خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
١٠٥
-المائدة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، ويلازموا سبيل هدايتهم ولا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، والكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } لفظة "عليكم" اسم فعل بمعنى ألزموا، و "أنفسكم" مفعوله.
ومن المعلوم أن الضلال والاهتداء - وهما معنيان متقابلان - إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير؛ فالملازم لمتن الطريق ينتهي إلى ما ينتهي إليه الطريق، وهو الغاية المطلوبة التي يقصدها الإِنسان السالك في سلوكه، أما إذا استهان بذلك وخرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذي تفوت به الغاية المقصودة فالآية تقدر للإِنسان طريقاً يسلكه ومقصداً يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضلّ وليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة، والعاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذي يرجع إليه الجميع: المهتدي والضال.
فالثواب الذي يريده الإِنسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون، ويحرم عنه الضلال، ولازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لأهل الهداية والطرق المسلوكة لأهل الضلال تنتهي إلى الله سبحانه، وعنده سبحانه الغاية المقصودة وإن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الإِنسان إلى البغية والفوز والفلاح أو ضربه بالخيبة والخسران، وكذلك في القرب والبعد كما قال تعالى:
{ { يا أيها الإِنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } [الإنشقاق: 6]، وقال تعالى: { ألا إن حزب الله هم المفلحون } [المجادلة: 22]، وقال تعالى: { { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار } [إبراهيم: 28]، وقال تعالى: { { فإني قريب أُجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } [البقرة: 186]، وقال تعالى: { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد } } [فصلت: 44]. بين تعالى في هذه الآيات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيراً لا مناص لهم عنه، غير أن طريق بعضهم قصير وفيه الرشد والفلاح، وطريق آخرين طويل لا ينتهي إلى سعادة، ولا يعود إلى سالكه إلا الهلاك والبوار.
وبالجملة فالآية تقدر للمؤمنين وغيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، وتأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم وينصرفوا عن غيرهم وهم أهل الضلال من الناس ولا يقعوا فيهم ولا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين وليسوا بمسؤولين عنهم حتى يهمهم أمرهم؛ فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى:
{ { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون } [الجاثية: 14]، ونظيرها قوله تعالى: { { تلك أُمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } } [البقرة: 134]. فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى، ولا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس وشيوع المعاصي بينهم ولا يشغله ذلك ولا يشتغل بهم فالحق حق وإن ترك والباطل باطل وإن أُخذ به كما قال تعالى: { { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون } [المائدة: 100] وقال تعالى: { { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } } [فصلت: 34]. فقوله تعالى: { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } بناء على ما مر مسوق سوق الكناية أُريد به نهي المؤمنين عن التأثر من ضلال من ضل من الناس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إن الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين ولا تبيح التنحل بالمعنويات فإنما ذلك من السنن الساذجة وقد مضى زمنه وانقرض أهله، قال تعالى: { { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } } [القصص: 57]. أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم وينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالجملة الأخذ بالأسباب العادية ثم إيكال أمر المسببات إلى الله سبحانه فإليه الأمر كله، فأما أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، ولا يؤاخذ بعمل غيره، وما هو عليه بوكيل، وعلى هذا فتصير الآية في معنى قوله تعالى: { { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً، إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً، وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } [الكهف: 6ـ8]، وقوله تعالى: { { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } } [الرعد: 31] ونحو ذلك.
وقد تبين بهذا البيان أن الآية لا تنافي آيات الدعوة وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الآية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه.
على أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافي الآية آيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تنسخها؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأُسسه التي بني عليها كما قال تعالى:
{ { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } [يوسف: 108] وقال تعالى: { { كنتم خير أُمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } } [آل عمران: 110]. فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإِلهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزناً أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.
وإذا كانت الآية قدرت للمؤمنين طريقاً فيه اهتداؤهم ولغيرهم طريقاً من شأنه ضلال سالكيه، ثم أمر المؤمنين في قوله: { عليكم أنفسكم } بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذي يؤمر بسلوكه ولزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه والتحذير من تركه لا على لزوم سالك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى:
{ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } } [الأنعام: 153]. فأمره تعالى المؤمنين بلزوم أنفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذي يجب عليهم سلوكه ولزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذي يسلكه إلى ربه وهو طريق هداه، وهو المنتهي به إلى سعادته.
فالآية تجلي الغرض الذي تؤمه إجمالاً آيات أخرى كقوله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } } [الحشر: 18ـ 20]. فالآيات تأمر بأن تنظر النفس وتراقب صالح عملها الذي هو زادها غداً وخير الزاد التقوى فللنفس يوم وغد وهي في سير وحركة على مسافة، والغاية هو الله سبحانه وعنده حسن الثواب وهو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها ولا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية، ونسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسي ربه نسي نفسه، ولم يعد لغده ومستقبل مسيره زاداً يتزود به ويعيش باستعماله وهو الهلاك، وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من عرف نفسه فقد عرف ربه"
]. وهذا المعنى هو الذي يؤيده التدبر التام والاعتبار الصحيح فإن الإِنسان في مسير حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه وسعادة حياته وإن اشتغل في ظاهر الأمر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى: { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها }.
وليس هناك إلا هذا الإِنسان الذي يتطور طوراً بعد طور، ويركب طبقاً عن طبق من جنين وصبي وشاب وكهل وشيخ ثم الذي يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة ثم ما بعده من جنة أو نار، فهذه هي المسافة التي يقطعها الإِنسان من موقفه في أول تكونه إلى أن ينتهي إلى ربه، قال تعالى:
{ { وأن إلى ربك المنتهى } } [النجم: 42]. وهو الإِنسان لا يطأ موطأ في مسيره ولا يسير ولا يسري إلاَّ بأعمال قلبية هي الاعتقادات ونحوها وأعمال جوارحية صالحة أو طالحة، وما أنتجه عمله يوماً كان هو زاده غداً فالنفس هو طريق الإِنسان إلى ربه، والله سبحانه هو غايته في مسيره.
وهذا طريق اضطرارى لا مناص للإِنسان عن سلوكه كما يدل عليه قوله تعالى:
{ { يا أيُّها الإِنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } [الإنشقاق: 6]، فهذا طريق ضروري السلوك يشترك فيه المؤمن والكافر والملتفت المتنبه والغافل العامه، والآية لا تريد الحث على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممن لا يسلك.
وإنما تريد الآية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإن هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينية وإن كانت ثابتة غير متغيرة بالعلم والجهل لكن التفات الإِنسان إليها يؤثر في عمله تأثيراً بارزاً، والأعمال التي تربي النفس الإِنسانية تربية مناسبة لسنخها وإذا كان العمل ملائماً لواقع الأمر مناسباً لغاية الصنع والإِيجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدها، غير خائبة في سعيها ولا خاسرة في صفقتها، وقد مرَّ بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب.
وتوضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أن الإِنسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الإِلهية من دون أن يفوته تعالى شيء من أمره، وقد قال تعالى:
{ ما من دابة إلاَّ هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } [هود: 56] وهذه تربية تكوينية على حد ما يربي الله سبحانه غيره من الأمور، في مسيرها جميعاً إليه تعالى، وقد قال: { { ألا إلى الله تصير الأُمور } [الشورى: 53]، ولا يتفاوت الأمر ولا يختلف الحال في هذه التربية بين شيء وشيء فإن الصراط مستقيم، والأمر متشابه مطرد، وقد قال تعالى أيضاً: { ما ترى في خلق الرَّحمن من تفاوت } } [الملك: 3]. وقد جعل سبحانه غاية الإِنسان وما ينتهي إليه أمره ويستقر عليه عاقبته من حيث السعادة والشقاوة والفلاح والخيبة مبنية على أحوال وأخلاق نفسانية مبنية على أعمال من الإِنسان تنقسم تلك الأعمال إلى صالحة وطالحة وتقوى وفجور كما قال تعالى: { ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها } } [الشمس: 7ـ10] فالآيات - كما ترى - تضع النفس المسواة في جانب وهو مبدأ الحال، والفلاح والخيبة في جانب وهو الغاية ومنتهى المسير، ثم تبني الغايتين أعني الفلاح والخيبة على تزكية النفس وتدسيتها وذلك مرحلة الأخلاق، ثم تبني الفضيلة والرذيلة على التقوى والفجور أعني الأعمال الصالحة والطالحة التي تنطق الآيات بأن الإِنسان ملهم بها من جانب الله تعالى.
والآيات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة وهي التي أُضيف إليها الفجور والتقوى، وهي التي تزكى وتدسى، وهي التي يفلح فيها الإِنسان ويخيب، وهذا كما عرفت جري على مقتضى التكوين.
لكن هذه الحقيقة التكوينية أعني كون الإِنسان في حياته سائراً في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها ولو بخطوة، ولا تركها والخروج منها ولو لحظة، لا يتساوى حال من تنبه له وتذكر به تذكراً لازماً لا يتطرق إليه نسيان، وحال من غفل عنه ونسي الواقع الذي لا مفر له منه، وقد قال تعالى:
{ { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أُولوا الألباب } }. [الزمر: 9]. وقال تعالى: { { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربي لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } } [طه: 123ـ126]. وذلك أن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه ونسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره وقد كان يجدها على غير هذا النعت ومضروباً دونها الحجاب لا يمسها بالإِحاطة والتأثير إلاَّ ربها المدبر لأمرها الذي يدفعها من ورائها ويجذبها إلى قدامها بقدرته وهدايته، ووجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال، وعند ذلك يفقه معنى قوله تعالى: { إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون } بعد قوله: { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ومعنى قوله تعالى: { { أوَمَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } } [الأنعام: 122]. وعند ذلك يتبدل إدراك النفس وشعورها، ويهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبودية ومقام التوحيد، ولا يزال يعوض شركاً من توحيد وتوهماً من تحقق وبعداً من قرب واستكباراً شيطانياً من تواضع رحماني واستغناء وهمياً من فقر عبودي إن أخذت بيدها العناية الإِلهية وساقها سائق التوفيق.
ونحن وإن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان إخلادنا إلى الأرض واشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق التي يكشف عنها الدين ويشير إليها الكتاب الإِلهي بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التي لا يعرفها الكلام الإِلهي في بيانه إلاَّ بأنها لعب ولهو كما قال تعالى:
{ { وما الحياة الدنيا إلاَّ لعب ولهو } [الأنعام: 32] وقال تعالى: { { ذلك مبلغهم من العلم } } [النجم: 30]. إلاَّ أن الاعتبار الصحيح والبحث البالغ والتدبر الوافي يوصلنا إلى التصديق بكلياتها إجمالاً وإن قصرنا عن إحصاء التفاصيل والله الهادي.
ولعلَّنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أول الكلام فنقول: وتسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: { يا أيُّها الذين آمنوا } مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: { عليكم أنفسكم } هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإِسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإِلهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والأعمال الصالحة والشعائر الإِسلامية العامة كما قال تعالى:
{ { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } [آل عمران: 103] وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب والسُنّة.
ويكون قوله: { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } يراد به أنهم في أمن من أضرار المجتمعات الضالة غير الإِسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإِسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.
أو أنه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات والتمتع من مزايا العيش الباطلة فإن الجميع مرجعهم إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون، وتجري الآية على هذا مجرى قوله تعالى:
{ { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنّم وبئس المهاد } [آل عمران: 196ـ197]، وقوله: { { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا } } [طه: 131]. وهنا معنى آخر لقوله: { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } من جهة أن المنفي في الآية هو الإِضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شيء معيّن من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإِطلاق، ويكون المعنى نفي أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الإِسلامي بتبديله مجتمعاً غير إسلامي بقوة قهرية فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى: { { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون } [المائدة: 3]، وقوله: { { لن يضروكم إلاَّ أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } } [آل عمران: 111]. وقد ذكر جمع من مفسري السلف أن مفاد الآية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكروا أن الآية خاصة تختص بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الأمن من الضرر وقد رووا في ذلك روايات ستأتي الإِشارة إليها في البحث الروائي الآتي.
ولازم هذا المعنى أن يكون قوله: { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك وإلاَّ فتضرر المجتمع الديني من شيوع الضلال من كفر أو فسق مما لا يرتاب فيه ذو ريب.
لكن ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الآية فإن الآية لو أُخذت مخصصة لعمومات وجوب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، وإن أُخذت ناسخة فآيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آبية من النسخ، وللكلام تتمة ستوافيك.
(بحث روائي)
في الغرر والدرر للآمدي عن علي عليه السلام قال: من عرف نفسه عرف ربه.
أقول: ورواه الفريقان عن النبي أيضاً، وهو حديث مشهور، وقد ذكر بعض العلماء: أنه من تعليق المحال، ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإِحاطة العلمية بالله سبحانه؛ ورد أولاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أُخرى:
"أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه" ، وثانياً بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم }.
وفيه عنه عليه السلام: قال: الكيس من عرف نفسه وأخلص أعماله.
أقول: تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الإِخلاص وتفرعه على الاشتغال بمعرفة النفس.
وفيه عنه عليه السلام: قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين.
أقول: الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسية والمعرفة بالآيات الآفاقية، قال تعالى:
{ { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أَوَلَم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [فصلت: 53]، وقال تعالى: { { وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون } } [الذاريات: 20ـ21]. وكون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي لعلَّه لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية، وذلك أن كون معرفة الآيات نافعة إنما هو لأن معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ككونه تعالى حياً لا يعرضه موت، وقادراً لا يشوبه عجز، وعالماً لا يخالطه جهل، وأنه تعالى هو الخالق لكل شيء، والمالك لكل شيء، والرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وهذه وأمثالها معارف حقة إذا تناولها الإِنسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته، وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدي الإِنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهي التي نسميها بالدين، فإن السنة التي يلتزمها الإِنسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدوي والهمجي إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعاً من الحياة أي نوع كان، ثم يعمل بما استحسنه من السنة لإِسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان.
فالحياة التي يقدرها الإِنسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدي بها إلى الأعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الإِنسان عمله عليها وهو السنة أو الدين.
فتلخص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الأنفسية والآفاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدي الإِنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الإِلهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإِنسانية المؤبدة له عند ذلك، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة.
وهذه هداية إلى الإِيمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معاً أعني طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس فهما نافعان جميعاً غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها.
واشتغال الإِنسان بمعرفة هذه الأمور والإِذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الآيات الآفاقية فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر.
وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقية في علم النفس وهو أن النظر في الآيات الآفاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكري وعلم حصولي بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي وعلم حضوري، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان، وهو باق ما دام الإِنسان متوجهاً إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها، ولذلك يزول العلم بزوال الإِشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف.
وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الإِنسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمراً عجيباً؛ وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء متصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاءً وسناءً وجمالاً وجلالاً وكمالاً من الوجود والحياة والعلم والقدرة، وغيرها من كل كمال.
وشاهد ما تقدم بيانه أن النفس الإِنسانية لا شأن لها إلاَّ في نفسها، ولا مخرج لها من نفسها، ولا شغل لها إلاَّ السير الاضطراري في مسير نفسها، وأنها منقطعة عن كل شيء كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلاَّ ربها المحيط بباطنها وظاهرها وكل شيء دونها فوجدت أنها دائماً في خلأ مع ربها وإن كانت في ملأ من الناس.
وعند ذلك تنصرف عن كل شيء وتتوجه إلى ربها وتنسى كل شيء وتذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب ولا تستتر عنه بستر وهو حق المعرفة الذي قدر لإِنسان.
وهذه المعرفة الأحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله، وأما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الآيات الآفاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية، وجل الإِله أن يحيط به ذهن أو تساوى ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، ولا يحيطون به علماً.
وقد روي في الإِرشاد والاحتجاج على ما في البحار عن الشعبي عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء. وفي التوحيد عن موسى بن جعفر عليه السلام في كلام له: ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور لا إله إلاَّ هو الكبير المتعال. وفي التوحيد مسنداً عن عبد الأعلى عن الصادق عليه السلام في حديث: ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن الحجاب والصورة والمثال غيره، وإنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره، الحديث. والأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في معنى ما قدمناه كثيرة جداً لعلَّ الله يوفقنا لإِيرادها وشرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الأعراف.
فقد تحصل أن النظر في آيات الأنفس أنفس وأغلى قيمة وأنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، وعلى هذا فعده عليه السلام إيّاها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو لأن العامة من الناس قاصرون عن نيلها، وقد أطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي وهو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعاً لكن النفع في طريق النفس أتم وأغزر.
وفي الدرر والغرر عن علي عليه السلام قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها.
أقول: أي أعتقها عن أسارة الهوى ورقية الشهوات.
وفيه عنه عليه السلام: قال: أعظم الجهل جهل الإِنسان أمر نفسه.
وفيه عنه عليه السلام: قال: أعظم الحكمة معرفة الإِنسان نفسه.
وفيه عنه عليه السلام: قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه.
أقول: وذلك لكونه أعلمهم بربه وأعرفهم به، وقد قال الله سبحانه: { إنما يخشى الله من عباده العلماء }.
وفيه عنه عليه السلام: قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضلَّ.
وفيه عنه عليه السلام: قال: عجبت لمن ينشد ضالته، وقد أضل نفسه فلا يطلبها.
وفيه عنه عليه السلام: قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه؟.
وفيه عنه عليه السلام: قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه.
أقول: وقد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة.
وفيه عنه عليه السلام: قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه.
وفيه عنه عليه السلام: قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، وكفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه.
وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه تجرّد.
أقول: أي تجرّد عن علائق الدنيا، أو تجرّد عن الناس بالاعتزال عنهم، أو تجرّد عن كل شيء بالإِخلاص لله.
وفيه عنه عليه السلام: قال: من عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها.
وفيه عنه عليه السلام: قال: من عرف نفسه جل أمره.
وفيه عنه عليه السلام: قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل.
وفيه عنه عليه السلام: قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم.
وفيه عنه عليه السلام: قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال والجهالات.
وفيه عنه عليه السلام: قال: معرفة النفس أنفع المعارف.
وفيه عنه عليه السلام: قال: نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس.
وفيه عنه عليه السلام: قال: لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء.
وفي تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث: من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك، ومن زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقر بالطعن لأن الاسم محدث، ومن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكاً، ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإِدراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره.
قيل له: فكيف سبيل التوحيد؟ قال: باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه.
قيل: وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته؟ قال: تعرفه وتعلم علمه، وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه كما قالوا ليوسف: "إنك لأنت يوسف" قال: "أنا يوسف وهذا أخي" فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره، ولا أثبتوه من أنفسهم بتوهم القلوب، الحديث.
أقول: قد أوضحنا في ذيل قوله عليه السلام: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين (الرواية الثانية من الباب) أن الإِنسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شيء، وعقب ذلك معرفه ربه معرفة بلا توسيط وسط، وعلماً بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الإِنسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه، وأحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله.
وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكاً لا تستقل بشيء دونه، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: "تعرف نفسك به، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه".
وفي هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة له: "فسبحانك ملأت كل شيء وباينت كل شيء فأنت لا يفقدك شيء، وأنت الفعّال لما تشاء، تباركت يا من كل مدرك من خلقه، وكل محدود من صنعه".
- إلى أن قال -: "سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك، وترقى إلى نور ضياء قدرتك، وأي فهم يفهم ما دون ذلك إلاَّ أبصار كشفت عنها الأغطية، وهتكت عنها الحجب العمية، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الأرواح، فناجوك في أركانك، وولجوا بين أنوار بهائك، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسماهم أهل الملكوت زواراً، ودعاهم أهل الجبروت عماراً".
وفي البحار عن إرشاد الديلمي - وذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث - وفيه: "فمن عمل برضائي أُلزمه ثلاث خصال: أًعرفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين.
فإذا أحبني أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أُخفي عليه خاصة خلقي، وأُناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأُسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأُعرفه السر الذي سترته عن خلقي، وأُلبسه الحياء حتى يستحيي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا أُخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار، وأُعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة، وما أُحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء، وأُنومه في قبره وأُنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً، فهذه صفات المحبين.
يا أحمد اجعل همك هماً واحداً، واجعل لسانك لساناً واحداً، واجعل بدنك حياً لا يغفل أبداً، من يغفل عني لا أُبالي بأي واد هلك".
والروايات الثلاثة الأخيرة وإن لم يكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاستقامة إلاَّ أنا إنما أوردناها ليقضي الناقد البصير بما قدمناه من أن المعرفة الحقيقية لا تستوفى بالعلم الفكري حق استيفائها فإن الروايات تذكر أموراً من المواهب الإِلهية المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكري البتة.
وهي أخبار مستقيمة صحيحة تشهد على صحتها الكتاب الإِلهي على ما سنبين ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الأعراف إن شاء الله العزيز.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } (الآية)، قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم:
"أصلحوا أنفسكم ولا تتبعوا عورات الناس ولا تذكروهم فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا أنتم صالحون"
]. أقول: والرواية منطبقة على ما قدمناه في البيان السابق أن الآية متوجهة إلى النهي عن التعرض لإِصلاح حال الناس أزيد من متعارف الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليست مسوقة للترخيص في ترك فريضة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي نهج البيان عن الصادق عليه السلام: أنه قال: نزلت هذه الآية في التقية.
أقول: مفاد الرواية أن الآية خاصة بصورة التقية من أهل الضلال في الدعوة إلى الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمكان اشتراط ذلك شرعاً بعدم التقية، وقد تقدم في البيان السابق أن ظاهر الآية لا تساعد على ذلك.
وقد روي في الدر المنثور عن مفسري السلف قول جمع منهم بذلك كابن مسعود وابن عمر وأُبي بن كعب وابن عباس ومكحول، وما روي في ذلك من الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير دالة على ذلك.
