خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
٢٦
يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
٢٧
وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٢٨
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ
٢٩
فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ
٣٠
يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ
٣١
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٣٢
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٣٣
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
٣٤
يَابَنِيۤ ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٣٥
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ
٣٦
-الأعراف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
التدبر في هذه الخطابات وما تقدم عليها من قصة السجدة والجنة ثم عرض ذلك جميعاً على ما ورد من القصة والمخاطبة في غير هذه السورة وخاصة سورة طه المكية التي هي كإجمال هذه السورة المفصلة وسورة البقرة المدنية يهدينا إلى أن هذه الخطابات العامة المصدرة بقوله: يا بني آدم، يا بني آدم هي تعميم الخطابات الخاصة التي وجهت إلى آدم كما أن القصة عممت نحواً من التعميم في هذه السورة، وقد أشرنا إليه فيما تقدم.
وهذه الخطابات الأربعة المصدرة بقوله: يا بني آدم ثلاثة منها راجعة إلى التحذير من فتنة الشيطان وإلى الأكل والشرب واللباس تعميم ما في قوله تعالى في سورة طه:
{ { يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } } [طه: 117 - 118] الآيات، والرابعة تعميم قوله فيها: { { فإما يأتينكم مني هدى } [طه: 123] الخ.
ويعلم من انتزاع هذه الخطابات من قصته وتعميمها بعد التخصيص ثم تفريع أحكام أخرى عليها ذيلت بها الخطابات المذكورة أن هذه الأحكام المشرعة المذكورة ها هنا على الإِجمال أحكام مشرّعة في جميع الشرائع الإِلهية من غير استثناء كما يعلم أن ما قدر للإِنسان من سعادة وشقاوة وسائر المقدرات الإِنسانية كالأحكام العامة جميعها تنتهي إلى تلك القصة فهي الأصل تفرعت عليه هذه الفروع، والفهرس الذي يشير إلى التفاصيل.
قوله تعالى: { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً } اللباس كل ما يصلح للبس وستر البدن وغيره، وأصله مصدر يقال: لبس يلبس لبساً - بالكسر والفتح - ولباساً، والريش ما فيه الجمال مأخوذ من ريش الطائر لما فيه من أنواع الجمال والزينة، وربما يطلق على أثاث البيت ومتاعه.
وكأن المراد من إنزال اللباس والريش عليهم خلقه لهم كما في قوله تعالى:
{ { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع } [الحديد: 25]، وقوله: { { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [الأنعام: 143]، وقد قال تعالى: { { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } [الحجر: 21]، فقد أنزل الله اللباس والريش بالخلق من غيب ما عنده إلى عالم الشهادة وهو الخلق.
واللباس هو الذي يعمله الإِنسان صالحاً لأن يستعمله بالفعل دون المواد الأصلية من قطن أو صوف أو حرير أو غير ذلك مما يأخذه الإِنسان فيضيف إليه أعمالاً صناعية من تصفية وغزل ونسج وقطع وخياطة فيصير لباساً صالحاً للبس فعد اللباس والريش من خلق الله وهما من عمل الإِنسان نظير ما في قوله تعالى:
{ { والله خلقكم وما تعملون } [الصافات: 96]، من النسبة.
ولا فرق من جهة النظر في التكوين بين نسبه ما عمله الإِنسان إلى الله سبحانه وما عمله منته إلى أسباب جمة أحدها الإِنسان، ونسبة سائر ما عملته الطبائع ولها أسباب كثيرة أحدها الفاعل كنبات الأرض وصفرة الذهب وحلاوة العسل فإن جميع الأسباب بجميع ما فيها من القدرة منتهية إليه سبحانه وهو محيط بها.
وليست الخلقة منتسبة إلى الأشياء على وتيره واحدة وإن كانت جميع مواردها متفقة في معنى الانتهاء إليه إلا ما فيه معنى النقص والقبح والشناعة من المعاصي ونحوها فحقيقتها فقدان الخلقة الحسنة أو مخالفة الأمر الإِلهي، وليست بمخلوقة له وإنما هي أوصاف نقص في أعمال الإِنسان مثلاً في باطنه أو ظاهره، وقد تكررت الإِشارة إلى هذه الحقيقة فيما مر من أجزاء هذا الكتاب.
وتوصيف اللباس بقوله: { يواري سوآتكم } للدلالة على أن المراد باللباس ما ترفع به حاجة الإِنسان التي اضطرته إلى اتخاذ اللباس وهي مواراة سوآته التي يسوؤه انكشافها وأما الريش فإنما يتخذه لجمال زائد على أصل الحاجة.
وفي الآية امتنان بهداية الإِنسان إلى اللباس والريش وفيها - كما قيل - دلالة على إباحة لباس الزينة.
قوله تعالى: { ولباس التقوى ذلك خير } إلى آخر الآية. انتقل سبحانه من ذكر لباس الظاهر الذي يواري سوآت الإِنسان فيتقي به أن يظهر منه ما يسوؤه ظهوره، إلى لباس الباطن الذي يواري السوآت الباطنية التي يسوء الإِنسان ظهورها وهي رذائل المعاصي من الشرك وغيره، وهذا اللباس هو التقوى الذي أمر الله به.
وذلك أن الذي يصيب الإِنسان من ألم المساءة وذلة الهوان من ظهور سوآته روحي من سنخ واحد في السوءتين إلا أن ألم ظهور السوآت الباطنية أشد وأمر وأبقى فالمحاسب هو الله، والتبعة شقوة لازمة، ونار تطلع على الأفئدة، ولذلك كان لباس التقوى خيراً من لباس الظاهر.
وللإِشارة إلى هذا المعنى وتتميم الفائدة عقَّب الكلام بقوله: { ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون } فاللباس الذي اهتدى إليه الإِنسان ليرفع به حاجته إلى مواراة سوآته التي يسوؤه ظهورها آية إلهية إن تأمله الإِنسان وتبصر به تذكر أن له سوآت باطنية تسوؤه إن ظهرت وهي رذائل النفس، وسترها عليه أوجب وألزم من ستر السوآت الظاهرية بلباس الظاهر واللباس الذي يسترها ويرفع حاجة الإِنسان الضرورية هو لباس التقوى الذي أمر الله به وبيّنه بلسان أنبيائه.
وفي تفسير لباس التقوى أقوال أُخر مأثورة عن المفسرين، فقيل: هو الإِيمان والعمل الصالح، وقيل: هو حسن السمت الظاهر، وقيل: هو الحياء، وقيل: هو لباس النسك والتواضع كلبس الصوف والخشن، وقيل: هو الإِسلام، وقيل: هو لباس الحرب، وقيل: هو ما يستر العورة، وقيل: هو خشية الله، وقيل: هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة هو خير من لباس الدنيا، وأنت ترى أن شيئاً من هذه الأقوال لا ينطبق على السياق ذلك الانطباق.
قوله تعالى: { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } إلى آخر الآية. الكلام وإن كان مفصولاً عما قبله بتصديره بخطاب { يا بني آدم } إلا أنه بحسب المعنى من تتمة المفاد السابق، ولذا أعاد ذكر السوآت ثانياً فيرجع المعنى إلى أن لكم معاشر الآدميين سوآت لا يسترها إلا لباس التقوى الذي ألبسناكموه بحسب الفطرة التي فطرناكم عليها فإياكم أن يفتنكم الشيطان فينزع عنكم ذلك كما نزع لباس أبويكم في الجنة ليريهما سوآتهما فإنا جعلنا الشياطين أولياء لمن تبعهم ولم يؤمن بآياتنا.
ومن هنا يظهر أن ما صنعه إبليس بهما في الجنة من نزع لباسهما ليريهما سوآتهما كان مثالاً لنزع لباس التقوى عن الآدميين بالفتنة وأن الإِنسان في جنة السعادة ما لم يفتتن به فإذا افتتن أخرجه الله منها.
وقوله: { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } تأكيد للنهي وبيان لدقة مسلكه وخفاء سربه دقة لا يميزه حس الإِنسان وخفاء لا يقع عليه شعوره فإنه لا يرى إلا نفسه من غير أن يشعر أن وراءه من يأمر بالشر ويهديه إلى الشقوة.
وقوله: { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } تأكيد آخر للنهي، وليست ولايتهم وتصرفهم في الإِنسان إلا ولاية الفتنة والغرور فإذا افتتن واغتر بهم تصرفوا بما شاؤوا وكما أرادوا كما قال تعالى مخاطباً لإِبليس:
{ { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً } [الإسراء: 63 - 64]، وقال: { { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } [النحل: 99]، وقال: { { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [الحجر: 42]. ومن الآيات بانضمامها إلى آيتنا المبحوث عنها يظهر أن لا ولاية لهم على المؤمنين وإن مسهم طائف منهم أحياناً، وأن لا سلطان له على المتوكلين من المؤمنين وهم الذين عدَّهم الله عباداً له بقوله: { عبادي } فلا ولاية له إلا على الذين لا يؤمنون.
والظاهر أن المراد به عدم الإِيمان بآيات الله بتكذيبها وهو أخص من وجه من عدم الإِيمان بالله الذي هو الكفر بالله بشرك أو نفي، وذلك لأن هذا الكفر هو المذكور في الخطاب العام الذي في ذيل القصة من سورة البقرة حيث قال تعالى:
{ { قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى } [الأعراف: 24] إلى أن قال { { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 39]، وفي ذيل هذه الآيات من هذه السورة حيث قال: { { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [الأعراف: 36]. قوله تعالى: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } إلى آخر الآية، رجوع من الخطاب العام لبني آدم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ليتوسل به إلى انتزاع خطابات خاصة يوجهها إلى أمته كما جرى نظيره من الالتفات في الخطاب المتقدم يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً حيث قال: { ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون } لنظير الغرض.
وبالجملة فقد استخرج من هذا الأصل الثابت في قصة الجنة وهو أمر ظهور السوآت الذي أفضى إلى خروج آدم وزوجته من الجنة أن الله لا يرضى بالفحشاء الشنيعة من أفعال بني آدم، فذكر إتيان المشركين بالفحشاء واستنادهم في ذلك إلى عمل آبائهم وأمر الله سبحانه بها فأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم بأن الله لا يأمر بالفحشاء، ويذكرهم أن ذلك من القول على الله بغير علم والافتراء عليه، كيف لا؟ وقصة الجنة شاهدة عليه.
وقد ذكر لهم في فعلهم الفحشاء عذرين يعتذرون بهما ومستندين يستندون إليهما وهما فعل آبائهم وأمر الله إياهم بها، وكان الثاني هو الذي يرتبط بالخطاب العام المستخرج من قصة الجنة فقط، ولذلك تعرض لدفعه ورده عليهم، وأما استنادهم إلى فعل آبائهم فذلك وإن لم يكن مما يرتضيه الله سبحانه وقد رده في سائر كلامه بمثل قوله:
{ { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } [البقرة: 170] فلم يتعرض لرده ها هنا لخروجه عن غرض الكلام.
وقد ذكر جمع من المفسرين أن قوله: { وإذا فعلوا فاحشة } الخ، إشارة إلى ما كان معمولاً عند أهل الجاهلية من الطواف بالبيت الحرام عراة يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ولا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، ونقل عن الفراء أنهم كانوا يعملون شيئاً من سيور مقطعة يشدونه على حقائقهم يسمى حوفاً وإن عمل من صوف سمي رهطاً وكانت المرأة تضع على قبلها نسعة أو شيئاً آخر فتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله ومـــا بدا منــه فلا أُحله

ولم يزل دائراً بينهم حتى منعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفتح حين بعث علياً عليه السلام بآيات البراءة إلى مكة.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض المسلمين كانوا يعيبونهم على ذلك فيعتذرون إليهم بقولهم: { وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } فرد الله سبحانه عليهم وذمهم بقوله: { إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }.
