خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٤
يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٩٥
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٩٦
جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٩٧
ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٨
مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
٩٩
-المائدة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات في بيان حكم صيد البر والبحر في حال الإِحرام.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } البلاء هو الامتحان والاختبار، ولام القسم والنون المشددة للتأكيد، وقوله: بشيء من الصيد يفيد التحقير ليكون تلقينه للمخاطبين عوناً لهم على انتهائهم إلى ما سيواجههم من النهي في الآية الآتية، وقوله: { تناله أيديكم ورماحكم } تعميم للصيد من حيث سهولة الاصطياد كما في فراخ الطير وصغار الوحش والبيض تنالها الأيدي فتصطاد بسهولة، ومن حيث صعوبة الاصطياد ككبار الوحش لا تصطاد عادة إلاَّ بالسلاح.
وظاهر الآية أنها مسوقة كالتوطئة لما ينزل من الحكم المشدد في الآية التالية، ولذلك عقب الكلام بقوله: { ليعلم الله من يخافه بالغيب } فإن فيه إشعاراً بأن هناك حكماً من قبيل المنع والتحريم ثم عقبه بقوله: { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم }.
قوله تعالى: { ليعلم الله من يخافه بالغيب } لا يبعد أن يكون قوله: ليبلونكم الله ليعلم كذا كناية عن أنه سيقدر كذا ليتميز منكم من يخاف الله بالغيب عمّن لا يخافه لأن الله سبحانه لا يجوز عليه الجهل حتى يرفعه بالعلم، وقد تقدم البحث المستوفى عن معنى الامتحان في تفسير قوله تعالى:
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [البقرة: 214] الآية، في الجزء الرابع من هذا الكتاب، وتقدم أيضاً معنى آخر لهذا العلم.
وأما قوله: { من يخافه بالغيب } فالظرف متعلق بالخوف، ومعنى الخوف بالغيب أن يخاف الإِنسان ربه ويحترز ما ينذره به من عذاب الآخرة وأليم عقابه، وكل ذلك في غيب من الإِنسان لا يشاهد شيئاً منه بظاهر مشاعره، قال تعالى:
{ { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرًّحمن بالغيب } [يس: 11]، وقال: { وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكل أوّاب حفيظ * من خشي الرَّحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } [ق: 31ـ33]، وقال: { الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون } } [الأنبياء: 49]. وقوله: { فمن اعتدى بعد ذلك } أي تجاوز الحد الذي يحده الله بعد البلاء المذكور فله عذاب أليم.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } (الخ)، الحرم بضمتين جمع الحرام صفة مشبهة، قال في المجمع: ورجل حرام ومحرم بمعنى، وحلال ومحل كذلك، وأحرم الرجل دخل في الشهر الحرام، وأحرم أيضاً دخل في الحرم، وأحرم أهلّ بالحج، والحرم الإِحرام، ومنه الحديث: كنت أُطِيب النبي لحرمه، وأصل الباب المنع، وسميت النساء حرماً لأنها تمنع، والمحروم الممنوع الرزق.
قال: والمثل والمثل والشِبه والشبه واحد، قال: والنعم في اللغة الإِبل والبقر والغنم، وإن انفردت الإِبل قيل لها: نعم، وإن انفردت البقر والغنم لم تسم نعماً ذكره الزجاج.
قال: قال الفراء: العدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل (بالكسر) غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاةً أو غلام يعدل غلاماً فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت وقلت: عدل، وقال البصريون: العَدل والعِدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس.
قال: والوبال ثقل الشيء في المكروه، ومنه قولهم: طعام وبيل وماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال، ومنه: { فأخذناه أخذاً وبيلاً } أي ثقيلاً شديداً، ويقال لخشبة القصَّار: وبيل من هذا، انتهى.
وقوله: { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } نهي عن قتل الصيد لكن يفسره بعض التفسير قوله بعدُ: { أُحل لكم صيد البحر } هذا من جهة الصيد، ويفسره من جهة معنى القتل قوله: { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء } (الخ)، فقوله: { متعمداً } حال من قوله: { من قتله } وظاهر التعمد ما يقابل الخطأ الذي هو القتل من غير أن يريد بفعله ذلك كمن يرمي إلى هدف فأصاب صيداً، ولازمه وجوب الكفارة إذا كان قاصداً لقتل الصيد سواء كان على ذكر من إحرامه أو ناسياً أو ساهياً.