وهي ما عن الترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير والبغوي في معجمه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي أُمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قال: قوله: { يا أيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم"
]. أقول: وفي هذا المعنى ما رواه ابن مردويه عن معاذ بن جبل عنه صلى الله عليه وآله وسلم، والرواية إنما تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يرتفعا بالآية.
وفي الدر المنثور: أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي عامر الأشعري: أنه كان فيهم شيء فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: { يا أيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"أين ذهبتم؟ إنما هي: لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم"
]. أقول: والرواية كما ترى تخص الأمر في الآية بالترخيص في ترك دعوة الكفار إلى الحق وتصرفها عن الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفروع مع أن آيات وجوب الدعوة وما يتبعها من آيات الجهاد ونحوها لا تقصر في الإِباء عن ذلك عن آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه: أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: { يا أيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:
"لم يجئ تأويلها، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام"
]. أقول: والكلام في الرواية نظير الكلام فيما تقدم.
وفيه: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة في قوله: { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر.
أقول: وهو معنى معتدل مآله إلى ما ذكرناه، وروي مثله عن سعيد بن المسيّب.
(بحث علمي)
ملفق من إشارات تاريخية وأبحاث أُخر نفسية وغير ذلك في فصول:
1- لم يزل الإِنسان فيما نعلم - حتى الإِنسان الأولي - يقول في بعض قوله: "أنا" و "نفسي" يحكي به عن حقيقة من الحقائق الكونية وهو لا محالة يدري ما يقول ويعلم ما يريد غير أن انصراف همّه إلى تعبئة أركان الحياة البدنية واشتغاله بالأعمال الجسمية لرفع الحوائج المادية يصرفه عن التعمق في أمر هذه النفس المحكى عنها بقوله: "أنا" و "نفسي" وربما ألقى ذلك في وهمه أن ذلك هو البدن لا غير.
وربما وجد الإِنسان أن الفارق بين الحي والميت بحسب ظهور الحس هو النفس الذي يتنفس به الإِنسان ما دام حياً فإذا فقده أو سد عليه مجاريه عاد ميتاً لا يشعر بشيء وبطل وجوده وانعدمت شخصيته وانيته فأذعن أن النفس هو النفس (محركة) وهو الريح أو نوع خاص من الريح فسماه لذلك روحاً، وقضى أن الإِنسان هو المجموع من الروح والبدن.
أو رأى أن الحس والحركة البدنيين كأنهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم الساري في أعضائه أو الجاري في عروقه من شرائين وأوردة وان الحياة التي ترتحل الإِنسانية بارتحالها متعلقة بهذا المائع الأحمر وجوداً وعدماً فحكم بأن النفس هو الدم فسمى النفس دماً بل الدم نفساً سائلة أو غير سائلة.
وربما دعى الإِنسان ما يشاهده من أمر النطفة أن المني حينما يلتقمه الرحم ويطرؤه التطور الكوني طوراً بعد طور هو الذي يصير إنساناً، ان يذهب إلى ان النفس الإِنسانية هي الأجزاء الأصلية المجتمعة في النطفة، وهي باقية في البنية البدنية مدى الحياة، وربما ذهب الذاهب إلى أنها مصونة عن التغير والبطلان، وان الإِنسانية باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان ولا انها تقبل البطلان والانعدام مع ان النفس الإِنسانية لو كانت هذه الأجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محله.
فهذه الأقاويل وأمثالها لا تنافي ما يناله الإِنسان وهو إنسان من حقيقة قوله: "أنا" و "نفسي" ولا يخطئ فيه البتة إذ ليس من البعيد أن نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونية إجمالاً إدراكاً غير خاطئ ثم نأخذ في البحث عن هويته وواقع أمره تفصيلاً فنخطئ فيه عند ذاك؛ فهناك موضوعات علمية كثيرة كالمحسوسات الظاهرية أو الباطنية نشاهدها مشاهدة عيان - على الرغم من السوفسطائيين والشكاكين - ثم العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفاً عن سلف.
وكذلك العامة من غير أهل البحث يشاهدون من أنفسهم ما يشاهده الخاصة من غير فرق البتة وهم على جهل من أمر تفصيله عاجزون عن تفسير الخصوصيات وجوده.
وبالجملة مما لا ريب فيه أن الإِنسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمراً غير خارج منه يعبر عنه بأنا ونفسي، وإذا لطف نظره وتعمّق خائضاً فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئاً على خلاف ما يجده من الأُمور الجسمانية القابلة للتغير والانقسام والاقتران بالمكان والزمان، ووجده غير هذا البدن المادي المحكوم بأحكام المادة بأعضائه وأجزائه فإنه ربما نسي أي عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه وهو لا ينسى نفسه ولا يغفل عنها، دع عنك ما ربما تقوله: نسيت نفسي، غفلت عن نفسي، ذهلت عن نفسي فهذه مجازات عن عنايات نفسانية مختلفة، ألا ترى أنك تسند النسيان والغفلة والذهول حينئذٍ إلى نفسك وتحكم بأن نفسك الشاعرة شعرت بأمر وغفلت عن أمر تسميه نفسك كالبدن ونحوه؟.
ودع عنك ما ربما يتوهم أن المغمى عليه يغفل عن ذاته ونفسه فإن الذي يجده هذا الإِنسان بعد انقضاء حال الإِغماء أنه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الإِغماء لا انه يذكر أنه كان غير شاعر بها، وبين المعنيين فرق، وربما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئاً بشبه الرؤيا التي نذكرها من حال المنام.
وكيف كان لا ينبغي الارتياب في أن الإِنسان بما أنه إنسان لا يخلو عن هذا الشعور النفسي الذي يمثل له حقيقة نفسه التي يعبر عنها بأنا، ولو أنه استأنس قليل استيناس بما يشاهده من نفسه على انصراف من التقسم إلى مشاغله البدنية وأمانيه المادية قضى بما تقدم أن نفسه أمر مغاير لسنخ المادة والماديات لما يشاهد من مغايرة خواص نفسه وآثارها لخواص الأمور المادية وآثارها.
غير أن الاشتغال بالمشاغل اليومية وصرف الهم إلى أماني الحياة المادية ورفع الحوائج البدنية يدعوه إلى إهمال الأمر والإِذعان بشيء من تلك الآراء الساذجة الأبجدية والوقف على إجمال المشاهدة.
2- الفرد العادي من الإِنسان وإن كان شغله هم الغذاء والمسكن والملبس والمنكح عن الغور في حقيقة نفسه والبحث في زوايا ذاته، لكن الحوادث المختلفة الهاجمة عليه في خلال أيام حياته ربما لم تخل من عوامل توجهه إلى الانصراف عن غيره والخلوة بنفسه كالخوف الشديد الذي تنزعج به النفس عن كل شيء وترجع إلى نفسها كالآخذة الممسكة عليها حذراً من الفناء والزوال، وكالسرور والترح الموجب لانجذاب النفس إلى ما تستلذ به، وكالغرام الشديد المنجر إلى الوله بالمحبوب المطلوب بحيث لا هم إلاَّ همّه، وكالاضطرار الشديد الذي ينقطع به الإِنسان عن كل شيء إلى نفسه؛ إلى غير ذلك من العوامل الاتفاقية.