وليس ما ذكروه ببعيد وفي الآية بعض التأييد له حيث وصفت ما كانوا يفعلونه بالفحشاء وهي الأمر الشنيع الشديد القبح ثم ذكرت أنهم كانوا يعتذرون بأن الله أمرهم بذلك. ولازم ذلك أن يكون ما فعلوه أمراً شنيعاً أتوا به في صفة العبادة والنسك كالطواف عارياً، والآية مع ذلك الفحشاء فتصلح أن تنطبق على فعلهم ذلك، وعلى مصاديق أُخرى ما أكثر وجودها بين الناس وخاصة في زماننا الذي نعيش فيه.
قوله تعالى: { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } لما نفت الآية السابقة أن يأمر الله سبحانه بالفحشاء وذكرت أن ذلك افتراء عليه وقول بغير علم لعدم انتهائه إلى وحي ما أُوحي به الله بادرت هذه الآية إلى ذكر ما أمر به وهو لا محالة أمر يقابل ما استشنعته الآية السابقة وعدته فحشاء لما فيه من بلوغ القبح والإِفراط والتفريط فقال: { قل أمر ربي بالقسط.. } الخ.
والقسط على ما ذكره الراغب هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة قال: { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } { وأقيموا الوزن بالقسط } والقسط هو أن يأخذ قسط غيره، وذلك جور والإِقساط أن يعطي قسط غيره، وذلك إنصاف ولذلك قيل: قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل قال: { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } وقال: { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين }. انتهى كلامه.
فالمراد: قل أمر ربي بالنصيب العدل ولزوم وسط الاعتدال في الأمور كلها وأن تجتنبوا جانبي الإِفراط والتفريط فأقسطوا وأنيبوا وأقروا نفوسكم عند كل معبد تعبدون الله فيه وادعوه بإخلاص الدين له من غير أن تشركوا بعبادته صنماً أو أحداً من آبائكم وكبرائكم بالتقليد لهم وهذا هو القسط في العبادة.
فقوله: { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } معطوف ظاهراً على مقول القول لأن معنى أمر ربي بالقسط: أقسطوا، فيكون التقدير: أقسطوا وأقيموا (الخ)، والوجه هو ما يتوجه به إلى الشيء، وهو في حال تمام النفس الإِنسانية، وإقامتها عندها إيجاد القيام بالأمر لها أي إيفاؤه والإِيتان به كما ينبغي تاماً غير ناقص فيؤول معنى إقامة الوجه عند العبادة إلى الاشتغال بالعبادة والانقطاع عن غيرها.
فيفيد قوله: { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } إذا انضم إليه قوله: { وادعوه مخلصين له الدين } وجوب الانقطاع للعبادة عن غيرها ولله سبحانه عن غيره كما عرفت ومن الغير الذي يجب الانقطاع عنه إلى الله سبحانه نفس العبادة، وإنما العبادة توجه لا متوجه إليها، والتوجه إليها يبطل معنى كونها عبادة وتوجهاً إلى الله فيجب إن لا يذكر الناسك في نسكه إلا ربه وينسى غيره.
وللمفسرين في معنى قوله: { وأقيموا وجوهكم } الخ، أقوال أُخر منها: أن المعنى: توجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على استقامة. ومنها: أن المعنى توجهوا في أوقات السجود وهي أوقات الصلاة إلى الجهة التي أمركم الله بها وهي الكعبة. ومنها إذا أدركتم الصلاة في مسجد فصلوا ولا تقولوا حتى أرجع إلى مسجدي. ومنها: أن المعنى: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة أُمر فيها بالجماعة. ومنها: أن المعنى: أخلصوا وجوهكم لله بالطاعة فلا تشركوا وثناً ولا غيره.
والوجوه المذكورة على علاتها وإباء الآية عنها لا تناسب الثلاثة الأول منها حال المسلمين في وقت نزول السورة وهي مكية ولم تكن الكعبة قبلة يومئذ، ولا كانت للمسلمين مساجد مختلفة متعددة، وآخر الوجوه وإن كان قريباً مما قدمناه إلا أنه ناقص في بيان الإِخلاص المستفاد من الآية، وما تضمنه إنما هو معنى قوله تعالى: { وادعوه مخلصين له الدين } لا قوله: { وأقيموا } الخ، كما تقدم.
قوله تعالى: { كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } إلى آخر الآية. ظاهر السياق أن يكون قوله { فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } حالاً من فاعل { تعودون } ويكون هو الوجه المشترك الذي شبه فيه العود بالبدء، والمعنى تعودون فريقين كما بدأكم فريقين نظير قوله تعالى:
{ { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } [الأنعام: 94]، والمعنى لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فرادى.
فهذا هو الظاهر المستفاد من الكلام، وأما كون { فريقاً هدى } الخ، حالاً لا يعدو عامله، ووجه الشبه بين البدء والعود أمراً آخر غير مذكور ككونهم فرادى بدءاً وعوداً أو كون الخلق الأول والثاني جميعاً من تراب أو كون البعث مثل الإِنشاء في قدرة الله إلى غير ذلك مما احتملوه فوجوه بعيدة عن دلالة الآية، وأي فائدة في حذف وجه الشبه من الذكر وذكر ما لا حاجه إليه مع وقوع اللبس، وسيجيء إن شاء الله توضيح ذلك.
وظاهر البدء في قوله: { بدأكم } أول خلقة الإِنسان الدنيوية لا مجموع الحياة الدنيوية قبال الحياة الأخروية فيكون البدء هو الحياه الدنيا والعود هو الحياة الأخرى فيكون المعنى كنتم في الدنيا مخلوقين له هدى فريقاً منكم وحقت الضلالة على فريق آخر كذلك تعودون كما يؤول إليه قول من قال: "إن معنى الآية: تبعثون على ما متم عليه: المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره".
وذلك أن ظاهر البدء إذا نسب إلى شيء ذي امتداد واستمرار بوجه أن يقع على أقدم أجزاء وجوده الممتد المستمر لا على الجميع، والخطاب للناس فبدؤهم أول خلقة النوع الإِنساني وبدؤ ظهوره. على أن الآية من تتمة الآيات التي يبين الله سبحانه فيها بدء إيجاده الإِنسان بمثل قوله: { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } الخ، فالمراد به كيفية البدء التي قصها في أول كلامه. وقد كان من القصة أن الله قال لإِبليس لما رجمه: { اخرج منها مذؤوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } وفيه قضاء أن ينقسم بنو آدم فريقين فريقاً مهتدين على الصراط المستقيم، وفريقاً ضالين حقاً فهذا هو الذي بدأهم به وكذلك يعودون.
وقد بيّن ذلك في مواضع أُخر من كلامه أوضح من ذلك وأصرح كقوله:
{ { قال هذا صراط عليّ مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [الحجر: 42]، وهذا قضاء حتم وصراط مستقيم أن الناس طائفتان طائفة ليس لإِبليس عليهم سلطان وهم الذين هداهم الله، وطائفة متبعون لإِبليس غاوون وهم المقضي ضلالهم لاتباعهم الشيطان وتوليهم إياه قال: { { كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله } [الحج: 4]، وإنما قضي ضلالهم إثر اتباعهم وتوليهم لا بالعكس كما هو ظاهر الآية.
ونظيره في ذلك قوله تعالى:
{ { قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ص: 84]، فإنه يدل على أن هناك قضاء بتفرقهم فريقين، وهذا التفرق هو الذي فرع تعالى عليه قوله إذ قال: { { قال اهبطا منها.... فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى } [طه: 123 - 124] الخ، وهو عمى الضلال.
وبعد ذلك كله فمن الممكن أن يكون قوله: { كما بدأكم تعودون } الخ، في مقام التعليل لمضمون الكلام السابق والمعنى: اقسطوا في أعمالكم وأخلصوا لله سبحانه فإن الله سبحانه إذ بدأ خلقكم قضى فيكم أن تتفرقوا فريقين فريقاً يهديهم وفريقاً يضلون عن الطريق وستعودون إليه كما بدأكم فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة بتولي الشياطين فأقسطوا وأخلصوا حتى تكونوا من المهتدين بهداية الله لا الضالين بولاية الشياطين.
فيكون الكلام جارياً مجرى قوله تعالى:
{ { ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً } [البقرة: 148] فإنه في عين أنه بيّن أولاً أن لكل وجهة خاصة محتومة هو موليها لا يتخلف عنه إن سعادة فسعادة وإن شقاوة فشقاوة أمرهم ثانياً أن استبقوا الخيرات، ولا يستقيم الأمر مع تحتم إحدى المنزلتين: السعادة والشقاوة لكن الكلام في معنى قولنا: إن كلاً منكم لا محيص له عن وجهة متعينة في حقه لازمة له إما الجنة وإما النار فاستبقوا الخيرات حتى تكونوا من أهل وجهة السعادة دون غيرها.
وكذلك الأمر فيما نحن فيه فالكلام في معنى قولنا: إنكم ستعودون فريقين كما بدأكم فريقين بقضائه فأقسطوا في أعمالكم وأخلصوا لله سبحانه حتى تكونوا من الفريق الذي هدى دون الفريق الذي حق عليهم الضلالة.
ومن الممكن أن يكون قوله: { كما بدأكم } الخ، كلاماً مستأنفاً وهو مع ذلك لا يخلو عن تلويح بالدعوة إلى الإِقساط والإِخلاص على ما يتبادر من السياق.
وأما قوله: { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء } فهو تعليل لثبوت الضلالة ولزومها لهم في قوله: { حق عليهم الضلالة } كأن كلمة الضلال والخسران صدرت من مصدر القضاء في حقهم مشروطاً بولاية الشيطان كما يذكره في قوله:
{ { كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله } } [الحج: 4]. فلما تولوا الشياطين في الدنيا حقت عليهم الضلالة ولزمتهم لزوماً لا انفكاك بعده أبداً وهذا نظير ما يستفاد من قوله: { { وقيّضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أُمم قد خلت من قبلهم من الجن والإِنس إنهم كانوا خاسرين } } [فصلت: 25]. وأما قوله: { ويحسبون أنهم مهتدون } فهو كعطف التفسير بالنسبة إلى الجملة السابقة يفسر به معنى تحقق الضلالة ولزومها فإن الإِنسان مهما ركب غير طريق الحق واعتنق الباطل وهو يعترف بأنه من الباطل ولما ينس الحق أوشك أن يعود إلى الحق الذي فارقه وكان مرجواً أن ينتزع عن ضلاله إلى الهدى أما إذا اعتقد حقية الباطل الذي هو عليه، وحسب أنه على الهدى وهو في ضلال فقد استقر فيه شيمة الغي وحقت عليه الضلالة ولا يرجى معه فلاح أبداً.