وقوله: { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة } لظاهر معناه: فعليه جزاء ذلك الجزاء مثل ما قتل من الصيد، وذلك الجزاء من النعم المماثلة لما قتله يحكم به أي بذلك الجزاء المماثل رجلان منكم ذوا عدل في الدين حال كون الجزاء المذكور هدياً يهدي به بالغ الكعبة ينحر أو يذبح في الحرم بمكة أو بمنى على ما يبينه السنة النبوية.
فقوله: { جزاء } بالرفع مبتدأ لخبر محذوف يدل عليه الكلام، وقوله: { مثل ما قتل } وقوله: { من النعم } وقوله: { يحكم به } (الخ)، أوصاف للجزاء، وقوله: { هدياً بالغ الكعبة } موصوف وصفة، والهدي حال من الجزاء تقدم، هذا، وقد قيل غير ذلك.
وقوله: { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } خصلتان أخريان من خصال كفارة قتل الصيد، وكلمة "أو" لا يدل على أزيد من مطلق الترديد، والشارح السنة، غير أن قوله: { أو كفارة } حيث سمى طعام المساكين كفارة ثم اعتبر ما يعادل الطعام من الصيام لا يخلو من إشعار بالترتيب بين الخصال.
وقوله: { ليذوق وبال أمره } اللام للغاية، وهي ومدخولها متعلق بقوله: { فجزاء } فالكلام يدل على أن ذلك نوع مجازاة.
قوله تعالى: { عفا الله عمّا سلف ومن عاد فينتقم الله منه } إلى آخر الآية، تعلق العفو بما سلف قرينه على أن المراد بما سلف هو ما تحقق من قتل الصيد قبل نزول الحكم بنزول الآية فإن تعلق العفو بما يتحقق حين نزول الآية أو بعده يناقض جعل الحكم وهو ظاهر، فالجملة لدفع توهم شمول حكم الكفارة للحوادث السابقة على زمان النزول.
والآية من الدليل على جواز تعلق العفو بما ليس بمعصية من الأفعال إذا كان من طبعها اقتضاء النهي المولوي لاشتمالها على المفسدة، وأما قوله: { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } فظاهر العود تكرر الفعل، وهذا التكرر ليس تكرر ما سلف من الفعل بأن يكون المعنى: ومن عاد إلى مثل ما سلف منه من الفعل فينتقم الله منه لأنه حينئذٍ ينطبق على الفعل الذي يتعلق به الحكم في قوله: { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء } (الخ)، ويكون المراد بالانتقام هو الحكم بالكفارة، وهو حكم ثابت بالفعل لكن ظاهر قوله: { فينتقم الله منه } أنه إخبار عن أمر مستقبل لا عن حكم حال فعلي.
وهذا شاهد على أن المراد بالعود العود ثانياً إلى فعل تعلق به الكفارة، والمراد بالانتقام العذاب الإِلهي غير الكفارة المجعولة.
وعلى هذا فالآية بصدرها وذيلها تتعرض لجهات مسألة قتل الصيد، أما ما وقع منه قبل نزول الحكم فقد عفا الله عنه، وأما بعد جعل الحكم فمن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل في المرة الأولى فإن عاد فينتقم الله منه ولا كفارة عليه، وعلى هذا يدل معظم الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآية.
ولولا هذا المعنى كان كالمتعين حمل الانتقام في قوله: { فينتقم الله منه } على ما يعم الحكم بوجوب الكفارة، وحمل العود على فعل ما يماثل ما سلف منهم من قتل الصيد أي ومن عاد إلى مثل ما كانوا عليه من قتل الصيد قبل هذا الحكم، أي ومن قتل الصيد فينتقم الله منه أي يؤاخذه بإيجاب الكفارة، وهذا - كما ترى - معنى بعيد من اللفظ.
