مصداق المغفرة والرحمة، وقد علمت في بعض المباحث السابقة أن الرحمة - وهي الإِفاضة الإِلهية للنعمة - تتوقف على إزالة الحاجب ورفع المانع من التلبس بها، وهي المغفرة، ولازمه أن كل مرتبة من مراتب النعم، وكل درجة ومنزلة رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة التي بعدها، والدرجة التي فوقها، فصح بذلك أن الدرجات الأُخروية كائنة ما كانت مغفرة ورحمة من الله سبحانه، وغالب ما تذكر الرحمة وما يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله:
{ { مغفرة وأجرٌ عظيم } [الحجرات: 3] وقوله: { { ومغفرة ورزق كريم } [الأنفال: 4]، وقوله: { { مغفرة وأجر كبير } [الملك: 12]، وقوله: { { ومغفرة من الله ورضوان } [الحديد: 20]، وقوله: { { واغفر لنا وارحمنا } [البقرة: 186] إلى غير ذلك من الآيات.
ثم ختم الآية بقوله: { وكان الله غفوراً رحيماً } ومناسبة الاسمين مع مضمون الآية ظاهرة لا سيما بعد قوله في ذيلها { ومغفرة ورحمة }.
قوله تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } لفظ { توفاهم } صيغة ماض أو صيغة مستقبل - والأصل تتوفاهم حذفت إحدى التائين من اللفظ تخفيفاً - نظير قوله تعالى:
{ { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء } [النحل: 28]. والمراد بالظلم كما تؤيده الآية النظيرة، هو ظلمهم لأنفسهم بالإِعراض عن دين الله، وترك إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك، والتوسط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسل بها إلى تعلم معارف الدين، والقيام بما تندب إليه من وظائف العبودية، وهذا هو الذي يدل عليه السياق في قوله: { قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض } إلى آخر الآيات الثلاث.
وقد فسّر الله سبحانه الظالمين { إذا أُطلق } في قوله:
{ { لعنة الله على الظالمين الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } [الأعراف: 44 - 45]، ومحصّل الآيتين تفسير الظلم بالاعراض عن دين الله وطلبه عوجاً ومحرّفاً، وينطبق على ما يظهر من الآية التي نحن فيها.
قوله تعالى: { قالوا فيم كنتم } أي فيماذا كنتم من الدين، وكلمة { مَ } هي ما الاستفهامية حذفت عنها الألف تخفيفاً.
وفي الآية دلالة في الجملة على ما تسمّيه الأخبار بسؤال القبر، وهو سؤال الملائكة عن دين الميّت بعد حلول الموت، كما يدل عليه أيضاً قوله تعالى:
{ { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً } } [النحل: 28 - 29] (الآيات).
قوله تعالى: { قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } كان سؤال الملائكة (فيم كنتم) سؤالاً عن الحال الذي كانوا يعيشون فيه من الدين، ولم يكن هؤلاء المسؤولون على حال يعتد به من جهة الدين، فأجابوا بوضع السبب موضع المسبب، وهو أنهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكنون فيها من التلبُّس بالدين لكون أهل الأرض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم وبين الأخذ بشرائع الدين والعمل بها.
ولمّا كان هذا الذي ذكروه من الاستضعاف - لو كانوا صادقين فيه - إنما حل بهم من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك، وكان استضعافهم من جهة تسلّط المشركين على الأرض التي ذكروها، ولم تكن لهم سلطة على غيرها من الأرض، فلم يكونوا مستضعفين على أي حال، بل في حال لهم أن يغيروه بالخروج والمهاجرة كذبتهم الملائكة في دعوى الاستضعاف بأن الأرض أرض الله كانت أوسع مما وقعوا فيه ولزموه، وكان يمكنهم أن يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم على الخروج من قيد الاستضعاف، وإنما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم.
فقوله: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله: { فيم كنتم } ويمكن أن يكون أول الاستفهامين للتقرير، كما هو ظاهر ما مر نقله من آيات سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين والمتقين جميعاً، وثاني الاستفهامين للتوبيخ على أي حال.
وقد أضافت الملائكة الأرض إلى الله، ولا يخلو من إيماء إلى أن الله سبحانه هيأ في أرضه سعة أولاً، ثم دعاهم إلى الإيمان والعمل، كما يشعر به أيضاً قوله بعد آيتين: { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة } { الآية }.
ووصف الأرض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله: { فتهاجروا فيها } أي تهاجروا من بعضها إلى بعضها، ولولا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها.