فقوله: { ويحسبون أنهم مهتدون } كالتفسير لتحقق الضلالة لكونه من لوازمه، وقد قال تعالى في موضع آخر:
{ { قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } [الكهف: 103 - 104]، وقال تعالى: { { إن الذين كفروا سواء عليهم ءانذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } } [البقرة: 6 - 7]. وإنه الإِنسان يسير على الفطرة ويعيش على الخلقة لا ينقاد إلا للحق ولا يخضع إلا للصدق ولا يريد إلا ما فيه خيره وسعادته غير أنه إذا شمله التوفيق وكان على الهدى طبق ما يطلبه ويقصده على حقيقة مصداقه ولم يعبد إلا الله وهو الحق الذي يطلبه ولم يرد إلا الحياة الدائمة الخالدة وهي السعادة التي يقصدها، وإذا ضل عن الصراط انتكس وجهه من الحق إلى الباطل ومن الخير إلى الشر ومن السعادة إلى الشقاء فيتخذ إلهه هواه، ويعبد الشيطان، ويخضع للأوثان، وأخلد إلى الأرض، وتعلق بالزخارف المادية الدنيوية وتبصر إليها لكنه إنما يعمل ما يعمل بإذعان أنه هكذا ينبغي أن يعمل وحسبان أنه مهتد في عمله فيأخذ بالباطل بعنوان أنه حق، ويركن إلى الشر أو الشقاء بعنوان أنه خير وسعادة فالإِدراك الفطري محفوظ له غير أنه يطبقه في مقام العمل على غير مصداقه. قال تعالى: { { يا أيها الذين أُوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها } [النساء: 47]، وأما إنسان يتبع الباطل بما هو باطل، ويقصد الشقاء والخسران بما هو شقاء وخسران فمن المحال ذلك. قال تعالى: { { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [الروم: 30] وشيء من العلل والأسباب ومنها الإِنسان لا يريد غاية ولا يفعل فعلاً إلا إذا كان ملائماً لنفسه حاملاً لما فيه نفعه وسعادته، وما ربما يترآى من خلاف فإنما هو في بادئ النظر لا بحسب الحقيقة وفي نفس الأمر.
هذا كله ما يقتضيه التدبر وإيفاء النظر من معنى قوله { كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } الخ، وهو يدور مدار كون { فريقاً هدى } الخ، حالاً مبيناً لوجه الشبه والمعنى المشترك بين البدء والعود سواء أخذنا الكلام مستأنفاً أو واقعاً موقع التعليل متصلاً بما قبله.
وأما جمهور المفسرين فكأنهم متسالمون على أن قوله: { فريقاً هدى } حال مبين لكيفية العود فحسب دون العود والبدء جميعاً، وأن المعنى المشترك الذي هو وجه تشبيه العود بالبدء أمر آخر وراءه إلا من فسر البدء بالحياة الدنيا والخلق الأول كما تقدم وسيجيء، وكأن ذلك فراراً منهم عن لزوم الجبر المبطل للاختيار مع احتفاف الكلام بالأوامر والنواهي، وقد عرفت أن ذلك غير لازم.
وبالجملة فقد اختلفوا في وجه اتصال الكلام بما قبله بعد التسالم على ذلك فمن قائل: أنه إنذار بالبعث تأكيداً للأحكام المذكورة سابقاً، واحتجاج عليه بالبدء فالمعنى: ادعوه مخلصين فإنكم مبعوثون مجازون، وإن بعد ذلك في عقولكم فاعتبروا بالابتداء واعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الأول فإنه يبعثكم فتعودون في الخلق الثاني.
وفيه أنه مبني على أن تشبيه العود بالبدء في تساويهما بالنسبة إلى قدرة الله، وأن النكتة في التعرض لذلك هو الإِنذار بالمجازاة، والسياق المناسب لهذا الغرض أن يقال: كما بدأكم يبعثكم فيجازيكم بوضع بعثه تعالى موضع عود الناس والتصريح بالمجازاة التي هي العمدة في الغرض المسوق لأجله الكلام كما صنع ذلك القائل نفسه فيما ذكره من المعنى، والآية خالية من ذلك.
ومن قائل: أنه احتجاج على منكري البعث، واتصاله بقوله تعالى قبل عدة آيات: { فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون }.
فقوله: { كما بدأكم تعودون } معناه فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم.
وفيه: ما في الوجه السابق على أنه تحكم من غير دليل.
ومن قائل: إنه كلام مستأنف. وقد تقدم ذكره.
ومن قائل: إنه متصل بما سبقه، والمعنى: أخلصوا لله في حياتكم فإنكم تبعثون على ما متم عليه: المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره.
وفيه: أنه مبني على كون المراد بالبدء هو مجموع الحياة الدنيا في قبال الحياة الآخرة ثم تشبيه بالعود وهو الحياة الآخرة بآخر الحياة الأولى المسماة بعثاً، والآية - كما تقدم - بمعزل عن الدلالة على هذا المعنى.
قوله تعالى: { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } إلى آخر الآية. قال الراغب: السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإِنسان، وإن كان ذلك في الإِنفاق أشهر، انتهى.
أخذ الزينة عند كل مسجد هو التزين الجميل عند الحضور في المسجد، وهو إنما يكون بالطبع للصلاة والطواف وسائر ذكر الله فيرجع المعنى إلى الأمر بالتزين الجميل للصلاة ونحوها، ويشمل بإطلاقه صلوات الأعياد والجماعات اليومية وسائر وجوه العبادة والذكر.
وقوله: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } الخ، أمران إباحيان ونهي تحريمي معلل بقوله: { إنه لا يحب المسرفين } والجميع مأخوذة من قصة الجنة كما مرت الإِشارة إليه، وهي كما تقدم خطابات عامة لا تختص بشرع دون شرع ولا بصنف من أصناف الناس دون صنف.
ومن هنا يعلم فساد ما ذكره بعضهم: أن قوله: { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } الخ يدل على بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جميع البشر، وأن الخطاب يشمل النساء بالتبع للرجال شرعاً لا لغة (انتهى). نعم تدل الآية على أن هناك أحكاماً عامة لجميع البشر برسالة واحدة أو أكثر، وأما شمول الحكم للنساء فبالتغليب في الخطاب والقرينة العقلية قائمة.
قوله تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } هذا من استخراج حكم خاص - بهذه الأمة - من الحكم العام السابق عليه بنوع من الالتفات نظير ما تقدم في قوله: { ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون } وقوله { وإذا فعلوا فاحشة } الآية.
والاستفهام إنكاري، والزين يقابل الشين وهو ما يعاب به الإِنسان فالزينة ما يرتفع به العيب ويذهب بنفرة النفوس، والإِخراج كناية عن الإِظهار واستعارة تخييلية كأن الله سبحانه بإلهامه وهدايته الإِنسان من طريق الفطرة إلى إيجاد أنواع الزينة التي يستحسنها مجتمعه ويستدعي انجذاب نفوسهم إليه وارتفاع نفرتهم واشمئزازهم عنه يخرج لهم الزينة وقد كانت مخبية خفية فأظهرها لحواسهم.
ولو كان الإِنسان يعيش في الدنيا وحده في غير مجتمع من أمثاله لم يحتج إلى زينة يتزين بها قط ولا تنبه للزوم إيجادها لأن ملاك التنبه هو الحاجة. لكنه لما لم يسعه إلا الحياة في مجتمع من الأفراد وهم يعيشون بالإِرادة والكراهة والحب والبغض والرضى والسخط فلا محيص لهم من العثور على ما يستحسنونه وما يستقبحونه من الهيآت والأزياء فيلهمهم المعلم الغيبي من وراء فطرتهم بما يصلح ما فسد منهم ويزين ما يشين منهم وهو الزينة بأقسامها، ولعل هذا هو النكتة في خصوص التعبير بقوله: { لعباده }.
وهذه المسماة الزينة من أهم ما يعتمد عليه الاجتماع الإِنساني وهي من الآداب العريقة التي تلازم المجتمعات وتترقى وتتنزل على حسب تقدم المدنية والحضارة ولو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات انهدم الاجتماع وتلاشت أجزاءه من حينه لأن معنى بطلانها ارتفاع الحسن والقبح والحب والبغض والإِرادة والكراهة وأمثالها من بينهم، ولا مصداق للاجتماع الانساني عندئذ فافهم ذلك.
ثم الطيبات من الرزق - والطيب هو الملائم للطبع - هي الأنواع المختلفة مما يرتزق به الإِنسان بالتغذي منه، أو مطلق ما يستمد به في حياته وبقائه كأنواع المطعم والمشرب والمنكح والمسكن ونحوها، وقد جهز الله سبحانه الإِنسان بما يحس بحاجته إلى أقسام الرزق ويستدعي تناولها بأنواع من الشهوات الهائجة في باطنه إلى ما يلائمها مما يرفع حاجته وهذا هو الطيب والملائمة الطبيعية.
وابتناء حياة الإِنسان السعيدة على طيبات الرزق غني عن البيان فلا يسعد الإِنسان في حياته من الرزق إلا بما يلائم طباع قواه وأدواته التي جهز بها ويساعده على بقاء تركيبه الذي ركّب به، وما جهز بشيء ولا ركب من جزء إلا لحاجة له إليه فلو تعدى في شيء مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعاً اضطر إلى تتميم النقص الوارد عليه في القوة المربوطة به إلى صرف شيء من سائر القوى فيه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم، فيضطر إلى استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم والمشهية للمعدة ولا يزال يستعمل ويفرط حتى يعتاد بها فلا تؤثر فيه فيصير إنساناً عليلاً تشغله العلة عن عامة واجبات الحياة، وأهمها الفكر السالم الحر وعلى هذا القياس.
والتعدي عن طيب الرزق يبدل الإِنسان إلى شيء آخر لا هو مخلوق لهذا العالم ولا هذا العالم مخلوق له وأي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الذي أعده له الكون، ويسلك طريقاً لم تهيئه له الفطرة، وينال غاية غير غايته وهو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة والشره، ويصوره له الخيال بآخر ما يقدر وأقصى ما يمكن.
والله سبحانه يذكر في هذه الآية أن هناك زينة أخرجها لعباده وأظهرها وبيّنها لهم من طريق الإِلهام الفطري، ولا تلهم الفطرة إلا بشيء قامت حاجة الإِنسان إليه بحسبها.
ولا دليل على إباحة عمل من الأعمال وسلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه بحسب الوجود والطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه هو الرابط بين الإِنسان المحتاج وبين ما يحتاج إليه بما أودع في نفسه من القوى والأدوات الباعثة له إليه بحسب الخلقة والتكوين.
ثم يذكر بعطف الطيبات من الرزق على الزينة في حيِّز الاستفهام الإِنكاري أن هناك أقساماً من الرزق طيبة ملائمة لطباع الإِنسان يشعر بطيبه من طريق قواه المودعة في وجوده، ولا يشعر بها ولا يتنبه لها إلا لقيام حاجته في الحياة إليها وإلى التصرف فيها تصرفاً يستمد به لبقائه، ولا دليل على إباحة شيء من الأعمال أقوى من الحاجة الطبيعية والفقر التكويني إليه كما سمعت.
ثم يذكر بالاستفهام الإِنكاري أن إباحة زينة الله والطيبات من الرزق مما لا ينبغي أن يرتاب فيها فهو من إمضاء الشرع لحكم العقل والقضاء الفطري.
وإباحة الزينة وطيبات الرزق لا تعدو مع ذلك حد الاعتدال فيها والوسط العدل بين الإِفراط والتفريط فإن ذلك هو الذي يقضي به الفطرة، وقد قال الله سبحانه في الآية السابقة: { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وقال فيما قبل ذلك: { قل أمر ربي بالقسط }.
ففي التعدي إلى أحد جانبي الإِفراط والتفريط من تهديد المجتمع الإِنساني بالانحطاط، وفساد طريق السعادة ما في انثلام ركن من أركان البناء من تهديده بالانهدام فقلما ظهر فساد في البر والبحر وتنازع يفضي إلى الحروب المبيدة للنسل المخربة للمعمورة إلا عن إتراف الناس وإسرافهم في أمر الزينة أو الرزق، وهو الإِنسان إذا جاوز حد الاعتدال، وتعدى ما خط له من وسط الجادة ذهب لوجهه لا يقف على حد ولا يلوي على شيء فمن الحري أن لا يرفع عنه سوط التربية ويذكر حتى بأوضح ما يقضي به عقله، ومن هذا القليل الأمر الإِلهي بضروريات الحياة كالأكل والشرب واللبس والسكنى وأخذ الزينة.
