خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١
فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ
٢
وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣
إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٤
فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
٦
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٧
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
٨
ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩
لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ
١٠
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلأيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
١١
وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ
١٢
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ
١٣
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ
١٤
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١٥
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٦
-التوبة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات مفتتح قبيل من الآيات سمّوها سورة التوبة أو سورة البراءة، وقد اختلفوا في كونها سورة مستقلة أو جزء من سورة الأنفال، واختلاف المفسرين في ذلك ينتهي إلى اختلاف الصحابة ثم التابعين فيه، وقد اختلف في ذلك الحديث عن أئمة أهل البيت (ع) غير أن الأرجح بحسب الصناعة ما يدل من حديثهم على أنها ملحقة بسورة الأنفال.
والبحث عن معاني آياتها وما اشتملت عليه من المضامين لا يهدي إلى غرض واحد متعين على حد سائر السور المشتملة على أغراض مشخصة تؤمّها أوائلها وتنعطف إليها أواخرها، فأولها آيات تؤذن بالبراءة وفيها آيات القتال مع المشركين، والقتال مع أهل الكتاب، وشطر عظيم منها يتكلم في أمر المنافقين، وآيات في الاستنهاض على القتال وما يتعرض لحال المخلفين، وآيات ولاية الكفار، وآيات الزكاة وغير ذلك، ومعظمها ما يرجع إلى قتال الكفار وما يرجع إلى المنافقين.
وعلى أي حال لا يترتب من جهة التفسير على هذا البحث فائدة مهمة وإن أمكن ذلك من جهة البحث الفقهي الخارج عن غرضنا.
قوله تعالى: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } قال الراغب: أصل البرء والبراء والتبرّي: التفصي مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: برأت من المرض وبرأت من فلان وتبرأت، وأبرأته من كذا وبرّأته، ورجل بريء وقوم براء وبريؤون قال تعالى: { براءة من الله ورسوله }. انتهى.
والآية بالنسبة إلى الآيات التالية كالعنوان المصدر به الكلام المشير إلى خلاصة القول على نهج سائر السور المفصلة التي تشير الآية والآيتان من أولها على إجمال الغرض المسرود لأجل بيانه آياتها.
والخطاب في الآية للمؤمنين أو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولهم على ما يدل عليه قوله: { عاهدتم } وقد أُخذ الله تعالى ومنه الخطاب ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الواسطة، والمشركون وهم الذين أُريدت البراءة منهم، ووجه الخطاب ليبلغ إليهم جميعاً في الغيبة، وهذه الطريقة في الأحكام والفرامين المراد إيصالها إلى الناس نوع تعظيم لصاحب الحكم والأمر.
والآية تتضمن إنشاء الحكم والقضاء بالبراءة من هؤلاء المشركين وليس بتشريع محض بدليل تشريكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البراءة فإن دأب القرآن أن ينسب الحكم التشريعي المحض إلى الله سبحانه وحده، وقد قال تعالى:
{ { ولا يشرك في حكمه أحداً } [الكهف: 26] ولا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الحكم بالمعنى الذي في الولاية والسياسة وقطع الخصومة.
فالمراد بالآية القضاء برفع الأمان عن الذين عاهدوهم من المشركين وليس رفعاً جزافياً وإبطالاً للعهد من غير سبب يبيح ذلك فإن الله تعالى سيذكر بعد عدة آيات أنهم لا وثوق بعهدهم الذي عاهدوه وقد فسق أكثرهم ولم يراعوا حرمة العهد ونقضوا ميثاقهم، وقد أباح تعالى عند ذلك إبطال العهد بالمقابلة نقضاً بنقض حيث قال:
{ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [الأنفال: 58] فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة ولم يرض مع ذلك إلا بإبلاغ النقض إليهم لئلا يؤخذوا على الغفلة فيكون ذلك من الخيانة المحظورة.
ولو كان إبطالاً لعهدهم من غير سبب مبيح لذلك من قبل المشركين لم يفرق بين من دام على عهده منهم وبين من لم يدم عليه، وقد قال تعالى مستثنياً: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إن الله يحب المتقين }.
ولم يرض تعالى بنقض عهد هؤلاء المعاهدين الناقضين لعهدهم دون أن ضرب لهم أجلاً ليفكروا في أمرهم ويرتاؤا رأيهم ولا يكونوا مأخوذين بالمباغتة والمفاجأة.
فمحصل الآية الحكم ببطلان العهد ورفع الأمان عن جماعة من المشركين كانوا قد عاهدوا المسلمين ثم نقضه أكثرهم ولم يبق إلى من بقي منهم وثوق تطمئن به النفس إلى عهدهم وتعتمد على يمينهم وتأمن شرهم وأنواع مكرهم.
قوله تعالى: { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين } السياحة هي السير في الأرض والجري ولذلك يُقال للماء الدائم الجرية في ساحة: السائح.
وأمرهم بالسياحة أربعة أشهر كناية عن جعلهم في مأمن في هذه البرهة من الزمان وتركهم بحيث لا يتعرض لهم بشرّ حتى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من البقاء أو الفناء مع ما في قوله: { واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين } من إعلامهم أن الأصلح بحالهم رفض الشرك، والإِقبال إلى دين التوحيد، وموعظتهم أن لا يهلكوا أنفسهم بالاستكبار والتعرض للخزي الإِلهي.
وقد وجه في الآية الخطاب إليهم بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب لما في توجيه الخطاب القاطع والإِرادة الجازمة إلى الخصم من الدلالة على بسط الاستيلاء والظهور عليه واستذلاله واستحقار ما عنده من قوة وشدة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في المراد بقوله: { أربعة أشهر } والذي يدل عليه السياق ويؤيده اعتبار إصدار الحكم وضرب الأجل ليكونوا في فسحة لاختيار ما وجدوه من الحياة أو الموت أنفع بحالهم: أن تبتدئ الأربعة الأشهر من يوم الحج الأكبر الذي يذكره الله تعالى في الآية التالية فإن يوم الحج الأكبر هو يوم الإِبلاغ والإِيذان والأنسب بضرب الأجل الذي فيه نوع من التوسعة للمحكوم عليهم وإتمام الحجة، أن تبتدئ من حين الإِعلام والإِيذان.
وقد اتفقت كلمة أهل النقل أن الآيات نزلت سنة تسع من الهجرة فإذا فرض أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذي الحجة كانت الأربعة الأشهر هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشرة أيام من ربيع الآخر.
وعند قوم إن الأربعة الأشهر تبتدئ من يوم العشرين من ذي القعدة وهو يوم الحج الأكبر عندهم فالأربعة الأشهر هي عشرة أيام من ذي القعدة وذو الحجة والمحرم وصفر وعشرون من ربيع الأول، وسيأتي ما فيه.
وذكر آخرون: أن الآيات نزلت أول شوّال سنة تسع من الهجرة فتكون الأربعة الأشهر هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فتنقضي بانقضاء الأشهر الحرم، وقد حداهم إلى ذلك القول بأن المراد بقوله تعالى فيما سيأتي: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا } الأشهر الحرم المعروفة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم فيوافي انسلاخ الأشهر الحرم إنقضاء الأربعة الأشهر، وهذا قول بعيد عن الصواب لا يساعد عليه السياق وقرينة المقام كما عرفت.
قوله تعالى: { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله } الأذان هو الإِعلام، وليست الآية تكراراً لقوله تعالى السابق { براءة من الله ورسوله } فإن الجملتين وإن رجعتا إلى معنى واحد وهو البراءة من المشركين إلا أن الآية الأولى إعلام البراءة وإبلاغه إلى المشركين بدليل قوله في ذيل الآية: { إلى الذين عاهدتم من المشركين } بخلاف الآية الثانية فإن وجه الخطاب فيه إلى الناس ليعلموا براءة الله ورسوله من المشركين، ويستعدوا ويتهيأوا لإِنفاذ أمر الله فيهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم بدليل قوله: { إلى الناس } وقوله تفريعاً: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } إلى آخر الآية.
وقد اختلفوا في تعيين المراد بيوم الحج الأكبر على أقوال:
منها: أنه يوم النحر من سنة التسع من الهجرة لأنه كان يوماً اجتمع فيه المسلمون والمشركون ولم يحج بعد ذلك العام مشرك، وهو المؤيد بالأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام والأنسب بأذان البراءة، والاعتبار يساعد عليه لأنه كان أكبر يوم اجتمع فيه المسلمون والمشركون من أهل الحج عامة بمنى وقد ورد من طرق أهل السنَّة روايات في هذا المعنى غير أن مدلول جلها أن الحج الأكبر اسم يوم النحر فيتكرر على هذا كل سنة ولم يثبت من طريق النقل تسمية على هذا النحو.
ومنها: أنه يوم عرفة لأن فيه الوقوف، والحج الأصغر هو الذي ليس فيه وقوف وهو العمرة، وهو استحسان لا دليل عليه، ولا سبيل إلى تشخيص صحته.
ومنها: أنه اليوم الثاني ليوم النحر لأن الإِمام يخطب فيه وسقم هذا الوجه ظاهر.
ومنها: أنه جميع أيام الحج كما يُقال: يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم بغاث، ويراد به الحين والزمان، وهذا القول لا يقابل سائر الأقوال كل المقابلة فإنه إنما يبين أن المراد باليوم جميع أيام الحج، وأما وجه تسمية هذا الحج بالحج الأكبر فيمكن أن يوجه ببعض ما في الأقوال السابقة كما في القول الأول.
وكيف كان فالاعتبار لا يساعد على هذا القول لأن وجود يوم بين أيام الحج يجتمع فيه عامة أهل الحج يتمكن فيه من أذان براءة كل التمكن كيوم النحر يصرف قوله: { يوم الحج الأكبر } إلى نفسه، ويمنع شموله لسائر أيام الحج التي لا يجتمع فيها الناس ذاك الاجتماع.
ثم التفت سبحانه إلى المشركين ثانياً وذكّرهم أنهم غير معجزين لله ليكونوا على بصيرة من أمرهم كما ذكّرهم بذلك في الآية السابقة بقوله: { واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين } غير أنه زاد عليه في هذه الآية قوله: { فإن تبتم فهو خير لكم } ليكون تصريحاً بما لوّح إليه في الآية السابقة فإن التذكير بأنهم غير معجزي الله إنما كان بمنزلة العظة وبذل النصح لهم لئلا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باختيار البقاء على الشرك والتولي عن الدخول في دين التوحيد ففي الترديد تهديد ونصيحة وعظة.