ثم حكم الله في حقهم بعد إيراد المساءلة بقوله: { فأُولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً }.
قوله تعالى: { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان }، الاستثناء منقطع، وفي إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذي فسره به دلالة على أن الظالمين المذكورين لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم، وإنما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الآية، وفي تفصيل بيانهم بالرجال والنساء والولدان إيضاح للحكم الإلهي ورفع للبس. وقوله: { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً } الحيلة كأنها بناء نوع من الحيلولة، ثم استعملت استعمال الآلة، فهي ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شيء وشيء، أو حال للحصول على شيء أو حال آخر، وغلب استعماله في ما يكون على خفية، وفي الأمور المذمومة، وفي مادتها على أي حال معنى التغيّر على ما ذكره الراغب في مفرداته.
والمعنى: لا يستطيعون لا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف المشركين عن أنفسهم، ولا يهتدون سبيلاً يتخلصون بها عنهم، فالمراد من السبيل على ما يفيده السياق أعم من السبيل الحسّي كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمي مكة، والسبيل المعنوي وهو كل ما يخلصهم من أيدي المشركين، واستضعافهم لهم بالعذاب والفتنة.
(كلام في المستضعف)
يتبيّن بالآية أن الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذراً عند الله سبحانه.
توضيحه: أن الله سبحانه يعدُّ الجهل بالدين، وكل ممنوعيّة عن إقامة شعائر الدين ظلماً لا يناله العفو الإلهي، ثم يستثنى من ذلك المستضعفين، ويقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف، ثم يعرفهم بما يعمّهم وغيرهم من الوصف، وهو عدم تمكنهم ممّا يدفعون به المحذور عن أنفسهم، وهذا المعنى كما يتحقق، فيمن أُحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أولا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الإسلام والالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي ونحو ذلك، كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية، ولم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلاً، بل لو ظهر عنده حق اتبعه، لكن خفي عنه الحق لشيء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك.
فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه أُحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط، بل إنما استضعفته عوامل أُخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل.
هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية الذي هو في معنى عموم العلّة، وهو الذي يدل عليه غيرها من الآيات كقوله تعالى:
{ { لا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [البقرة: 286] فالأمر المغفول عنه ليس في وسع الإنسان، كما أن الممنوع من الأمر بما يمتنع معه ليس في وسع الانسان.
وهذه الآية أعني آية البقرة، كما ترفع التكليف بارتفاع الوسع، كذلك تعطي ضابطاً كليّاً في تشخيص مورد العذر وتمييزه من غيره، وهو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الإنسان، ولا يكون له في امتناع الأمر الذي امتنع عليه صنع، فالجاهل بالدين جملة أو بشيء من معارفه الحقّة إذا استند جهله إلى ما قصر فيه وأساء الاختيار استند إليه الترك وكان معصية، وإذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شيء من مقدّماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى اختياره، ولم يعد فاعلاً للمعصية، متعمّداً في المخالفة، مستكبراً عن الحق جاحداً له، فله ما كسب وعليه ما اكتسب، وإذا لم يكسب فلا له ولا عليه.
ومن هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شيء له ولا عليه لعدم كسبه أمراً، بل أمره إلى ربه، كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين: { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوّاً غفوراً } وقوله تعالى:
{ { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم } [التوبة: 106] ورحمته سبقت غضبه.
قوله تعالى: { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم }، هؤلاء وان لم يكسبوا سيئة لمعذوريّتهم في جهلهم لكنّا بينّا سابقاً أن أمر الانسان يدور بين السعادة والشقاوة وكفى في شقائه أن لا يحوز لنفسه سعادة، فالإِنسان لا غنى له في نفسه عن العفو الإلهي الذي يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحاً أو طالحاً أو لم يكن، ولذلك ذكر الله سبحانه رجاء عفوهم.
وإنما اختير ذكر رجاء عفوهم ثم عقب ذلك بقوله: { وكان الله عفواً غفوراً } اللائح منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الذين أوعدوا بأن مأواهم جهنم وساءت مصيراً.
قوله تعالى: { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة } قال الراغب: الرغام (بفتح الراء) التراب الرقيق، ورغم أنف فلان رغماً وقع في الرغام، وأرغمه غيره، ويعبّر بذلك عن السخط كقول الشاعر:

إذا رغمت تلك الأنوف لم أُرضها ولــم أطلـــب العتبى ولكن أزيدها

فمقابلته بالإرضاء مما ينبه على دلالته على الإسخاط، وعلى هذا قيل: أرغم الله أنفه، وأرغمه أسخطه، وراغمه ساخطه، وتجاهدا على أن يرغم أحدهما الآخر ثم يستعار المراغمة للمنازعة قال الله تعالى: { يجد في الأرض مراغماً كثيراً } أي مذهباً يذهب إليه إذا رأى منكراً يلزمه أن يغضب منه كقولك: غضبت إلى فلان من كذا ورغمت إليه (انتهى).