هذه العوامل المختلفة والأسباب المتنوعة ربما أدى الإِنسان واحد منها أو أزيد من واحد إلى أن يتمثل عنده بعض ما لا يكاد تناله الحواس الظاهرة أو الفكرة الخالية، كالواقع في مكان مظلم موحش أدهشه الخوف على نفسه فإنه يبصر أشياء مخوفة أو يسمع أصواتاً هائلة تهدده في نفسه، وهو الذي ربما يسمونه غولاً أو هاتفاً أو جناً ونحو ذلك.
وربما أحاط به الحب الشديد أو الحسرة والأسف الشديدان فحال بينه وبين حواسه الظاهرية وركّز شعوره فيما يحبه أو يأسف عليه، فرأى في حال المنام أو في حال من اليقظة يشبه حالة المنام، أموراً مختلفة من الوقائع الماضية أو الحوادث المستقبلة أو خبايا وخفايا تخفى على حواس غيره.
وربما كانت الإِرادة إذا شفعت باليقين والإِيمان الشديد والإِذعان الجازم تفعل أفعالاً لا يقدر عليها الإِنسان المتعارف، ولا أن الأسباب العادية يسعها أن تهدي إلى ذلك.
فهذه حوادث جزئية نادرة - بالنسبة إلى عامة الحوادث العادية - تحدث عن حدوث عوامل مختلفة مرت الإِشارة إليها: أما أصل وقوعها فمما ليس كثير حاجة إلى تجشم الاستدلال عليه فكل منا لا يخلو من أن يذكر من نفسه أو من غيره ما يشهد به، وأما أن السبب الحقيقي العامل فيها ما هي؟ فليس ها هُنا محل الاشتغال به.
والذي يهمنا التنبّه عليه هو أن هذه الأمور جميعاً تتوقف في وقوعها على نوع من انصراف النفس عن الاشتغال بالأمور الخارجة عنها - وخاصة اللذائذ الجسمانية - وانعطافها إلى نفسها؛ ولذا كان الأساس في جميع الارتياضات النفسانية - على تنوعها وتشتتها الخارج عن الإِحصاء - هو مخالفة النفس في الجملة، وليس إلاَّ لأن انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، ويهديها إلى مشتهياتها الخارجة؛ فيوزعها عليها ويقسم شعورها بينها، فتأخذ بها وتترك نفسها.
3- لا ينبغي لنا أن نشك في أن العوامل الداعية إلى هذه الآثار النفسانية كما تتم لبعض الأفراد موقتاً وفي أحايين يسيرة، ربما تتم لبعض آخر ثابتة مستمرة أو تمكث مكثاً معتداً به فكثيراً ما نجد أشخاصاً متزهدين عن الدنيا ولذائذها المادية ومشتهياتها الفانية لا هم لهم إلاَّ ترويض النفس والاشتغال بسلوك طريق الباطن.
ولا ينبغي لنا أن نشك في أن هذه المشغلة النفسية ليست سنَّة مبتدعة في زماننا هذا، فالنقل والاعتبار يدلان على أنها كانت من السنن الدائرة بين الناس، كلما رجعنا القهقرى فهي من السنن اللازمة للإِنسانية إلى أقدم عهودها التي نزلت في هذه الأرض على ما نحسب.
4- البحث عن حال الأمم والتأمل في سننهم وسيرهم وتحليل عقائدهم وأعمالهم يفيد أن الاشتغال بمعرفة النفس على طرقها المختلفة للحصول على عجائب آثارها، كان دائراً بينهم بل مهمة نفيسة تبذل دونها أنفس الأوقات وأغلى الأثمان منذ أقدم الأعصار.
ومن الدليل عليه أن الأقوام الهمجية الساكنة في أطراف المعمورة، كإفريقية وغيرها ويوجد بينهم حتى اليوم بقايا من أساطير السحر والكهانة والإِذعان بحقيقتهما وإصابتهما.
والاعتبار الدقيق فيما نقل إلينا من المذاهب والأديان القديمة كالبرهمانية والبوذية والصابئة والمانوية والمجوسية واليهودية والنصرانية والإِسلام، كل ذلك يعطي أن لمهمة معرفة النفس والحصول على آثارها تسرباً عميقاً فيها وإن كانت مختلفة في وصفها وتلقينها وتقويمها.
فالبرهمانية - وهي مذهب هند القديم - وإن كانت تخالف الأديان الكتابية في التوحيد وأمر النبوة غير أنها تدعو إلى تزكية النفس وتطهير السر وخاصة للبراهمة أنفسهم.
نقل عن البيروني في كتاب ما للهند من مقولة قال: عمر البرهمن بعد مضي سبع سنين منه منقسم لأربعة أقسام:
فأول القسم الأول هي السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيهه وتعريفه الواجبات عليه، وتوصيته بالتزامها واعتناقها ما دام حياً.
قال: وقد دخل في القسم الأول إلى السنة الخامسة والعشرين من سنّه إلى السنة الثامنة والأربعين، فيجب عليه فيها أن يتزهد ويجعل الأرض وطاءه، ويقبل على تعلم "بيذ" وتفسيره علم الكلام والشريعة من أستاذ يخدمه آناء ليله ونهاره، ويغتسل كل يوم ثلاث مرات، ويقدم قربان النار في طرفي النهار، ويسجد لاستاذه بعد القربان، ويصوم يوماً ويفطر يوماً مع الامتناع عن اللحم أصلاً، ويكون مقامه في دار الاستاذ، ويخرج منها السؤال والكدية من خمسة بيوت فقط كل يوم مرة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدي استاذه ليتخير منه ما يريد ثم يأذن له في الباقي فيتقوت بما فضل منه، ويحمل إلى النار حطبها، فالنار عندهم معظمة والأنوار مقتربة.
وكذلك عند سائر الأمم فقد كانوا يرون تقبل القربان بنزول النار عليها، ولم يثنهم عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر أو حمير أو صور.
قال: وأما القسم الثاني فهو من السنة الخامسة والعشرين إلى الخمسين أو إلى السبعين، وفيه يأذن له الاستاذ في التأهل فيتزوج ويقصد النسل. وذكر كيفية معاشرته أهله والناس وارتزاقه وسيرته.
ثم قال: وأما القسم الثالث فهو من الخمسين إلى الخامسة والسبعين أو إلى التسعين، وفي هذا القسم يتزهد ويخرج من زخاري الحياة ويسلم زوجه إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الصحارى، ويستمر خارج العمران على سيرته في القسم الأول، ولا يستكن تحت سقف، ولا يلبس إلاَّ ما يواري سوأته من لحاء الشجر، ولا ينام إلاَّ على الأرض بغير وطاء، ولا يتغذى إلاَّ بالثمار والنبات وأصوله، ويطوّل الشعر ولا يدهن.
قال: وأما القسم الرابع فهو إلى آخر العمر يلبس فيه لباساً أحمر، ويأخذ بيده قضيباً، ويقبل على الفكر وتجريد القلب من الصداقات والعداوات، ويرفض الشهوة والحرص والغضب، ولا يصاحب أحداً البتة.
فإن قصد موضعاً ذا فضل طلباً للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، وفي بلد أكثر من خمسة أيام، وإن دفع له أحد شيئاً لم يترك منه للغد بقية، وليس له إلاَّ الدؤوب على شرائط الطريق المؤدي إلى الخلاص والوصول إلى المقام الذي لا رجوع فيه إلى الدنيا، ثم ذكر الأحكام العامة التي يجب على البرهمن العمل بها في جميع عمره، انتهى موضع الحاجة من كلامه.