ثم التفت سبحانه إلى رسوله فخاطبه أن يبشر الذين كفروا بعذاب أليم فقال: { وبشِّر الذين كفروا بعذاب أليم } والوجه في الالتفات الذي في قوله: { فإن تبتم فهو خير لكم } الخ ما تقدم في قوله: { فسيحوا في الأرض } الخ، وفي الالتفات الذي في قوله: { وبشِّر الذين كفروا } الخ أنه رسالة لا تتم إلا من جهة مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً } الخ، استثناء من عموم البراءة من المشركين، والمستثنون هم المشركون الذين لهم عهد لم ينقضوه لا مستقيماً ولا غير مستقيم فمن الواجب الوفاء بميثاقهم وإتمام عهدهم إلى مدتهم.
وقد ظهر بذلك أن المراد من اضافة قوله: { ولم يظاهروا عليكم أحداً } إلى قوله: { لم ينقصوكم شيئاً } استيفاء قسمي النقض وهما النقض المستقيم كقتلهم بعض المسلمين، والنقض غير المستقيم نظير مظاهرتهم بعض اعداء المسلمين عليهم كإمداد مشركي مكة بني بكر على خزاعة بالسلاح، وكانت بنو بكر في عهد قريش وخزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحاربوا فأعانت قريش بني بكر على خزاعة ونقضت بذلك عهد حديبية الذي عقدوه بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك من أسباب فتح مكة سنة ثمان.
وقوله: { إن الله يحب المتقين } في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهد ما لم ينقضه المعاهد المشرك، وذلك يجعل احترام العهد وحفظ الميثاق أحد مصاديق التقوى المطلق الذي لا يزال يأمر به القرآن وقد صرح به في نظائر هذا المورد كقوله تعالى:
{ ولا يجرمنَّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } [المائدة: 8] وقوله: { ولا يجرمنَّكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإِثم العدوان واتقوا الله } [المائدة: 2]. وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالمتقين الذين يتقون نقض العهد من غير سبب، وذلك أن التقوى بمعنى الورع عن محارم الله عامة كالحقيقة الثانية في القرآن فيحتاج إرادة خلافه إلى قرينة صارفة.
قوله تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } أصل الانسلاخ من سلخ الشاة وهو نزع جلدها عنها، وانسلاخ الشهر نوع كناية عن خروجه، والحصر هو المنع من الخروج عن محيط، والمرصد اسم مكان من الرصد بمعنى الاستعداد للرقوب.
قال الراغب: الرصد الاستعداد للترقّب يُقال: رصد له وترصّد وأرصدته له، قال عزّ وجلّ: { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل }، وقوله عزّ وجلّ: { إن ربّك لبالمرصاد } تنبيهاً أنه لا ملجأ ولا مهرب، والرصد يُقال للراصد الواحد والجماعة الراصدين وللمرصود واحدا كان أو جمعاً، وقوله تعالى: { يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } يحتمل كل ذلك، والمرصد موضع الرصد. انتهى.
والمراد بالأشهر الحرم هي الأربعة الأشهر: أشهر السياحة التي ذكرها الله سبحانه في قوله: { فسيحوا في الأرض أربعه أشهر } وجعلها أجلاً مضروباً للمشركين لا يتعرّض فيها لحالهم وأما الأشهر الحرم المعروفة أعني ذا القعدة وذا الحجة والمحرم فإنها لا تنطبق على أذان براءة الواقع في يوم النحر عاشر ذي الحجة بوجه كما تقدمت الإِشارة إليه.
وعلى هذا فاللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري أي إذا انسلخ هذه الأشهر التي ذكرناها حرمناها للمشركين لا يتعرّض لحالهم فيها فاقتلوا المشركين الخ.
ويظهر بذلك أن لا وجه لحمل قوله: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } على انسلاخ ذي القعدة وذي الحجة والمحرم بأن يكون انسلاخ الأربعة الأشهر بانسلاخ الأشهر الثلاثة منطبقاً عليه أو يكون انسلاخ الأشهر الحرم مأخوذاً على نحو الإِشارة إلى انقضاء الأربعة الأشهر وإن لم ينطبق الأشهر فإن ذلك كله مما لا سبيل إليه بحسب السياق وإن كان لفظ الأشهر الحرم في نفسه ظاهراً في شهور رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم.
وقوله: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } محقق للبرائة منهم ورفع الاحترام عن نفوسهم باهدار الدماء فلا مانع من أي نازلة نزلت بهم، وفي قوله: { حيث وجدتموهم } تعميم للحكم فلا مانع حاجب عن وجوب قتلهم حيثما وجدوا في حل أو حرم بل ولو ظفر بهم في الشهر الحرام - بناء على تعميم { حيث } للزمان والمكان كليهما - فيجب على المسلمين كائنين من كانوا إذا ظفروا بهم أن يقتلوهم، كان ذلك في الحل أو الحرم في الشهر الحرام أو غيره.
وإنما أمر بقتلهم حيث وجدوا للتوسّل بذلك إلى إيرادهم مورد الفناء والانقراض، وتطييب الأرض منهم، وإنجاء الناس من مخالطتهم ومعاشرتهم بعد ما سمح وأُبيح لهم ذلك في قوله: { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر }.
ولازم ذلك أن يكون كل من قوله: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله: { وخذوهم } وقوله: { واحصروهم } وقوله: { واقعدوا لهم كل مرصد } بياناً لنوع من الوسيلة إلى إفناء جمعهم وانفاد عددهم، ليتفصّى المجتمع من شرهم.
فإن ظفر بهم وأمكن قتلهم قتلوا، وإن لم يمكن ذلك قبض عليهم وأُخذوا، وإن لم يمكن أخذهم حصروا وحبسوا في كهفهم ومنعوا من الخروج إلى الناس ومخالطتهم وإن لم يعلم محلهم قعد لهم في كل مرصد ليظفر بهم فيقتلوا أو يؤخذوا.
ولعل هذا المعنى هو مراد من قال: إن المراد: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أو خذوهم واحصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين، وإن كان لا يخلو عن تكلّف من جهة اعتبار الأخذ والحصر والقعود في كل مرصد أمراً واحداً في قبال القتل، وكيف كان فالسياق إنما يلائم ما قدمناه من المعنى.
وأما قول من قال: إن في قوله: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم }، تقديماً وتأخيراً، والتقدير: فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم فهو من التصرّف في معنى الآية من غير دليل مجوّز، والآية وخاصة ذيلها يدفع ذلك سياقاً.
ومعنى: الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم وانقضى الأربعة الأشهر التي امهلناهم بها بقولنا: { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } فأفنوا المشركين بأي وسيلة ممكنة رأيتموها أقرب وأوصل إلى إفناء جمعهم وامحاء رسمهم من قتلهم أينما وجدتموهم من حل أو حرم ومتى ما ظفرتم بهم في شهر حرام أو غيره، ومن أخذهم أو حصرهم أو القعود لهم في كل مرصد حتى يفنوا عن آخرهم.
قوله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } اشتراط في معنى الغاية للحكم السابق، والمراد بالتوبة معناها اللغوي وهو الرجوع أي إن رجعوا من الشرك إلى التوحيد بالإِيمان ونصبوا لذلك حجة من أعمالهم وهي الصلاة والزكاة والتزموا أحكام دينكم الراجعة إلى الخالق جميعاً فخلوا سبيلهم.
وتخلية السبيل كناية عن عدم التعرض لسالكيه وإن عادت مبتذلة بكثرة التداول كأن سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرُّض المتعرضين فإذا خلّي عنها كان ذلك ملازماً أو منطبقاً على عدم التعرض لهم.
وقوله: { إن الله غفور رحيم } تعليل لقوله: { فخلّوا سبيلهم } إما من جهة الأمر الذي يدل عليه بصورته أو من جهة المأمور به الذي يدل عليه بمادته اعني تخلية سبيلهم.
والمعنى على الأول: وإنما أمر الله بتخلية سبيلهم لأنه غفور رحيم يغفر لمن تاب إليه ويرحمه.
وعلى الثاني: خلّوا سبيلهم لأن تخليتكم سبيلهم من المغفرة والرحمة، وهما من صفات الله العليا فتتصفون بذلك بصفة ربكم، وأظهر الوجهين هو الأول.
قوله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } إلى آخر الآية، الآية تتضمن حكم الإِجارة لمن استجار من المشركين لأن يسمع كلام الله، وهي بما تشتمل عليه من الحكم وإن كانت معترضة أو كالمعترضة بين ما يدل على البراءة ورفع الأمان عن المشركين إلا أنها بمنزلة دفع الدخل الواجب الذي لا يجوز إهماله فإن أساس هذه الدعوة الحقة وما يصاحبها من الوعد والوعيد والتبشير والإِنذار، وما يترتب عليه من عقد العقود وإبرام العهود أو النقض والبراءة واحكام القتال كل ذلك إنما هو لصرف الناس عن سبيل الغي والضلال إلى صراط الرشد والهدى، وانجائهم من شقاء الشرك إلى سعادة التوحيد.
ولازم ذلك الإِعتناء التام بكل طريق يرجى فيه الوصول إلى هداية ضال والفوز بإحياء حق وإن كان يسيراً قليلاً فإن الحق حق وإن كان يسيراً، والمشرك غير المعاهد وإن أبرء الله منه الذمة وأهدر دمه ورفع الحرمة عن كل ما يعود إليه من مال وعرض لكنه تعالى إنما فعل به ذلك ليحيى حق ويبطل باطل فإذا رجي منه الخير منع ذلك من أي قصد سيئ يقصد به حتى يحصل اليأس من هدايته وانجائه.
فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقة ويتبعها إن اتضحت له كان من الواجب اجارته حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل وتتم عليه الحجة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله وأصر في استكباره صار ممن ارتفع عنه الأمان وبرأت منه الذمة ووجب تطييب الأرض من قذارة وجوده بأية وسيلة امكنت وأي طريق كان أقرب واسهل وهذا هو الذي يفيده قوله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } الآية بما يكتنف به من الآيات.
فمعنى الآية: إن طلب منك بعض هؤلاء المشركين الذين رفع عنهم الأمان أن تأمنه في جوارك ليحضر عندك ويكلمك فيما تدعو إليه من الحق الذي يتضمنه كلام الله فأجره حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل ثم أبلغه مأمنة حتى يملك منك امناً تاماً كاملاً، وإنما شرع الله هذا الحكم وبذل لهم هذا الأمن التام لأنهم قوم جاهلون ولا بأس على جاهل إذا رجي منه الخير بقبول الحق لو وضح له.
وهذا غاية ما يمكن مراعاته من أُصول الفضيلة وحفظ الكرامة ونشر الرحمة والرأفة وشرافة الإِنسانية اعتبره القرآن الكريم، وندب إليه الدين القويم.
وقد بان بما قدمناه أولاً: أن الآية مخصصة لعموم قوله في الآية السابقة: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }.