قال صاحب المنار في بعض كلامه - وما أجود ما قال: - وإنما يعرفها - يعني قيمة الأمر بأخذ الزينة مع بساطته ووضوحه - من قراء تواريخ الأمم والملل، وعلم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات والغابات أفراداً وجماعات يأوون إلى الكهوف والمغارات، والقبائل الكثيرة الوثنية في بعض جزائر البحار وجبال إفريقيا كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء ورجالاً، وأن الإِسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا وعلمهم لبس الثياب بإيجابه للستر والزينة إيجاباً شرعياً.
ولما أسرف بعض دعاة النصرانية الاوروبيين في الطعن في الإِسلام لتنفير أهله منه وتحويلهم إلى ملتهم ولتحريض أوروبا عليهم رد عليهم بعض المنصفين منهم فذكر في رده أن في انتشار الإِسلام في إفريقيا منة على أوروبا بنشره للمدنية في أهلها بحملهم على ترك العرى وإيجابه لبس الثياب الذي كان سبباً لرواج تجارة النسج الاوروبيه فيهم.
بل أقول: إن بعض الأمم الوثنية ذات الحضارة والعلوم والفنون كان يغلب فيها معيشة العري حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالإِسلام صاروا يلبسون ويتجملون ثم صاروا يصنعون الثياب وقلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد.
هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديماً وحديثاً لا يزال ألوف الألوف من نسائهم ورجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم وصناعتهم بين عار لا يستر إلا السوأتين - و يسمونهما "سبيلين" وهي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء - أو ساتر لنصفه الأسفل فقط وامرأة مكشوفة البطن والفخذين أو النصف الأعلى من الجسم كله أو بعضه، وقد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب، والأكل في الأواني ولا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر ويأكلون منه، ولكنهم خير من كثير من الوثنيين ستراً وزينة لأن المسلمين كانوا حكامهم، وقد كانوا ولا يزالون من أرقى مسلمي الأرض علماً وعملاً وتأثيراً في وثنيي بلادهم.
وأما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإِسلام في اللباس وكثير من الأعمال الدينية، ومنهم نساء مسلمي "سيام" اللاتي لا ترين في أنفسهن عورة إلا السوأتين كما بيّن هذا من قبل فحيث يقوى الإِسلام يكون الستر والزينة اللائقة بكرامة البشر ورقيهم.
فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الاصلاحي في الإِسلام ولولا أن جعل هذا الدين المدني الأعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أُمماً وشعوباً كثيرة من الوحشية الفاحشة إلى المدنية الراقية، وإنما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ وإن كان من أهله بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرنجين من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متكئاً مميلاً طربوشه على رأسه يقول: ما معنى جعل أخذ زينة اللباس من أمور الدين؟ وهو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي ولا شرع ديني، وقد يقول مثل هذا في قوله تعالى: { كلوا واشربوا } انتهى.
ومما يناسب المقام ما روي: أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان! فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية وهو قوله: { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } وجمع نبينا الطب في قوله: "المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودته" فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.
قوله تعالى: { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } لا ريب أن الخطاب في صدر الآية إما لخصوص الكفار أو يعمهم والمؤمنين جميعاً كما يعمهم جميعاً ما في الآية السابقة من الخطاب بقوله: { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } ولازمه أن تكون الزينة وطيبات الرزق موضوعة على الشركة بين الناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم.
فقوله: { قل هي للذين آمنوا } الخ، مسوق لبيان ما خص الله سبحانه به المؤمنين من عباده من الكرامة والمزية، وإذ قد اشتركوا في نعمه في الدنيا فهي خالصة لهم في الآخرة، ولازم ذلك أن يكون قوله: { في الحياة الدنيا } متعلقاً بقوله: { آمنوا } وقوله: { يوم القيامة } متعلقاً بما تعلق به قوله: { للذين آمنوا } وهو قولنا كائنة أو ما يقرب منه، و { خالصة } حال عن الضمير المؤنث وقدمت على قوله: { يوم القيامة } لتكون فاصلة بين قوليه: { في الحياة الدنيا } و { يوم القيامة } والمعنى: قل هي للمؤمنين يوم القيامة وهي خالصة لهم لا يشاركهم فيها غيرهم كما شاركوهم في الدنيا فمن آمن في الدنيا ملك نعمها يوم القيامة.
وبهذا البيان يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالخلوص إنما هو الخلوص من الهموم والمنغصات والمعنى: هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة، وهي خالصة يوم القيامة من ذلك.
وذلك أنه ليس في سياق الآية ولا في سياق ما تقدمها من الآيات إشعار باحتفاف النعم الدنيوية بما ينغص عيش المتنعمين بها ويكدرها عليهم حتى يكون قرينة على إرادة ما ذكره من معنى الخلوص.
وكذا ما في قول بعض آخر: أن قوله: { في الحياة الدنيا } متعلق بما تعلق به قوله { للذين آمنوا } والمعنى: هي ثابتة للذين آمنوا بالأصالة والاستحقاق في الحياة الدنيا، ولكن يشاركهم غيرهم فيها بالتبع لهم وإن لم يستحقها مثلهم، وهي خالصة لهم يوم القيامة - أو حال كونها خالصة لهم يوم القيامة فقد قرأ نافع { خالصة } بالرفع على أنها خبر والباقون بالنصب على الحالية - وذلك أن المؤمنين هم الذين ينتهي إليهم العلوم النافعة في الحياة الصالحة، والأوامر المحرضة لإِصلاح الحياة بأخذ الزينة والارتزاق بالطيبات والقيام بواجبات المعاش ثم التفكر في آيات الآفاق والأنفس المؤدي إلى إيجاد الصناعات والفنون المستخدمة في الرقي في المدنية والحضارة، ومعرفة قدرها والشكر عليها. كل ذلك من طريق الوحي والنبوة.
وجه فساده: أنه إن أراد أن ما ذكره من الأصالة والتبعية هو مدلول الآية فمن الواضح أن الآية اجنبية عن الدلالة على ذلك، وإن أراد أن الآية تفيد أن النعم الدنيوية للمؤمنين ثم بينت مشاركة الكفار لهم فيها وأن ذلك بالأصالة والتبعية فقد عرفت أن الآية لا تدل إلا على اشتراك الطائفتين معاً في النعم الدنيوية لا اختصاص المؤمنين بها في الدنيا فأين حديث الأصالة والتبعية؟.
بل ربما كان الظاهر من أمثال قوله:
{ { ولولا أن يكون الناس أُمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون } [الزخرف: 33] إلى أن قال { { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } [الزخرف: 35] خلاف ذلك وأن زهرة الحياة الدنيا أجدر أن يخصوا به.
وقد امتن الله تعالى في ذيل الآية على أهل العلم بتفصيل البيان إذ قال: { كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون }.
قوله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } إلى آخر الآية، قد تقدم البحث المستوفى عن مفردات الآية فيما مر، وأن الفواحش هي المعاصي البالغة قبحاً وشناعة كالزنا واللواط ونحوهما، والإِثم هو الذنب الذي يستعقب انحطاط الإِنسان في حياته وذلة وهواناً وسقوطاً كشرب الخمر الذي يستعقب للإِنسان تهلكة في جاهه وماله وعرضه ونفسه ونحو ذلك، والبغي هو طلب الإِنسان ما ليس له بحق كأنواع الظلم والتعدي على الناس والاستيلاء غير المشروع عليهم، ووصفه بغير الحق من قبيل التوصيف باللازم نظير التقييد الذي في قوله: { ما لم ينزل به سلطاناً }.
وكان إلقاء الخطاب بإباحة الزينة وطيبات الرزق داعياً لنفس السامع إلى أن يحصل على ما حرمه الله فألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك، ولا يشذ عما ذكره شيء من المحرمات الدينية، وهي تنقسم بوجه إلى قسمين: ما يرجع إلى الأفعال وهي الثلاثة الأول، وما يرجع إلى الأقوال والاعتقادات وهو الأخيران، والقسم الأول منه ما يرجع إلى الناس وهو البغي بغير الحق، ومنه غيره وهو إما ذو قبح وشناعة فالفاحشة، وإما غيره فالإِثم، والقسم الثاني إما شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه.
قوله تعالى: { ولكل أمة أجل } إلى آخر الآية هي حقيقة مستخرجة من قوله تعالى في ذيل القصة: { قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } نظير الأحكام الأُخر المستخرجة منها المذكورة سابقاً، ومفاده أن الأمم والمجتمعات لها أعمار وآجال نظير ما للأفراد من الأعمار والآجال.
وربما استفيد من هذا التفريع والاستخراج أن قوله تعالى في ذيل القصة سابقاً: { قال فيها تحيون } الخ، راجع إلى حياة كل فرد فرد وكل أُمة أُمة، وهي بعض عمر الإِنسانية العامة، وأن قوله قبله: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } راجع إلى حياة النوع إلى حين وهو حين الانقراض أو البعث، وهذا هو عمر الإِنسانية العامة في الدنيا.
قوله تعالى: { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } إلى آخر الآيتين. { إما } أصله إن الشرطية دخلت على ما، وفي شرطها النون الثقيلة، وكأن ذلك يفيد أن الشرط محقق لا محالة، والمراد بقص الآيات بيانها وتفصيلها لما فيه من معنى القطع والإِبانة عن مكمن الخفاء.
والآية إحدى الخطابات العامة المستخرجة من قصة الجنة المذكورة ها هنا وهي رابعها وآخرها يبين للناس التشريع الإِلهي العام للدين باتباع الرسالة وطريق الوحي، والأصل المستخرج عنه هو مثل قوله:
{ { قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى } [طه: 123] الخ، فبين أن إتيان الهدى منه إنما يكون بطريق الرسالة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: { قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم } قال: نزلت في الخمس من قريش ومن كان يأخذ مأخذها من قبائل العرب: الأنصار الأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وبني عامر بن صعصة وبطون كنانة بن بكر كانوا لا يأكلون اللحم، ولا يأتون البيوت إلا من أدبارها، ولا يضطربون وبراً ولا شعراً إنما يضطربون الأدم، ويلبسون صبيانهم الرهاط، وكانوا يطوفون عراة إلا قريشاً، فإذا قدموا طرحوا ثيابهم التي قدموها فيها، وقالوا: هذه ثيابنا التي تطهرنا إلى ربنا فيها من الذنوب والخطايا ثم قالوا لقريش: من يعيرنا مئزرا؟ فإن لم يجدوا طافوا عراة فإذا فرغوا من طوافهم أخذوا ثيابهم التي كانوا وضعوا.
وفيه: أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها فجاءت امرأة فألقت ثيابها وطافت ووضعت يدها على قبلها وقالت:

اليوم يبدو بعضه أو كله فمـــا بدا منـــه فلا أُحله

فنزلت هذه الآية: خذو زينتكم عند كل مسجد - إلى قوله - والطيبات من الرزق.
أقول: روي ما يقرب منه عن ابن عباس ومجاهد وعطاء لكنك قد عرفت أن الآيات المصدرة بقوله { يا بني آدم } أحكام وشرائع عامة لجميع بني آدم من غير أن يختص بأمة دون أُمة فهذه الآحاد من الأخبار لا تزيد على اجتهاد من المنقول عنهم لا حجية فيها، وأعدل الروايات في هذا المعنى الروايتان الآتيتان.
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة والزينة اللباس وهو ما يواري السوآت وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع.
وفيه: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها وهو قول الله: { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً } وهو هذا فأنزل الله: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } يعني: شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا فأكلوا من طيبات طعامها ولبسوا من جياد ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء.
أقول: والروايتان - كما ترى - ظاهرتان في التطبيق دون سبب النزول، والمعول على ذلك.
وفيه: أخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من عبد عمل خيراً أو شراً إلا كسي رداء عمله حتى يعرفوه، وتصديق ذلك في كتاب الله: { ولباس التقوى ذلك خير } الآية" .
