خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
٢٩
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٣٠
ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣١
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ
٣٢
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
٣٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣٤
يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ
٣٥
-التوبة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات تأمر بقتال أهل الكتاب ممن يمكن تبقيته بالجزية وتذكر أُموراً من وجوه انحرافهم عن الحق في الاعتقاد والعمل.
قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب } أهل الكتاب هم اليهود والنصارى على ما يستفاد من آيات كثيرة من القرآن الكريم وكذا المجوس على ما يشعر أو يدل عليه قوله تعالى:
{ { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد } [الحج: 17] حيث عدّوا في الآية مع سائر أرباب النحل السماوية في قبال الذين اشركوا، والصابئون كما تقدّم طائفة من المجوس صبوا إلى دين اليهود فاتخذوا طريقاً بين الطريقين.
والسياق يدل على أن لفظة { من } في قوله: { من الذين أوتوا الكتاب } بيانية لا تبعيضية فإن كلاً من اليهود والنصارى والمجوس أمة واحدة كالمسلمين في إسلامهم وإن تشعبوا شعباً مختلفة وتفرقوا فرقاً متشتتة اختلط بعضهم ببعض ولو كان المراد قتال البعض وإثبات الجزية على الجميع أو على ذلك البعض بعينه لاحتاج المقام في إفادة ذلك إلى بيان غير هذا البيان يحصل به الغرض.
وحيث كان قوله: { من الذين أوتوا الكتاب } بياناً لما قبله من قوله: { الذين لا يؤمنون } الآية فالأوصاف المذكورة أوصاف عامة لجميعهم وهي ثلاثة أوصاف وصفهم الله سبحانه بها: عدم الإِيمان بالله واليوم الآخر، وعدم تحريم ما حرّم الله ورسوله، وعدم التديّن بدين الحق.
فأول ما وصفهم به قوله: { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } وهو تعالى ينسب إليهم في كلامه أنهم يثبتونه إلهاً وكيف لا؟ وهو يعدّهم أهل الكتاب، وما هو إلا الكتاب السماوي النازل من عند الله على رسول من رسله ويحكي عنهم القول أو لازم القول بالألوهية في مئات من آيات كتابه.
وكذا ينسب إليهم القول باليوم الآخر في أمثال قوله:
{ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [البقرة: 80]، وقوله: { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [البقرة: 111]. غير أنه تعالى لم يفرق في كلامه بين الإِيمان به والإِيمان باليوم الآخر فالكفر بأحد الأمرين كفر بالله والكفر بالله كفر بالأمرين جميعاً، وحَكم فيمن فرّق بين الله ورسله فآمن ببعض دون بعض أنه كافر كما قال: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أُولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } [النساء: 150-151]. فعدّ أهل الكتاب ممن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفاراً حقاً وإن كان عندهم إيمان بالله واليوم الآخر، لا بلسان أنهم كفروا بآية من آيات الله وهي آية النبوة بل بلسان أنهم كفروا بالإِيمان بالله فلم يؤمنوا بالله واليوم الآخر كما أن المشركين أرباب الأصنام كافرون بالله إذ لم يوحدوه وان اثبتوا إلهاً فوق الآلهة.
على أنهم يقررون أمر المبدء والمعاد تقريراً لا يوافق الحق بوجه كقولهم بأن المسيح ابن الله وعزيراً ابن الله يضاهؤون في ذلك قول الذين كفروا من أرباب الأصنام والأوثان أن من الآلهة من هو إله أب إله ومن هو إله ابن إله، وقول اليهود في المعاد بالكرامة وقول النصارى بالتفدية.
فالظاهر أن نفي الإِيمان بالله واليوم الآخر عن أهل الكتاب إنما هو لكونهم لا يرون ما هو الحق من أمر التوحيد والمعاد وإن اثبتوا أصل القول بالألوهية لا لأن منهم من ينكر القول بألوهية الله سبحانه أو ينكر المعاد فإنهم قائلون بذلك على ما يحكيه عنهم القرآن وإن كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن المعاد أصلاً.
ثم وصفهم ثانياً بقوله: { ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله } وذلك كقول اليهود بإباحة أشياء عدَّها وذكرها لهم القرآن في سورتي البقرة والنساء وغيرهما وقول النصارى بإباحة الخمر ولحم الخنزير، وقد ثبت تحريمهما في شرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وأكلهم أموال الناس بالباطل كما سينسبه إليهم في الآية الآتية: { إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل }.
والمراد بالرسول في قوله: { ما حرَّم الله ورسوله } إما رسول أنفسهم الذي قالوا بنبوته كموسى عليه السلام بالنسبة إلى اليهود، وعيسى عليه السلام بالنسبة إلى النصارى فالمعنى لا يحرم كل أُمة منهم ما حرمه عليهم رسولهم الذي قالوا بنبوته، واعترفوا بحقانيته وفي ذلك نهاية التجري على الله ورسوله واللعب بالحق والحقيقة.
وإما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل يحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
ويكون حينئذ توصيفهم بعدم تحريمهم ما حرّم الله ورسوله بغرض تأنيبهم والطعن فيهم ولبعث المؤمنين وتهييجهم على قتالهم لعدم اعتنائهم بما حرَّمه الله ورسوله في شرعهم واسترسالهم في الوقوع في محارم الله وهتك حرماته.
وربما أيَّد هذا الاحتمال أن لو كان المراد بقوله: { ورسوله } رسول كل أُمة بالنسبة إليها كموسى بالنسبة إلى اليهود وعيسى بالنسبة إلى النصارى كان من حق الكلام أن يُقال: { ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسله } على ما هو دأب القرآن في نظائره للدلالة على كثرة الرسل كقوله:
{ ويريدون أن يفرِّقوا بين الله ورسله } [النساء: 150]، وقوله: { { قالت رسلهم أفي الله شك } [إبراهيم: 10]، وقوله: { وجاءتهم رسلهم بالبيِّنات } [الروم: 9]. على أن النصارى رفضوا محرّمات التوراة والإِنجيل فلم يحرّموا ما حرّم موسى وعيسى عليه السلام، وليس من حق الكلام في مورد هذا شأنه: أنهم لا يحرّمون ما حرَّم الله ورسوله.
على أن المتدبر في المقاصد العامة الإِسلامية لا يشك في أن قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ليس لغرض تمتع أولياء الإِسلام ولا المسلمين من متاع الحياة الدنيا واسترسالهم وانهماكهم في الشهوات على حد المترفين من الملوك والرؤساء المسرفين من أقوياء الأُمم.
وإنما غرض الدين في ذلك أن يظهر دين الحق وسنّة العدل وكلمة التقوى على الباطل والظلم والفسق فلا يعترضها في مسيرها اللعب والهوى فتسلم التربية الصالحة المصلحة من مزاحمة التربية الفاسدة حتى لا ينجرّ إلى أن تجذب هذه إلى جانب، وتلك إلى جانب، فيتشوّش أمر النظام الإِنساني إلا أن لا يرتضي واحد أو جماعة التربية الإِسلامية لنفسه أو لأنفسهم فيكونون أحراراً فيما يرتضونه لأنفسهم من تربية دينهم الخاصة على شرط أن يكونوا على شيء من دين التوحيد، وهو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، وأن لا يتظاهروا بالمزاحمة، وهذا غاية العدل والنصفة من دين الحق الظاهر على غيره.
وأما الجزية فهي عطيّة مالية مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمتهم وحسن إدارتهم ولا غنى عن مثلها لحكومة قائمة على ساقها حقَّة أو باطلة.
ومن هذا البيان يظهر أن المراد بهذه المحرَّمات: المحرَّمات الإِسلامية التي عزم الله أن لا تشيع في المجتمع الإِسلامي العالمي كما أن المراد بدين الحق هو الذي يعزم أن يكون هو المتَّبع في المجتمع.
ولازم ذلك أن يكون المراد بالمحرَّمات: المحرَّمات التي حرَّمها الله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصادع بالدعوة الإِسلامية، وأن يكون الأوصاف الثلاثة: { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الآية في معنى التعليل تفيد حكمة الأمر بقتال أهل الكتاب.
وبذلك كله يظهر فساد ما أُورد على هذا الوجه أنه لا يعقل أن يحرّم أهل الكتاب على أنفسهم ما حرَّم الله ورسوله علينا إلا إذا أسلموا، وإنما الكلام في أهل الكتاب لا في المسلمين العاصين.