فالمعنى: { ومن يهاجر في سبيل الله }، أي طلباً لمرضاته في التلبّس بالدين علماً وعملاً، يجد في الارض مواضع كثيرة كلما منعه مانع في بعضها من اقامة دين الله استراح إلى بعض آخر بالهجرة إليه، لإرغام المانع واسخاطه أو لمنازعته المانع ومساخطته، ويجد سعة في الارض.
وقد قال تعالى في سابق الآيات: { ألم تكن أرض الله واسعة }، ولازم التفريع عليه أن يقال: ومن يهاجر يجد في الارض سعة، إلا أنه لما زيد قوله: { مراغماً كثيراً } وهو من لوازم سعة الارض لمن يريد سلوك سبيل الله قيدت المهاجرة أيضاً بكونها في سبيل الله لينطبق على الغرض من الكلام، وهو موعظة المؤمنين القاطنين في دار الشرك وتهييجهم وتشجيعهم على المهاجرة وتطييب نفوسهم.
قوله تعالى: { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } (الخ) المهاجرة إلى الله ورسوله كناية عن المهاجرة إلى أرض الإسلام التي يتمكن فيها من العلم بكتاب الله وسنّة رسوله، والعمل به.
وادراك الموت استعارة بالكناية عن وقوعه أو مفاجأته، فان الإدراك هو سعي اللاحق بالسير إلى السابق ثم وصوله إليه، وكذا وقوع الأجر على الله استعارة بالكناية عن لزوم الأجر والثواب له تعالى واخذه ذلك في عهدته، فهناك أجر جميل وثواب جزيل سيوافى به العبد لا محالة، والله سبحانه يوافيه بألوهيته التي لا يعزها شيء، ولا يعجزها شيء، ولا يمتنع عليها ما أرادته، ولا تخلف الميعاد، وختم الكلام بقوله: { وكان الله غفوراً رحيماً } تأكيداً للوعد الجميل بلزوم توفية الأجر والثواب.
وقد قسم الله سبحانه في هذه الآيات المؤمنين، أعني المدعين للإيمان من جهة الإقامة في دار الإيمان ودار الشرك إلى أقسام، وبين جزاء كل طائفة من هذه الطوائف بما يلائم حالها ليكون عظة وتنبيهاً، ثم ترغيباً في الهجرة إلى دار الإيمان، والاجتماع هناك، وتقوية المجتمع الاسلامي، والاتحاد والتعاون على البر والتقوى، واعلاء كلمة الحق، ورفع راية التوحيد، وأعلام الدين.
فطائفة أقامت في دار الاسلام من مجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وقاعدين غير أُولي الضرر، وقاعدين أُولي الضرر، { وكلاًّ وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة }.
وطائفة أقامت في دار الشرك، وهي ظالمة لا تهاجر في سبيل الله ومأواهم جهنم وساءت مصيراً، وطائفة منهم مستضعفة غير ظالمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وطائفة منهم غير مستضعفة خرجت من بيتها مهاجرة إلى الله ورسوله ثم ادركها الموت فقد وقع اجرها على الله.
والآيات تجري بمضامينها على المسلمين في جميع الأوقات والأزمنة، وإن كان سبب نزولها حال المسلمين في جزيرة العرب في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين هجرته إلى المدينة وفتح مكة، وكانت الأرض منقسمة يومئذ إلى أرض الإسلام، وهي المدينة وما والاها فيها جماعة المسلمين أحراراً في دينهم، وجماعة من المشركين وغيرهم لا يزاحمون في أمرهم لعهد ونحوه، وإلى أرض الشرك وهي مكة وما والاها هي تحت سلطة المشركين مقيمين على وثنيتهم، ويزاحمون المسلمين في أمر دينهم يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم لردهم عن دينهم.
لكن الآيات تحكم على المسلمين بملاكها دائماً، فعلى المسلم أن يقيم حيث يتمكن فيه من تعلم معالم الدين، ويستطيع إقامة شعائره والعمل بأحكامه، وأن يهجر الأرض التي لا علم فيها بمعارف الدين، ولا سبيل إلى العمل بأحكامه من غير فرق بين أن تسمّى اليوم دار الإسلام أو دار شرك، فإن الأسماء تغيرت اليوم وهجرت مسمّياتها وصار الدين جنسية، والإسلام مجرد تسمّ من غير أن يراعى في تسميته الاعتقاد بمعارفه أو العمل بأحكامه.