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام عن قوله: { يا بني آدم قد أنزلنا } الآية. لباس التقوى ثياب بيض.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عثمان: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ: { ورياشاً } ولم يقل: وريشاً.
وفي تفسير القمي قال وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى } قال: فأما اللباس فاللباس الذي تلبسون، وأما الرياش فالمتاع والمال، وأما لباس التقوى فالعفاف، إن العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عارياً من اللباس، والفاجر بادي العورة وإن كان كاسياً من اللباس.
أقول: وما في الروايتين من معنى لباس التقوى من الأخذ ببعض المصاديق وقد تكرر نظير ذلك في الروايات.
وفي تفسير القمي أيضاً في قوله تعالى: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا } الآية قال: قال الذين عبدوا الأصنام فرد الله عليهم فقال: { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } إلى آخر الآية.
وفي البصائر عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن محمد بن منصور قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } إلى آخر الآية فقال: أرايت أحداً يزعم أن الله أمرنا بالزنا وشرب الخمور وشيء من المحارم؟ فقلت: لا، فقال: فما هذه الفاحشة التي يدعون أن الله أمرنا بها؟ فقلت: الله إعلم ورسوله، فقال: فإن هذه في أئمة الجور ادعوا أن الله أمر بالائتمام بقوم لم يأمر الله بهم فرد الله عليهم وأخبرنا أنهم قالوا عليه الكذب فسمى الله ذلك منهم فاحشة.
أقول: ورواه في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي وهب عن محمد بن المنصور قال: سألته وساق الحديث، وروي ما في معناه في تفسير العياشي عن محمد بن منصور عن عبد صالح فعلم أن في السند أبا وهب وعنه يروي الحسين بن سعيد وأن الحديث مروي عن موسى بن جعفر عليه السلام.
وكيف كان فالرواية لا تنطبق بحسب مضمونها على حين نزول الآية ولا ما ذكر فيه من الحجة ينطبق على موردها فإن أهل الجاهلية كانت عندهم أحكام كثيرة متعلقة بأمور من قبيل الفحشاء ينسبونها إلى الله سبحانه كالطواف بالبيت عارياً.
لكن الحجة المذكورة فيه من حيث انطباق الآية على مصاديق بعد زمن النزول أقرب انطباقاً على أئمة الجور والحكام الظلمة فإن المسلمين مرت بهم أعصار يتولى فيها أمورهم أمثال الدعي زياد بن أبيه وابنه عبيد الله والحجاج بن يوسف وعتاة آخرون، وحول عروشهم وكراسيهم عدة من العلماء يفتون بنفوذ أحكامهم ووجوب طاعتهم بأمثال قوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }. فالرواية ناظرة إلى انطباق الآية على مصاديقها بعد عصر النزول.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: من زعم أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر إليه فقد كذب على الله.
وفيه: عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام: من زعم أن الله أمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة منه فقد أخرج الله من سلطانه، ومن زعم أن المعاصي عملت بغير قوة الله فقد كذب على الله، ومن كذب على الله أدخله الله النار.
أقول: وقوله عليه السلام: ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة منه الخ، ناظر إلى قول المفوضة باستقلال العبد في أفعال الخير والشر كما أن قوله في الرواية السابقة: ومن زعم أن الخير والشر إليه الخ، ناظر إلى قول المجبرة: إن الخير والشر والطاعة والمعصية إنما تستند إلى إرادة الله من غير أن يكون لإِرادة العبد ومشيئته دخل في صدور الفعل وإن أمكن بوجه إرجاع الضمير إلى العبد ليكون إشارة إلى قول المفوضة.
وفي التهذيب بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } قال: هذه القبلة.
أقول: وهو من قبيل الجري والانطباق كما تبين من البيان السابق، وروى مثله العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام.
وفي التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام، وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في قوله: { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } قال: مساجد محدثة فامروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام.
أقول: الظاهر أن مراده عليه السلام أن معنى إقامة الوجوه في الآية التوجه إلى الله باستقبال القبلة عند كل مسجد يصلى فيه ثم القبلة تعينت بمثل قوله:
{ { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [البقرة: 144] وهي الكعبة إذ قد تقدم في الكلام على آيات القبلة أن الكعبة إنما جعلت قبلة في المدينة بعد الهجرة، والآية التي نحن فيها وهي من سورة الاعراف مكية ولعل أصل الجعل في هذه السورة ثم تفصيل التشريع أو التفسير في سورة البقرة المدنية إن ساعد سياق آيات القبلة على ذلك كما أن الأحكام الأخر المفصلة من الواجبات والمحرمات تشتمل السور المكية على إجمالها وتشرع تفاصيلها أو تفسر وتبين في السور المدنية.
فقوله عليه السلام: مساجد محدثة الخ، معناه أن المراد بكل مسجد في الآية المساجد يحدثها المسلمون في أكناف الأرض، والمراد بإقامة الوجوه تولية الوجوه التي في آية الكعبة وهي استقبال الشطر من المسجد الحرام.
وفي تفسير العياشي عن الحسين بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } يعني الأئمة.
أقول: الظاهر أن المراد به أئمة الجماعات، وسيجيء له معنى آخر.
وفيه: عن الحسين بن مهران عنه عليه السلام في قول الله: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } قال: يعني الأئمة.
أقول: وهو كالحديث السابق فإن تقديم الإِمام زينة الصلاة ومن المستحب شرعاً تقديم خيار القوم ووجوههم للإِمامة ويمكن أن يكون المراد بالأئمة أئمة الدين على ما سيجيء من رواية العلاء بن سيابة في آخر البحث.
وفي الدر المنثور أخرج العقيلي وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس
" عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } قال:صلوا في نعالكم"
]. أقول: وروي هذا المعنى بعدة طرق أُخرى عن علي وأبي هريرة وابن مسعود وشداد بن الأوس وغيرهم عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: وجهني علي بن أبي طالب إلى ابن الكواء وأصحابه وعلي قميص رقيق وحلة فقالوا لي: أنت ابن عباس وتلبس مثل هذه الثياب؟ فقلت: أول ما أُخاصمكم به قال الله: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده وخذوا زينتكم عند كل مسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين بردي حبرة.
وفي الكافي بإسناده عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بعث أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن عباس إلى ابن الكواء وأصحابه وعليه قميص رقيق وحلة فلما نظروا إليه قالوا: يا ابن عباس أنت خيرنا في أنفسنا وأنت تلبس هذا اللباس؟ فقال: وهذا أول ما أخاصمكم فيه قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقال الله عز وجل: خذوا زينتكم عند كل مسجد.
وفي الكافي بإسناده عن فضالة بن أيوب في قول الله عز وجل: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } قال: في العيد والجمعة.
أقول: ورواه في التهذيب عن فضالة عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام وروى ما في معناه العياشي في تفسيره عنه، وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي الفقيه سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } قال من ذلك التمشط عند كل صلاة.
أقول: وفي معناها غيرها من الروايات.
وفي تفسير العياشي عن خيثمة بن أبي خيثمة قال: كان الحسن بن علي عليه السلام إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه. فقيل له: يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } فأحب أن ألبس أجود ثيابي.
أقول: والحديث مروي من طرق أهل السنة أيضاً.
وفي الكافي بإسناده عن يونس بن إبراهيم قال: دخلت يوماً على أبي عبد الله عليه السلام وعليَّ جبة خز وطيلسان خز فنظر إليّ فقلت: جعلت فداك عليّ جبة خز وطيلسان خز هذا ما تقول فيه؟ فقال: لا بأس بالخز قلت: وسداه أبريسم فقال: وما بأس يا إبراهيم فقد أُصيب الحسين عليه السلام وعليه جبة خز ثم ذكر عليه السلام قصة عبد الله بن عباس مع الخوارج واحتجاجه عليهم بالآيتين.
وفيه: بإسناده عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن علي رفعه قال: مر سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله عليه السلام وعليه أثواب كثيرة قيمة حسان فقال: والله لآتينه ولأوبخنه فدنا منه فقال: يا ابن رسول الله والله ما لبس رسول الله مثل هذا اللباس ولا علي ولا أحد من آبائك! فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمان قتر مقتر، وكان يأخذ لقتره وإقتاره، وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها وأحق أهلها بها أبرارها ثم تلا: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } فنحن أحق من أخذ ما أعطاه الله.
يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه ثم رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوباً تحت ذلك على جلده غليظاً، ثم قال: هذا لبسته لنفسي وما رأيته للناس ثم جذب ثوباً على سفيان أعلاه غليظاً خشناً وداخل ذلك الثوب لين فقال لبست هذا الأعلى للناس، ولبست هذا لنفسك تسترها.
وفيه: بإسناده عن ابن القداح قال: كان أبو عبد الله عليه السلام متكئاً علي فلقيه عباد بن كثير وعليه ثياب مروية حسان فقال: يا أبا عبد الله إنك من أهل بيت النبوة وكان أبوك فما لهذه الثياب المروية عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ويلك يا عباد من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ إن الله عز وجل إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يراها عليه، وليس به بأس.
وفي الدر المنثور أخرج الترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
وفي قرب الأسناد للحميري عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام في حديث طويل: قال عليه السلام لي: ما تقول في اللباس الخشن؟ فقلت: بلغني أن الحسن كان يلبس، وأن جعفر بن محمد كان يأخذ الثوب الجديد فيأمر به فيغمس في الماء فقال لي البس وجمّل فإن علي بن الحسين كان يلبس الجبة الخز بخمس مائة درهم، والمطرف الخز بخمسين ديناراً فيشتو فيه فإذا خرج الشتاء باعه وتصدق بثمنه، وتلا هذه الآية: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }.
أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة جداً، ومن أجمعها معنى الرواية الآتية.
في تفسير العياشي عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه أو منع من منع من هوان به عليه؟ لا ولكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع، وجوز لهم أن يأكلوا قصداً، ويشربوا قصداً، ويلبسوا قصداً، وينكحوا قصداً، ويركبوا قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ويلموا به شعثهم فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالاً ويشرب حلالاً ويركب حلالاً، وينكح حلالاً، ومن عدا ذلك كان عليه حراماً، ثم قال: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.
أترى الله ائتمن رجلاً على مال خول له أن يشتري فرساً بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرسٌ بعشرين درهماً، ويشتري جارية بألف دينار ويجزيه جارية بعشرين ديناراً وقال: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.
وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نكون بطريق مكة ونريد الإِحرام فنطلي ولا يكون معنا نخالة فنتدلك بها من النورة فنتدلك بالدقيق وقد دخلني من ذلك ما الله أعلم به؟ فقال: مخافة الإِسراف؟ قلت: نعم، فقال: ليس فيما أصلح البدن إسراف إني ربما أمرت بالنقي فيلت بالزيت فأتدلك به، إنما الإِسراف فيما أفسد المال وأضر بالبدن، قلت: وما الإِقتار؟ قال: أكل الخبز والملح وأنت تقدر على غيره. قلت: فما القصد؟ قال: الخبز واللحم واللبن والخل والسمن مرة هذا ومرة هذا.
وفي الكافي بإسناده عن علي بن يقطين عن أبي الحسن عليه السلام قال: قال: قول الله عز وجل: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإِثم والبغي بغير الحق } فأما قوله: ما ظهر منها يعني الزنا المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية للفواحش، وأما قوله عز وجل: وما بطن يعني ما نكح من أزواج الآباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أُمه فحرم الله عز وجل ذلك، وأما الإِثم فإنها الخمر بعينها.
أقول: والرواية ملخصة من كلامه عليه السلام مع المهدي وقد رواها في صورة المحاجة في الكافي مسندة وفي تفسير العياشي مرسلة وأوردناها في روايات آية الخمر من سورة المائدة.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن منصور قال: سألت عبداً صالحاً عليه السلام عن قول الله: { إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } قال: إن للقرآن ظهراً وبطناً فأما ما حرم به في الكتاب هو في الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أُحل في الكتاب هو في الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق.