وجه الفساد أنه ليس من الواجب أن يكون الغرض من قتالهم أن يحرِّموا ما حرَّم الإِسلام وهم أهل الكتاب بل أن لا يظهر في الناس التبرّز بالمحرَّمات من غير مانع يمنع شيوعها والاسترسال فيها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأكل المال بالباطل على سبيل العلن بل يقاتلون ليدخلوا في الذمة فلا يتظاهروا بالفساد، ويحتبس الشر فيما بينهم أنفسهم.
ولعله إلى ذلك الإِشارة بقوله: { وهم صاغرون } على ما سيجيء في الكلام على ذيل الآية.
ثم وصفهم ثالثاً بقوله: { ولا يدينون دين الحق } أي لا يأخذونه ديناً وسنّة حيوية لأنفسهم.
وإضافة الدين إلى الحق ليست من إضافة الموصوف إلى صفته على أن يكون المراد الدين الذي هو حق بل من الإِضافة الحقيقية، والمراد به الدين الذي هو منسوب إلى الحق لكون الحق هو الذي يقتضيه للإِنسان ويبعثه إليه، وكون هذا الدين يهدي إلى الحق ويصل متَّبعيه إليه فهو من قبيل قولنا طريق الحق وطريق الضلال بمعنى الطريق الذي هو للحق والطريق الذي هو للضلال إي إن غايته الحق أو غايته الضلال.
وذلك أن المستفاد من مثل قوله تعالى:
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيِّم } [الروم: 30]، وقوله: { إن الدين عند الله الإِسلام } [آل عمران: 19]، وسائر ما يجري هذا المجرى من الآيات أن لهذا الدين أصلاً في الكون والخلقة والواقع الحق، يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويندب الناس إلى الإِسلام والخضوع له ويسمى اتخاذه سنَّة في الحياة إسلاماً لله تعالى فهو يدعو إلى ما لا مناص للإِنسان عن استجابته والتسليم له وهو الخضوع للسنَّة العملية الاعتبارية التي يهدي إليها السنَّة الكونية الحقيقية، وبعبارة أُخرى التسليم لإِرادة الله التشريعية المنبعثة عن إرادته التكوينية.
وبالجملة للحق الذي هو الواقع الثابت دين وسنَّة ينبعث منه كما أن للضلال والغيّ ديناً يدعو إليه، والأول اتّباع للحق كما أن الثاني اتّباع للهوى، قال تعالى: { ولو اتّبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض }.
والإِسلام دين الحق بمعنى أنه سنَّة التكوين والطريقة التي تنطبق عليها الخلقة وتدعو إليها الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم.
فتلخص مما تقدم:
أولاً: أن المراد بعدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر عدم تلبّسهم بالإِيمان المقبول عند الله، وبعدم تحريمهم ما حرَّم الله ورسوله عدم مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهي التي يُفسد التظاهرُ بها المجتمع البشري ويخيب بها سعي الحكومة الحقة الجارية فيه، وبعدم تدينهم بدين الحق عدم استِنانهم بسنَّة الحق المنطبقة على الخلقة والمنطبقة عليها الخلقة والكون.
وثانياً: أن قوله: { الذين لا يؤمنون بالله } إلى آخر الأوصاف الثلاثة مسوق لبيان الحكمة في الأمر بقتالهم ويترتب عليه فائدة التحريض والتحضيض عليه.
وثالثاً: أن المراد قتال أهل الكتاب جميعاً لا بعضهم بجعل { من } في قوله: { من الذين أُوتوا الكتاب } للتبعيض.
قوله تعالى: { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } قال الراغب في المفردات: الجزية ما يؤخذ من أهل الذمَّة، وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم. انتهى.
وفي المجمع: الجزية فعلة من جزى يجزي مثل العقدة والجلسة وهي عطية مخصوصة جزاء لهم على تمسكهم بالكفر عقوبة لهم. عن علي بن عيسى. انتهى.
والاعتماد على ما ذكره الراغب فإنه المتأيد بما ذكرناه آنفاً أن هذه عطية مالية مصروفة في جهة حفظ ذمتهم وحقن دمائهم وحسن إدارتهم.
وقال الراغب أيضاً: الصغر والكبر من الأسماء المتضادة التي تُقال عند اعتبار بعضها ببعض فالشيء قد يكون صغيراً في جنب الشيء وكبيراً في جنب آخر - إلى أن قال - يُقال: صغر صغراً - بالكسر فالفتح - في ضدّ الكبير وصغر صغراً وصغاراً - بالفتحتين فيهما - في الذلّة. والصاغر الراضي بالمنزلة الدنية: { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } انتهى.
والاعتبار بما ذكر في صدر الآية من أوصافهم المقتضية لقتالهم ثم إعطاؤهم الجزية لحفظ ذمَّتهم يفيد أن يكون المراد بصغارهم خضوعهم للسنَّة الإِسلامية والحكومة الدينية العادلة في المجتمع الإِسلامي فلا يكافؤوا المسلمين ولا يبارزوهم بشخصية مستقلة حرة في بثّ ما تهواه أنفسهم وإشاعة ما اختلقته هوساتهم من العقائد والأعمال المفسدة للمجتمع الإِنساني مع ما في إعطاء المال بأيديهم من الهوان.
فظاهر الآية أن هذا هو المراد من صغارهم لا إهانتهم والسخرية بهم من جانب المسلمين أو أولياء الحكومة الدينية فإن هذا مما لا يحتمله السكينة والوقار الإِسلامي وإن ذكر بعض المفسرين.
واليد: الجارحة من الإِنسان وتطلق على القدرة والنعمة فان كان المراد به في قوله: { حتى يعطوا الجزية عن يد } هو المعنى الأول فالمعنى حتى يعطوا الجزية متجاوزة عن يدهم إلى يدكم، وإن كان المراد هو المعنى الثاني فالمعنى: حتى يعطوا الجزية عن قدرة وسلطة لكم عليهم وهم صاغرون غير مستعلين عليكم ولا مستكبرين.
فمعنى الآية - والله أعلم - قاتلوا أهل الكتاب لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً مقبولاً غير منحرف عن الصواب ولا يحرمون ما حرمه الإِسلام مما يفسد اقترافه المجتمع الإِنساني ولا يدينون ديناً منطبقاً على الخلقة الإِلهية قاتلوهم ودوموا على قتالهم حتى يصغروا عندكم ويخضعوا لحكومتكم، ويعطوا في ذلك عطية مالية مضروبة عليهم يمثل صغارهم، ويصرف في حفظ ذمتهم وحقن دمائهم وحاجة إدارة أمورهم.
قوله تعالى: { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } إلى آخر الآية المضاهاة المشاكلة. والإِفك على ما ذكره الراغب كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه فمعنى { يؤفكون } يصرفون في اعتقادهم عن الحق إلى الباطل.
وقوله: { وقالت اليهود عزير ابن الله } عزير هذا هو الذي يسميه اليهود عزرا غيرت اللفظة عند التعريب كما غير لفظ { يسوع } فصار بالتعريب { عيسى } ولفظ { يوحنا } فصار كما قيل { يحيى }.
وعزرا هذا هو الذي جدد دين اليهود وجمع أسفار التوراة وكتبها بعد ما افتقدت في غائلة بخت نصر ملك بابل الذي فتح بلادهم وخرب هيكلهم وأحرق كتبهم وقتل رجالهم وسبى نساءهم وذراريهم والباقين من ضعفائهم وسيرهم معه إلى بابل فبقوا هنالك ما يقرب من قرن ثم لما فتح "كورش" ملك إيران بابل شفع لهم عنده عزرا وكان ذا وجه عنده فأجاز له أن يعيد اليهود إلى بلادهم وأن يكتب لهم التوراة ثانياً بعدما افتقدوا نسخها وكان ذلك في حدود سنة 457 قبل المسيح على ما ذكروا فراجت بينهم ثانياً ما جمعه عزرا من التوراة وإن كانوا افتقدوا أيضاً في زمن أنتيوكس صاحب سورية الذي فتح بلادهم حدود سنة 161 ق. م وتتبع مساكنهم فأحرق ما وجده من نسخ التوراة وقتل من وجدت عنده أو أُخذت عليه على ما في كتب التاريخ.
ولما نالهم من خدمته عظموا قدره واحترموا أمره وسموه ابن الله ولا ندري أكان دعاؤه بالبنوة المعنى الذي يسمي به النصارى المسيح ابن الله - والمراد أن فيه شيئاً من جوهر الربوبية أو هو مشتق منه أو هو هو - أو إنها تسمية تشريفية كما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه؟ وإن كان ظاهر سياق الآية التالية: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم } الآية يؤيد الثاني على ما سيأتي.