وثانياً: أن قوله: { حتى يسمع كلام الله } غاية للاستجارة والاجارة فيتغيا به الحكم، فالاستئمان إنما كان لسمع كلام الله واستفسار ما عند الرسول من مواد الرسالة فيتقدر الأمان الذي يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبين به الرشد من الغي ويتميّز به الهدى من الضلال انتهت مدة الاستجارة وحان أن يرد المستجير إلى مأمنه والمكان الخاص به الذي هو في أمن فيه، لا يهدده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الذي فارقه، ويختار لنفسه ما يشاء على حرية من المشيئة والإِرادة.
وثالثاً: أن المراد بكلام الله مطلق آيات القرآن الكريم، نعم يتقيد بما ينفع المستجير من الآيات التي توضح له أُصول المعارف الإِلهية ومعالم الدين والجواب عما يختلج في صدره من الشبهات كل ذلك بدلالة المقام والسياق.
وبذلك يظهر فساد ما قيل: إن المراد بكلام الله آيات التوحيد من القرآن، وكذا ما قيل: إن المراد به سورة براءة أو خصوص ما بلّغوه في الموسم من آيات صدر السورة فإن ذلك كله تخصيص من غير مخصص.
ورابعاً: أن المراد بسمع كلام الله الوقوف على أُصول الدين ومعالمه وإن أمكن أن يُقال: إن لاستماع نفس كلام الله فيما إذا كان المستجير عربياً يفهم الكلام الإِلهي دخلاً في ذلك أما إذا كان غير عربي ولا يفهم الكلام العربي فالمستفاد من السياق أن الغاية في حقه مجرد تفقّه أُصول الدين ومعالمه.
وخامساً: أن الآية محكمة غير منسوخة ولا قابلة له لأن من الضروري البيّن من مذاق الدين، وظواهر الكتاب والسنة أن لا مؤاخذة قبل تمام الحجة، ولا تشديد أيّ تشديد كان إلا بعد البيان فالجاهل السالك في سبيل الفحص أو المستعلم للحق المستفهم للحقيقة لا يرد خائباً ولا يؤخذ غافلاً فعلى الإِسلام والمسلمين أن يعطوا كل الامان لمن استأمنهم ليستحضر معارف الدين ويستعلم أُصول الدعوة حتى يتبعها إن لاحت له فيها لوائح الصدق، وهذا أصل لا يقبل بطلاناً ولا تغييراً ما دام الإِسلام إسلاماً فالآية محكمة غير قابلة للنسخ إلى يوم القيامة.
ومن هنا يظهر فساد قول من قال: أن قوله: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } الآية منسوخة بالآية الآتية: { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } الآية.
وسادساً: أن الآية إنما توجب أجارة المستجير إذا استجار لأمر ديني يرجى فيه خير الدين، واما مطلق الاستجارة لا لغرض ديني ولا نفع عائد إليه فلا دلالة لها عليه أصلاً بل الآيات السابقة الآمرة بالتشديد عليهم في محلها.
وسابعاً: أن قوله في تتميم الأمر بالإِجارة: { ثم أبلغه مأمنه } مع تمام قوله: { فأجره حتى يسمع } بدونه في الدلالة على المقصد يدل على كمال العناية بفتح باب الهداية على وجوه الناس، والتحفظ على حرية الناس في حياتهم وأعمالهم الحيوية، والإِغماض في طريقه عن كل حكم حتمي وعزيمة قاطعة ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيي من حيّ عن بيّنة، ولا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
وثامناً: أن الآية - كما قيل - تدل على أن الاعتقاد بأصل الدين أن يكون عن علم يقيني لا يداخله شك ولا يمازجه ريب ولا يكفي فيه غيره ولو كان الظن الراجح، وقد ذم الله تعالى اتباع الظن، وندب إلى اتباع العلم في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ ولا تقف ما ليس لك به علم } [الإسراء: 36] وقوله: { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } [النجم: 28] وقوله: { { ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } [الأنعام: 116]. ولو كفى في أصل الدين الاعتقاد التقليدي لم يستقم الحكم بإجارة من استجار لتفهم أصول الدين ومعارفه لجواز أن يكلف بالتقليد والكف عن البحث عن أنه حق أو باطل هذا.
ولكن المقدار الواجب في ذلك أن يكون عن علم قطعي سواء كان حاصلاً عن الاستدلال بطرق فنية أو بغير ذلك من الوجوه المفيدة للعلم ولو على سبيل الاتفاق، وهذا غير القول بأن الاستدلال على أُصول المعارف لا يصح إلا من طريق العقل فإن صحة الاستدلال أمر، وجواز الاعتماد على العلم بأي طريق حصل أمر آخر.
قوله تعالى: { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } الآية، تبيين وتوضيح لما مر إجمالاً من الحكم بنقض عهد المشركين ممن لا وثوق بوفائه بعهده، وقتلهم إلى أن يؤمنوا بالله ويخضعوا لدين التوحيد، واستثناء من لم ينقض العهد وبقي على الميثاق حتى ينقضي مدة عهدهم.
فالآية وما يتلوها إلى تمام ست آيات تبين ذلك وتوضح الحكم واستثناء ما استثني منه والغاية والمغيّى جميعاً.
فقوله: { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } استفهام في مقام الإِنكار، وقد بادرت الآية إلى استثناء الذين عاهدوهم من المشركين عند المسجد الحرام لكونهم لم ينقضوا عهداً ولم يساهلوا فيما واثقوا به بدليل قوله تعالى: { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } وذلك أن الاستقامة لمن استقام والسلم لمن يسالم من لوازم التقوى الديني، ولذلك علل قوله ذلك بقوله: { إن الله يحب المتقين } كما جاء مثله بعينه في الآية السابقة: { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين }.
قوله تعالى: { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة } إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: الإِلّ كل حالة ظاهرة من عهد حلف، وقرابةٌ تئلّ: تلمع فلا يمكن انكاره، قال تعالى: لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وألّ الفرس: اسرع، حقيقته لمع، وذلك استعارة في باب الإِسراع نحو برق وطار. انتهى.
وقال أيضاً: الذمام - بكسر الذال - ما يذمّ الرجل على إضاعته من عهد، وكذلك الذمة والمذمة، وقيل: لي مذمة فلا تهتكها، وأذهب مذمتهم بشيء: أي أعطهم شيئاً لما لهم من الذمام. انتهى. وهو ظاهر في أن الذمة مأخوذة من الذم بالمعنى الذي يقابل المدح.
ولعل إلقاء المقابلة في الآية بين الإِلّ والذمة للدلالة على أنهم لا يحفظون في المؤمنين شيئاً من المواثيق التي يجب رقوبها وحفظها سواء كانت مبنية على أُصول واقعية تكوينية كالقرابة التي توجب بوجه على القريب رعاية حال قريبه، أو على الجعل والاصطلاح كالعهود والمواثيق المعقودة بحلف ونحوه.
وقد كررت لفظة { كيف } للتأكيد ولرفع الإِبهام في البيان الناشي من تخلل قوله: { إلا الذين عاهدتم } الآية بطولها بين قوله: { كيف يكون للمشركين } الآية وقوله: { وإن يظهروا عليكم } الآية.
فمعنى الآية: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله والحال أنهم إن يظهروا عليكم ويغلبوكم على الأمر لا يحفظوا ولا يراعوا فيكم قرابة ولا عهداً من العهود يرضونكم بالكلام المدلّس والقول المزوّق، ويأبى ذلك قلوبهم، وأكثرهم فاسقون.
ومن هنا ظهر أن قوله: { يرضونكم بأفواههم } من المجاز العقلي نسب فيه الإِرضاء إلى الأفواه وهو في الحقيقة منسوب إلى القول والكلام الخارج من الأفواه المكوّن فيها.
وقوله: { يرضونكم } الآية تعليل لإِنكار وجود العهد للمشركين ولذلك جيء به بالفصل، والتقدير: كيف يكون لهم عهد وهم يرضونكم { بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون }.
وأما قوله: { وأكثرهم فاسقون } ففيه بيان أن أكثرهم ناقضون للعهد والميثاق بالفعل من غير أن ينتظروا ظهورهم جميعاً عليكم فالآية توضح حال آحادهم وجميعهم بأن أكثرهم فاسقون بنقض العهد من غير أن يرقبوا في مؤمن إلاً ولا ذمة، ولو أنهم ظهروا عليكم جميعاً لم يرقبوا فيكم الإِلّ والذمة.
قوله تعالى: { اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً } إلى آخر الآيتين، بيان وتفسير لقوله في الآية السابقة: { وأكثرهم فاسقون } وكأن قوله: { اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً } إلى آخر الآية توطئة وتمهيد لقوله في الآية الثانية: { لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة }.
وبذلك يظهر أن الأقرب أن المراد بالفسق الخروج عن العهد والذمة دون الفسق بمعنى الخروج عن زي عبودية الله سبحانه وإن كان الأمر كذلك.
وقوله: { وأُولئك هم المعتدون } كالتفسير لجميع ما مر من أحوالهم الروحية وأعمالهم الجسمية، وتفيد الجملة مع ذلك جواباً عن سؤال مقدّر أو ما يجري مجراه والمعنى: إذا كان هذا حالهم وهذه أفعالهم فلا تحسبوا أن لو نقضتم عهدهم اعتديتم عليهم فأُولئك هم المعتدون عليكم لما اضمروه من العداوة والبغضاء ولما أظهره أكثرهم في مقام العمل من الصد عن سبيل الله، وعدم رعاية قرابة ولا عهد في المؤمنين.
قوله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة } إلى آخر الآيتين، الآيتان بيان تفصيلي لقوله فيما تقدم: { فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله }.
والمراد بالتوبة بدلالة السياق الرجوع إلى الإِيمان بالله وآياته، ولذلك لم يقتصر على التوبة فقط بل عطف عليها إقامة الصلاة التي هي أظهر مظاهر عبادة الله، وإيتاء الزكاة الذي هو أقوى أركان المجتمع الديني، وقد أُشير بهما إلى نوع الوظائف الدينية التي إتيانها يتم الإِيمان بآيات الله بعد الإِيمان بالله عزّ اسمه فهذا معنى قوله: { تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة }.
وأما قوله: { فأخوانكم في الدين } فالمراد به بيان التساوي بينهم وبين سائر المؤمنين في الحقوق التي يعتبرها الإِسلام في المجتمع الإِسلامي: لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
وقد عبّر في الآية عن ذلك بالاخوّة في الدين، وقال في موضع آخر:
{ { إنما المؤمنون إخوة } [الحجرات: 10]اعتباراً بما بينهم من التساوي في الحقوق الدينية فإن الأخوين شقيقان اشتقا من مادة واحدة وهما لذلك متساويان في الشؤون الراجعة إلى ذلك في مجتمع المنزل عند والدهما الذي هو رب البيت، وفي مجتمع القرابة عند الأقراباء والعشيرة.