والقرآن الكريم إنما يرتّب الأثر على حقيقة الاسلام دون اسمه، ويكلف الناس من العمل ما فيه شيء من روحه لا ما هو صورته، قال تعالى:
{ { ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً } [النساء: 122 - 123] وقال تعالى: { { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة: 62]. (بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالاسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأُكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت هذه الآية: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } إلى آخر الآية.
قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فأنزلت فيهم هذه الآية: { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير فنزلت فيهم { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } فكتبوا إليهم بذلك ان الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
وفيه: أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال هم أُناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فاصيبوا يوم بدر فيمن أُصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وفيه: أخرج ابن جرير، عن ابن زيد في الآية قال: لما بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهر ونبع الإيمان نبع النفاق معه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجال، فقالوا: يا رسول الله لولا أنَّا نخاف هؤلاء القوم يعذبونا ويفعلون ويفعلون لأسلمنا، ولكن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فكانوا يقولون ذلك له، فلما كان يوم بدر قام المشركون فقالوا لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره، واستبحنا ماله، فخرج أُولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم فقتلت طائفة منهم، وأُسرت طائفة.
قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } (الآية) كلها { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها - وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم - أُولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً }.
ثم عذر الله أهل الصدق فقال: { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً } يتوجهون له لو خرجوا لهلكوا { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } إقامتهم بين ظهري المشركين.
وقال الذين أُسروا: يا رسول الله إنك تعلم أنَّا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وإن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفاً، فقال الله: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم - صنيعكم الذي صنعتم خروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل - خرجوا مع المشركين - فأمكن منهم.
وفيه أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن جرير عن عكرمة في قوله: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم } إلى قوله { وساءت مصيراً } قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبي العاص بن منبّه بن الحجاج، وعلي بن امية بن خلف.
قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا، واجتمعوا ببدر على غير موعد فقتلوا ببدر كفاراً، ورجعوا عن الإِسلام وهم هؤلاء الذين سميناهم.
أقول: والروايات في ما يقرب من هذه المعاني من طرق القوم كثيرة، وهى وإن كان ظاهرها أشبه بالتطبيق لكنه تطبيق حسن.
ومن أهم ما يستفاد منها، وكذا من الآيات بعد التدبر وجود منافقين بمكة قبل الهجرة وبعدها. فإن لذلك تأثيراً في البحث عن حال المنافقين على ما سيأتي في سورة البراءة إن شاء الله العزيز.
وفيه أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان بمكة رجل يقال له ضمرة من بني بكر، وكان مريضاً فقال لأهله أخرجوني من مكة فإني أجد الحر فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة، فخرجوا به فمات على ميلين من مكة فنزلت هذه الآية { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يُدركه الموت }.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة إلا أن فيها اختلافاً شديداً في تسمية هذا الذي أدركه الموت، ففي بعضها ضمرة بن جندب، وفي بعضها أكثم بن صيفي، وفي بعضها أبو ضمرة بن العيص الزرقي، وفي بعضها ضمرة بن العيص من بني ليث، وفي بعضها جندع بن ضمرة الجندعي، وفي بعضها أنها نزلت في خالد بن حزام خرج مهاجراً إلى حبشة فنهشته حية في الطريق فمات.
وفي بعض الروايات عن ابن عباس: أنه أكثم بن صيفي، قال الراوي: قلت: فأين الليثي؟ قال: هذا قبل الليثي بزمان، وهي خاصة عامة.
أقول: يعني أنها نزلت في أكثم خاصة ثم جرت في غيره عامة، والمتحصل من الروايات أن ثلاثة من المسلمين أدركهم الموت في سبيل الهجرة: أكثم بن صيفي، وليثي، وخالد بن حزام، وأما نزول الآية في أي منهم فكأنه تطبيق من الراوي.
وفي الكافي عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن المستضعف، فقال: هو الذي لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر، ولا يهتدي سبيلاً إلى الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر فمنهم الصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم.
أقول: والحديث مستفيض عن زرارة، رواه الكليني والصدوق والعياشي بعدة طرق عنه.