وقد ذكر بعض المفسرين: أن هذا القول منهم: { عزير ابن الله } كلمة تكلم بها بعض اليهود ممن في عصره صلى الله عليه وآله وسلم لا جميع اليهود فنسب إلى الجميع كما أن قولهم: { إن الله فقير ونحن أغنياء } وكذا قولهم: { يد الله مغلولة } مما قاله بعض يهود المدينة ممن عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسب في كلامه تعالى إلى جميعهم لأن البعض منهم راضوان بما عمله البعض الآخر، والجميع ذو رأي متوافق الأجزاء وروية متشابهة التأثير.
وقوله: { وقالت النصارى المسيح ابن الله } كلمة قالتها النصارى، وقد تقدم الكلام فيها وفي ما يتعلق بها في قصة المسيح عليه السلام من سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.
وقوله: { يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل } تنبئ الآية عن أن القول بالبنوّة منهم مضاهاة ومشاكلة لقول من تقدمهم من الأُمم الكافرة وهم الوثنيون عبدة الأصنام فإن من آلهتهم من هو إله أب إله ومن هو إله ابن إله، ومن هي إلهة أُم إله أو زوجة إله، وكذا القول بالثالوث مما كان دائراً بين الوثنيين من الهند والصين ومصر القديم وغيرهم وقد مرّ نبذة من ذلك فيما تقدم من الكلام في قصة المسيح في ثالث أجزاء هذا الكتاب.
وتقدم هناك أن تسرب العقائد الوثنية في دين النصارى ومثلهم اليهود من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم في هذه الآية: { يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل }.
وقد اعتنى جمع من محققي هذا العصر بتطبيق ما تضمنته كتب القوم اعني العهدين: العتيق والجديد على ما حصل من مذاهب البوذيين والبرهمائيين فوجدوا معارف العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتى كثيراً من القصص والحكايات الموجودة في الأناجيل فلم يبقَ ذلك ريباً لأي باحث في أصالة قوله تعالى: { يضاهؤن } الآية في هذا الباب.
ثم دعا عليهم بقوله: { قاتلهم الله أنى يؤفكون } وختم به الآية.
قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم } الأحبار جمع حبر بفتح الحاء وكسرها وهو العالم وغلب استعماله في علماء اليهود والرهبان جمع راهب وهو المتلبس بلباس الخشية وغلب على المتنسكين من النصارى.
واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله هو إصغاؤهم لهم وإطاعتهم من غير قيد وشرط ولا يطاع كذلك إلا الله سبحانه.
وأما اتخاذهم المسيح بن مريم رباً من دون الله فهو القول بالوهيته بنحو كما هو المعروف من مذاهب النصارى، وفي إضافة المسيح إلى مريم إشارة إلى عدم كونهم محقين في هذا الاتخاذ لكونه إنساناً ابن مرأة.
ولكن الإِتخاذين مختلفين من حيث المعنى فصل بينهما فذكر اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله أولاً، ثم عطف عليه قوله: { والمسيح ابن مريم }.
والكلام كما يدل على اختلاف الربوبيتين كذلك لا يخلو عن دلالة على أن قولهم ببنوّة عزير وبنوة المسيح على معنيين مختلفين، وهو البنوّة التشريفية في عزير والبنوة بنوع من الحقيقة في المسيح عليه السلام فإن الآية أهملت ذكر اتخاذهم عزيراً رباً من دون الله، ولم يذكر مكانه إلا اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله.
فهو رب عندهم بهذا المعنى إما لاستلزام التشريف بالبنوة ذلك أو لأنه من أحبارهم وقد أحسن إليهم في تجديد مذهبهم ما لا يقاس به إحسان غيره، وأما المسيح فبنوّته غير هذه البنوة.
وقوله: { وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو } جملة حالية أي اتخذوا لهم أرباباً والحال هذه.
وفي الكلام دلالة أولاً: على أن الاتخاذ بالربوبية بواسطة الطاعة كالاتخاذ بها بواسطة العبادة فالطاعة إذا كانت بالاستقلال كانت عبادة، ولازم ذلك أن الرب الذي هو المطاع من غير قيد وشرط وعلى نحو الاستقلال إله، فإن الإِله هو المعبود الذي من حقه أن يعبد، يدل على ذلك كله قوله تعالى: { وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً } حيث بدل الرب بالإِله، وكان مقتضى الظاهر أن يُقال وما أُمروا إلا ليتخذوا رباً واحداً فالاتخاذ للربوبية بواسطة الطاعة المطلقة عبادة، واتخاذ الرب معبوداً اتخاذ له إلهاً فافهم ذلك.
وثانياً: على أن الدعوة إلى عبادة الله وحده فيما وقع من كلامه تعالى كقوله تعالى:
{ لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25]، وقوله: { ولا تدع مع الله إلهاً آخر } [القصص: 88]، وأمثال ذلك كما أُريد بها قصر العبادة بمعناها المتعارف فيه تعالى كذلك أُريد قصر الطاعة فيه تعالى، وذلك أنه تعالى لم يؤاخذهم في طاعتهم لأحبارهم ورهبانهم إلا بقوله عزَّ من قائل: { وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو }.
وعلى هذا المعنى يدل قوله تعالى:
{ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } [يس: 60-61]، وهذا باب ينفتح منه ألف باب.
وفي قوله: { لا إله إلا هو } تتميم لكلمة التوحيد التي يتضمنها قوله: { وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً } فإن كثيراً من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بوجود آلهة كثيرة، وهم مع ذلك لا يخصون بالعبادة إلا واحداً منها فعبادة إله واحد لا يتم به التوحيد إلا مع القول بأنه لا إله إلا هو.
وقد جمع تعالى بين العبادتين مع الإِشارة إلى مغايرة ما بينهما وان قصر العبادة بكلا معنييها عليه تعالى هو معنى الإِسلام له سبحانه الذي لا مفر منه للإِنسان؛ فيما أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم من دعوة أهل الكتاب بقوله:
{ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } [آل عمران: 64]. وقوله تعالى في ذيل الآية: { سبحانه عما يشركون } تنزيه له تعالى عما يتضمنه قولهم بربوبية الأحبار والرهبان، وقولهم بربوبية المسيح عليه السلام من الشرك.
والآية بمنزلة البيان التعليلي لقوله تعالى في أول الآيات: { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } فإن اتخاذ إله أو آلهة دون الله سبحانه لا يجامع الإِيمان بالله، ولا الإِيمان بيوم لا ملك فيه إلا لله.
قوله تعالى: { يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم } إلى آخر الآية، الإِطفاء إخماد النار أو النور، والباء في قوله: { بأفواههم } للآلة أو السببية.
وإنما ذكر الأفواه لأن النفخ الذي يتوسل به إلى اخماد الأنوار والسرج يكون بالأفواه، قال في المجمع: وهذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم وتضعيف كيدهم لأن الفم يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الاقباس العظيمة. انتهى.
وقال في الكشاف: مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده، ويبلغه الغاية القصوى في الإِشراق والإِضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه. انتهى، والآية إشارة إلى حال الدعوة الإِسلامية، وما يريده منه الكافرون، وفيها وعد جميل بأن الله سيتم نوره.
قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } الهدى الهداية الإِلهية التي قارنها برسوله ليهدي بأمره، ودين الحق هو الإِسلام بما يشتمل عليه من العقائد والأحكام المنطبقة على الواقع الحق.
والمعنى أن الله هو الذي أرسل رسوله وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الهداية - أو الآيات والبينات - ودين فطري ليظهر وينصر دينه الذي هو دين الحق على كل الأديان ولو كره المشركون ذلك.
وبذلك ظهر أن الضمير في قوله: { ليظهره } راجع إلى دين الحق كما هو المتبادر من السياق، وربما قيل: إن الضمير راجع إلى الرسول، والمعنى ليظهر رسوله ويعلمه معالم الدين كلها وهو بعيد.
