خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
١٦
وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٧
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
١٨
وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٩
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
٢٠
-الأحقاف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
لما قسّم الناس في قوله: { لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين } إلى ظالمين ومحسنين وأُشير فيه إلى أن للظالمين ما يخاف ويحذر وللمحسنين ما يسرّ الإِنسان ويبشر به عقّب ذلك في هذا الفصل من الآيات بتفصيل القول فيه، وأن الناس بين قوم تائبين إلى الله مسلمين له وهم الذين يتقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وقوم خاسرين حقَّ عليهم القول في أُمم قد خلت من قبلهم من الجن والإِنس.
ومثل الطائفة الأولى بمن كان مؤمناً بالله مسلماً له بارّاً بوالديه يسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم عليه وعلى والديه والعمل الصالح وإصلاح ذرّيته، والطائفة الثانية بمن كان عاقّاً لوالديه إذا دعواه إلى الإِيمان بالله واليوم الآخر فيزجرهما ويعدّ ذلك من أساطير الأولين.
قوله تعالى: { ووصيّنا الإِنسان بوالديه إحساناً } إلى آخر الآية، الوصيّة على ما ذكره الراغب هو التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ والتوصية تفعيل من الوصية قال تعالى:
{ { ووصّى بها إبراهيم بنيه } [البقرة: 132]، فمفعوله الثاني الذي يتعدى إليه بالباء من قبيل الأفعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلق بهما وهو الإِحسان إليهما.
وعلى هذا فتقدير الكلام: ووصّينا الإِنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحساناً.
وفي إعراب { إحساناً } أقوال أُخر كقول بعضهم: إنه مفعول مطلق على تضمين { وصينا } معنى أحسنّا، والتقدير: وصينا الإِنسان محسنين إليهما إحساناً، وقول بعضهم: إنه صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاءً ذا إحسان، وقول بعضهم: هو مفعول له، والتقدير: وصيناه بهما لإِحساننا إليهما، إلى غير ذلك مما قيل.
وكيف كان فبرّ الوالدين والإِحسان إليهما من الأحكام العامة المشرعة في جميع الشرائع كما تقدم في تفسير قوله تعالى:
{ { قل تعالوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } [الأنعام: 151]، ولذلك قال: { ووصينا الإِنسان } فعمّمه لكل إنسان.
ثم عقَّبه سبحانه بالإِشارة إلى ما قاسته امه في حمله ووضعه وفصاله إشعاراً بملاك الحكم وتهييجاً لعواطفه وإثارة لغريزة رحمته ورأفته فقال: { حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } أي حملته امه حملاً ذا كره أي مشقة وذلك لما في حمله من الثقل، ووضعته وضعاً ذا كره وذلك لما عنده من ألم الطلق.
وأما قوله: { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } فقد اخذ فيه أقل مدة الحمل وهو ستة أشهر, والحولان الباقيان إلى تمام ثلاثين شهراً مدة الرضاع، قال تعالى:
{ { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [البقرة: 233]، وقال: { { وفصاله في عامين } [لقمان: 14]. والفصال التفريق بين الصبي وبين الرضاع، وجعل العامين ظرفاً للفصال بعناية أنه في آخر الرضاع ولا يتحقق إلا بانقضاء عامين.
وقوله: { حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة } بلوغ الأشد بلوغ زمان من العمر تشتد فيه قوى الإِنسان، وقد مرَّ نقل اختلافهم في معنى بلوغ الأشد في تفسير قوله:
{ { ولما بلغ أشدَّه آتيناه حكماً وعلماً } [يوسف: 22]، وبلوغ الأربعين ملازم عادة لكمال العقل.
وقوله: { قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه } الإِيزاع الإِلهام، وهذا الإِلهام ليس بإِلهام علم يعلم به الإِنسان ما جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله:
{ { ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها } [الشمس: 7 - 8]، بل هو إلهام عملي بمعنى البعث والدعوة الباطنية إلى فعل الخير وشكر النعمة وبالجملة العمل الصالح.