قوله تعالى: { أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة } إلى آخر الآية، الآيات في مقام بيان حكم الاصطياد من بحر أو بر، وهو الشاهد على أن متعلق الحل هو الاصطياد في قوله: { أُحل لكم صيد البحر } دون أكله، وبهذه القرينة يتعين قوله: { وطعامه } في أن المراد به ما يؤكل دون المعنى المصدري الذي هو الأكل والمراد بحل طعام البحر حل أكله فمحصل المراد من حل صيد البحر وطعامه جواز اصطياد حيوان البحر وحل أكل ما يؤخذ منه.
وما يؤخذ من طعام البحر وإن كان أعم مما يؤخذ منه صيداً كالعتيق من لحم الصيد أو ما قذفته البحر من ميتة حيوان ونحوه إلاَّ أن الوارد من أخبار أئمة أهل البيت عليهم السلام تفسيره بالمملوح ونحوه من عتيق الصيد، وقوله: { متاعاً لكم وللسيارة } كأنه حال من صيد البحر وطعامه، وفيه شيء من معنى الامتنان.
وحيث كان الخطاب للمؤمنين من حيث كونهم محرمين كانت المقابلة بينهم وبين السيارة في قوة قولنا: متاعاً للمحرمين وغيرهم.
واعلم أن في الآيات أبحاثاً فرعية كثيرة معنونة في الكتب الفقهية من أرادها فليراجعها.
قوله تعالى: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } ظاهر تعليق الكلام بالكعبة ثم بيانه بالبيت بأنه بيت حرام، وكذا توصيف الشهر بالحرام ثم ذكر الهدي والقلائد اللذين يرتبط شأنهما بحرمة البيت، كل ذلك يدل على أن الملاك فيما يبين الله سبحانه في هذه الآية من الأمر إنما هو الحرمة.
والقيام ما يقوم به الشيء، قال الراغب: والقيام والقوام اسم لما يقوم به الشيء أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به كقوله: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } أي جعلها مما يمسككم، وقوله: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } أي قواماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم، قال الأصم: قائماً لا ينسخ، وقرئ: قيماً بمعنى قياماً، انتهى.
فيرجع معنى قوله: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } إلى أنه تعالى جعل الكعبة بيتاً حراماً احترمه، وجعل بعض الشهور حراماً، ووصل بينهما حكماً كالحج في ذي الحجة الحرام، وجعل هناك أموراً تناسب الحرمة كالهدي والقلائد كل ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعية السعيدة.
فإنه جعل البيت الحرام قبلة يوجه إليه الناس وجوههم في صلواتهم ويوجهون إليه ذبائحهم وأمواتهم، ويحترمونه في سيء حالاتهم، فيتوحد بذلك جمعهم، ويجتمع به شملهم، ويحيى ويدوم به دينهم، ويحجون إليه من مختلف الأقطار وأقاصي الآفاق فيشهدون منافع لهم، ويسلكون به طرق العبودية.
ويهدى باسمه وبذكره والنظر إليه والتقرب به والتوجه إليه العالمون، وقد بيّنه الله تعالى بوجه آخر قريب من هذا الوجه بقوله:
{ { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } [آل عمران: 96]، وقد وافاك في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب من الكلام ما يتنور به المقام.
ونظير ذلك الكلام في كون الشهر الحرام قياماً للناس وقد حرم الله فيه القتال، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ويصلحون فيه ما فسد أو اختل من شؤون حياتهم، والشهر الحرام بين الشهور كالموقف والمحط الذي يستريح فيه المتطرق التعبان، وبالجملة البيت الحرام والشهر الحرام وما يتعلق بذلك من هدي وقلائد قيام للناس من عامة جهات معاشهم ومعادهم، ولو استقرأ المفكر المتأمل جزئيات ما ينتفع به الناس انتفاعاً جارياً أو ثابتاً من بركات البيت العتيق والشهر الحرام من صلة الأرحام، ومواصلة الأصدقاء، وإنفاق الفقراء، واسترباح الأسواق، وموادة الأقرباء والأداني، ومعارفة الأجانب والأباعد، وتقارب القلوب، وتطهر الأرواح، واشتداد القوى، واعتضاد الملة، وحياة الدين، وارتفاع أعلام الحق، ورايات التوحيد أصاب بركات جمة ورأى عجباً.