وفيه بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله. قال: الدين واسع، ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم. قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: نعم. فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله تعالى، وأتولاكم، وأبرأ من أعدائكم ومن ركب رقابكم، وتأمَّر عليكم، وظلمكم حقكم. فقال: والله ما جهلت شيئاً، هو والله الذي نحن عليه. فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: إلا المستضعفين. قلت: من هم؟ قال نساؤكم وأولادكم.
ثم قال: أرأيت أم أيمن؟ فإني أشهد أنها من اهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه.
وفي تفسير العياشي: عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن المستضعفين. فقال: البلهاء في خدرها، والخادمة تقول لها: صلي فتصلي لا تدري إلا ما قلت لها، والجليب الذي لا يدري إلا ما قلت له، والكبير الفاني، والصبي، والصغير، هؤلاء المستضعفون. فأما رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشراء والبيع لا تستطيع أن تعينه في شيء تقول: هذا المستضعف؟ لا، ولا كرامة.
وفي المعاني عن سليمان عن الصادق عليه السلام في الآية قال: يا سليمان، في هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون، ويصلون، تعف بطونهم وفروجهم، ولا يرون أن الحق في غيرنا آخذين بأغصان الشجرة فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم إذا كانوا آخذين بالأغصان، وأن يعرفوا أولئك فإن عفا الله عنهم فبرحمته وان عذبهم فبضلالتهم.
أقول: قوله لا يرون أن الحق في غيرنا، يريد صورة النصب أو التقصير المؤدي إليه كما يدل عليه الروايات الآتية.
وفيه عن الصادق عليه السلام أنه ذكر أن المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضاً، ومن لم يكن من أهل القبلة ناصباً فهو مستضعف.
وفيه: وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في الآية قال: لا يستطيعون حيلة إلى النصب فينصبون، ولا يهتدون سبيلاً إلى الحق فيدخلون فيه هؤلاء يدخلون الجنة بأعمال حسنة، وباجتناب المحارم التي نهى الله عنها، ولا ينالون منازل الأبرار.
وفي تفسير القمي: عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك ما حال الموحدين المقرين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام، ولا يعرفون ولايتكم؟ فقال: أما هؤلاء فإنهم في حفرهم لا يخرجون منها. فمن كان له عمل صالح، ولم يظهر منه عداوة فإنه يخدّ له خد إلى الجنة التي خلقها الله بالمغرب، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتى يلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيئاته، فإما إلى الجنة، وإما إلى النار، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله. قال وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم.
فأما النصّاب من أهل القبلة فإنه يخد لهم خدّ إلى النار التي خلقها الله بالمشرق، فيدخل عليه اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ثم مصيرهم إلى الجحيم.
وفي الخصال: عن الصادق عن أبيه عن جدّه عن علي عليه السلام قال: ان للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيّون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا - إلى أن قال - وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله، ولم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت عليه السلام.
وفي المعاني، وتفسير العياشي عن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله { إلا المستضعفين } قال: هم أهل الولاية. قلت: أيّ ولاية؟ قال: أما أنها ليست بولاية في الدين، ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار، وهم المرجون لأمر الله عزّ وجلّ.
أقول: وهو إشارة إلى قوله تعالى:
{ { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } [التوبة: 106] وسيأتي ما يتعلق به من الكلام إن شاء الله.
وفي النهج قال عليه السلام: ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه، ووعاها قلبه.
وفي الكافي عن الكاظم عليه السلام أنه سئل عن الضعفاء، فكتب عليه السلام: الضعيف من لم ترفع له حجة. ولم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف.
وفيه عن الصادق عليه السلام: أنه سئل: ما تقول في المستضعفين؟ فقال شبيهاً بالفزع فتركتم أحداً يكون مستضعفاً؟ وأين المستضعفون؟ فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق إلى العواتق في خدورهنّ، وتحدثت به السقاءات في طريق المدينة.
وفي المعاني عن عمر بن اسحاق قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام ما حدّ المستضعف الذي ذكره الله عز وجل؟ قال: من لا يحسن سورة من سور القرآن وقد خلقه الله عزّ وجلّ خلقة ما ينبغي لأحد أن لا يحسن.
أقول: وها هنا روايات أُخر غير ما أوردناه لكن ما مرّ منها حاوٍ لمجامع ما فيها من المقاصد، والروايات وإن كانت بحسب بادئ النظر مختلفة لكنها مع قطع النظر عن خصوصيات بياناتها بحسب خصوصيات مراتب الاستضعاف تتفق في مدلول واحد هو مقتضى اطلاق الآية على ما قدّمناه، وهو أن الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحق من غير تقصير.