وقد أُطلق النعمة التي سأل إلهام الشكر عليها فتعمّ النعم الظاهرية كالحياة والرزق والشعور والإِرادة، والباطنية كالإِيمان بالله والإِسلام والخشوع له والتوكل عليه والتفويض إليه ففي قوله: { رب أوزعني أن أشكر نعمتك } الخ، سؤال أن يلهمه الثناء عليه بإظهار نعمته قولاً وفعلاً: أما قولاً فظاهر، وأما فعلاً فباستعمال هذه النعم استعمالاً يظهر به أنها لله سبحانه أنعم بها عليه وليست له من قبل نفسه ولازمه ظهور العبودية والمملوكية من هذا الإِنسان في قوله وفعله جميعاً.
وتفسير النعمة بقوله: { التي أنعمت عليّ وعلى والديّ } يفيد شكره من قبل نفسه على ما اختص به من النعمة ومن قبل والديه فيما أنعم به عليهما فهو لسان ذاكر لهما بعدهما.
وقوله: { وأن أعمل صالحاً ترضاه } عطف على قوله: { أن أشكر } الخ، سؤال متمم لسؤال الشكر على النعم فإن الشكر يحلي ظاهر الأعمال، والصلاحية التي يرتضيها الله تعالى تحلّي باطنها وتخلّصها له تعالى.
وقوله: { وأصلح لي في ذريتي } الإِصلاح في الذرية إيجاد الصلاح فيهم وهو من الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح وينجرّ إلى إصلاح نفوسهم، وتقييد الإِصلاح بقوله: { لي } للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هو به أي أن يكون ذريته له في برّه وإحسانه كما كان هو لوالديه.
ومحصّل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته وصالح العمل وأن يكون بارَّاً محسناً بوالديه ويكون ذريته له كما كان هو لوالديه، وقد تقدَّم غير مرَّة أن شكر نعمه تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصاً لله فيؤول معنى الدعاء إلى سؤال خلوص النفس وصلاح العمل.
وقوله: { إني تبت إليك وإني من المسلمين } أي الذين يسلمون الأمر لك فلا تريد شيئاً إلا أرادوه بل لا يريدون إلا ما أردت.
والجملة في مقام التعليل لما يتضمنه الدعاء من المطالب، ويتبين بالآية حيث ذكر الدعاء ولم يردّه بل أيَّده بما وعد في قوله: { أُولئك الذين نتقبّل عنهم } الخ، أن التوبة والإِسلام لله سبحانه إذا اجتمعا في العبد استعقب ذلك إلهامه تعالى بما يصير به العبد من المخلصين - بفتح اللام - ذاتاً والمخلصين - بكسر اللام - عملاً أما إخلاص الذات فقد تقدمت الإِشارة إليه آنفاً، وأما إخلاص العمل فلأن العمل لا يكون صالحاً لقبوله تعالى مرفوعاً إليه إلا إذا كان خالصاً لوجهه الكريم، قال تعالى:
{ { ألا لله الدين الخالص } [الزمر: 3]. قوله تعالى: { أُولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة } الخ، التقبل أبلغ من القبول، والمراد بأحسن ما عملوا طاعاتهم من الواجبات والمندوبات فإنها هي المقبولة المتقبلة وأما المباحات فإنها وإن كانت ذات حسن لكنها ليست بمتقبلة، كذا ذكر في مجمع البيان وهو تفسير حسن ويؤيده مقابلة تقبُّل أحسن ما عملوا بالتجاوز عن السيئات فكأنه قيل: إن أعمالهم طاعات من الواجبات والمندوبات وهي أحسن أعمالهم فنتقبلها وسيئات فنتجاوز عنها وما ليس بطاعة ولا حسنة فلا شأن له من قبول وغيره.
وقوله: { في أصحاب الجنة } متعلق بقوله: { نتجاوز } أي نتجاوز عن سيئاتهم في جملة من نتجاوز عن سيئاتهم من أصحاب الجنة، فهو حال من ضمير { عنهم }.
وقوله: { وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } أي يعدهم الله بهذا الكلام وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه إلى هذا الحين بلسان الأنبياء والرسل، أو المراد أنه ينجّز لهم بهذا التقبل والتجاوز يوم القيامة وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه في الدنيا.