وأما سائر الفرق المذهبية من الهنود كالجوكية أصحاب الأنفاس والأوهام وكأصحاب الروحانيات وأصحاب الحكمة وغيرهم، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس.
وأما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، وقد كان هذا هو الطريقة التي سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول أنه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة، وهجر أريكة العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، واعتزل الناس، وترك التمتع بمزايا الحياة، وأقبل على رياضة نفسه والتفكر في أسرار الخلقة حتى قذفت المعرفة في قلبه وسنّه إذ ذاك ستة وثلاثون وعند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس وتحصيل المعرفة ولم يزل على ذلك قريباً من أربع وأربعين سنة على ما في التواريخ.
وأما الصابئون ونعني بهم أصحاب الروحانيات وأصنامها فهم وإن أنكروا أمر النبوة غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقاً لا تختلف كثيراً عن طرق البراهمة والبوذيين، قالوا - على ما في الملل والنحل -: إن الواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية حتى يحصل مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات فنسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم، وهذا التطهير ليس يحصل إلاَّ باكتسابنا ورياضتنا وفطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات استمداداً من جهة الروحانيات، والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة، انتهى.
وهؤلاء وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والإِيجاد لكنهم متفقوا الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة.
وأما المانوية من الثنوية فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوي وهبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالأبدان، وأن سعادتها وكمالها في التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور إما اختياراً بالترويض النفساني، وإما اضطراراً بالموت الطبيعي، معروف.
وأما أهل الكتاب ونعني بهم اليهود والنصارى والمجوس فكتبهم المقدسة وهي العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها.
ولا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا والاشتغال بتطهير السر، ولا يزال يتربى بينهم جم غفير من الزهاد وتاركي الدنيا جيلاً بعد جيل، وخاصة النصارى فإن من سننهم المتبعة الرهبانية.
وقد ذكر أمر رهبانيتهم في القرآن الشريف قال تعالى:
{ { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } [المائدة: 82]، وقال تعالى: { { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاَّ ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } [الحديد: 27]، كما ذكر المتعبدون من اليهود في قوله: { ليسوا سواء من أهل الكتاب أُمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } } [آل عمران: 113ـ114]. وأما الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات والأعمال النفسية كأصحاب السحر والسيمياء وأصحاب الطلسمات وتسخير الأرواح والجن وروحانيات الحروف والكواكب وغيرها وأصحاب الإِحضار وتسخير النفوس، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعاً من السلطة على أمر النفس.
وجملة الأمر على ما يتحصل من جميع ما مرَّ: أن الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان والمذاهب والأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها والاشتغال بتطهيرها من شوب الأخلاق والأحوال غير المناسبة للمطلوب.
5- لعلك ترجع وتقول: إن الذي ثبت من سنن أرباب المذاهب والطرق وسيرهم هو الزهد في الدنيا وهو غير مسألة معرفة النفس أو الاشتغال بأمر النفس بالمعنى الذي تقدم البحث عنه.
وبلفظ أوضح: الذي يندب إليه الأديان والمذاهب التي تدعو إلى العبودية بنحو أن يتزهد الإِنسان نوع تزهد في الدنيا بإتيان الأعمال الصالحة وترك الهوى والآثام ورذائل الأخلاق ليتهيأ بذلك لأحسن الجزاء إما في الآخرة كما يصرح به الأديان النبوية كاليهودية والنصرانية والإِسلام، أو في الدنيا كما استقر عليه دين الوثنية ومذهب التناسخ وغيرهما.
فالمتعبد على حسب الدستور الديني يأتي بما ندب إليه من نوع التزهد من غير أن يخطر بباله أن هناك نفساً مجردة، وأن لها نوعاً من المعرفة، فيه سعادتها وكمال وجودها.
وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها وسننها إنما يرتاض بما يرتاض من مشاق الأعمال ولا هم له في ذلك إلاَّ حيازة المقام الموعود فيها والتسلط على نتيجة العمل، كنفوذ الإِرادة مثلاً وهو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه.
على أن في هؤلاء من لا يرى في النفس إلا أنها أمر مادي طبيعي كالدم أو الروح البخاري أو الأجزاء الأصلية، ومن يرى أن النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري حال فيه، وهو الحامل للحياة فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس؟.
لكنه ينبغي لك أن تتذكر ما تقدم ذكره أن الإِنسان في جميع هذه المواقف التي يأتي فيها بأعمال تصرف النفس عن الاشتغال بالأمور الخارجية والتمتعات المتفننة المادية إلى نفسها للحصول على خواص وآثار لا توصل إليها الأسباب المادية والعوامل الطبيعية العادية، لا يريد إلاَّ الانفصال عن العلل والأسباب الخارجية، والاستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصة لا سبيل للعوامل المادية العادية إليها.
فالمتدين المتزهد في دينه يرى أن من الواجب الإِنساني أن يختار لنفسه سعادته الحقيقية وهي الحياة الطيبة الأخروية عند المنتحلين بالمعاد، والحياة السعيدة الدنيوية التي تجمع له الخير وتدفع عنه الشر عند المنكرين له كالوثنية وأصحاب التناسخ، ثم يرى أن الاسترسال في التمتعات الحيوانية لا تحوز له سعادته، ولا تسلك به إلى غرضه؛ فلا محيص له عن رفض الهوى وترك الانطلاق إلى كل ما تتهوسه نفسه بأسبابها العادية في الجملة، والانجذاب إلى سبب أو أسباب فوق الأسباب المادية العادية بالتقرب إليه والاتصال به، وأن هذا التقرب والاتصال إنما يتأتى بالخضوع له والتسليم لأمره وذلك أمر روحي نفساني لا ينحفظ إلا بأعمال وتروك بدنية، وهذه هي العبادة الدينية من صلاة ونسك أو ما يرجع إلى ذلك.
فالأعمال والمجاهدات والارتياضات الدينية ترجع جميعاً إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس، والإِنسان يرى بالفطرة أنه لا يأخذ شيئاً ولا يترك شيئاً إلا لنفع نفسه، وقد تقدم أن الإِنسان لا يخلو، ولا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه وحضور ذاته وأنه لا يخطئ في شعوره هذا البتة، وإن أخطأ فإنما يخطئ في تفسيره بحسب الرأي النظري والبحث الفكري؛ فظهر بهذا البيان أن الأديان والمذاهب على اختلاف سننها وطرقها لا تروم إلا الاشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا.
وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات والمجاهدات وإن لم يكن منتحلاً بديلاً ولا مؤمناً بأمر حقيقة النفس لا يقصد بنوع رياضته التي يرتاض بها إلاَّ الحصول على نتيجتها الموعودة له، وليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالأعمال والتروك التي يأتي بها ارتباطاً طبيعياً نظير الارتباط الواقع بين الأسباب الطبيعية ومسبباتها، بل هو ارتباط إرادي غير مادي متعلق بشعور المرتاض وإرادته المحفوظين بنوع العمل الذي يأتي به، دائر بين نفس المرتاض وبين النتيجة الموعودة؛ فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس وتكميلها في شعورها وإرادتها للنتيجة المطلوبة، وإن شئت قلت: أثر الرياضة أن تحصل للنفس حالة العلم بأن المطلوب مقدور لها فإذا صحَّت الرياضة وتمت صارت بحيث لو أرادت المطلوب مطلقاً أو أرادته على شرائط خاصة كإحضار الروح للصبي غير المراهق في المرآة حصل المطلوب.