وفي الآيتين من تحريض المؤمنين على قتال أهل الكتاب والإِشارة إلى وجوب ذلك عليهم ما لا يخفى فإنهما تدلان على أن الله أراد انتشار هذا الدين في العالم البشري فلا بد من السعي والمجاهدة في ذلك، وأن أهل الكتاب يريدون أن يطفؤوا هذا النور بأفواههم فلا بد من قتالهم حتى يفنوا أو يستبقوا بالجزية والصغار، وأن الله سبحانه يأبى إلا أن يتم نوره، ويريد أن يظهر هذا الدين على غيره فالدائرة بمشيئة الله لهم على أعدائهم فلا ينبغي لهم أن يهنوا ويحزنوا وهم الأعلون إن كانوا مؤمنين.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } الظاهر أن الآية إشارة إلى بعض التوضيح لقوله في أول الآيات: { ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق } كما أن الآية السابقة كالتوضيح لقوله فيها: { فالذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر }.
أما ايضاح قوله تعالى: { ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله } بقوله: { إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل } فهو إيضاح بأوضح المصاديق وأهمها تأثيراً في افساد المجتمع الإِنساني الصالح، وإبطال غرض الدين.
فالقرآن الكريم يعد لأهل الكتاب وخاصة لليهود جرائم وآثاماً كثيرة مفصلة في سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها لكن الجرائم والتعديات المالية شأنها غير شأن غيرها، وخاصة في هذا المقام الذي تعلق الغرض بإفساد أهل الكتاب المجتمع الإِنساني الصالح لو كانوا مبسوطي اليد واستقلالهم الحيوي قائماً على ساق، ولا مفسد للمجتمع مثل التعدي المالي.
فإن أهم ما يقوم به المجتمع الإِنساني على أساسه هو الجهة المالية التي جعل الله لهم قياماً فجلّ المآثم والمساوي والجنايات والتعديات والمظالم تنتهي بالتحليل إما إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس أموال الناس بالسرقة وقطع الطرق وقتل النفوس والبخس في الكيل والوزن والغصب وسائر التعديات المالية، وإما إلى غنى مفرط يدعو إلى الإِتراف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمسكن، والاسترسال في الشهوات وهتك الحرمات، وبسط التسلط على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم.
وتنتهي جميع المفاسد الناشئة من الطريقين كليهما بالتحليل إلى ما يعرض من الاختلال على النظام الحاكم في حيازة الأموال واقتناء الثروة، والأحكام المشرعة لتعديل الجهات المملّكة المميزة لأكل المال بالحق من أكله بالباطل، فإذا اختل ذلك وأذعنت النفوس بإمكان القبض على ما تحتها من المال، وتتوق إليه من الثروة بأي طريق أمكن لقّن ذلك إياها أن يظفر بالمال ويقبض على الثروة بأي طريق ممكن حق أو باطل، وأن يسعى إلى كل مشتهى من مشتهيات النفس مشروع أو غير مشروع أدَّى إلى ما أدى، وعند ذلك يقوم البلوى بفشوّ الفساد وشيوع الانحطاط الأخلاقي في المجتمع، وانقلاب المحيط الإِنساني إلى محيط حيواني ردي لا همَّ فيه إلا البطن وما دونه ولا يملك فيه إرادة أحد بسياسة أو تربية ولا تفقّه فيه لحكمة ولا إصغاء إلى موعظة.
ولعلَّ هذا هو السبب الموجب لاختصاص أكل المال بالباطل بالذكر، وخاصة من الأحبار والرهبان الذين إليهم تربية الأُمة وإصلاح المجتمع.
وقد عدّ بعضهم من أكلهم أموال الناس بالباطل ما يقدمه الناس إليهم من المال حباً لهم لتظاهرهم بالزهد والتنسك، وأكل الربا والسحت، وضبطهم أموال مخالفيهم وأخذهم الرشا على الحكم، وإعطاء أوراق المغفرة وبيعها، ونحو ذلك.
والظاهر أن المراد بها أمثال أخذ الرشوة على الحكم كما تقدم من قصتهم في تفسير قوله تعالى:
{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [المائدة: 41] الآية، في الجزء الخامس من الكتاب.
ولو لم يكن من ذلك إلا ما كانت تأتي به الكنيسة من بيع أوراق المغفرة لكفى به مقتاً ولوماً.
وأما ما ذكره من تقديم الأموال إليهم لتزهدهم، وكذا تخصيصهم بأوقاف ووصايا ومبرات عامة فليس بمعدود من أكل المال بالباطل، وكذا ما ذكره من أكل الربا والسحت فقد نسبه تعالى في كلامه إلى عامة قومهم كقوله تعالى:
{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } [النساء: 161]، وقوله: { { سمّاعون للكذب أكَّالون للسحت } [المائدة: 42]، وإنما كلامه تعالى في الآية التي نحن فيها فيما يخصّ أحبارهم ورهبانهم من أكل المال بالباطل لا ما يعمّهم وعامتهم.
إلا أن الحق أن زعماء الأُمة الدينية ومربيهم في سلوك طريق العبودية المعتنين بإصلاح قلوبهم وأعمالهم إذا انحرفوا عن طريق الحق إلى سبيل الباطل كان جميع ما أكلوه لهذا الشأن واستدرّوه من منافعه سحتاً محرماً لا يبيحه لهم شرع ولا عقل.
وأما إيضاح قوله تعالى: { ولا يدينون دين الحق } بقوله: { ويصدون عن سبيل الله } فهو أيضاً مبني على ما قدمناه من النكتة في توصيفهم بالأوصاف الثلاثة التي ثالثها قوله: { ولا يدينون دين الحق } وهو بيان ما يفسد من صفاتهم وأعمالهم المجتمع الإِنساني ويسدّ طريق الحكومة الدينية العادلة دون البلوغ إلى غرضها من إصلاح الناس وتكوين مجتمع حي فعّال بما يليق بالإِنسان الفطري المتوجّه إلى سعادته الفطرية.
ولذا خصَّ بالذكر من مفاسد عدم تدينهم بدين الحق ما هو العمدة في إفساد المجتمع الصالح، وهو صدهم عن سبيل الله ومنعهم الناس عن أن يسلكوه بما قدروا عليه من طرقه الظاهرة والخفية، ولا يزالون مصرّين على هذه السليقة منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى اليوم.
قوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } قال الراغب: الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من كنزت التمر في الوعاء، وزمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر، وناقة كناز مكتنزة اللحم، وقوله: { والذين يكنزون الذهب والفضة } أي يدّخرونها، انتهى.
ففي مفهوم الكنز حفظ المال المكنوز وادّخاره ومنعه من أن يجري بين الناس في وجوه المعاملات فينمو نماءً حسناً، ويعمّ الانتفاع به في المجتمع فينتفع به هذا بالأخذ، وذاك بالرد، وذلك بالعمل عليه وقد كان دأبهم قبل ظهور البنوك والمخازن العامة أن يدفنوا الكنوز في الأرض ستراً عليها من أن تقصد بسوء.
والآية وإن اتصلت في النظم اللفظي بما قبلها من الآيات الذامّة لأهل الكتاب والموبخة لأحبارهم ورهبانهم في أكلهم أموال الناس بالباطل والصدّ عن سبيل الله إلا أنه لا دليل من جهة اللفظ على نزولها فيهم واختصاصها بهم البتة.
فلا سبيل إلى القول بأن الآية إنما نزلت في أهل الكتاب وحرَّمت الكنز عليهم، وأما المسلمون فهم وما يقتنون من ذهب وفضة يصنعون بأموالهم ما يشاؤون من غير بأس عليهم.
والآية توعد الكانزين إيعاداً شديداً، ويهددهم بعذاب شديد غير أنها تفسر الكنز المدلول عليه بقوله: { الذين يكنزون الذهب والفضة } بقوله: { ولا ينفقونها في سبيل الله } فتدل بذلك على أن الذي يبغضه الله من الكنز ما يلازم الكف عن إنفاقه في سبيل الله إذا كان هناك سبيل.
وسبيل الله على ما يستفاد من كلامه تعالى هو ما توقّف عليه قيام دين الله على ساقه وأن يسلم من انهدام بنيانه كالجهاد وجميع مصالح الدين الواجب حفظها، وشؤون مجتمع المسلمين التي ينفسخ عقد المجتمع لو انفسخت، والحقوق المالية الواجبة التي أقام الدين بها صلب المجتمع الديني، فمن كنز ذهباً أو فضة والحاجة قائمة والضرورة عاكفة فقد كنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله فليبشر بعذاب أليم فإنه آثر نفسه على ربه وقدّم حاجة نفسه أو ولده الاحتمالية على حاجة المجتمع الديني القطعية.