قوله تعالى: { والذي قال لوالديه أُفّ لكما أتعدانني أن أُخرج وقد خلت القرون من قبلي } لما ذكر الإِنسان الذي تاب إلى الله وأسلم له وسأله الخلوص والإِخلاص وبرّ والديه وإصلاح أولاده له قابله بهذا الإِنسان الذي يكفر بالله ورسوله والمعاد ويعقّ والديه إذا دعواه إلى الإِيمان وأنذراه بالمعاد.
فقوله: { والذي قال لوالديه أُفّ لكما } الظاهر أنه مبتدأ في معنى الجمع وخبره قوله بعد: { أُولئك الذين } الخ، و { أُفّ } كلمة تبرُّم يقصد بها إظهار التسخط والتوجع و { أتعدانني أن أُخرج } الاستفهام للتوبيخ، والمعنى: أتعدانني أن أُخرج من قبري فاحيا وأُحضر للحساب أي أتعدانني المعاد { وقد خلت القرون من قبلي } أي والحال أنه هلكت أمم الماضون العائشون من قبلي ولم يُحي منهم أحد ولا بُعث.
وهذا على زعمهم حجة على نفي المعاد وتقريره أنه لو كان هناك إحياء وبعث لاحيى بعض من هلك إلى هذا الحين وهم فوق حد الإِحصاء عدداً في أزمنة طويلة لا أمد لها ولا خبر عنهم ولا أثر ولم ينتبهوا أن القرون السالفة لو عادوا كما يقولون كان ذلك بعثاً وإحياء في الدنيا والذي وعده الله سبحانه هو البعث للحياة الآخرة والقيام لنشأة اخرى غير الدنيا.
وقوله: { وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق } الاستغاثة طلب الغوث من الله أي والحال أن والديه يطلبان من الله أن يغيثهما ويعينهما على إقامة الحجة واستمالته إلى الإِيمان ويقولان له: ويلك آمن بالله وبما جاء به رسوله ومنه وعده تعالى بالمعاد إن وعد الله بالمعاد من طريق رسله حق.
ومنه يظهر أن مرادهما بقولهما: { آمن } هو الأمر بالإِيمان بالله ورسوله فيما جاء به من عند الله، وقولهما: { إن وعد الله حق } المراد به المعاد، وتعليل الأمر بالإِيمان به لغرض الإِنذار والتخويف.
وقوله: { فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين } الإِشارة بهذا إلى الوعد الذي ذكراه وأنذراه به أو مجموع ما كانا يدعوانه إليه والمعنى: فيقول هذا الإِنسان لوالديه ليس هذا الوعد الذي تنذرانني به أوليس هذا الذي تدعوانني إليه إلا خرافات الأولين وهم الأمم الأولية الهمجية.
قوله تعالى: { أُولئك الذين حق عليهم القول } الخ، تقدم بعض الكلام فيه في تفسير الآية 25 من سورة حم السجدة.
قوله تعالى: { ولكل درجات مما عملوا } إلى آخر الآية أي لكل من المذكورين وهم المؤمنون البررة والكافرون الفجرة منازل ومراتب مختلفة صعوداً وحدوراً فللجنة درجات وللنار دركات.
ويعود هذا الاختلاف إلى اختلافهم في أنفسهم وإن كان ظهوره في أعمالهم ولذلك قال: { ولكل درجات مما عملوا } فالدرجات لهم ومنشأها أعمالهم.
وقوله: { وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون } اللام للغاية والجملة معطوفة على غاية أو غايات اخرى محذوفة لم يتعلق بذكرها غرض، وإنما جعلت غاية لقوله: { هم درجات } لأنه في معنى وجلعناهم درجات، والمعنى: جعلناهم درجات لكذا وكذا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون.
ومعنى توفيتهم أعمالهم إعطاؤهم نفس أعمالهم فالآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال، وقيل: الكلام على تقدير مضاف والتقدير وليوفيهم أجور أعمالهم.
قوله تعالى: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } الخ، عرض الماء على الدابة وللدابة وضعه بمرئى منها بحيث إن شاءت شربته، وعرض المتاع على البيع وضعه موضعاً لا مانع من وقوع البيع عليه.