أقول: ورواه في الكافي عن محمد بن منصور مسنداً، وفيه: فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أَحل الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق.
أقول: انطباق المعاصي والمحرمات على أولئك والمحللات على هؤلاء لكون كل واحد من الطائفتين سبباً للقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتباع كل سبباً لما يناسبه من الأعمال.
ومن هذا الباب ما في التهذيب بإسناده عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } قال: الغسل عند لقاء كل إمام، وكذا ما تقدم من روايتي الحسين بن مهران.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن مردويه عن المغيرة ابن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير من سعد والله أغير مني، ومن أجله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا شخص أغير من الله"
]. وفي تفسير العياشي عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من أحد أغير من الله تبارك وتعالى، ومن أغير ممن حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن؟"
]. وفيه عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } قال: هو الذي يسمى لملك الموت.
أقول: وقد تقدمت روايات في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:
{ { قضى أجلاً وأجل مسمى عنده } [الأنعام: 2]. (بحث روائي مختلط بغيره)
في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } قال: خلقهم حين خلقهم مؤمناً وكافراً وشقياً وسعيداً، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتدياً وضالاً.
قال علي بن إبراهيم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"الشقي من شقي في بطن أُمه والسعيد من سعد في بطن أُمه"
]. أقول: الرواية وإن كانت عن أبي الجارود وهو مطعون غير أن القوم قبلوا ما رواه عن أبي جعفر عليه السلام في حال استقامته قبل انحرافه عنه، على أن الآية قد فسرت بمثل ما في هذه الرواية في غيرها كرواية إبراهيم الليثي عن أبي جعفر عليه السلام وغيره، وقد وقع هذا المعنى في روايات أخرى واردة في تفسير آيات القدر، وهي روايات جمة مختلفة يشترك جميعها في الدلالة على أن آخر الخلقة يشاكل أولها، وعود الإِنسان يناظر بدءه، وأن المهتدي في آخر أمره مهتد من أول، وأن الضال كذلك ضال من أول والشقي شقي في بدء خلقته والسعيد سعيد فيه، والروايات على اختلاف بياناتها كالآيات ليست في مقام إثبات السعادة والشقاوة الذاتيتين بمعنى ما يقتضيه ذات الإِنسان ويلزم ماهيته كالزوجية للأربعة فإن ذلك مما لا ينبغي توهمه إذ لو رجع إلى مجرد التصوير العقلي من غير مطابقة للواقع الخارجي لم يستلزم أثراً حقيقياً لتأخر الوجود عن ماهيات الأشياء وعروضه لها في الذهن والخارج على خلافه، ولو رجع إلى اقتضاء ذاتي حقيقي تملك به الماهية الإِنسانية سعادتها أو شقاوتها بحيث لا يبقى لله سبحانه في خلقه إلا أن يظهر منها ما كان دفيناً في ذاته كامناً في باطنها كان في ذلك إبطال لإِطلاق ملك الله سبحانه وتحديد لسلطانه، والكتاب والسنة والعقل متعاضدة على نفيه.
على أن ذلك يوجب اختلال نظام العقل في جميع ما يبني عليه العقلاء في أمورهم واتفاقهم على توقع التأثير في باب التعليم والتربية، وتسالمهم على وجود ما يستتبع المدح والذم أو يتصف بالحسن والقبح يدفعه.
وكذا يوجب لغوية تشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل، ولا معنى لإِتمام الحجة في الذاتيات بأي معنى صورناها بعدما كانت مستحيلة الانفكاك عن الذوات.
والكتاب الكريم يسلم نظام العقل ويصدق بناء الإِنسان بنيان أعماله في الحياة على الاختيار، ويبين فيما يبين أن الله سبحانه خلق الإِنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم أنبته نباتاً حسناً حتى أنعم عليه بالبلوغ والعقل، يفعل باختياره ويميز بين الحسن والقبيح، والخير والشر، والنفع والضرر والطاعة والمعصية، والثواب والعقاب بعقله، ثم أنعم عليه بتكاليف دينية فإن اتبع عقله وأطاع ربه فيما يأمره وينهاه كان سعيداً وجوزي أحسن الجزاء، وإن خالف عقله واتبع هواه وعصى ربه كان شقياً وذاق وبال أمره، والدار دار امتحان وابتلاء، والعمل اليوم والجزاء غداً.
وأساس هذا البيان كما ترى - على قضيتين اثنتين: إحداهما: أن بين الفعل الاختياري وغيره فرقاً، وهي قضية عقلية ضرورية، والثانية: أن الأفعال الاختيارية تتصف بحسن وقبح وتستتبع مدحاً وذماً وثواباً وعقاباً، وهي قضية عقلائية لا يسع لعاقل أن ينكرها وهو واقع تحت النظام الاجتماعي الحاكم عليه مدى حياته.
وبالجملة لا مجال للقول بالسعادة والشقاوة الذاتيتين بالمعنى المتقدم أبداً فما ورد من الآيات والروايات التي تعطف آخر الأمر على أوله إنما تسند الأمر إلى الخلق والإِيجاد دون ذات الإِنسان بما أنه إنسان، وقد عرفت أن ارتباط السعادة والشقاء بأفعال الإِنسان الاختيارية على ما تقتضيه القضيتان المتقدمتان مما لا يشوبه شك ولا يداخله ريب فما معنى هذه الآيات والروايات؟.
والروايات الواردة في مطابقة العود إلى البدء على كثرتها البالغة تختلف في مضامينها وأنحاء بيانها طبقاً للآيات:
فمنها ما دل على ذلك إجمالاً، وأن الله خلقهم حين خلقهم صنفين: شقي وسعيد، وكافر ومؤمن كرواية أبي الجارود المتقدمة، وما مرَّ في ذيل قوله تعالى:
{ { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [آل عمران: 6]، من رواية الكافي في خلقة الجنين.
وهذا القسم من الروايات يحاذي قوله تعالى:
{ { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [التغابن: 2]، وقوله: { { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } [النجم: 32]، وقوله تعالى: { كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } الآية.
ولا إشكال كثير فيها فإن الآيات كما يشهد به سياقها ويدل عليه ذيل الأخيرة منها إنما تدل على قضاء إجمالي بكون النوع الإِنساني مشتملاً على فريقين، وإنما يفصل الإِجمال، ويتعين كل من الطائفتين، وتتميز من غيرها في مرحلة البقاء بأفعال اختيارية تستتبع سعادة أو شقاوة، وتستدعي الاهتداء بالتوفيق أو أن يحق له الضلالة بولاية الشياطين، وبعبارة أخرى الذي في بدء الخلقة قضاء مشروط ثم يخرج عن الاشتراط إلى الإِطلاق بالأعمال الاختيارية بعد ذلك.
ومنها: ما يدل تفصيلا أن الله سبحانه خلق الناس مختلفين فمنهم من خلقه من طين الجنة وإليه مرجعه، ومنهم من خلقه من طينة النار وإليها مآله ففي البصائر عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال: أخذ الله ميثاق شيعتنا معنا على ولايتنا لا يزيدون ولا ينقصون إن الله خلقنا من طينة عليين وخلق شيعتنا من طينة أسفل من ذلك، وخلق عدونا من طينة سجين وخلق أوليائهم من طينة أسفل من ذلك.
أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة جداً.
وفي المحاسن عن عبد الله بن كيسان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك أنا مولاك عبد الله بن كيسان فقال: أما النسب فأعرفه، وأما أنت فلست أعرفك، قال: قلت: ولدت بالجبل ونشأت بأرض فارس وأنا أخالط الناس في التجارات وغير ذلك فأرى الرجل حسن السمت وحسن الخلق والأمانة ثم أفتشه فأفتشه عن عداوتكم، وأُخالط الرجل وأرى فيه سوء الخلق وقلة أمانة وزعارة ثم أفتشه فأفتشه عن ولايتكم فكيف يكون ذلك.
فقال: أما علمت يا ابن كيسان أن الله تبارك وتعالى أخذ طينة من الجنة وطينة من النار فخلطهما جميعاً ثم نزع هذه من هذه فما رأيت من أولئك من الأمانة وحسن السمت وحسن الخلق فمما مستهم من طينة الجنة، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه، وما رأيت من هؤلاء من قلة الأمانة وسوء الخلق والزعارة، فمما مستهم من طينة النار، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه.
أقول: والروايات في هذا المعنى أيضاً كثيرة جداً.
وفي العلل عن حبة العرني عن علي عليه السلام قال: إن الله خلق آدم من أديم الأرض فمنه السباخ، ومنه الملح، ومنه الطيب فكذلك في ذريته الصالح والطالح.
أقول: وحديث الخلق من طينة عليين وسجين إشارة إلى قوله تعالى:
{ { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين } [المطففين: 7 - 10] إلى أن قال { { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون } [المطففين: 18 - 21]، أما الآيات فسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في محلها، وأما الروايات فالرواية الأخيرة لا تخلو عن جهة بيان بمدلولها لمدلول ما تقدم عليها.
وذلك أنها تدل على أن المادة الأرضية على اختلافها في أوصافها لها ارتباط بأحوال الانسان وأوصافه من حيث الصلاح والطلاح على حسب ما نشاهده في الخارج أن اختلاف المواد لها تأثير ما قطعي في اختلاف الصور الطارئة عليها والآثار البارزة منها وإن كان ذلك على الاقتضاء دون العلية التامة.
فقوله عليه السلام: إن الإِنسان مخلوق من الطين ثم قوله: إن أصله من الجنة أو من النار يفيد أن من الأرض ما هو من الجنة ومنها ما هي من النار وإليهما يؤول فإنها تصير إنساناً ثم يسلك إلى الجنة أو إلى النار، وإنما يسلك إلى كل منهما ما يناسبها في مادة الخلقة فهذا الموجود المادي الأرضي هو الذي يصفو فيدخل الجنة ويكون طينه طين الجنة، أو يزيد في التكدر والانحطاط فيدخل النار فيكون وقوداً لها.
ويشعر به بعض الإِشعار قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة:
{ { الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } [الزمر: 74] الآية، فإن ظاهر الآية أن المراد من الأرض هو هذه الأرض يسكنها الإِنسان ويموت فيها ويبعث منها، وهي المرادة من الجنة، وإليه يشير أيضاً قوله تعالى: { { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } [إبراهيم: 48]. فكأن المراد بطينة الجنة والنار في الروايات الطينة التي ستكون من أجزاء الجنة أو النار، وخاصة بالنظر إلى بعض تعبيراته كقوله عليه السلام: من طينة عليين ومن طينة سجين ومن طينة الجنة ومن طينة النار.
وعلى هذا فالمراد أن الإِنسان مأخوذ بحسب تركيب أجزاء بدنه من المادة الأرضية إما مادة طيبة أو مادة خبيثة، وهي بحسب وصفها البارز فيها مؤثرة في الإِنسان في إدراكاته وعواطفه الباطنية وقواه ثم إذا شرعت قواه وعواطفه المناسبة لمادته في العمل تأيدت أعمال المادة بأعمال العواطف والقوى وبالعكس ولم يزل على ذلك يشتد أمره حتى يتم إنساناً سعيداً أو شقياً على حسب ما نظمه الله من عمل الأسباب وأراده ولله فيه البداء بتسليط سبب آخر أقوى من الأسباب الموجودة الفعالة يبدل مجرى سير الإِنسان ويمنع من تأثير الأسباب المخالفة له.