ويستفاد هذا مما في الآية التالية من قوله: { هذا ما كنزتم لأنفسكم } فإنه يدل على أن توجه العتاب عليهم لكونهم خصّوه بأنفسهم وآثروها فيما خافوا حاجتها إليه على سبيل الله الذي به حياة المجتمع الإِنساني في الدنيا والآخرة، وقد خانوا الله ورسوله في ذلك من جهة أُخرى وهي الستر والتغييب إذ لو كان ظاهراً جارياً على الأيدي كان من الممكن أن يأمره ولي الأمر بإنفاقه في حاجة دينية قائمة لكن إذا كنز كنزاً وأخفى عن الأنظار لم يلتفت إليه، وبقيت الحاجة الضرورية قائمة في جانب والمال المكنوز الذي هو الوسيلة الوحيدة لرفع الحاجة في جانب مع عدم حاجة من كنزه إليه.
فالآية إنما تنهى عن الكنز لهذه الخصيصة التي هي إيثار الكانز نفسه بالمال من غير حاجة إليه على سبيل الله مع قيام الحاجة إليه، وناهيك أن الإِسلام لا يحد أصل الملك من جهة الكمية بحد فلو كان لهذا الكانز أضعاف ما كنزه من الذهب والفضة ولم يدخرها كنزاً بل وضعها في معرض الجريان يستفيد به لنفسه الوفاً والوفاً، ويفيد غيره ببيع أو شراء أو عمل وغير ذلك لم يتوجه إليه نهي ديني لأنه حيث نصبها على أعين الناس وأجراها في مجرى النماء الصالح النافع لم يخفها ولم يمنعها من أن يصرف في سبيل الله فهو وإن لم ينفقها في سبيل الله إلا أنه بحيث لو أراد ولي أمر المسلمين لأمره بالانفاق فيما يرى لزوم الانفاق فيه فليس هو إذا لم ينفق وهو بمرأى ومسمع من ولي الأمر بخائن ظلوم.
فالآية ناظرة إلى الكنز الذي يصاحبه الامتناع عن الإِنفاق في الحقوق المالية الواجبة لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط بل بمعنى يعمها وغيرها من كل ما يقوم عليه ضرورة المجتمع الديني من الجهاد وحفظ النفوس من الهلكة ونحو ذلك.
وأما الإِنفاق المستحب كالتوسعة على العيال، واعطاء المال وبذله على الفقراء في الزائد على ضرورة حياتهم فهو وإن أمكن أن يطلق عليه فيما عندنا الإِنفاق في سبيل الله إلا أن نفس أدلّته المبينة لاستحبابه تكشف عن أنه ليس من هذا الإِنفاق في سبيل الله المذكور في هذه الآية فكنز المال وعدم إنفاقه انفاقاً مندوباً مع عدم سبيل ضروري ينفق فيه ليس من الكنز المنهي عنه في هذه الآية فهذا ما تدل عليه الآية الكريمة، وقد طال فيها - لما يتعلق بها من بعض الأبحاث الكلامية - المشاجرة بين المفسرين، وسنورد فيه كلاماً بعد الفراغ عن البحث الروائي المتعلق بالآيات إن شاء الله تعالى.
وقوله في ذيل الآية: { فبشرهم بعذاب أليم } إيعاد بالعذاب يدل على تحريمه الشديد.
قوله تعالى: { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } إلى آخر الآية. إحماء الشيء جعله حاراً في الإِحساس، والإِحماء عليه الإِيقاد ليتسخن والإِحماء فوق التسخين، والكيّ إلصاق الشيء الحار بالبدن.
والمعنى: أن ذلك العذاب المبشّر به في يوم يوقد على تلك الكنوز في نار جهنم فتكون محماة بالنار فتلصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم، ويُقال لهم عند ذلك: { هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون }: فقد عاد عذاباً عليكم تعذّبون به.
ولعل تخصيص الجباه والجنوب والظهور لأنهم خضعوا لها وهو السجدة التي تكون بالجباه ولاذوا إليها واللواذ بالجنوب، واتكؤوا عليها والاتكاء بالظهور، وقيل غير ذلك والله أعلم.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث الأسياف الذي ذكره عن أبيه قال: وأما السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي العرب، قال الله عزّ وجلّ: { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }.
قال: والسيف الثاني على أهل الذمة قال الله عزّ وجلّ: { وقولوا للناس حسناً } نزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عزّ وجلّ: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فمن كان منهم في دار الإِسلام فلن يقبل منه إلا الجزية أو القتل وما لهم فئ وذراريهم سبي، وإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم، وحرمت أموالهم، وحلت لنا مناكحتهم.
ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم ولم يحل مناكحتهم، ولم يقبل إلا الدخول في دار الإِسلام أو الجزية أو القتل.
وفيه بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله.
وفيه بإسناده عن أبي يحيى الوسطي عن بعض أصحابنا قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المجوس أكان لهم شيء؟ فقال: نعم أما بلغك كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلى أهل مكة: أن اسلموا وإلا نابذتكم بحرب فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن خذ منا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب"
]. فكتبوا إليه - يريدون بذلك تكذيبه -: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه وكتاب احرقوه. أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور.
أقول: وفي هذه المعاني روايات أُخرى مودعة في جوامع الحديث واستيفاء الكلام في مسائل الجزية والخراج وغيرهما في الفقه.
وفي الدر المنثور أخرج ابن عساكر عن أبي أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"القتال قتالان: قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله فإذا فاءت أُعطيت العدل"
]. وفيه اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } الآية قال: نزلت هذه حين أُمر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بغزوة تبوك.
أقول: وقد تقدمت الروايات في ذيل آية المباهلة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر الجزية على نصارى نجران، وكان ذلك على ما دل عليه أمثل الروايات سنة ست من الهجرة قبل غزوة تبوك بسنين، وكذا دعوته صلى الله عليه وآله وسلم ملوك الروم ومصر والعجم وهم من أهل الكتاب كانت سنة ست.
وفيه اخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس أهل هجر ومن يهود اليمن ونصاراهم من كل حالم دينار.
وفيه أخرج مالك والشافعي وأبو عبيد في كتاب الأموال وابن أبي شيبة عن جعفر عن أبيه أن عمر بن الخطاب استشار الناس في المجوس في الجزية فقال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"سنوا بهم سنّة أهل الكتاب"
]. وفيه اخرج عبد الرزاق في المصنّف عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن أخذ الجزية من المجوس فقال: والله ما على الأرض اليوم أحد أعلم بذلك مني إن المجوس كانوا أهل كتاب يعرفونه، وعلم يدرسونه فشرب أميرهم الخمر فسكر فوقع على اخته فرآه نفر من المسلمين فلما أصبح قالت أخته: إنك قد صنعت بها كذا وكذا، وقد رآك نفر لا يسترون عليك فدعا أهل الطمع ثم قال لهم قد علمتم ان آدم عليه السلام قد أنكح بنيه بناته.
فجاء أُولئك الذين رأوه فقالوا: ويل للأبعد إن في ظهرك حد الله فقتلهم أُولئك الذين كانوا عنده ثم جاءت امرأة فقالت له: بلى قد رأيتك فقال لها: ويحاً لبغي بني فلان قالت: أجل والله قد كانت بغية ثم تابت فقتلها، ثم أسرى على ما في قلوبهم وعلى كتبهم فلم يصبح عندهم شيء.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: { وقالت اليهود عزير ابن الله } الآية عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"اشتد غضب الله على اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، واشتد غضب الله على النصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، واشتد غضب الله على من أراق دمي وآذاني في عترتي"
]. وفي الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم أُحد شجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ رافعاً يديه يقول: إن الله عزّ وجلّ اشتدَّ غضبه على اليهود أن قالوا: عزير ابن الله، واشتدَّ غضبه على النصارى أن قالوا المسيح ابن الله وإن الله اشتدَّ غضبه على من أراق دمي وآذاني في عترتي.
أقول: وقد روي في الدر المنثور وغيره عن ابن عباس وكعب الأحبار والسدي وغيرهم روايات في قصة عزير هي أشبه بالإِسرائيليات، والظاهر أن الجميع تنتهي إلى كعب.
وفي الاحتجاج للطبرسي عن علي عليه السلام قال: { قاتلهم الله أنى يؤفكون } أي لعنهم الله أنى يؤفكون فسمّى اللعنة قتالاً، وكذلك: { قُتل الإِنسان ما أكفره } أي لُعن الإِنسان.