وقوله: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } قيل: المراد بعرضهم على النار تعذيبهم فيها من قولهم: عرض فلان على السيف إذا قتل وهو مجاز شائع.
وفيه أن قوله في آخر السورة: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب } لا يلائمه تلك الملاءمة حيث فرع ذوق العذاب على العرض فهو غيره.
وقيل: إن في الآية قلباً والأصل عرض النار على الذين كفروا لأن من الواجب في تحقق معنى العرض أن يكون في المعروض عليه شعور بالمعروض والنار لا شعور لها بالذين كفروا بل الأمر بالعكس ففي الكلام قلب، والمراد عرض النار على الذين كفروا.
ووجهه بعض المفسرين بأن المناسب أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه كما في قولنا: عرضت الماء على الدابة وعرضت الطعام على الضيف، ولما كان الأمر في عرض النار على الذين كفروا بالعكس فإنهم هم المسيرون إلى النار فقلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار.
وفيه نظر أما ما ذكر من أن المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور وإدارك بالمعروض حتى يرغب إليه أو يرغب عنه والنار لا شعور لها ففيه أولاً: أنه ممنوع كما يؤيده قولهم: عرضت المتاع على البيع، وقوله تعالى:
{ { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال } [الأحزاب: 72]، وثانياً: أنَّا لا نسلّم خلوّ نار الآخرة عن الشعور، ففي الأخبار الصحيحة أن للجنة والنار شعوراً ويشعر به قوله: { { يوم نقول لجهنم هل امتلأت فتقول هل من مزيد } [ق: 30]، وغيره من الآيات.
وأما ما قيل من أن المناسب تحريك المعروض إلى المعروض عليه فلا نسلّم لزومه ولا اطراده فهو منقوض بقوله:
{ { إنَّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض } [الأحزاب: 72]. على أن في كلامه تعالى ما يدل على الإِتيان بالنار إلى الذين كفروا كقوله: { { وجيء يومئذٍ بجهنم يومئذٍ يتذكر الإِنسان وأنَّى له الذكرى } [الفجر: 23]. فالحق أن العرض وهو إظهار عدم المانع من تلبس شيء بشيء معنى له نسبة إلى الجانبين يمكن أخذ كل منهما أصلاً معروضاً عليه والآخر فرعاً معروضاً فتارة تؤخذ النار معروضة على الكافرين بعناية أن لا مانع من عمل صالح أو شفاعة تمنع من دخولهم فيها كقوله تعالى: { { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً } [الكهف: 100]، وتارة يؤخذ الكفار معروضين للنار بعناية أن لا مانع يمنع النار أن تعذبهم، كما في قوله: { { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } [غافر: 46]، وقوله: { يعرض الذين كفروا على النار } الآية.
وعلى هذا فالأشبه تحقق عرضين يوم القيامة: عرض جهنم للكافرين حين تبرز لهم ثم عرضهم على جهنم بعد الحساب والقضاء الفصل بدخولهم فيها حين يساقون إليها، قال تعالى:
{ { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } [الزمر: 71]. وقوله: { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } على تقدير القول أي يقال لهم: { أذهبتم } الخ، والطيبات الأمور التي تلائم النفس وتوافق الطبع ويستلذُّ بها الإِنسان، وإذهاب الطيبات إنفادها بالاستيفاء لها، والمراد بالاستمتاع بها استعمالها والانتفاع بها لنفسها لا للآخرة والتهيؤ لها.
والمعنى: يقال لهم حين عرضهم على النار: أنفذتم الطيبات التي تلتذون بها في حياتكم الدنيا واستمتعتم بتلك الطيبات فلم يبق لكم شيء تلتذون به في الآخرة.
وقوله: { فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } تفريع على إذهابهم الطيبات، وعذاب الهون العذاب الذي فيه الهون والخزي.