ترى الإِنسان المتكون من نطفة صالحة غير مؤفة مرباة في رحم سالمة وممدة بأغذية صالحة في هواء سالم ومحيط سالم أشد استعداداً للسلوك في المسلك الإِنساني، وأوقد ذهناً وألطف إدراكاً، وأقوى للعمل فالامزجة السالمة بالوراثة ثم بامداد النطفة بأسبابها وشرائطها كالمناطق المعتدلة أقرب إلى قبول الكمالات الانسانية، والمناطق الرديئة ماء وهواء والصعبة الخشنة في أسبابها الحيوية كالمناطق الاستوائية والقطبية أقرب إلى الخشونة والقسوة والبلادة من غيرها.
ثم الأمزجة السالمة من موانع لطف الإِدراك تنشأ ذوات أرواح لطيفة لها عقول جيدة وعواطف رقيقة تميل بالإِنسان إلى ما فيه صلاح إنسانيته من العقائد والإِرادات والأعمال، وتقربه من المواد الحافظة للبقاء إلى ما يزيد في تأييد الروح في عمله ولا يزال يتعاكس التأثير حتى يتم الأثر، ونظير الكلام جار في جانب الشقاء قال تعالى:
{ { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } [العنكبوت: 69]، وقال: { { ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون } [الروم: 10] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومع ما نعلم من تأثير المواد الأرضية في نحو حياة الإِنسان السعيدة والشقية لسنا نحصي من الأسباب الدخيلة في هذا الباب إلا بعض الأسباب العامة البينة التي ليس لها قدر تجاه ما نجهله منها كما سمعت من حديث سلامة مزاج الأبوين والغذاء الممد للبقاء والمنطقة من الأرض التي يعيش فيها الإِنسان وغيرها، فهناك أسباب لا تحصى كثيرة خفية عنا، ومن شواهد ذلك نوادر الأفراد الذين ينشأون في غير ما نحسبه منشأ لهم والله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
وبالجملة سعادة الإِنسان في حياته أعني سعادته في علمه وعمله لها ارتباط تام بطيب مواده الأصلية فهي التي تقبل ما يناسبها من الروح، وهي التي تهتدي إلى الجنة، وكذلك شقاء الإِنسان في علمه بترك العقل والعكوف على الأوهام والخرافات التي تزينها له عواطف الشهوة والغضب، وفي عمله بالتمتع من لذائذ المادة، والاكتناه والاسترسال في الشهوات الحيوانية والاستكبار عن كل حق لا يوافق هواه.
فهذان القبيلان من الأسباب المادية يسوقان الإِنسان إلى الحق والباطل والسعادة والشقاء والجنة والنار غير أنهما مقتضيان من غير علية تامة، ولله سبحانه المشيئة فيهما والبداء بإظهار سبب آخر يقهر ما يخالفه من الأسباب، وقد تقدم ما يدل عليه في حديث خلقة الجنين في أوائل سورة آل عمران. وفي معناه أحاديث أخر تثبت لله المشيئة وجواز المحو والإِثبات في الأمور.
ويمكن أن توجه هذه الأخبار بوجه آخر أدق يحتاج تعقله إلى صفاء في الذهن وقدم صدق في المعارف الحقيقية، وهو أن السعادة والشقاوة في الإِنسان إنما تتحققان بفعلية الإِدراك واستقراره، والإِدراك لتجرده عن المادة ليس بمقيد بقيودها ولا محكومة بأحكامها ومنها الزمان الذي هو مقدار حركتها، ونحن وإن كنا نقدر بالنظر إلى كون المادة تنتهي بحركتها إلى هذه الفعلية أن السعادة بعد زمان الحركة لكنها بحسب حقيقة نفسها غير مقيدة بالزمان فما بعد الحركة منها هو بعينه قبل الحركة وذلك نظير ما ننسب أُموراً حادثة إلى فعل الله سبحانه فنقيد فعله بالزمان نقول: خلق الله زيداً في زمان كذا، وأهلك قوم نوح، ونجى قوم يونس، وبعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في عصر كذا فنقيد فعله بالزمان وإنما هو كذلك من حيث نظرنا إلى نفس الحادثة وكونها مأخوذة في نفسها من دون الزمان والحركة التي انتهت إلى وجودها وأما لو أُخذت مع زمانها وسائر قيود ذاتها على ما عليه الأمر في نفسه فالفعل الإِلهي غير متقيد بالزمان لأنه موجد مجموع الحادث وزمانه وسائر ما يتقيد به، وإن كنا - بالنظر إلى اتحاد ما لفعله الحادث المتقيد بالزمان - نقيد فعله بالزمان كما نقول: اليوم علمت أن كذا كذا، ورأيته الساعة فنقيد العلم باليوم والساعة وليس بمقيد بهما لمكان تجرده، وإنما المتقيد هو العمل الدماغي أو العصبي المادي الذي يصاحب العلم مصاحبة الاستعداد للمستعد له.
فالإِنسان لما كان انتهاؤه إلى تجرد علمي بالسعادة أو الشقاء - وإن كان مقارناً لجنة جسمانية أو نار كذلك على ما هو ظاهر الكتاب والسنة - فما له من المآل في نفسه لا زمان له وصح أن يؤخذ قبل كما يؤخذ بعد، وأن يسمى بدء كما يسمى عوداً فافهم ذلك.
ومنها: ما يدل على انتهاء خلقة الناس إلى الماء العذب الفرات والملح الاجاج كما في العلل عن الصادق عليه السلام قال: إن الله عز وجل خلق ماء عذباً فخلق منه أهل طاعته، وجعل ماء مراً فخلق منه إهل معصيته ثم أمرهما فاختلطا فلولا ذلك ما ولد المؤمن إلا مؤمناً ولا الكافر إلا كافراً.
وفيه عن ابن سنان عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن أول ما خلق الله فقال: إن أول ما خلق الله عز وجل ما خلق منه كل شيء. قلت: جعلت فداك ما هو؟ قال: الماء.
قال: إن الله تبارك وتعالى خلق الماء بحرين أحدهما عذب، والآخر ملح؛ فلما خلقهما نظر إلى العذب فقال: يا بحر فقال: لبيك وسعديك. قال: فيك بركتي ورحمتي ومنك أخلق أهل طاعتي وجنتي، ثم نظر إلى الآخر فقال: يا بحر، فلم يجب فأعاد ثلاث مرات: يا بحر، فلم يجب فقال: عليك لعنتي ومنك أخلق أهل معصيتي ومن أسكنته ناري ثم أمرهما أن يمتزجا فامتزجا.
قال: فمن ثم يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وفي تفسير العياشي عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه عليه السلام قال: إن الله قال لماء: كن عذباً فراتاً أخلق منك جنتي وأهل طاعتي، وقال لماء: كن ملحاً أجاجاً أخلق منك ناري وأهل معصيتي فأجرى الماءين على الطين، الحديث وهو طويل.
أقول: وفي معنى كل من هذه الأحاديث الثلاثة أحاديث كثيرة أخرى مروية عن علي والباقر والصادق وغيرهم عليهم السلام، وإنما أوردنا ما أوردناه بعنوان الأنموذج.
وهذه الروايات تنتهي إلى مثل قوله تعالى:
{ { والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير، وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } [فاطر: 11 - 12]، وأنت ترى موقع الآية الثانية من الأولى، وأنها بمنزلة التمثيل لبيان مضمون الآية وشرح اختلاف الناس في أنفسهم في عين اتحادهم في الإِنسانية واشتراكهم في بعض المنافع والآثار. وقد قال تعالى: { { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [الأنبياء: 30]. وقوله تعالى: { { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أُجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً } [الفرقان: 53 - 54]، وسيجيء بيان الآيات في محلها.
وأما الروايات فإنها - كما ترى - في معناها تعود قسمين:
أحدهما: ما يذكر أن الماءين العذب الفرات والملح الاجاج أُجريا على الطين الذي خلق منه الإِنسان فاختلف الطين باختلاف الماء، وهذا القسم يرجع إلى الصنف المتقدم من الأخبار الدالة على أن اختلاف الخلقة يعود إلى اختلاف الطينة المأخوذة لها فالكلام فيه كالكلام في أخبار الطينة وقد قدمناه.
وثانيهما: ما دل على أن الخلقة أعم من خلقة الإِنسان وغيره، حتى الجنة والنار تنتهيان إلى الماء ثم اختلاف الماء منشأ لاختلاف الناس في السعادة والشقاوة أما اختلاف الخلقة باختلاف العذوبة والملوحة فيعود أيضاً إلى القسم الأول ويجري فيه الكلام السابق فإن القسم الأول من هذه الأخبار يعود كالمفسر لهذا القسم الثاني ثم هما معا كالمفسر لأخبار الطينة السابقة.
وأما انتهاء الخلقة إلى أصل أولي هو الماء فسيجيء البحث فيه فيما يناسبه من المحل إن شاء الله العزيز.
ومنها: ما دل على أن الاختلاف يعود إلى اختلاف الخلقة من النور والظلمة كما في العلل عن الصادق عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى خلقنا من نور مبتدع من نور سنخ ذلك النور في طينة من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلق منه أبداننا، وخلق أبدانهم من طينة دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه، ثم قرأ
{ { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون } }. [المطففين: 18 - 21] وإن الله تبارك وتعالى خلق قلوب أعدائنا من طينة من سجين، وخلق أبدانهم من دون ذلك، وخلق قلوب شيعتهم مما خلق منه أبدانهم فقلوبهم تهوي إليهم، ثم قرأ: { { إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين } [المطففين: 7 - 10]. أقول: وفي معناه روايات أُخر، وهو في الحقيقة راجع إلى ما تقدم من الروايات الدالة على انتهاء الخلقة إلى طينة عليين وطينة سجين، وإنما يصير بعد خلقه من هذه الطينة نوراً وظلمة، ولعل ذلك لكون طينة السعادة مما يظهر به الحق وتنجلي به المعرفة بخلاف طينة الشقاوة الملازمة للجعل الذي هو ظلمة وعمى فطينة السعادة نور، وكثيراً ما يسمي القرآن العلم والهدى نوراً كما يسمي الإِيمان حياة قال تعالى: { { أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } [الأنعام: 122]. وقال: { { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } [البقرة: 257]، وفي كون النور أصلاً لخلقة طائفة من الموجودات كالأنبياء والملائكة واللوح والقلم والعرش والكرسي والجنة أخبار كثيرة أخرى سيأتي بعضها فيما سيأتي إن شاء الله.
ومنها: ما دل على لحوق الأشقياء بالسعداء يوم القيامة وبالعكس كما في العلل بإسناده عن إبراهيم الليثي عن الباقر عليه السلام في حديث طويل: ثم قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت وبدا شعاعها في البلدان أهو بائن من القرص؟ قلت: في حال طلوعه بائن. قال: أ ليس إذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرص حتى يعود إليه؟ قلت: نعم. قال: كذلك يعود كل شيء إلى سنخه وجوهره وأصله فإذا كان يوم القيامة نزع الله عز وجل سنخ الناصب وطينته مع أثقاله وأوزاره من المؤمن فيلحقها كلها بالناصب، وينزع سنخ المؤمن وطينته مع حسناته وأبواب بره واجتهاده من الناصب فيلحقها كلها بالمؤمن.
أفترى ها هنا ظلماً وعدواناً؟ قلت: لا يا ابن رسول الله. قال: هذا والله القضاء الفاصل والحكم القاطع، والعدل البيّن، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون هذا يا إبراهيم الحق من ربك فلا تكن من الممترين، هذا من حكم الملكوت.
قلت: يا ابن رسول الله وما حكم الملكوت؟ قال: حكم الله وحكم أنبيائه وقصة الخضر وموسى حين استصحبه فقال: إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً افهم يا إبراهيم واعقل، أنكر موسى على الخضر واستفظع أفعاله حتى قال له الخضر: يا موسى ما فعلته عن أمري، وإنما فعلته عن أمر الله عز وجل الحديث.