وإذ كان لهذا المعنى المسمّى بلسان الدين أُخوَّة أحكام وآثار شرعية اعتنى بها قانون الإِسلام فهو اعتبار حقيقة لنوع من الأخوَّة بين أفراد المجتمع الإِسلامي لها آثار مترتبة كما أن الأخوَّة الطبيعية فيما اعتبرها الإِسلام لها آثار مترتبة عقلائية ودينية وليست تسمية ذلك أُخوَّة مجرد استعارة لفظية عن عناية مجازية، وفيما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قوله
"المؤمنون إخوة يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد واحدة على من سواهم"
]. وقوله: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم } الآية يدل السياق أنهم غير المشركين الذين أمر الله سبحانه في الآية السابقة بنقض عهدهم وذكر أنهم هم المعتدون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة فانهم ناكثون للأيمان ناقضون للعهد، فلا يستقيم فيهم الاشتراط الذي ذكره الله سبحانه بقوله: { وإن نكثوا أيمانهم } الآية.
فهؤلاء قوم آخرون لهم مع ولي الأمر من المسلمين عهود وأيمان ينكثون أيمانهم من بعد عهدهم، أي ينقضون عهودهم من بعد عقدها فأمر الله سبحانه بقتالهم وألغى أيمانهم وسمّاهم أئمة الكفر لأنهم السابقون في الكفر بآيات الله يتّبعهم غيرهم ممن يليهم، يقاتلون جميعاً لعلهم ينتهون عن نكث الأيمان ونقض العهود.
قوله تعالى: { ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول } الآية وما بعدها إلى تمام أربع آيات تحريض للمؤمنين وتهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما أجرموا به في جنب الله وخانوا به الحق والحقيقة، وعدّ خطاياهم وطغياناتهم من نكث الأيمان والهمّ بإخراج الرسول والبدء بالقتال أول مرة.
ثم بتعريف المؤمنين أن لازم إيمانهم بالله الذي يملك كل خير وشر ونفع وضر أن لا يخشوا إلا إياه إن كانوا مؤمنين به ففي ذلك تقوية لقلوبهم وتشجيعهم عليهم، وينتهي إلى بيان أنهم ممتحنون من عند الله بإخلاص الإِيمان له والقطع من المشركين حتى يؤجروا بما يؤجر به المؤمن المتحقق في إيمانه.
قوله تعالى: { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } إلى آخر الآيتين. أعاد الأمر بالقتال لأنه صار من جهة ما تقدم من التحريض والتحضيض أوقع في القبول فإن الأمر الأول كان ابتدائياً غير مسبوق بتمهيد وتوطئة بخلاف الأمر الثاني الوارد بعد اشتداد الاستعداد وكمال التهيؤ من المأمورين.
على أن ما أُتبع به الأمر من قوله: { يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم } إلى قوله: { ويذهب غيظ قلوبهم } يؤكد الأمر ويغري المأمورين على امتثاله وإجرائه على المشركين فإن تذكّرهم أن قتل المشركين عذاب إلهي لهم بأيدي المؤمنين، وأن المؤمنين أياد مجرية لله سبحانه وأن في ذلك خزياً للمشركين ونصرة من الله للمؤمنين عليهم وشفاء لصدور قوم مؤمنين وإذهاباً لغيظ قلوبهم، يجرّئهم للعمل وينشطهم ويصفي إرادتهم.
وقوله: { ويتوب الله على من يشاء } الآية بمنزلة الاستثناء لئلا يجري حكم القتال على إطلاقه.
قوله تعالى: { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } إلى آخر الآية بمنزلة تعليل آخر لوجوب قتالهم لينتج تحريضهم على القتال وفيه بيان حقيقة الأمر، ومحصله أن الدار دار الامتحان والإِبتلاء فإن نفوس الآدميين تقبل الخير والشر والسعادة والشقاوة فهي في أول كينونتها ساذجة مبهمة، ومراتب القرب والزلفى إنما تبذل بإزاء الإِيمان الخالص بالله وآياته، ولا يظهر صفاء الإِيمان إلا بالامتحان الذي يورد المؤمن مقام العمل، ليميز الله بذلك الطيب من الخبيث، والصافي الإِيمان ممن ليس عنده إلا مجرد الدعوى أو المزعمة.
فمن الواجب أن يمتحن هؤلاء المدّعون أنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله بأن لهم الجنة، ويبتلوا بمثل القتال الذي يميز به الصادق من الكاذب ويفصل الذي قطع روابط المحبة والصلة من أعداء الله سبحانه ممن في قلبه بقايا من ولايتهم ومودتهم حتى يحيى هؤلاء ويهلك أُولئك.
فعلى المؤمنين أن يمتثلوا أمر القتال بل يتسارعوا إليه ويتسابقوا فيه ليظهروا بذلك صفاء جوهرهم وحقيقة إيمانهم ويحتجوا به على ربهم يوم لا نجاح فيه إلا بحجة الحق.
فقوله: { أم حسبتم أن تتركوا } أي بل أظننتم أن تتركوا على ما أنتم عليه من الحال ولما تظهر حقيقة صدقكم في دعوى الإِيمان بالله وبآياته.
وقوله: { ولما يعلم الله } الآية أي ولما يظهر في الخارج جهادكم وعدم اتخاذكم من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فإن تحقق الأشياء علم منه تعالى بها وقد مر نظير الكلام مع بسط ما في تفسير قوله تعالى:
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } [آل عمران: 142] الآية في الجزء الرابع من الكتاب. ومن الدليل على هذا الذي ذكرنا في معنى العلم قوله في ذيل الآية: { والله خبير بما تعملون }.
والوليجة على ما في مفردات الراغب كل ما يتخذه الإِنسان معتمداً عليه وليس من أهله.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { براءة من الله ورسوله } حدثني أبي عن محمد بن الفضل عن ابن أبي عمير عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، وكان سنّة من العرب في الحج أنه من دخل مكة وطاف البيت في ثيابه لم يحل له إمساكها، وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف فكان من وافى مكة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يرده، ومن لم يجده عارية ولا كرى ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً.
فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كرى فلم تجده فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها فقالت: كيف أتصدق وليس لي غيرها؟ فطافت بالبيت عريانة وأشرف لها الناس فوضعت إحدى يديها على قبلها والأُخرى على دبرها وقالت شعراً:

اليوم يبدو بعضه أو كله فمـــا بـــدا منه فلا أُحله

فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت: إن لي زوجاً.
وكانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلا من قاتله ولا يحارب إلا من حاربه وأراده، وقد كان أُنزل على [في] ذلك { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاتل أحداً قد تنحّى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة براءة وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلا الذين قد عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة إلى مدة: منهم صفوان بن أُمية وسهيل بن عمرو فقال الله عزّ وجلّ: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } ثم يقتلون حيثما وجدوا بعد. هذه أشهر السياحة: عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشراً من ربيع الآخر.
فلما نزلت الآيات من سورة براءة دفعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكرو أمره أن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام في طلب أبى بكر فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أنزل الله في شيئاً؟ فقال:
"لا إن الله أمرني لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني" .
وفي تفسير العياشي عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس فنزل جبرئيل فقال: لا يبلّغ عنك إلا علي فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وأمر أن يركب ناقته العضباء، وأمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة ويقرأها على الناس بمكة فقال أبو بكر: أسخط؟ فقال: لا إلا أنه أُنزل عليه انه لا يبلّغ إلا رجل منك.
فلما قدم على مكة وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحج الأكبر قام ثم قال: إني رسول رسول الله إليكم فقرأها عليهم: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشراً من شهر ربيع الآخر، وقال: لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة ولا مشرك بعد هذا العام، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمدته إلى هذه الأربعة أشهر.
أقول: المراد تعيين المدة للعهود التي لا مدة لها بقرينة ما سيأتي من الرواية، وأما العهود التي لها مدة فاعتبارها إلى مدتها مدلول لنفس الآيات الكريمة.
وفي تفسيري العياشي والمجمع عن أبى بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: خطب علي عليه السلام بالناس واخترط سيفه وقال: لا يطوفنّ بالبيت عريان، ولا يحجَّنّ بالبيت مشرك، ومن كانت له مدة فهو إلى مدته، ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر، وكان خطب يوم النحر، وكانت عشرون من ذي الحجة وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر، وقال: يوم النحر يوم الحج الأكبر.
أقول: والروايات من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذه المعاني فوق حد الإِحصاء.
وفي الدر المنثور اخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر رضي الله عنه ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه.
ورجع أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نزل فيّ شيء؟ قال: لا ولكن جبرئيل جاءني فقال: لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك.
وفيه أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى أهل مكة ثم بعث علياً رضي الله عنه على أثره فأخذها منه فكأن أبا بكر وجد في نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"يا أبا بكر إنه لا يؤدِّي عني إلا أنا أو رجل مني"
]. وفيه اخرج ابن مردويه عن أبي رافع رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى الموسم فأتى جبرئيل عليه السلام فقال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك فبعث علياً رضي الله عنه على أثره حتى لحقه بين مكة والمدينة فأخذها فقرأها على الناس في الموسم.
وفيه اخرج ابن حبان وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه يؤدي عنه براءة فلما أرسله بعث إلى علي رضي الله عنه فقال: يا علي لا يؤدّي عني إلا أنا أو أنت، فحمله على ناقته العضباء فسار حتى لحق بأبي بكر رضي الله عنه فأخذ منه براءة.
فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أُنزلت فيه شيء فلما أتاه قال: ما لي يا رسول الله؟ قال: خيرٌ أنت أخي وصاحبي في الغار وأنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني إلا رجل مني.
أقول: وهناك روايات أُخرى في معنى ما تقدم، وقد نقل في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب أنه رواه الطبرسي، والبلاذري، والترمذي، والواقدي، والشعبي، والسدّي، والثعلبي، والواحدي، والقرطبي، والقشيري، والسمعاني، وأحمد بن حنبل، وابن بطة، ومحمد بن إسحاق، وأبو يعلى الموصلي، والأعمش، وسماك بن حرب في كتبهم عن عروة بن الزبير، وأبي هريرة، وأنس، وأبي رافع، وزيد بن نفيع، وابن عمر، وابن عباس، واللفظ له: إنه لما نزل: { براءة من الله ورسوله } إلى تسع آيات أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى مكة لأدائها فنزل جبرئيل وقال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين: اركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر وخذ براءة من يده.
قال: ولما رجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم جزع وقال: يا رسول الله إنك أهَّلتني لأمر طالت الأعناق فيه فلما توجهت إليه رددتني منه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
"الأمين هبط إليَّ عن الله تعالى: إنه لا يؤدِّي عنك إلا أنت أو رجل منك؛ وعليّ مني ولا يؤدّي عني إلا علي"
]. وفيما نقلناه من الروايات وما تركناه منها وهو أكثر وفيما سيجيء في هذا الباب نكتتان أصليتان.