والمعنى: فاليوم تجزون العذاب الذي فيه الهوان والخزي قبال استكباركم في الدنيا عن الحق وقبال فسقكم وتوليكم عن الطاعات، وهما ذنبان أحدهما متعلق بالاعتقاد وهو الاستكبار عن الحق والثاني متعلق بالعمل وهو الفسق.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر فسأل عنها أصحاب النبي فقال علي: لا رجم عليها ألا ترى أنه يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهراً، وقال: وفصاله في عامين، وكان الحمل ها هنا ستة أشهر فتركها عمر. قال: ثم بلغنا أنها ولدت آخر لستة أشهر.
أقول: وروى القصة المفيد في الإِرشاد.
وفيه أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امراة من جهينة فولدت له تماماً لستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان فأمر برجمها فبلغ ذلك علياً فأتاه فقال: ما تصنع؟ قال: ولدت تماماً لستة أشهر وهل يكون ذلك؟ قال علي: أما سمعت الله تعالى يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهراً وقال: حولين كاملين فكم تجده بقي إلا ستة أشهر؟.
فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا. عليَّ بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها، وكان من قولها لاختها: لا تحزني فوالله ما كشف فرجي أحد قط غيره. قال: فشب الغلام بعد فاعترف الرجل به وكان أشبه الناس به. قال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضواً عضواً على فراشه.
وفي التهذيب بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله عز وجل: { حتى إذا بلغ أشدَّه } قال: الاحتلام.
وفي الخصال عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا بلغ العبد ثلاثاً وثلاثين سنة فقد بلغ أشده، وإذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا طعن في إحدى وأربعين فهو في النقصان، وينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان في النزع.
أقول: لا تخلو الرواية من إشعار بكون بلوغ الأشد مما يختلف بالمراتب فيكون الاحتلام وهو غالباً في الست عشرة أول مرتبة منها والثلاث والثلاثين وهي بعد مضيّ ست عشرة اخرى المرتبة الثانية، وقد تقدم في نظيرة الآية من سورة يوسف بعض أخبار أُخر.
واعلم أنه قد وردت في الآية أخبار تطبقها على الحسين بن علي عليه السلام وولادته لستة أشهر وهي من الجري.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردوية عن عبد الله قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهرقلية؟ إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده.
فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أُفّ لكما؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن أباك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: وسمعتها عائشة فقالت: يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ كذبت والله ما فيه نزلت. نزلت في فلان بن فلان.
وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس في الذي قال لوالديه أُفّ لكما الآية، قال: هذا ابن لأبي بكر.
أقول: وروي ذلك أيضاً عن قتادة والسدّي، وقصة رواية مروان وتكذيب عائشة له مشهورة. قال في روح المعاني بعد رد رواية مروان: ووافق بعضهم كالسهيلي في الأعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن، وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعيير لا سيما من مروان فإن الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم، وكان له في الإِسلام عناء يوم اليمامة وغيره، والإِسلام يجبّ ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعيّر بما كان يقول. انتهى.
وفيه أن الروايات لو صحَّت لم يكن مناص عن صريح شهادة الآية عليه بقوله: { أُولئك الذين حقَّ عليهم القول } إلى قوله { إنهم كانوا خاسرين } ولم ينفع شيء مما دافع عنه به.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { ويوم يعرض الذين كفروا } إلى قوله { واستمتعتم بها } قال: أكلتم وشربتم وركبتم، وهي في بني فلان { فاليوم تجزون عذاب الهون } قال: العطش.
وفي المحاسن بإسناده عن ابن القدَّاح عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: أُتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبيص فأبى أن يأكله فقيل: أتحرّمه؟ فقال: لا ولكني أكره أن تتوق إليه نفسي ثم تلا الآية { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا }.
وفي المجمع في الآية وقد روي في الحديث أن عمر بن الخطاب قال: استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم وإنه لمضطجع على حفصة وإن بعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوَّة ليفاً فسلمت عليه ثم جلست فقلت: يا رسول الله أنت نبي وصفوته وخيرته من خلقه وكسرى وقيصر على سرير الذهب وفرش الحرير والديباج! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أولئك قوم عجّلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنما أُخِّرت لنا طيباتنا.
أقول: ورواه في الدر المنثور بطرق عنه.