أقول: وروي ذلك من طرق أهل السنة عن ابن عباس وهو على أي حال تفسير يلازم المعنى لا بالمراد اللفظي.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } فقال: أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلُّوا لهم حراماً وحرَّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون.
أقول: وروى هذا المعنى البرقي في المحاسن ورواه العياشي في تفسيره عن أبي بصير وعن جابر جميعاً عن أبي عبد الله عليه السلام وعن حذيفة، ورواه في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الطرق عن حذيفة.
وفي تفسير القمي قال: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } قال: أما المسيح فبعض عظَّموه في أنفسهم حتى زعموا أنه إله وأنه ابن الله، وطائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة، وطائفة منهم قالوا: هو الله.
وأما قوله: { أحبارهم ورهبانهم } فإنهم أطاعوا وأخذوا بقولهم، واتبعوا ما أمروهم به، ودانوا بما دعوهم إليه فاتخذوهم أرباباً بطاعتهم لهم وتركهم أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتبعوهم وأطاعوهم وعصوا الله. الحديث.
وفي تفسير البرهان عن المجمع قال: وروى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: يا عدي اطرح هذا الربق.
وفي تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام في قوله عزّ وجلّ: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } الآية والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله ولا مشرك بالإِمام إلا كره خروجه حتى لو كان الكافر في بطن صخرة قالت: يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني واقتله.
أقول: وروى ما في معناه العياشي عن أبي المقدام عن أبي جعفر عليه السلام وعن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام، وكذا الطبرسي مثله عن أبي جعفر عليه السلام، وفي تفسير القمي أنها نزلت في القائم من آل محمد عليه السلام، ومعنى نزولها فيه كونه تأويلها كما يدلّ عليه روايه الصدوق.
وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن جابر في قوله: { ليظهره على الدين كله } قال: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي ولا نصراني صاحب ملَّة إلا الإِسلام حتى تأمن الشاة الذئب، والبقرة الأسد، والإِنسان الحيَّة، وحتى لا تقرض فأرة جراباً، وحتى يوضع الجزية ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، وذلك إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام.
أقول: والمراد بوضع الجزية أن تصير متروكة لا حاجة إليها لعدم الموضوع بقرينة صدر الحديث، وما دلّت عليه هذه الروايات من عدم بقاء كفر ولا شرك يومئذ يؤيدها روايات أُخرى، وهناك روايات أُخرى تدل على وضع المهدي عليه السلام الجزية على أهل الكتاب بعد ظهوره.
وربما أيَّده قوله تعالى في أهل الكتاب:
{ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } [المائدة: 64]، { فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } [المائدة: 14]، وما في معناه من الآيات فإنها لا تخلو من ظهور ما في بقائهم إلى يوم القيامة إن لم تكن كناية عن ارتفاع المودة بينهم ارتفاعاً ابدياً، وقد تقدم في ذيل الآيات بعض الكلام في هذا المعنى.
وفي الدر المنثور أيضاً أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أن عثمان بن عفان لما أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة: { والذين يكنزون الذهب والفضة } قال أُبيّ: لتلحقنّها أو لأضعنَّ سيفي على عاتقي فألحقوها.
وفي أمالي الشيخ قال: أخبرنا جماعة عن أبي المفضّل وساق إسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } كل ما يؤدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع ارضين، وكل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.
أقول: وروى ما في معناه في الدر المنثورعن ابن عديّ والخطيب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا بطرق أُخرى عن ابن عباس وغيره.
وفيه أيضاً بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه أبي جعفر عليه السلام أنه سئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس. فقال أبو جعفر عليه السلام: هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه، وبها يستقيم شؤونهم ومطالبهم فمن أكثر له منها فقام بحق الله تعالى فيها أدى زكاتها فذاك الذي طلبه، وخلص له، ومن أكثر له منها فبخل بها ولم يؤد حق الله فيها واتخذ منها الأبنية فذاك الذي حق عليه وَعِيد الله عزّ وجلّ في كتابه يقول الله تعالى: { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون }.
أقول: والرواية تؤيد ما استفدناه سابقاً من الآية.
وفي تفسير القمي قال: كان أبو ذر الغفاري يغدو كل يوم وهو في الشام فينادي بأعلى صوته: بشِّر أهل الكنوز بكيّ في الجباه، وكيّ في الجنوب، وكيّ في الظهور حتى يتردد الحرّ في أجوافهم.
أقول: وقد استفاد الطبرسي في المجمع من الرواية الوجه في تخصيص الجباه والجنوب والظهور من بين أعضاء الإِنسان بالذكر في الآية، وأن الغرض من تعذيبهم بهذا الوجه إيراد حرّ النار في أجوافهم وهي داخل الرؤوس فتكوى جباههم وداخل الصدور والبطون فتكوى جنوبهم وظهورهم.
ويمكن تتميم ما ذكره بأنهم يكبّون على وجوههم ورؤوسهم منكوسة على ما يشعر به الأخبار وبعض الآيات ثم تكوى أعضاؤهم من فوق فينتج ذلك كيّ الجباه والجنوب والظهور.
وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق في المصنّف عن أبي ذرّ قال: بشّر أصحاب الكنوز بكيّ في الجباه وفي الجنوب وفي الظهور.
وفيه أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والبخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذرّ بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم } فقال معاوية: ما هذه فينا هذه في أهل الكتاب. قلت أنا: إنها لفينا وفيهم.
وفيه أخرج مسلم وابن مردويه عن الأحنف بن قيس قال: جاء أبو ذر فقال: بشّر الكانزين بكيّ من قبل ظهورهم يخرج من جنوبهم، وكيّ من جباههم يخرج من أقفائهم، فقلت: ماذا؟ قال: ما قلت إلا ما سمعت من نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وفيه أخرج أحمد في الزهد عن أبي بكر المنكدر قال: بعث حبيب بن سلمة إلى أبي ذرّ وهو أمير الشام بثلاثمائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك؛ فقال أبو ذرّ: ارجع بها إليه أما وجد أحداً أغرّ بالله منا ما لنا إلا الظل نتوارى به، وثلاثة من غنم تروح علينا، ومولاه لنا تصدّق علينا بخدمتها ثم أني لأنا أتخوف الفضل.
وفيه أخرج البخاري ومسلم عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملإِ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشّر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتدلدل.
ثم ولّى وجلس إلى سارية فتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو؟ فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا ما قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئاً قال لي خليلي. قلت: من خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم، أتبصر أُحداً؟ قلت: نعم. قال: ما أُحب أن يكون لي مثل أُحد ذهباً أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون للدنيا والله لا أسألهم دنياً، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عزّ وجلّ.
وفي تاريخ الطبري عن شعيب عن سيف عن محمد بن عوف عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا ذرّ دخل على عثمان وعنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإِخوان ويصل القرابات.
فقال: كعب من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فرفع أبو ذرّ محجنه فضربه فشجه فاستوهبه عثمان فوهبه له، وقال: يا أبا ذرّ اتق الله واكفف يدك ولسانك، وقد كان قال له: يابن اليهودية ما أنت وما ها هنا؟.
أقول: وقصص أبي ذرّ واختلافه مع عثمان ومعاوية معروفة مضبوطة في كتب التاريخ والتدبر فيما مر من أحاديثه وما قاله لمعاوية إن الآية لا تختص بأهل الكتاب وما خاطب به عثمان وواجه به كعباً يدل على أنه إنما فهم من الآية ما قدمناه أنها توعد على الكف عن الانفاق في السبيل الواجب.
ويؤيده تحليل الحال الحاضر يومئذ فقد كان الناس يومئذ انقسموا قسمين وتبعضوا شطرين عامة لا يقدرون على قوت اليوم، ولا يجدون ما يستر عوراتهم وما لهم إلى أوجب حوائجهم سبيل، وخاصة أسكرتهم الدنيا بجماع ما فيها من مال ومنال يكنزون مئات الأُلوف وأُلوف الأُلوف من عطايا الخلافة وغنائم الحروب ومال الخراج. ويكفيك في التبصر فيه أن تراجع ما ضبطته التواريخ من أموال الصحابة من نقد ورقيق وضيعة وشامخات القصور وناجمات الدور، وما احدثه معاوية وسائر بني أُمية بالشام وغيره من أزياء قيصرانية وكسروانية.
والإِسلام لا يرتضي شيئاً من ذلك ولا ينفذ هذا الاختلاف الفاحش دون أن تتقارب الطبقات بالإِنفاق، وتصلح عامة الأوضاع بانعطاف الأغنياء على الفقراء، والأقوياء على الضعفاء.