إحداهما: أن بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً ببراءة وعزله أبا بكر إنما كان بأمر من ربه بنزول جبرئيل: "إنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" ولم يقيد الحكم في شيء من الروايات ببراءة أو نقض العهد فلم يرد في شيء منها: لا يؤدي براءة أو لا ينقض العهد إلا أنت أو رجل منك فلا دليل على تقييده ببراءة على ما وقع في كثير من التفاسير؛ ويؤيد الإِطلاق ما سيأتي.
وثانيتهما: أن علياً عليه السلام كما كان ينادي ببراءة، كذلك كان ينادي بحكم آخر وهو أن من كان له مدة فهو إلى مدته ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر: وهذا أيضاً مما يدل عليه آيات براءة.
وبحكم آخر وهو أنه لا يطوفن بالبيت عريان، وهو أيضاً حكم إلهي مدلول عليه بقوله تعالى:
{ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [الأعراف: 31] وقد ورد في بعض الروايات ذكر الآية مع الحكم كما سيجيء.
وحكم آخر أنه لا يطوف أو لا يحج البيت مشرك بعد هذا العام وهو مدلول قوله تعالى:
{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [التوبة: 28]. وهناك أمر خامس ذكر في بعض روايات الباب أنه عليه السلام كان ينادي به وهو أنه لا يدخل الجنه إلا مؤمن وهذا وإن لم يذكر في سائر الروايات، والاعتبار لا يساعد على ذلك لنزول آيات كثيرة مكية ومدنية في ذلك وخفاء الأمر في ذلك على المشركين إلى سنة تسع من الهجرة كالمحال عادة لكن ذلك أيضاً مدلول للآيات الكريمة، وعلى أي حال لم تكن رسالة علي عليه السلام مقصورةً على تأدية آيات براءة بل لها ولتبليغ ثلاثة أو أربعة أحكام قرآنية أُخرى، والجميع مشمول لما أُنزل به جبرئيل عن الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، إذ لا دليل على تقييد الكلام على إطلاقه أصلاً.
وفي الدر المنثور أخرج الترمذي وحسّنه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر رضي الله عنه وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم اتبعه علياً رضي الله عنه وأمره أن ينادي بها فانطلقا فحجا فقام علي رضي الله عنه في أيام التشريق فنادى: إن الله برئ من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي رضي الله عنه ينادي بها.
أقول: والخبر قريب المضمون مما استفدناه من الروايات.
وفيه اخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن أبا بكر رضي الله عنه أمره أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر.
قال أبو هريرة: ثم اتبعنا النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه أمره أن يؤذن ببراءة وأبو بكر رضي الله عنه على الموسم كما هو - أو قال: على هيئته -.
أقول: وقد ورد في عدة من طرق أهل السنة: أن النبي استعمل أبا بكر على الحج عامه ذلك فكان هو أمير الحاج وعلي ينادي ببراءة وقد روت الشيعة أنه صلى الله عليه وآله وسلم استعمل للإِمارة علياً كما أنه حمله تأدية آيات براءة وقد ذكر ذلك الطبرسي في مجمع البيان ورواه العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، وربما تأيد ذلك بما ورد أن علياً كان يقضي في سفره ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له في ذلك إذ من المعلوم أن مجرد الرسالة بتأدية براءة لا تتضمن الحكم بالقضاء بين الناس، وأوفق ما يكون ذلك في تلك الأيام بالإِمارة، والرواية ما سيأتي:
في تفسير العياشي عن الحسن عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة قال: يا نبي الله إني لست بلسن ولا بخطيب قال صلى الله عليه وآله وسلم: يأبى الله ما بي إلا أن أذهب بها أو تذهب أنت قال: فإن كان لا بد فسأذهب أنا قال: فانطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك ثم وضع يده على فمه فقال: انطلق واقرأها على الناس، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: الناس سيتقاضون إليك قإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتى تسمع الآخر فإنه أجدر أن تعلم الحق.
أقول: وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة كما في الدر المنثور عن أبي الشيخ عن علي رضى الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ببراءة فقلت: يا رسول الله تبعثني وأنا غلام حديث السن وأُسال عن القضاء ولا أدري ما أُجيب؟ قال: ما بد من أن تذهب بها أو أذهب بها. قلت: إن كان لا بد أنا أذهب، قال: انطلق فإن الله يثبِّت لسانك ويهدي قلبك، ثم قال: انطلق واقرأها على الناس.
إلا أن اشتمال الرواية على لفظ اليمن يسيء الظن بها إذ من البيِّن من لفظ آيات براءة أنها مقرّة على أهل مكة يوم الحج الأكبر بمكة، وأين ذلك من اليمن وأهلها وكأن لفظ الرواية كان: { إلى مكة } فوضع موضعه { إلى اليمن } تصحيحاً لما اشتملت عليه من حديث القضاء.
وفي الدر المنثور اخرج احمد والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنت مع علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث علياً بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده، وأن الله ورسوله بريء من المشركين.
أقول: وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة بعدة طرق بألفاظ مختلفة لا تخلو من شيء في متنها - على ما سيجيء - وأمتن الروايات متناً هذه التي أوردناها.
وفيه أخرج أحمد والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله إلى أهل مكة ببراءة فكنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أمره أو أجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ولا يحجُّ هذا البيت بعد العام مشرك.
أقول: وفي متن الرواية اضطراب بيِّن، أما اولاً: فلاشتمالها على النداء بأنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وقد سبق أنه نزلت في معناه آيات كثيرة مكية ومدنية منذ سنين وقد سمعها الحضري والبدوي والمشرك والمؤمن فأي حاجة متصورة إلى إبلاغها أهل الجمع.
وأما ثانياً: فلأن النداء الثاني أعني قوله: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الخ، لا ينطبق لا على مضامين الآيات ولا على مضامين الروايات المتظافرة السابقة، على أنه قد جعل فيه البراءة بعد مضي أربعة أشهر.
وأما ثالثاً: فلما سنذكره ذيلاً.
وفيه أخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ببراءة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
وفي تفسير المنارعن الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر - إلى أن قال - فقام علي أيام التشريق فنادى: ذمة الله وذمة رسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجَّنَّ بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل مؤمن فكان علي ينادي بها فإذا بحّ قام أبو هريرة فنادى بها.
وفيه أيضاً عن أحمد والنسائي - من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك فكنت أُنادي حتى صحل صوتي.
أقول: قد عرفت أن الذي وقع في الروايات على كثرتها في قصة بعث علي وعزل أبي بكر من كلمة الوحي الذي نزل به جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو قوله: "لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" وكذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أجاب أبا بكر لما سأله عن سبب عزله، إنما هو متن ما أوحى إليه الله سبحانه، أو قوله - وهو في معناه -: "لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني".
وكيفما كان فهو كلام مطلق يشمل تأدية براءة وكل حكم إلهي احتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يؤديه عنه مؤد غيره، ولا دليل لا من متون الروايات ولا غيرها يدل على اختصاص ذلك ببراءة، وقد اتضح أن المنع عن طواف البيت عرياناً والمنع عن حج المشركين بعد ذلك العام وكذا تأجيل من له عهد إلى مدة أو من غير مدة كل ذلك أحكام إلهية نزل بها القرآن فما معنى إرجاع أمرها إلى أبي بكر أو نداء أبي هريرة بها وحده أو ندائه ببراءة وسائر الأحكام المذكورة في الجمع إذا بحّ علي عليه السلام حتى يصحل صوته من كثرة النداء؟ ولو جاز لأبي هريرة أن يقوم بها والحال هذه فلمَ لم يجز لأبي بكرذلك؟.
نعم أبدع بعض المفسرين كإبن كثير وأترابه هنا وجهاً وجهوا به ما تتضمنه هذه الروايات انتصاراً لها وهو أن قوله: "لا تؤدِّي عني إلا أنا أو رجل مني" مخصوص بتأدية براءة فقط من غير أن يشمل سائر الأحكام التي كان ينادي بها علي عليه السلام، وأن تعيينه صلى الله عليه وآله وسلم علياً بتبليغ آيات براءة أهل الجمع إنما هو لما كان من عادة العرب أن لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته ومراعاة هذه العادة الجارية هي التي دعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ براءة - وفيها نقض ما للمشركين من عهد - من أبي بكر ويسلمها إلى علي ليستحفظ بذلك السنَّة العربية فيؤدِّيها عنه بعض أهل بيته.
وقالوا: وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو بكر قائلاً: يا رسول الله هل نزل فيَّ شيء؟ قال:
"لا ولكن لا يؤدِّي عني إلا أنا أو رجل مني" ومعناه أني إنما عزلتك ونصبت علياً لذلك لئلا أنقض هذه السنَّة العربية الجارية.
ولذلك لم ينفصل أبو بكر من شأنه فقد كان قلّده إمارة الحاجّ وكان لأبي بكر مؤذنون يؤذنون بهذه الأحكام كأبي هريرة وغيره من الرجال الذين لم يذكر أسماؤهم في الروايات، وكان علي أحد من عنده لهذا الشأن، ولذا ورد في بعضها: أنه خطب بمنى ولما فرغ من خطبته التفت إلى علي وقال: قم يا علي وأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا ما ذكروه ووجهوا به الروايات.
والباحث الناقد إذا راجع هذه الآيات والروايات ثم تأمل ما جرت من المشاجرات الكلامية بين الفريقين: أهل السنَّة والشيعة في باب الأفضلية لم يرتَب في أنهم خلطوا بين البحث التفسيري الذي شأنه تحصيل مداليل الآيات القرآنية، والبحث الروائي الذي شأنه نقد معاني الأحاديث وتمييز غثّها من سمينها، وبين البحث الكلامي الناظر في أن أبا بكر أفضل من علي أو علياً أفضل من أبي بكر؟ وفي أن إمارة الحاجّ أفضل أو الرسالة في تبليغ آيات براءة؟ ولمن كان إمارة الحج إذ ذاك لأبي بكر أو لعلي؟ أما البحث الكلامي فلسنا نشتغل به في هذا المقام فهو خارج عن غرضنا، وأما البحث الروائي أو التفسيري فيما يرتبط به الآيات إلى أسباب نزولها مما يتعلق بمعاني الآيات فالذي ينبغي أن يُقال بالنظر إليه إنهم أخطأوا في هذا التوجيه.
فليت شعري من اين تسلموا أن هذه الجملة التي نزل بها جبرئيل: "إنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" مقيدة بنقض العهد لا يدل على أزيد من ذلك، ولا دليل عليه من نقل أو عقل فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤديه لا يجوز أن يؤديه إلا هو أو رجل منه سواه، كان نقض عهد من جانب الله كما في مورد براءة أو حكماً آخر إلهياً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤديه ويبلِّغه.