وإلى هذا الباب يرجع معنى ما روي: "أنه ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن بعض أصحاب عيسى عليه السلام كان يمشي على الماء فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
"لو كان يقينه أشد من ذلك لمشى على الهواء" فالحديث - كما ترى - يومئ إلى أن الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه وإمحاء الأسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإِنسان إلى القدرة المطلقة الإِلهية انقادت له الأشياء على قدره، فافهم ذلك.
ومن أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق عليه السلام: ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النية، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر:
"إنما الأعمال بالنيات"
]. فقد تبيّن أن الآثار الدينية للأعمال والعبادات وكذلك آثار الرياضات والمجاهدات إنما تستقر الرابطة بينها وبين النفس الإِنسانية بشؤونها الباطنية، فالاشتغال بشيء منها اشتغال بأمر النفس.
ومن زعم أن رابطة السببية والمسببية إنما هي بين أجساد هذه الأعمال وبين الغايات الأخروية مثلاً من روح وريحان وجنة نعيم، أو بينها وبين الغايات الدنيوية الغريبة التي لا تعمل الأسباب الطبيعية فيها، كالتصرف في إدراكات النفوس وأنواع إرادتها والتحريكات من غير محرك والاطلاع على الضمائر والحوادث المستقبلة والاتصال بالروحانيات والأرواح ونحو ذلك، أو زعم أن العمل يستتبع الأثر من غير رابطة حقيقية أو بمجرد إرادة إلهية من غير مخصص فقد غر نفسه.
6- إيّاك أن يشتبه عليك الأمر فتستنتج من الأبحاث السابقة أن الدين هو العرفان والتصوف أعني معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين فقسم المسلك الحيوي الدائر بين الناس إلى قسمين: المادية والعرفان وهو الدين.
وذلك أن الذي يعقد عليه الدين أن للإِنسان سعادة حقيقية ليس ينالها إلا بالخضوع لما فوق الطبيعة ورفض الاقتصار على التمتعات المادية، وقد انتجت الأبحاث السابقة: أن الأديان أياً ما كانت من حق أو باطل تستعمل في تربية الناس وسوقهم إلى السعادة التي تعدهم إياها وتدعوهم إليها إصلاح النفس وتهذيبها إصلاحاً وتهذيباً يناسب المطلوب، وأين هذا من كون عرفان النفس هو الدين.
فالدين يدعو إلى عبادة الإِله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء والشركاء لأن فيها السعادة الإِنسانية والحياة الطيبة التي لا بغية للإِنسان دونها، ولا ينالها الإِنسان ولن ينالها إلاَّ بنفس طاهرة مطهرة من ألواث التعلق بالماديات والتمتعات المرسلة الحيوانية، فمست الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس وتطهيرها ليستعد المنتحل به المتربي في حجره للتلبس بالخير والسعادة، ولا يكون كمن يتناول الشيء بإحدى يديه ويدفعه بالأخرى، فالدين أمر وعرفان النفس أمر آخر وراءه، وإن استلزم الدين العرفان نوعاً من الاستلزام.
وبنظير البيان يتبين أن طرق الرياضة والمجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوعة غريبة عن العادة أيضاً غير عرفان النفس وإن ارتبط البعض بالبعض نحواً من الارتباط.
نعم لنا أن نقضي بأمر وهو أن عرفان النفس بأي طريق من الطرق فرض السلوك إليه إنما هو أمر مأخوذ من الدين كما أن البحث البالغ الحر يعطي أن الأديان على اختلافها وتشتتها إنما انشعبت هذه الانشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الإِنسانية وهو دين التوحيد.
فإنا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالإِغماض عن التعصبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا، لم نرتب في أن العالم على وحدته في كثرته وارتباط أجزائه في عين تشتتها ينتهي إلى سبب واحد فوق الأسباب، وهو الحق الذي يجب الخضوع لجانبه وترتيب السلوك الحيوي على حسب تدبيره وتربيته، وهو الدين المبني على التوحيد.
والتأمل العميق في جميع الأديان والنحل يعطي أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحي حتى الوثنية والثنوية، وإنما وقع الاختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الأصل والإِصابة والإِخطاء فيه؛ فمن قائل مثلاً: إنه أقرب إلينا من حبل الوريد وهو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولي ولا شفيع فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، ومن قائل: إن تسفل الإِنسان الأرضي وخسة جوهره لا يدع له مخلصاً إلى الاتصال بذاك الجناب، وأين التراب ورب الأرباب؟ فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة وهم روحانيات الكواكب أو أرباب الأنواع أو المقربون من الإِنسان { وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }.
وإذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالأنصاب والأصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي، وعلى هذا القياس في سائر الأديان والملل فلا نجد في متونها إلاَّ ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الإِله عزّ اسمه.
ومن المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس وإن انشعبت أي انشعاب فرض واختلفت أي اختلاف شديد فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، وتنتهي بالأخرة إلى دين الفطرة الساذجة الإِنسانية وهو التوحيد؛ فدين التوحيد أبو الأديان وهي أبناء له صالحة أو طالحة.
ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الإِنسانية التي يدعو إليها وهي معرفة الإِله التي هي المطلوب الأخير عنده، وبعبارة أُخرى الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية فإن الذوق الديني لا يرتضي الاشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، وإن الدين عند الله الإِسلام ولا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية؟.
ومن هنا يظهر أن العرفان ينتهي إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمراً مستقلاً يدعو إليه الفطرة الإِنسانية حتى ينتهي فروعه وأغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري.
ويمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر وهو أن الإِنسانية وإن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع والمدنية لإِسعاد الحياة، وأثبت النقل والبحث أن رجالاً أو أقواماً اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سنناً اجتماعية، وأجروها بين أممهم كسنن القبائل والسنة الملوكية والديمقراطية ونحوها، ولم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس وتهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشري.
نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر والأرواح ونحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض الآثار النفسانية الغريبة على سبيل الاتفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالاً عجيبة وتصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه والسلوك إليه ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب ويسهل الوعر منه.
7- يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة وحوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أُمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، ومشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس، واستجابة للدعوة وشفاء المريض الذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه، والنجاة من المخاطر والمهالك من غير طريق العادة، وقد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نية صادقة ونفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون وهم على غفلة من سببه القريب، وإنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، واستناد الأمور إليه تعالى، وإن كان حقاً لا محيص عن الاعتراف به لكن نفي الأسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه.
وربما أحضر الروحي روح أحد من الناس في مرآة أو ماء ونحوه بالتصرف في نفس صبي - على ما هو المتعارف - وهو كغيره يرى أن الصبي إنما يبصره بالبصر الحسي، وأن بين أبصار سائر الناظرين وبين الروح المحضر حجاباً مضروباً لو كشف عنه لكانوا مثل الصبي في الظفر بمشاهدته.
وربما وجدوا الأرواح المحضرة أنها تكذب في أخبارها فيكون عجباً لأن عالم الأرواح عالم الطهارة والصفاء لا سبيل للكذب والفرية والزور إليه.
وربما أحضروا روح إنسان حي فيستنطقونه بأسراره وضمائره وصاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله وحوائجه اليومية لا خبر عنده من أن روحه محضر مستنطق يبث من القول ما لا يرضى هو ببثه.