وربما قيل: إن أبا ذرّ كان يرى باجتهاد منه أن الزائد على القدر الواجب من المال الذي ينفق لسد الجوع وستر العورة كنز يجب إنفاقه في سبيل الله أو أنه كان يدعو إلى الزهد في الدنيا.
لكن الذي يوجد من بعض كلامه في الروايات يكذبه فإنه لا يستند في شيء مما قاله إلى اجتهاده ورأي نفسه بل بقوله: ما قلت لهم إلا ما سمعت من نبيهم، وقال خليلي كذا وكذا، وقد صحت الرواية واستفاضت من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
"ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذرّ"
]. وبذلك يظهر فساد ما ذكره شداد بن أوس فيما روى عنه أحمد والطبراني قال: "كان أبو ذر يسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى باديته ثم يرخّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم الرخصة فلا يسمعها أبو ذرّ فيأخذ أبو ذر بالأمر الأول الذي سمع قبل ذلك".
وذلك أن الذي ذكر من أبي ذرّ إنما هو قوله: إن آية الكنز لا تختص بأهل الكتاب بل يعمّهم والمسلمين، وليس هذا مصداقاً لما ذكره في الرواية من العزيمة والرخصة، وكذا قوله: إن تأدية الزكاة فحسب لا يكفي في جواز الكنز وعدم إنفاقه في الواجب من سبيل الله، وكيف يتصور في حقه أن لا يكون يسمع أن الإِنفاق منه مستحب كما أن منه واجباً وأن لا يعلم أن أدلة الإِنفاق المندوب أحسن مبيِّن لآية الكنز.
وأوهن من ذلك ما تعلق به الطبري في تاريخه فقد روى عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال: لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذرّ فقال: يا أبا ذرّ ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله ألا إن كل شيء لله؟ كأنه يريد أن يحتجبه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين.
فأتاه أبو ذرّ فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذرّ ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟ قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول: إنه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين.
قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له: من أنت؟ أظنك والله يهودياً؟ فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به فأتى به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر.
وقام أبو ذرّ بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء وأسوأ الفقراء بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكان من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. الحديث.
ومحصله أن أبا ذرّ إنما بادر إلى ما بادر وألحّ عليه بتسويل من ابن السوداء وهذان اللذان روى عنهما الحديث وعنهما يروي جل قصص عثمان اعني شعيباً وسيفاً هما من الكذابين الوضاعين المشهورين ذكرهما علماء الرجال وقدحوا فيهما.
والذي اختلقاه من حديث ابن السوداء وهو الذي سموه عبد الله بن سبأ، وإليهما ينتهي حديثه، من الأحاديث الموضوعة، وقد قطع المحققون من أصحاب البحث أخيراً أن ابن السوداء هذا من الموضوعات الخرافية التي لا أصل لها.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من ذي كنز لا يؤدي حقه إلا جيء به يوم القيامة تكوى به جبينه وجبهته، وقيل له: هذا كنزك الذي بخلت به"
]. وفيه أخرج الطبراني في الأوسط وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم القدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يمنع أغنياؤهم. ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً أو يعذبهم عذاباً أليماً"
]. وفيه أخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي عن أبي سعيد الخدري عن بلال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بلال الق الله فقيراً، ولا تلقه غنياً. قلت: وكيف لي بذلك؟ قال: إذا رزقت فلا تخبأ، وإذا سئلت فلا تمنع، قلت: وكيف لي بذلك؟ قال: هو ذاك وإلا فالنار"
]. (كلام في معنى الكنز)
لا ريب أن المجتمع الذي أوجده الإِنسان بحسب طبعه الأولي إنما يقوم بمبادلة المال والعمل، ولولا ذلك لم يعش المجتمع الإِنساني ولا طرفة عين فإنما يتزود الإِنسان من مجتمعه بأن يحرز أموراً من أوليات المادة الأرضية ويعمل عليها ما يسعه من العمل ثم يقتني من ذلك لنفسه ما يحتاج إليه، ويعوض ما يزيد على حاجته من سائر ما يحتاج إليه مما عند غيره من أفراد المجتمع كالخباز يأخذ لنفسه من الخبز ما يقتات به ويعوّض الزائد عليه من الثوب الذي نسجه النسّاج وهكذا فإنما أعمال المجتمعين في ظرف اجتماعهم بيع وشرى ومبادلة ومعاوضة.
والذي يتحصل من الأبحاث الاقتصادية أن الإِنسان الأولي كان يعوض في معاملاته العين بالعين من غير أن يكونوا متنبهين لأزيد من ذلك غير أن النسب بين الأعيان كانت تختلف عندهم باشتداد الحاجة وعدمه، وبوفور الأعيان المحتاج إليها وإعوازها فكلما كانت العين أمسّ بحاجة الإِنسان أو قل وجودها توفَّرت الرغبات إلى تحصيلها، وارتفعت نسبتها إلى غيرها، وكلما بعدت عن مسيس الحاجة أو ابتذلت بالكثرة ه والوفور انصرفت النفوس عنها وانخفضت نسبتها إلى غيرها، وهذا هو أصل القيمة.
ثم إنهم عمدوا إلى بعض الأعيان العزيزة الوجود عندهم فجعلوها أصلاً في القيمة تقاس إليه سائر الأعيان المالية بمالها من مختلف النسب كالحنطة والبيضة والملح فصارت مداراً تدور عليها المبادلات السوقية، وهذه السليقة دائرة بينهم في بعض المجتمعات الصغيرة في القرى وبين القبائل البدوية حتى اليوم.
ولم يزالوا على ذلك حتى ظفروا ببعض الفلزات كالذهب والفضة والنحاس ونحوها فجعلوها أصلاً إليه يعود نسب سائر الأعيان من جهه قيمها، ومقياساً واحداً يقاس إليها غيرها فهي النقود القائمة بنفسها وغيرها يقوم بها.
ثم آل الأمر إلى أن يحوز الذهب المقام الأول والفضة تتلوه، ويتلوها غيرهما، وسكت الجميع بالسكك الملوكية أو الدولية فصارت ديناراً ودرهماً وفلساً وغير ذلك بما يطول شرحه على خروجه من غرض البحث.
فلم يلبث النقدان حتى عادا أصلاً في القيمة بهما يقوّم كل شيء، وإليهما يقاس ما عند الإِنسان من مال أو عمل، وفيهما يرتكز ارتفاع كل حاجة حيوية، وهما ملاك الثروة والوجد كالمتعلق بهما روح المجتمع في حياته يختل أمره باختلال أمرهما، إذا جريا في سوق المعاملات جرت المعاملات بجريانهما، وإذا وقفا وقفت.
وقد أوضحت ما عليهما من الوظيفة المحولة إليهما في المجتمعات الإِنسانية من حفظ قيم الأمتعة والأعمال، وتشخيص نسب بعضها إلى بعض، الأوراق الرسمية الدائرة اليوم فيما بين الناس كالبوند والدولار وغيرهما والصكوك المصرفية المنتشرة فإنها تمثل قيم الأشياء من غير أن تتضمن عينية لها قيمة في نفسها فهي قيم خالصة مجردة تقريباً.
فالتأمل في مكانة الذهب والفضة الإِجتماعية بما هما نقدان حافظان للقيم ومقياسان يقاس إليهما الأمتعة والأموال بمالها من النسب الدائرة بينها تنور أنهما ممثلان لنسب الأشياء بعضها إلى بعض، وإذ كانت بحسب الاعتبار ممثلات للنسب - وإن شئت فقل: نفس النسب - تبطل النسب ببطلان اعتبارها، وتحبس بحبسها ومنع جريانها، وتقف بوقوفها.
وقد شاهدنا في الحربين العالميين الأخيرين ماذا أوجده بطلان اعتبار نقود بعض الدول؟ كالمنات في الدولة التزارية والمارك في الجرمن من البلوى وسقوط الثروة واختلال أمر الناس في حياتهم، والحال في كنزهما ومنع جريانهما بين الناس هذا الحال.
وإلى ذلك يشير قول أبي جعفر عليه السلام في رواية الأمالي المتقدمة: "جعلها الله مصلحة لخلقه وبها يستقيم شئونهم ومطالبهم".