وكان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الآيات الناهية عن الصيد هو دفع ما يتوهم أن هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى، فأي فائدة لتحريم الصيد في مكان من الأمكنة أو زمان من الأزمنة؟ وأي جدوى في سوق الهدي ونحو ذلك؟ وهل هذه الأحكام إلاَّ مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافية بين الأمم الجاهلة الهمجية.
فأجيب عن ذلك بأن اعتبار البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الحكم مبني على حقيقة علمية وأساس جدي وهو أنها قيام يقوم به صلب حياتهم.
ومن هنا يظهر وجه اتصال قوله: { ذلك لتعلموا } إلى آخر الآية، بما قبله، والمشار إليه بقوله: { ذلك } إما نفس الحكم المبين في الآيات السابقة الذي يوضح حكمة تشريعه قوله: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } (الخ)، وإما بيان الحكم الموضح بقوله: { جعل الله الكعبة } "الخ"، المدلول عليه بالمقام.
والمعنى على التقدير الأول أن الله جعل البيت الحرام والشهر الحرام قياماً للناس ووضع ما يناسبهما من الأحكام لينتقلوا من حفظ حرمتهما والعمل بالأحكام المشرعة فيهما إلى أن الله عليم بما في السماوات والأرض وما يصلح شؤونها، فشرع ما شرع لكم عن علم من غير أن يكون شيء من ذلك حكماً خرافياً صادراً عن جهالة الوهم.
والمعنى على التقدير الثاني أنا بيَّنا لكم هذه الحقيقة وهي جعل البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الأحكام قياماً للناس لتعلموا أن الله عليم بما في السماوات والأرض وما يتبعها من الأحكام المصلحة لشؤونها فلا تتوهموا أن هذه الأحكام المشرعة لاغية من غير جدوى أو أنها خرافات مختلقة.
قوله تعالى: { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } إلى آخر الآيتين، تأكيد للبيان وتثبيت لموقع الأحكام المذكورة، ووعيد ووعد للمطيعين والعاصين، وفيه شائبة تهديد، ولذلك قدم توصيفه بشدة العقاب على توصيفه بالمغفرة والرحمة، ولذلك أيضاً أعقب الكلام بقوله: { ما على الرسول إلاَّ البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون }.
(بحث روائي)
في الكافي: بإسناده عن حماد بن عيسى وابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم }، قال: حشرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم.
أقول: ورواه العياشي عن معاوية بن عمار مرسلاً، وروى هذا المعنى أيضاً الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب بإسنادهما إلى الحلبي عن الصادق عليه السلام، والعياشي عن سماعة عنه عليه السلام مرسلاً، وكذا القمي في تفسيره مرسلاً، وروي ذلك عن مقاتل بن حيان كما يأتي.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أُنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحوش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا؛ فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون ليعلم الله من يخافه بالغيب.
أقول: والروايتان لا تنافيان ما قدمناه في البيان السابق من عموم معنى الآية.
وفي الكافي مسنداً عن أحمد بن محمد رفعه في قوله تبارك وتعالى: { تناله أيديكم ورماحكم }، قال: ما تناله الأيدي البيض والفراخ، وما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي.
وفي تفسير العياشي بإسناده عن حريز، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا قتل الرجل المحرم حمامة ففيها شاة، فإن قتل فرخاً ففيه جمل، فإن وطأ بيضة فكسرها فعليه درهم، كل هذا يتصدق بمكة ومنى، وهو قول الله في كتابه: { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم } البيض والفراخ { ورماحكم } الأمهات الكبار.
أقول: ورواه الشيخ في التهذيب عن حريز عنه عليه السلام مقتصراً على الشطر الأخير من الحديث.
وفي التهذيب بإسناده عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه ويتصدق بالصيد على مسكين، فإن عاد فقتل صيداً آخر لم يكن عليه جزاء وينتقم الله منه، والنقمة في الآخرة.
وفيه: عن الكليني، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه كفّارة، فإن أصابه ثانية متعمداً فهو ممن ينتقم الله منه، ولم يكن عليه كفّارة.
وفيه: عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله: [ما على] محرم أصاب صيداً؟ قال: عليه كفارة. قلت: فإن هو عاد؟ قال: عليه كلّما عاد كفّارة.