أقول: الرواية تبني البيان على قوله تعالى:
{ { ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم } [الأنفال: 37]، وآيات أُخر ذكرها عليه السلام في متن الرواية، والآية - كما ترى - تذكر أن الله سبحانه سيفصل يوم القيامة الطيب من الخبيث ويميز بينهما تمييزاً تاماً لا يبقى في قسم الطيب من خلط الخباثة شيء، ولا في سنخ الخبيث من خلط الطيب شيء ثم يجمع كل خبيث برد بعضه إلى بعض وإلحاق بعضه ببعض، ويرجع الآثار والأعمال حينئذ إلى موضوعاتها، وترد الفروع إلى أصولها لا محالة، ولازم ذلك اجتماع الحسنات جميعاً في جانب ورجوعها إلى سعادة الذات الذي لا تمازجه شقاوة أصلاً، واجتماع السيئات جميعاً في جانب ورجوعها إلى منشئها الخالص في منشئيته، وهو الذي تبينه الرواية.
قوله عليه السلام: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس الخ تمثيل بظاهر الحس على كون الأثر مظهراً لمؤثره مسانخاً له قائماً به ملازماً لوجوده، وقوله عليه السلام: هذا والله القضاء الفاصل الخ، هذا مع كونه بحسب بادئ النظر خلاف العدل مبني على ما تحكم به الضرورة من وجوب المناسبة والسنخية بين الفاعل وفعله والمؤثر وأثره، ولازمه الحكم بأن كل فعل من الأفعال إنما يملكه من الفواعل ما يناسبه في ذاته لا ما لا يناسبه، وإن كان قضاء النظر السطحي المعتمد على ظاهر الحس بخلافه.
فالفعل من حيث كونه حركات كذا وسكنات كذا فهو للموضوع الذي يتحرك ويسكن بها، وأما من حيث كونه معنى من المعاني حسنة أو سيئة ومن آثار السعادة أو من آثار الشقاوة فإنما هو لذات سعيدة أو شقية تناسبه في وصفه، ولو كان هناك موضوعان لهما حكمان مختلفان ثم وجد شيء من حكم كل في الآخر فإنما هو الامتزاج وقع بين الموضوعين واختلاط بمعنى أن وراء هذا الفعل موضوعه الأصلي القائم بأمره وإن ظهر في ظاهر النظر في غير موضوعه كالحرارة الظاهرة في الماء التي عاملها الأصلي نار أو شمس مثلاً وإن كانت صفة بارزة في الماء ظاهراً فالحرارة للنار مثلاً وإن ظهرت في الماء وهذا مما لا يرتاب فيه الخبير بالأبحاث الحقيقية.
وعلى هذا تكون الحسنات للمحسنين ذاتاً والسعداء جوهراً وسنخاً، والسيئات للمسيئين ذاتاً والأشقياء طينة وأصلاً بحسب ظرف الحقيقة ووعاء الحق فهو الذي يقتضيه العدل الحقيقي.
ولا يناقضه أمثال قوله تعالى:
{ { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [الزلزلة: 7 - 8]، وقوله: { { ألا تزر وازرة وزر أُخرى } [النجم: 38] وقوله: { { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [البقرة: 286]، إلى غير ذلك من الآيات الحاكمة بأن تبعة كل فعل إنما هو لفاعله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وذلك أن الذي تحكم به الآيات في محله ولا يتخطاه لكن لما كان فاعل الفعل بحسب النظر الاجتماعي الدنيوي هو الذي تقوم به الحركة والسكون المسمى فعلاً فإليه تعود تبعة الفعل من مدح أو ذم أو ثواب أو عقاب دنيويين، وأما بحسب النظر الحقيقي ففاعل الفعل الأصل الذي يسانخه الفعل ويناسبه وهو غير من قامت به الحركات والسكنات المسماة فعلاً ورجوع هذا الفعل وما له من الآثار الحسنة أو السيئة إلى هذا الأصل ليس من رجوع تبعة الفعل إلى غير فاعله حتى تناقضه الآيات الكريمة فهذا الحكم الباطني الذي يسميه عليه السلام حكماً ملكوتياً في طول الحكم الظاهري الذي نألفه في حياتنا الاجتماعية.
وإذا كان يوم القيامة هو اليوم الذي تبلى فيه السرائر وتظهر فيه الحقائق ولا يحتجب الحق فيه بشيء كما مرت الإِشارة إليه مراراً - كان هو مجلى هذا الحكم الملكوتي الذي يلحق كل حكم بحقيقة موضوعه فيرجع به كل شيء إلى أصله قال تعالى:
{ { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } [الزمر: 47]، وقال: { { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 22]، وقال: { { ألحقنا بهم ذريتهم ما ألتناهم من عملهم من شيء } [الطور: 21]، وقال: { { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [العنكبوت: 13]. ومن هنا يظهر وجه اختصاص هذا الحكم الملكوتي بيوم القيامة مع أن البرزخ وهو ما بين الموت والبعث أيضاً من ظروف المجازاة ومن أيام الله، وذلك لأن الظاهر من كلامه تعالى أن البرزخ من تتمة المكث الأرضي محسوب من الدنيا كما يدل عليه قوله تعالى: { { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلاً } [المؤمنون: 113]، وقوله: { { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإِيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث } [الروم: 55 - 56]. فالحياة البرزخية كأنها من بقايا الحياة الدنيوية محكومة ببعض أحكامها، والناس فيها بعد في طريق التصفية والتخلص إلى سعادتهم وشقاوتهم، والحكم الفصل الذي يحتاج إلى السنخ الخالص والذات الممحوضة بعد هذه الحياة.
ومن هنا يظهر أيضاً سر ما يظهر في القرآن والحديث أن الله سبحانه يجازي الكفار جزاء حسناتهم التي أتوا بها في الدنيا. وأما في الآخرة فأعمالهم فيها حبط، ولا يقيم لهم يوم القيامة وزناً، وليس لهم فيها إلا النار فافهم ذلك.
وقوله عليه السلام: { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } تعليل منه لما بينه من الحكم الملكوتي بالآية، وذلك أن السؤال عن شيء سواء كان فعلاً فعله فاعل أو قضى به قاض أو خبراً أخبر به مخبر إنما هو طلب من الفاعل أو القاضي أو المخبر أن يبين مطابقه ما أتى به الواقع ويطبقه على الحق فإن ما نأتي به من الأمر إنما هو محاذاة منا للواقع الحق ولا ينقطع السؤال إلا إذا بين لنا وجه الحق فيه وكونه مطابقاً للواقع أما إذا كان الفعل الذي أتى به أو الحكم الذي حكم به أو الخبر الذي أخبر به مثلاً نفس الواقع بلا واسطة فلا معنى للسؤال البتة.
فإذا سألك سائل مثلاً: لم ضربت اليتيم؟ أو لم قضيت أن المال لزيد؟ أو من أين أخبرت أن زيداً قائم؟ لم ينقطع السؤال دون أن تقول مثلاً: ضربته للتأديب، وأن تقول أن زيداً ورثه عن أبيه مثلاً وأن تريه زيداً وهو قائم مثلاً، وهذا هو الحق الواقع المسؤول عنه، وأما كون الأربعة زوجاً، أو كون العشرة أكبر من الخمسة أو بطلان حياة زيد لو جز رأسه من بدنه مثلاً فهذه الأمور نفس الواقع الحق ولا معنى لأن يسأل عن الأربعة لِمَ صارت زوجاً؟ أو عن العشرة لِمَ صارت أكبر من الخمسة؟ أو عن فعل من الأفعال أو أثر من الآثار وعنده فاعله وغايته لِمَ كان كما كان؟ أو لم فعل سببه التام ما فعل؟ فإن ذلك هذر.
والله سبحانه فعله نفس الواقع الحق، وقوله نفس العين الخارجية ولا ينتهي إلى غيره فلا معنى للسؤال عنه بلم وكيف. وجميع القضايا الحقة التي نطبق عليها عقائدنا أو أفعالنا لتكون حقة إنما هي مأخوذة من الخارج الذي هو فعله فلا تحكم في شيء من فعله، وإنما تلازم بوجه فعله ملازمة التابع للمتبوع والمنتزع للمنتزع منه فافهم، وبتقرير آخر الفعل الإِلهي إنما يظهر بالأسباب الكونية فهي بمنزلة آلالات والأدوات لا يظهر له فعل إلا بتوسطها، والسائل إنما يسأل عن فعل من أفعاله لجهله بالأسباب مثلاً إذا مات زيد بسقوط حائط عليه بغتة سأل سائل: لِمَ أهلك الله زيداً ولم يرحم شبابه ولا أبويه المسكينين؟ فإذا أجيب بانهدام الحائط عليه نقل السؤال إلى أنه لِمَ هدم عليه الحائط؟ فإذا أُجيب بأن السماء أمطرت فاسترخى أصله ومال به الثقل فسقط وكان تحته زيد فمات به، نقل السؤال إلى أمطار السماء وهلم جراً، ولا يقع السؤال إلا على أثر مجهول العلة، وأما الأثر المعلوم العلة فلا يقع عنه سؤال وليس إلا أن السائل بجهله يقدر لزيد حياة مستندة إلى علل ليس بينها هذه التي فاجأته بسلسلتها فتوهم أن الله سبحانه فعل به ما فعل جزافاً من غير سبب ولذلك بادر إلى السؤال ولو أحاط بعلل الحوادث لم يسأل قط، وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: { لا يسأل عما يفعل } الخ، في البحث عن اعتراضات إبليس في محاورته الملائكة.
وقوله عليه السلام: حكم الله وحكم أنبيائه الخ، أي قضاؤه تعالى وقضاء أنبيائه بإذنه فإنه تعالى إنما يقضي ويحكم الحكم الحق الذي بحسب حقيقة الأمر وباطنه لا بحسب الظاهر كما نحكم عليه بالاعتماد على الشواهد والأمارات.
تبيّن معنى لحوق الحسنات وآثارها للذوات الطيبة وسنخ النور، ولحوق السيئات وآثارها السنخ الظلمة والفساد والذوات الخبيثة، ويتبين بما تبين من معنى قوله { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }، الجواب عن شيء آخر ربما يختلج بالبال في بادئ النظر وهو أنه لم اختصت الذوات الطيبه وسنخ النور بالحسنات وآثارها، والذوات الخبيثة وسنخ الظلمة بخلافها؟ ولم استعقبت الحسنات النعمة الدائمة والجنة الخالدة، واستعقبت السيئات النقمة والنار.
والجواب: أنها آثار واقعية عن روابط خارجية كما تقدم بيانه في البحث عن نتائج الأعمال لا أحكام وضعية اعتبارية وإن بينت في لسان الشرع بنظائر ما تبين به تبعات أحكامنا الوضعية الاعتبارية الواقعة في ظرف الاجتماع الإِنساني تتميماً لنظام التشريع.
إذا عرفت ذلك علمت أن هذه الاختصاصات ترجع إلى روابط تكوينية بين ذوات الأشياء وآثارها الذاتية ولا سؤال في الذاتيات غير أنك ينبغي أن تتذكر ما تقدم أن لزوم حكم لذات من الذوات ليس معناه استقلال ذاته باقتضاء ذلك الحكم والأثر، واستغناؤه عن الله سبحانه في إيجابه وضمه لنفسه فهذا مما يدفعه البيان الإِلهي في كتابه بل معناه لزومه لفعله الحق ولا سؤال عن ذلك كما اتضح معناه.
وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى:
{ { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً } [الأعراف: 58]، فإنما هو مثل مضروب لاقتضاء الذوات، وإنما قيده بقوله: { بإذن ربه } دفعاً لتوهم اللزوم الذاتي بمعنى استقلال الذوات في التأثير مستغنية عنه تعالى، في هذا المعنى ما ورد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "جف القلم بالسعادة لمن آمن واتقى"
].