وهذا غير ما كان من أقسام الرسالة منه صلى الله عليه وآله وسلم مما ليس عليه أن يؤديه بنفسه الشريفة كالكتب التي أُرسل بها إلى الملوك والأُمم والأقوام في الدعوة إلى الإِسلام وكذا سائر الرسالات التي كان يبعث بها رجالاً من المؤمنين إلى الناس في أُمور يرجع إلى دينهم والإِمارات والولايات ونحو ذلك.
ففرق جليّ بين هذه الأُمور وبين براءة ونظائرها فإن ما تتضمنه آيات براءة وأمثال النهي عن الطواف عرياناً، والنهي عن حج المشركين بعد العام أحكام إلهية ابتدائية لم تبلَّغ بعد ولم تؤدَّ إلى من يجب أن تبلَّغه، وهم المشركون بمكة والحجاج منهم، ولا رسالة من الله في ذلك إلا لرسوله، وأما سائر الموارد التي كان يكتفي النبي صلى الله عليه وسلم ببعث الرسل للتبليغ فقد كانت مما فرغ صلى الله عليه وسلم فيها من أصل التبليغ والتأدية، بتبليغه من وسعه تبليغه ممن حضر كالدعوة إلى الإِسلام وسائر شرائع الدين وكان يقول:
"ليبلغ الشاهد منكم الغائب" ثم إذا مسّت الحاجة إلى تبليغه بعض من لا وثوق عادة ببلوغ الحكم إليه أو لا أثر لمجرد البلوغ إلا أن يعتني لشأنه بكتاب أو رسول أو توسُّل عند ذلك إلى رسالة أو كتاب كما في دعوة الملوك.
وليتأمل الباحث المنصف قوله: "لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" فقد قيل: "لا يؤدي عنك إلا أنت" ولم يقل: "لا يؤدي إلا أنت أو رجل منك" حتى يفيد اشتراك الرسالة، ولم يقل: "لا يؤدي منك إلا رجل منك" حتى يشمل سائر الرسالات التي كان صلى الله عليه وسلم يقلدها كل من كان من صالحي المؤمنين فإنما مفاد قوله: "لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" أن الأُمور الرسالية التي يجب عليك نفسك أن تقوم بها لا يقوم بها غيرك عوضاً منك إلا رجل منك أي لا يخلفك فيما عليك كالتأدية الابتدائية إلا رجل منك.
ثم ليت شعري ما الذي دعاهم إلى أن أهملوا كلمة الوحي التي هي قول الله نزل به جبرئيل على النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" وذكروا مكانها أنه "كانت السنة الجارية عند العرب أن لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته" تلك السنة العربية التي لا خبر عنها في أيامهم ومغازيهم ولا أثر إلا ما ذكره ابن كثير ونسبه إلى العلماء عند البحث عن آيات براءة.!
ثم لو كانت سنة عربية جاهلية على هذا النعت فما وزنها في الإِسلام وما هي قيمتها عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان ينسخ كل يوم سنة جاهلية وينقض كل حين عادة قومية، ولم تكن من جملة الأخلاق الكريمة أو السنن والعادات النافعة بل سليقة قبائلية تشبه سلائق الأشراف وقد
" قال صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة عند الكعبة على ما رواه أصحاب السير: لا كل مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج" .
ثم لو كانت سنة عربية غير مذمومة فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهل عنها ونسيها حين أسلم الآيات إلى أبي بكر وأرسله، وخرج هو إلى مكة حتى إذا كان في بعض الطريق ذكر صلى الله عليه وآله وسلم ما نسيه أو ذكّره بعض من عنده بما أهمله وذهل عنه من أمر كان من الواجب مراعاته؟ وهو صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى في مكارم الأخلاق واعتبار ما يجب أن يعتبر من الحزم وحسن التدبير، وكيف جاز لهؤلاء المذكّرين أن يغفلواعن ذلك وليس من الأُمور التي يغفل عنها وتخفى عادة فإنما الذهول عنه كغفلة المقاتل عن سلاحه؟.
وهل كان ذلك بوحي من الله إليه أنه يجب له أن لا يلغي هذه السنة العربية الكريمة، وأن ذلك أحد الأحكام الشرعية في الباب وأنه يحرم على ولي أمر المسلمين أن ينقض عهداً إلا بنفسه أو بيد أحد أهل بيته؟ وما معنى هذا الحكم؟
أو أنه حكم اخلاقي اضطر إلى اعتباره لما أن المشركين ما كانوا يقبلون هذا النقض إلا بأن يسمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه أو من أحد من أهل بيته؟ وقد كانت السيطرة يومئذ له صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، والزمام بيده دونهم، والإِبلاغ إبلاغ.
أو أن المؤمنين المخاطبين بقوله: { عاهدتم } وقوله: { وأذان من الله ورسوله إلى الناس } وقوله: { فاقتلوا المشركين } ما كانوا يعتبرون هذا النقض نقضاً دون أن يسمعوه منه صلى الله عليه وآله وسلم أو من واحد من أهل بيته وإن علموا بالنقض إذا سمعوا الآيات من أبي بكر؟.
ولو كان كذلك فكيف قبله واعتبره نقضاً من سمعه من أبي هريرة الذي كان ينادي به حتى صحل صوته؟ وهل كان أبو هريرة أقرب إلى علي وأمسّ به من أبي بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحق أن هذه الروايات الحاكية لنداء أبي هريرة وغيره غير سديدة لا ينبغي الركون إليها.
قال صاحب المنار في تفسيره: جملة الروايات تدلُّ على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل أبا بكر أميراً على الحج سنة تسع، وأمره أن يبلِّغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام ثم أردفه بعلي ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا في أمرهم، وأن العهود الموقتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لمسألة نبذ العهود وما يتعلق بها من أول سورة براءة.
وهي أربعون أو ثلاث وثلاثون آية، وما ذكر في بعض الروايات من التردد بين ثلاثين وأربعين فتعبير بالأعشار مع إلغاء كسرها من زيادة ونقصان.
وذلك لأن من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، وأن علياً كان مختصاً بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر الذي كان يساعده على ذلك ويأمر بعض الصحابة كأبي هريرة بمساعدته. انتهى.
وقال أيضاً: إن بعض الشيعة يكبّرون هذه المزيّة لعلي عليه السلام كعادتهم ويضيفون إليها ما لا تصح به رواية، ولا تؤيده دراية فيستدلون بها على تفضيله على أبي بكر رضي الله عنه وكونه أحق بالخلافة منه، ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم عزل أبا بكر من تبليغ سورة براءة لأن جبرئيل أمره بذلك، وانه لا يبلّغ عنه إلا هو أو رجل منه ولا يخصون هذا النفي بتبليغ نبذ العهود وما يتعلق به بل يجعلونه عاماً لأمر الدين كله.
مع استفاضة الأخبار الصحيحة بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة كالجهاد في حمايته والدفاع عنه، وكونه فريضة لا فضيلة فقط ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على مسمع الألوف من الناس:
"ألا فليبلغ الشاهد الغائب" وهو مكرر في الصحيحين وغيرهما، وفي بعض الروايات عن ابن عباس: فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أُمته "فليبلِّغ الشاهد الغائب" الخ وحديث: "بلّغوا عني ولو آية" رواه البخاري في صحيحه والترمذي، ولولا ذلك لما انتشر الإِسلام ذلك الانتشار السريع في العالم.
بل زعم بعضهم - كما قيل - أنه صلى الله عليه وسلم: عزل أبا بكر من إمارة الحج وولاها علياً، وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها الخاص والعام.
والحق أن علياً كرّم الله وجهه كان مكلفاً بتبليغ أمر خاص، وكان في تلك الحجة تابعاً لأبي بكر في إمارته العامة في إقامة ركن الإِسلام الاجتماعي العام حتى كان أبو بكر يعين له الوقت الذي يبلغ ذلك فيه فيقول: يا علي قم فبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم التصريح به في الروايات الصحيحة كما أمر بعض الصحابة بمساعدته على هذا التبليغ كما تقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما.
ثم ساق الكلام واستدل بإمارة أبي بكر في تلك الحجة - وضم إليها موضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل وفاته - على تقدمه وأفضليته من جميع الصحابة على من سواه انتهى.
أما قوله: مع استفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة إلى آخر ما قال فيكشف عن أنه لم يحصّل معنى كلمة الوحي: "لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" حق التحصيل، ولم يفرق بين قولنا: "لا يؤدي منك إلا رجل منك" وبين قوله: "لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" فزعم أن الكلام بإطلاقه يمنع عن كل تبليغ ديني يتصداه غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رجل منه فدفع ذلك باستفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة وقيَّد به إطلاق قوله: "لا يؤدي عنك" الخ فجعله خاصاً بتبليغ نبذ العهد بعد تحويل الحكم الإِلهي إلى سنَّة عربية جاهلية.
وقد ساقه اشتباه معنى الكلمة إلى أن زعم أن إبقاء الكلام على إطلاقه منشأه الغفلة عن أمر هو كالضروري عند عامة المسلمين أعني وجوب التبليغ العام حتى استدل على ذلك بما في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فليبلغ الشاهد الغائب"، وقد عرفت ما هو حق المعنى لكلمة الوحي.
وأما قوله: "بل زعم بعضهم كما قيل أنه عزل أبا بكر من إمارة الحج وولاها علياً وهذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها العام والخاص" فليس ذلك زعماً من البعض ولا بهتاناً كما بهته بل رواية روتها الشيعة وقد أوردناها في ضمن الروايات المتقدمة.
وليس التوغل في مسألة الإِمارة مما يهمنا في تفهم معنى قوله: "لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" فإمارة الحاج سواء صحَّت لأبي بكر أو لعلي، دلت على فضل أو لم تدل إنما هي من شعب الولاية الإِسلامية العامة التي شأنها التصرف في أُمور المجتمع الإِسلامي الحيوية، وإجراء الأحكام والشرائع الدينية، ولا حكومة لها على المعارف الإِلهية ومواد الوحي النازلة من السماء في أمر الدين.
إنما هي ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينصب يوماً أبا بكر أو علياً لإِمارة الحاج، ويؤمر يوما أُسامة على أبي بكر وعامة الصحابة في جيشه، ويولي يوماً ابن أُم مكتوم على المدينة وفيها من هو أفضل منه، ويولي هذا مكة بعد فتحها، وذاك اليمن، وذلك أمر الصدقات، وقد استعمل صلى الله عليه وآله وسلم أبا دجانة الساعدي أو سباع بن عرفطة الغفاري على ما في سيرة ابن هشام على المدينة عام حجة الوداع، وفيها أبو بكر لم يخرج إلى الحج على ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم وإنما تدل على إذعانه صلى الله عليه وآله وسلم بصلاحية من نصبه لأمر لتصديه وإدارة رحاه.