وربما نوم الإِنسان تنويماً مغناطيسياً ثم لقن بعمل حتى ينعم بقبوله فإذا أوقظ ومضى لشأنه أتى بالعمل الذي لقنه على الشريطة التي أُريد بها وهو غافل عما لقنوه وعن إنعامه بقبوله.
وبعض الروحيين لما شاهدوا صوراً روحية تماثل الصور الإِنسانية أو صور بعض الحيوان ظنوا أن هذه الصور في عالم المادة وظرف الطبيعة المتغيرة، وخاصة بعض من لا يرى لغير الأمر المادي وجوداً، حتى حاول بعض هؤلاء أن يخترع أدوات صناعية يصطاد بها الأرواح، كل ذلك استناداً منهم إلى فرضية افترضوها في النفس: أنها مبدأ مادي أو خاصة لمبدأ مادي يفعل بالشعور والإِرادة، مع أنهم لم يحلوا مشكلة الحياة والشعور حتى اليوم.
ونظير هذه الفرضية فرضية من يرى أن الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري في هيئاته وأشكاله لما وجدوا أن الإِنسان يرى نفسه في المنام وهو على هيئته في اليقظة، وربما يمثل لأرباب المجاهدات صور أنفسهم قبالاً خارج أبدانهم وهي مشاكلة للصورة البدنية مشاكلة تامة، فحكموا أن الروح جسم لطيف حال في البدن العنصري ما دام الإِنسان حياً فإذا فارق البدن كان هو الموت.
وقد فاتهم أن هذه صورة إدراكية قائمة بشعور الإِنسان نظيرة صورته التي يدركها من بدنه، ونظيرة صور سائر الأشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، وربما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة أو في هيئة غير هيئة نفسه، وربما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكورة أنها هي صورة الروح فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة التي تتراءى لأرباب المجاهدات أنها صورة الروح.
وحقيقة الأمر أن هؤلاء نالوا شيئاً من معارف النفس وفاتهم معرفة حقيقتها كما هي فأخطأوا في تفسير ما نالوه وضلوا في توجيه أمره، والحق الذي يهدي إليه البرهان والتجربة أن حقيقة النفس التي هي هذا الشعور المتعقل المحكي عنه بقولنا "أنا" أمر مغاير في جوهره لهذه الأمور المادية كما تقدم، وأن أقسام شعوره وأنواع إدراكاته من حس أو خيال أو تعقل من جهة كونها مدركات إنما هي متقررة في عالمه وظرفه غير الخواص الطبيعية الحاصلة في أعضاء الحس والإِدراك من البدن فإنها أفعال وانفعالات مادية فاقدة في نفسها للحياة والشعور، فهذه الأمور المشهودة الخاصة بالصلحاء وأرباب المجاهدات والرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، وإنما الشأن في أن هذه المعلومات والمعارف كيف استقرت في النفس وأين محلها منها؟ وأن للنفس سمة عليه لجميع الحوادث والأمور المرتبطة بها ارتباطاً ما، فجميع هذه الأمور الغريبة المطاوعة لأهل الرياضة والمجاهدة إنما ترتضع من إرادتهم ومشيئتهم، والإِرادة ناشئة من الشعور، فللشعور الإِنساني دخل في جميع الحوادث المرتبطة به والأمور المماسة له.
8- فمن الحري أن نقسم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين: إحداهما المشتغلون به بالاشتغال بإحراز شيء من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الأسباب والمسببات المادية، كأصحاب السحر والطلسمات وأصحاب تسخير روحانيات الكواكب والموكلين على الأمور والجن وأرواح الآدميين وأصحاب الدعوات والعزائم ونحو ذلك.
والثانية المشتغلون بمعرفة النفس بالانصراف عن الأمور الخارجة عنها والانجذاب نحوها للغور فيها ومشاهدة جوهرها وشؤونها كالمتصوفة على اختلاف طبقاتهم ومسالكهم.
وليس التصوف مما أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما أنه يوجد بين الأمم التي تتقدمهم في النشوء كالنصارى وغيرهم حتى الوثنية من البرهمانية والبوذية، ففيهم من يسلك الطريقة حتى اليوم بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم.
لكن لا بمعنى الأخذ والتقليد العادي كوراثة الناس ألوان المدنية بعضهم من بعض وأُمة منهم متأخرة من أُمة منهم متقدمة كما جرى على ذلك عدة من الباحثين في الأديان والمذاهب؛ وذلك لما عرفت في الفصول السابقة أن دين الفطرة يهدي إلى الزهد والزهد يرشد إلى عرفان النفس؛ فاستقرار الدين بين أُمة وتمكنه من قلوبهم يعدهم ويهيؤهم لأن تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، ويأخذ بها بعض من تمت في حقه العوامل المقتضية لذلك، فمكث الحياة الدينية في أُمة من الأُمم برهة معتداً بها ينشئ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة وإن انقطعوا عن غيرهم من الأمم الدينية كل الانقطاع، وما هذا شأنه لا ينبغي أن يعد من السنن الموروثة التي يأخذها جيل عن جيل.
9- ثم ينبغي أن نقسم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدمين وهم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين:
فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئاً من معارفها من غير أن يتم لهم تمام المعرفة لها لأنهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها وهو الله عز اسمه الذي هو السبب الحق الآخذ بناصية النفس في وجودها وآثار وجودها وكيف يسع الإِنسان تمام معرفة شيء مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده وخاصة السبب الذي هو سبب كل سبب؟ وهل هو إلاَّ كمن يدعي معرفة السرير على جهل منه بالنجار وقدومه ومنشاره وغرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير؟.
ومن الحري بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمى كهانة بما في ذيله من الحصول على شيء من علوم النفس وآثارها.
وطائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الرب تعالى، وطريقتهم هذه هي التي يرتضيها الدين في الجملة وهي أن يشتغل الإِنسان بمعرفة نفسه بما أنها آية من آيات ربه وأقرب آية، وتكون النفس طريقاً مسلوكاً والله سبحانه هو الغاية التي يسلك إليها { وأن إلى ربك المنتهى }.
وهؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتتة في الأمم والنحل، وليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم وطرائقهم التي يسلكونها، وأما المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربما أُنهيت بحسب الأصول إلى خمس وعشرين سلسلة، تنشعب من كل سلسلة منها سلاسل جزئية أُخر، وقد استندوا فيها إلا في واحدة إلى علي عليه أفضل السلام، وهناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل ويسمون الأويسية (نسبة إلى أويس القرني) وهناك آخرون منهم لا يتسمون باسم ولا يتظاهرون بشعار.
ولهم كتب ورسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم وطرقهم، والنواميس والآداب التي لهم وعن رجالهم، وضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، وأعربوا فيها عن حججهم ومقاصدهم التي بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها. وأما البحث عن تفصيل الطرق والمسالك وتصحيح الصحيح ونقد الفاسد فله مقام آخر، وقد تقدم في الجزء الخامس من هذا الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلق بمعنى معرفة النفس.
واعلم أن عرفان النفس بغية عملية لا يحصل تمام المعرفة بها إلاَّ من طريق السلوك العملي دون النظري، وأما علم النفس الذي دونه أرباب النظر من القدماء فليس يغني من ذلك شيئاً، وكذلك فن النفس العملي الذي دونه المتأخرون حديثاً فإنما هو شعبة من فن الأخلاق على ما دونه القدماء، والله الهادي.