ومن هنا يظهر أن كنزها إبطال لقيم الأشياء وإماتة لما في وسع المكنوز منهما من إحياء المعاملات الدائرة وقيام السوق في المجتمع على ساقه، وببطلان المعاملات وتعطل الأسواق تبطل حياة المجتمع، وبنسبة ما لها من الركود والوقوف تقف وتضعف.
لست أُريد خزنهما في مخازن تختص بهما فإن حفظ نفائس الأموال وكرائم الأمتعة من الضيعة من الواجبات التي تهدي إليه الغريزة الإِنسانية ويستحسنه العقل السليم فكلما جرت وجوه النقد في سبيل المعاملات كيفما كان فهو وإذا رجعت فمن الواجب أن تختزن وتحفظ من الضيعة وما يهددها من أيادي الغصب والسرقة والغيلة والخيانة.
وإنما أعني به كنزهما وجعلهما في معزل عن الجريان في المعاملات السوقية والدوران لإِصلاح أي شأن من شؤون الحياة ورفع الحوائج العاكفة على المجتمع كإشباع جائع وإرواء عطشان وكسوة عريان وربح كاسب وانتفاع عامل ونماء مال وعلاج مريض وفك أسير وإنجاء غريم والكشف عن مكروب والتفريج عن مهموم وإجابة مضطر والدفع عن بيضة المجتمع الصالح وإصلاح ما فسد من الجو الإِجتماعي.
وهي موارد لا تحصى واجبة أو مندوبة أو مباحة لا يتعدى فيها حد الاعتدال إلى جانبي الإِفراط والتفريط والبخل والتبذير، والمندوب من الإِنفاق وإن لم يكن في تركه مأثم ولا إجرام شرعاً ولا عقلاً غير أن التسبب إلى إبطال المندوبات من رأس والاحتيال لرفع موضوعها من أشد الجرم والمعصية.
اعتبر ذلك فيما بين يديك من الحياة اليومية بما يتعلق به من شؤون المسكن والمنكح والمأكل والمشرب والملبس تجد أن ترك النفل المستحب من شؤون الحياة والمعاش والاقتصار دقيقاً على الضروري - منها الذي هو بمنزلة الواجب الشرعي - يوجب اختلال أمر الحياة اختلالاً لا يجبره جابر ولا يسد طريق الفساد فيه سادّ.
وبهذا البيان يظهر أن قوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } ليس من البعيد أن يكون مطلقاً يشمل الإِنفاق المندوب بالعناية التي مرّت فإن في كنز الأموال رفعاً لموضوع الإِنفاق المندوب كالإِنفاق الواجب لا مجرّد عدم الإِنفاق مع صلاحية الموضوع لذلك.
وبذلك يتبين أيضاً معنى ما خاطب به أبو ذرّ عثمان بن عفان لما دخل عليه على ما تقدّم في رواية الطبري حيث قال له: "لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والاخوان ويصل القرابات".
فإن لفظه كالصريح أو هو صريح في أنه لا يرى كل إنفاق فيما يفضل من المؤنة بعد الزكاة واجباً، وأنه يقسِّم الإِنفاق في سبيل الله إلى ما يجب وما ينبغي غير أنه يعترض بانقطاع سبيل الإِنفاق من غير جهة الزكاة وانسداد باب الخيرات بالكلية وفي ذلك إبطال غرض التشريع وإفساد المصلحة العامة المشرّعة.
يقول: ليست هي حكومة استبدادية قيصرانية أو كسروانية، لا وظيفة لها إلا بسط الأمن وكف الأذى بالمنع عن إيذاء بعض الناس بعضاً ثم الناس أحرار فيما فعلوا غير ممنوعين عن ما اشتهوا من عمل أفرطوا أو فرّطوا، اصلحوا أو أفسدوا، واهتدوا أو ضلوا وتاهوا، والمتقلد لحكومتهم حرّ فيما عمل ولا يسأل عمّا يفعل.
وإنما هي حكومة اجتماعية دينية لا ترضى عن الناس بمجرد كف الأذى بل تسوق الناس في جميع شؤون معيشتهم إلى ما يصلح لهم ويهيئ لكل من طبقات المجتمع من أميرهم ومأمورهم ورئيسهم ومرؤوسهم ومخدومهم وخادمهم وغنيِّهم وفقيرهم وقويهم وضعيفهم ما يسع له من سعادة حياتهم فترفع حاجة الغني بإمداد الفقير وحاجة الفقير بمال الغني وتحفظ مكانة القوي باحترام الضعيف وحياة الضعيف برأفة القوي ومراقبته، ومصدرية العالي بطاعة الداني وطاعة الداني بنصفة العالي وعدله، ولا يتم هذا كله إلا بنشر المبرّات وفتح باب الخيرات، والعمل بالواجبات على ما يليق بها والمندوبات على ما يليق بها وأما القصر على القدر الواجب، وترك الإِنفاق المندوب من رأس فإن فيه هدماً لأساس الحياة الدينية، وإبطالاً لغرض الشارع، وسيراً حثيثاً إلى نظام مختل وهرج ومرج وفساد عريق لا يصلحه شيء كل ذلك عن المسامحة في إحياء غرض الدين، والمداهنة مع الظالمين إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وكذلك قول أبي ذرّ لمعاوية فيما تقدم من رواية الطبري: "ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذرّ ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره قال: فلا تقله".
فإن الكلمة التي كان يقولها معاوية وعمّاله ومن بعده من خلفاء بني أُمية وإن كانت كلمة حق وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليها كتاب الله لكنهم كانوا يستنتجون منه خلاف ما يريده الله سبحانه فإن المراد به أن المال لا يختص به أحد بعزة أو قوة أو سيطرة وإنما هو لله ينفق في سبيله على حسب ما عيَّنه من موارد إنفاقه فإن كان مما اقتناه الفرد بكسب أو إرث أو نحوهما فله حكمه، وإن كان مما حصَّلته الحكومة الإِسلامية من غنيمة أو جزيه أو خراج أو صدقات أو نحو ذلك فله أيضاً موارد إنفاق معيَّنة في الدين، وليس في شيء من ذلك لوالي الأمر أن يخص نفسه أو واحداً من أهل بيته بشيء يزيد على لازم مؤونته فضلاً أن يكنز الكنوز ويرفع به القصور ويتخذ الحجاب ويعيش عيشة قيصر وكسرى.
وأما هؤلاء فإنما كانوا يقولونه دفعاً لاعتراض الناس عليهم في صرف مال المسلمين في سبيل شهواتهم وبذله فيما لا يرضى الله، ومنعه أهليه ومستحقيه أن المال للمسلمين تصرفونه في غير سبيلهم! فيقولون: إن المال مال الله ونحن امناؤه نعمل فيه بما نراه فيستبيحون بذلك اللعب بمال الله كيف شاؤوا ويستنتجون به صحة عملهم فيه بما أرادوا وهو لا ينتج إلا خلافه، ومال الله ومال المسلمين بمعنى واحد، وقد أخذوهما لمعنيين اثنيين يدفع أحدهما الآخر.
ولو كان مراد معاوية بقوله: { المال مال الله } هو الصحيح من معناه لم يكن معنى لخروج أبي ذر من عنده وندائه في الملأ من الناس: بشر الكانزين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيّ في الظهور.
على أن معاوية قد قال لأبي ذر إنه يرى أن آية الكنز خاصة بأهل الكتاب وربما كان من أسباب سوء ظنه بهم إصرارهم عند كتابة مصحف عثمان أن يحذفوا الواو من قوله: { والذين يكنزون الذهب } الخ حتى هددهم أبي بالقتال إن لم يلحقوا الواو فألحقوها وقد مرت الرواية.
فالقصة في حديث الطبري عن سيف عن شعيب وإن سيقت بحيث تقضي على أبي ذرّ بأنه كان مخطئاً في ما اجتهد به كما اعترف به الطبري في أول كلامه غير أن أطراف القصة تقضي بإصابته.
وبالجملة فالآية تدل على حرمة كنز الذهب والفضة فيما كان هناك سبيل لله يجب إنفاقه فيه وضرورة داعية إليه لمستحقي الزكاة مع الامتناع من تأديتها، والدفاع الواجب مع عدم النفقة وانقطاع سبيل البر والإِحسان بين الناس.
ولا فرق في متعلق وجوب الإِنفاق بين المال الظاهر الجاري في الأسواق وبين الكنز المدفون في الأرض غير أن الكنز يختص بشيء زائد وهو خيانة ولي الأمر في ستر المال وغروره كما تقدم ذكره في البيان المتقدم.