وأما الوحي السماوي بما يشتمل عليه من المعارف والشرائع فليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا لمن دونه صنع فيه، ولا تأثير فيه مما له من الولاية العامة على أُمور المجتمع الإِسلامي بإطلاق أو تقييد أو امضاء أو نسخ أو غير ذلك، ولا تحكم عليه سنة قومية أو عادة جارية حتى توجب تطبيقه على ما يوافقها أو قيام العصبة مقام الإِنسان فيما يهمه من أمر.
والخلط بين البابين يوجب نزول المعارف الإِلهية من أوج علوها وكرامتها إلى حضيض الأفكار الاجتماعية التي لا حكومة فيها إلا للرسوم والعادات والاصطلاحات، فيعود الإِنسان يفسر حقائق المعارف بما يسعه الأفكار العامية ويستعظم ما استعظمه المجتمع دون ما عظّمه الله، ويستصغر ما استصغره الناس حتى يقول القائل في معنى كلمة الوحي إنه عادة عربية محترمة.
وأنت إذا تأملت هذه القصة - أخذ آيات براءة من أبي بكر وإعطاءها علياً على ما تقصها الروايات - وجدت فيها من مساهلة الرواة وتوسعهم في حفظ القصة بما لها من الخصوصيات - إن لم يستند إلى غرض آخر - أمراً عجيباً ففي بعضها - وهو الأكثر - أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر بالآيات ثم بعث علياً وأمره أن يأخذها منه ويتلوها على الناس فرجع أبو بكر الخ، وفي بعضها أنه بعث أبا بكر بإمارة الحج ثم بعث علياً بعده بآيات براءة، وفي بعضها: إن أبا بكر أمره بالتبليغ وأمر بعض الصحابة أن يشاركه في النداء حتى آل الأمر إلى مثل ما رواه الطبري وغيره عن مجاهد في قوله تعالى: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد وغيرهم. أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن احج حتى لا يكون ذلك فأرسل أبا بكر وعلياً فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها وبالموسم كله فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الأول ثم عهد لهم وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا.
وإذا كان هذا هو الحال فما معنى قوله: "بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها العام والخاص"؟ فإن كان يعني: عرفها العام والخاص في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن شاهد الأمر أو سمع ذلك ممن شاهده ووصفه فماذا ينفعنا ذلك؟.
وإن كان يعني: أن العام والخاص ممن يلي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يلي من يليه عرفاً ذلك ولم يشك أحد في ذلك فهذا حال الروايات المنقولة عنهم لا يجتمع على كلمة.
ومنها: ما يحكي إن علياً اختص بتأدية براءة وأُخرى تدل على أن أبا بكر شاركه فيه، وأخرى تدل على أن أبا هريرة شاركه في التأدية ورجال آخرون لم يسموا في الروايات.
ومنها: ما يدل على أن الآيات كانت تسع آيات، وأُخرى عشراً، وأُخرى ست عشرة، وأُخرى ثلاثين، وأُخرى ثلاثاً وثلاثين، وأُخرى سبعاً وثلاثين، وأُخرى أربعين، وأُخرى سورة براءة.
ومنها: ما يَدل على أن أبا بكر ذهب لوجهه أميراً على الحاج، وأُخرى على أنه رجع حتى أوَّله بعضهم كإبن كثير أنه رجع بعد إتمام الحج، وآخرون أنه رجع ليسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سبب عزله، وفي رواية انس الآتية أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة ثم دعاه فأخذها منه.
ومنها: ما يدل على أن الحجة وقعت في ذي الحجة وأن يوم الحج الأكبر تمام أيام تلك الحجة أو يوم عرفة أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك و أُخرى أن أبا بكر حج في تلك السنة في ذي القعدة.
ومنها: ما يدل على أن أشهر السياحة تأخذ من شوَّال، وأُخرى من ذي القعدة، وأُخرى من عاشر ذي الحجة، وأُخرى من الحادي عشر من ذي الحجة وغير ذلك.
ومنها: ما يدل على أن الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم من تلك السنة، وأُخرى على أنها أشهر السياحة تبتدئ من يوم التبليغ أو يوم النزول.
فهذا حال اختلاف الروايات، ومع ذلك كيف يستقيم دعوى أنه أمر عرفه العام والخاص، وبعض المحتملات السابقة وإن كان قولاً من مفسري السلف إلا أن المفسرين يعاملون أقوالهم معاملة الروايات الموقوفة.
وأما قوله: والحق أن علياً كان مكلفاً بتبليغ أمر خاص وكان في تلك الحجة تابعاً لأبي بكر في إمارته إلى آخر ما قال فلا ريب أن الذي بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً من الأحكام كان أمراً خاصاً وهو تلاوة آيات براءة وسائر ما يلحق بها من الأُمور الأربعة المتقدمة غير أن الكلام في أن كلمة الوحي: "لا يؤدِّي عنك إلا أنت أو رجل منك" لا تختص في دلالتها بتأدية آيات براءة على ما تقدم بيانه فلا ينبغي الخلط بين ما يدل عليه الكلمة وبين ما أُمر به علي في خصوص تلك السفرة.
وأما قوله: وكان في تلك الحجة تابعاً "الخ" فأمر استفاده من كلام أبي هريرة وما يشبه، وقد عرفت الكلام فيه.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وأبو الشيخ وابن مردويه عن انس (رض) قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر (رض) ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا علياً فأعطاه إياه.
أقول: ذكر صاحب المنار في بعض كلامه: أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أو رجل مني" في رواية السدي قد فسرتها الروايات الأُخرى عند الطبري وغيره بقوله صلى الله عليه وسلم:
"أو رجل من أهل بيتي" وهذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة "مني" بأن معناها أن نفس عليٍّ كنفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه مثله وأنه أفضل من كل أصحابه - انتهى-.
والذي أشار إليه من الروايات هو ما رواه قبلاً بقوله: وأخرج أحمد بسند حسن عن انس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال: لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعث بها مع علي.
وهذه بعينها - على ما لا يخفي - هي الرواية السابقة التي أوردناها عن أنس، وقد وقع فيها "أو رجل من أهلي" وإن اختلف لفظاً الروايتين بما عملت فيهما يد النقل بالمعنى.
وأول ما في كلامه: أن اللفظ: "أو رجل مني" لم يقع إلا في رواية واحدة موقوفة هي رواية السدي التي استضعفها قبيل ذلك بل الأصل في ذلك كلمة الوحي التي أثبتتها معظم الروايات الصحيحة على بلوغ كثرتها، والروايات الأُخر المشتملة على قوله: "من أهل بيتي" وهو يستكثرها إنما هي رواية انس - على ما عثرنا عليها - وقد وقع في بعض ألفاظها قوله "من أهلي" مكان "من أهل بيتي".
والثاني: أن الرواية - كما اتضح لك - منقولة بالمعنى، ومع ذلك لا يصلح ما وقع فيها من بعض الألفاظ لتفسير ما اتفقت عليه معظم الروايات الصحيحة الواردة من طرق الفريقين من لفظ الوحي المنقول فيها.
على أن قوله: "من أهل بيتي" في هذه لو صلح لتفسير ما وقع في سائر الروايات من لفظ "رجل منك" أو "رجل مني" لكان الواقع في رواية أبي سعيد الخدري السابقة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا علي إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت" مفسراً لما في رواية أنس: "إلا رجل من أهل بيتي" أو "إلا رجل من أهلي" وما في سائر الروايات: "إلا رجل منك" أو "إلا رجل مني".
فيعود هذه الألفاظ كناية عن شخص علي عليه السلام، بل الكناية بما لها من المعنى مشيرة إلى أنه من نفس النبي عليه السلام ومن أهله ومن أهل بيته جميعاً، وهذا عين ما فرَّ منه وزيادة.
والثالث: أن استفادة كونه عليه السلام بمنزلة نفسه صلى الله عليه وآله وسلم ليست بمستندة إلى مجرد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "رجل مني" كما حسبه فإن مجرد قول القائل: فلان مني لا يدل على تنزيله منزلته في جميع شؤون وجوده ومماثلتة إياه، وإنما يدل على نوع من الاتصال والاتّباع كما في قول إبراهيم عليه السلام:
{ فمن تبعني فإنه مني } [إبراهيم: 26] إلا بنوع من القرينة الدالة على عناية كلامية كقوله تعالى: { ومن يتولّهم منكم فإنه منهم }.
بل إنما استفيد ذلك من قوله: "رجل مني" أو "رجل منك" بمعونة قوله: "لا يؤدي عنك إلا أنت" على البيان الذي تقدم وعلى هذا فلو كان هناك قوله: "لا يؤدي عني إلا رجل من أهلي أو رجل من أهل بيتي" لاستفيد منه عين ما استفيد من قوله: "لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" وقوله: "لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني" مضافاً إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم عدّه منه في خطابه أبا بكر وهو أيضاً منه بالاتّباع.
والرابع: أنه أهمل في البحث الروايات الصحيحة المستفيضة أو المتواترة التي تدل على أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم: علي وفاطمة والحسنان على ما تقدم في أخبار آية المباهلة وسيجيء معظمها في أخبار آية التطهير إن شاء الله تعالى.
ولا رجل في أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم إلا علي عليه السلام فيؤول الأمر إلى كون اللفظ كناية عن علي عليه السلام فيرجع إلى ما تقدم من الوجه.
وأما ما احتمله من المعنى فهو أن المراد بأهل بيته عامة اقربائه من بني هاشم أو بنو هاشم ونساؤه فينزّل اللفظ منزلة عادية من غير أن يحمل شيئاً من المزية، والمعنى لا يؤدِّي نبذ العهد عني إلا رجل من بني هاشم، والقوم يرجعون غالباً في مفاهيم أمثال هذه الألفاظ إلى ما يعطيه العرف اللغوي في ذلك من غير توجه إلى ما اعتبره الشرع، وقد تقدم نظير ذلك في معنى الابن والبنت حيث حسبوا أن كون ابن البنت ابناً للرجل وعدمه مرجعه إلى بحث لغوي يعيّن كون الابن يصدق بحسب الوضع اللغوي على ابن البنت مثلاً أو لا يصدق عليه، وجميع ذلك يرجع إلى الخلط بين الأبحاث اللفظية والأبحاث المعنوية، وكذا الخلط بين الأنظار الاجتماعية والأنظار الدينية السماوية على ما تقدمت الإِشارة إليه.
وأعجب من الجميع قوله: وهذا النص الصريح يبطل تأويل كلمه "منّي" فإن مراده بدلالة السياق أن كلمة "من أهل بيتي" نص صريح في أن المراد برجل منّي رجل من بني هاشم، ولا ندري أي نصوصية أو صراحة لكلمة "أهل البيت" في بني هاشم بعدما تكاثرت الروايات أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم علي وفاطمة والحسنان عليهم السلام ثم في قوله: "أهل بيتي" بمعنى بني هاشم أن المراد بكلمة "منّي" هو ذلك!.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } قال: عشرين من ذي الحجة والمحرم و صفر وشهر ربيع الأول وعشراً من ربيع الآخر.