أقول: الروايات - كما ترى - مختلفة، وقد جمع الشيخ بينها بأن المراد أن المحرم إذا قتل متعمداً فعليه كفارة وإن عاد متعمداً فلا كفّارة عليه، وهو ممن ينتقم الله منه، وأما الناسي فكلّما عاد فعليه كفّارة.
وفيه: بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: { يحكم به ذوا عدل منكم } فالعدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإِمام من بعده يحكم به وهو ذو عدل فإذا علمت ما حكم الله به من رسول الله والإِمام فحسبك ولا تسأل عنه.
أقول: وفي هذا المعنى عدة روايات، وفي بعضها: تلوت عند أبي عبد الله عليه السلام: { ذوا عدل منكم } فقال: ذو عدل منكم، هذا مما أخطأت به الكتّاب، وهو يرجع إلى القراءة كما هو ظاهر.
وفي الكافي عن الزهري عن علي بن الحسين عليه السلام قال: صوم جزاء الصيد واجب قال الله عز وجل: { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً }.
أَوَتَدري كيف يكون عدل ذلك صياماً يا زهري؟ قال: قلت: لا أدري، قال: يقوم الصيد ثم تفض تلك القيمة على البر ثم يكال ذلك البر أصواعاً فيصوم لكل نصف صاع يوماً.
وفيه بإسناده عن أحمد بن محمد، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من وجب عليه هدي في إحرامه فله أن ينحره حيث شاء إلاَّ فداء الصيد، فإن الله يقول: { هدياً بالغ الكعبة }.
وفي تفسير العياشي عن حريز، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: { أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم } قال: مالحه الذي يأكلون؛ وقال: فصل ما بينهما: كل طير يكون في الآجام يبيض في البر ويفرخ في البر من صيد البر، وما كان من الطير يكون في البر ويبيض في البحر ويفرخ فهو من صيد البحر.
وفيه: عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: { أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة } قال: هي حيتان المالح، وما تزودت منه أيضاً وإن لم يكن مالحاً فهو متاع.
أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من طرق الشيعة.
وفي الدر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة، وأحمد عن رجل من الأنصار: أن رجلاً أوطأ بعيره أدحى نعامة فكسر بيضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"عليك بكل بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين"
]. أقول: وروى هذا المعنى أيضاً عن ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن ذكوان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أيضاً عنه عن أبي الزناد عن عائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه: أخرج أبو الشيخ وابن مردويه من طريق أبي المهزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في بيض النعام ثمنه.
وفيه: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر محمد بن علي: أن رجلاً سأل علياً عن الهدي مما هو؟ قال: من الثمانية الأزواج فكأن الرجل شك فقال علي: تقرأ القرآن؟ فكأن الرجل قال: نعم، قال: فسمعت الله يقول: { يا أيُّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أُحلت لكم بهيمة الأنعام }؟ قال: نعم، قال: سمعته يقول: { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ومن الأنعام حمولة وفرشاً، فكلوا من بهيمة الأنعام }؟ قال: نعم.
قال: فسمعته يقول: { من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الإِبل اثنين ومن البقر اثنين }؟ قال: نعم؛ قال: فسمعته يقول: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } إلى قوله: { هدياً بالغ الكعبة }؟ قال الرجل: نعم.
فقال: إن قتلت ظبياً فما عليَّ؟ قال: شاة؛ قال علي: هدياً بالغ الكعبة؟ قال الرجل: نعم، فقال علي: قد سماه الله بالغ الكعبة كما تسمع.
وفيه: أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن ثابت ومعاوية قضوا فيما كان من هدي مما يقتل المحرم من صيد فيه جزاء نظر إلى قيمة ذلك فاطعم به المساكين.
وفيه: أخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم، قال: ما لفظه ميتاً فهو طعامه" .
أقول: وروي ما في معناه عن بعض الصحابة أيضاً لكن المروي من طرق أهل البيت عنهم عليهم السلام خلافه كما تقدم.
وفي تفسير العياشي عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } قال: جعل الله لدينهم ومعايشهم.
أقول: وقد تقدم توضيح معنى الرواية.