أقول: وقد استفاضت الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن المراد من الأربعة الأشهر هو ذلك، روى ذلك الكليني والصدوق والعياشي والقمي وغيرهم في كتبهم، وروي ذلك من طرق أهل السنَّة، وهناك روايات أُخرى من طرقهم في غير هذا المعنى حتى وقع في بعضها أن أبا بكر حج بالناس عام تسع في شهر ذي القعدة، وهي غير متأيدة ولذلك أغمضنا عنها.
وفي تفسير العياشي عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين عليه السلام في قوله تعالى: { وأذان من الله ورسوله } قال: الأذان أمير المؤمنين عليه السلام.
أقول: وروي هذا المعنى أيضاً عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام، وعن جابر عن جعفر بن محمد وأبي جعفر عليهما السلام، ورواه القمي عن أبيه عن فضالة عن أبان بن عثمان عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين عليه السلام قال: وفي حديث آخر قال: كنت أنا الأذان في الناس، ورواه الصدوق أيضاً بإسناده عن حكيم عنه عليه السلام، ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن حكيم بن حميد عن علي بن الحسين عليه السلام، وقال في تفسير البرهان: قال السدّي وأبو مالك وابن عباس وزين العابدين: الأذان هو علي بن أبي طالب فادي به.
وفي تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده عن الفضيل بن عياض عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الحج الأكبر فقال: عندك فيه شيء؟ فقلت: نعم كان ابن عباس يقول: الحج الأكبر يوم عرفة يعني أنه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الشمس من يوم النحر فقد أدرك الحج، ومن فاته الحج فجعل ليلة عرفة لما قبلها ولما بعدها، والدليل على ذلك أنه من أدرك ليلة النحر إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأجزى عنه من عرفة.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام الحج الأكبر يوم النحر واحتج بقول الله عزّ وجلّ: { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } فهي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر، ولو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر ويوماً، واحتج بقوله عزّ وجلّ: { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } وكنت أنا الأذان في الناس.
قلت: فما معنى هذه اللفظة: الحج الأكبر؟ فقال: إنما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون والمشركون، ولم يحج المشركون بعد تلك السنة.
وفيه عنه بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم النحر والأصغر العمرة.
أقول: وفي الرواية مضافاً إلى تفسير اليوم بيوم النحر إشارة إلى وجه تسمية الحج بالأكبر، وقد أطبقت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام إلا ما شذ على أن المراد بيوم الحج الأكبر في الآية هو يوم الأضحى عاشر ذي الحجة وهو يوم النحر، ورووا ذلك عن علي عليه السلام.
وروى هذه الرواية الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام، وروى ذلك أيضاً بإسناده عن ذريح عنه عليه السلام، وكذا الصدوق بإسناده إلى ذريح عنه عليه السلام، ورواه العياشي عن عبد الرحمن وابن أُذينة والفضيل بن عياض عنه عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأضحى: هذا يوم الحج الأكبر.
وفيه أيضاً أخرج البخاري تعليقاً وأبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر قال: هذا يوم الحج الأكبر.
أقول: وروي ذلك بطرق مختلفة عن علي عليه السلام وابن عباس ومغيرة بن شعبة وأبي جحيفة وعبد الله بن أبي أوفى، وقد روي بطرق مختلفة أُخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوم عرفة، وكذا روي ذلك عن علي وابن عباس وابن الزبير، وروي عن سعيد بن المسيب أنه اليوم التالي ليوم النحر، وروي أنه أيام الحج كلها، وروي أنه الحج في العام الذي حج فيها أبو بكر، وهذا الوجه الأخير لا يأبى الانطباق على ما تقدم من الحديث عن الصادق عليه السلام أنه سمي الحج الأكبر لما حج في تلك السنه المسلمون والمشركون جميعاً.
وفي تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفرعليه السلام في قول الله: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } قال: هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } أخرج الحاكم وصححه عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه رضي الله عنه قال: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ثم انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ثم ارتحل غدوة وروحة ثم نزل ثم هجر.
ثم قال: أيها الناس إني لكم فرط، وإني أُوصيكم بعترتي خيراً موعدكم الحوض، والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً مني أو كنفسي فليضربن أعناق مقاتلهم وليسبينّ ذراريهم. فرأى الناس أنه يعني أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما فأخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: هذا.
أقول: يعني صلى الله عليه وآله وسلم به الكفر.
وفي تفسير العياشي في حديث جابر عن أبي جعفرعليه السلام { فإن تابوا } يعني فإن آمنوا فإخوانكم في الدين.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } الآية قال: قال، إقرأ عليه وعرفه ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن تفسير القشيري: إن رجلاً قال لعلي يا ابن أبي طالب فمن أراد منا أن يلقى رسول الله في بعض الأمر من بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد قال علي: بلى لأن الله قال: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } الآية.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } الآية أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه أنهم ذكروا عنده هذه الآية فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن مردويه عن زيد بن وهب في قوله: { فقاتلوا أئمة الكفر } قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا بأُمور لا ندري ما هي؟ فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون اعلاقنا؟ قال: أُولئك الفسّاق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده.
وفي قرب الإِسناد للحميري: حدثني عبد الحميد وعبد الصمد بن محمد جميعاً عن حنّان بن سدير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: دخل علي أُناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير فقلت لهم: كانوا من أئمة الكفر أن عليّاً يوم البصرة لمّا صف الخيل قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم حتى اعذر فيما بيني وبين الله وبينهم.
فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جوراً في حكم؟ قالوا: لا. قال: فحيفاً في قسم؟ قالوا: لا. قال فرغبة في دنيا أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال فأقمت فيكم الحدود وعطلتها في غيركم؟ قالوا: لا. قال: فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث إني ضربت الأمر أنفه وعينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف.
ثم ثنى إلى أصحابه فقال إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون } فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرء النسمة واصطفى محمداً بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا مذ نزلت.
أقول: ورواه العياشي عن حنّان بن سدير عنه عليه السلام.
وفي أمالي المفيد بإسناده عن أبي عثمان مؤذن بني قصي قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام حين خرج طلحة والزبير على قتاله: عذرني الله من طلحة والزبير، بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث احدثته ثم تلا هذه الآية: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم لعلَّهم ينتهون }.
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن أبي عثمان المؤذن وأبي الطفيل والحسن البصري مثله، ورواه الشيخ في أماليه عن أبي عثمان المؤذن. وفي حديثه قال بكير: فسألت عنها أبا جعفر عليه السلام فقال: صدق الشيخ هكذا قال علي. هكذا كان.
وفي الدر المنثور اخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائيل عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا: كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بينه وبين قريش إن من شاء أن يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن شاء أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: ندخل في عهد محمد وعقده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: ندخل في عقد قريش وعهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهراً.
ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ليلاً بماء لهم يُقال له: الوتير قريب من مكة فقالت قريش ما يعلم بنا محمد وهذا الليل وما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وركب عمرو بن سالم عندما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير حتى قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيات أنشده إياها:

يا ربَّ إنــــي ناشدٌ محمداً حلـــف أبينـــا وأبيـــه الأتلدا
قد كنتــم ولـــــداً وكنـــا والدا ثُمَّـــت أسلمنــــا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا وادع عبـــاد الله يأتــــوا مددا
فيهــــم رســول الله قد تجرَّدا إن سيــــم خسفـاً وجهـه تربَّدا
في فيلق كالبحر يجري مُزبدا إن قريشـــــاً أخلفـوك الموعدا
ونقضوا ميثاقــــــك المــؤكدا وجعلـــوا لـي في كداء رُصّدا
وزعمــوا أن لستُ أدعو أحداً وهــــــم أذلُّ وأقــــــلُّ عـــددا
هـــــم بيَّتونـــــا بالوتير هُجّدا وقتَّلونـــــــا ركّعـــا وسجّـــدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس بالجهاد وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.
أقول: أورد الرواية في الدر المنثور بعدما روى بطرق عن مجاهد وعكرمة أن قصة نقض قريش عهد الحديبية وإعانتهم بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان هو السبب لنزول قوله تعالى: { ألا تقاتلوا قوماً } إلى قوله: { ويشف صدور قوم مؤمنين } وهم خزاعة.
ولو كان الأمر على ما ذكروا كانت الآية: { ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم } - إلى تمام ثلاث آيات بل أربع - على ما يعطيه السياق مما نزل قبل فتح مكة فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة.
لكن القصة التي رواها ابن إسحاق والبيهقي على اعتبارها لمكان المسور بن مخرمة لا تصرح بنزول الآيات في ذلك، وما رواها مجاهد وعكرمة لا اعتماد عليه لمكان الوقف والانقطاع، وسياق الآيات لا يأبى نزولها مع ما تقدم عليها واتصالها بها على ما لا يخفى.
والذي ذكر فيها من قوله: { ونكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة } وإن كان يشير إلى صفات قريش الخاصة بهم لكن من الجائز أن تكون الآية مشيرة إلى حلفاء قريش وجيرانهم ممن لم يؤمنوا بعد فتح مكة وهم لا تحادهم مع قريش واتصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالأصالة.
واعلم أن هناك روايات متفرقة من طرق أهل البيت عليهم السلام تطبق الآيات على ظهور المهدي عليه السلام، وهي من الجري.
(كلام في معنى العهد وأقسامه وأحكامه)
قدمنا في أوائل الجزء السادس من الكتاب كلاماً في معنى العقد والعهد ونستأنف البيان ها هنا في معنى ما تقدم وما يستتبعه من الأقسام والأحكام بتقرير آخر في فصول:
1- قد لاح لك من تضاعيف الأبحاث المتقدمة في هذا الكتاب أن الإِنسان في مسير حياته لا يزال يصور أعماله وما يتعلق به أعماله من المادة تصور الأُمور الكونية ويمثلها بها ويجري بينها أحكام الأُمور الكونية وآثارها من القوانين العامة الجارية في الكون بحسب ما يناسب أغراضه الحيوية كما أنه يأخذ مثلاً أصواتاً متفرقة هي الزاي والياء والدال، ويؤلفها بشكل مخصوص ويعمل لفظ "زيد" ثم يفترض أنه زيد الإِنسان الخارجي فيسميه به ثم كلما أراد أن يحضر زيداً في ذهن مخاطبه ألقى إليه لفظ "زيد" فكان ممثلاً لعين زيد عنده، وحصل بذلك غرضه.
وإذا أراد أن يدير أمراً لا يدور إلا بعمل عدة مؤتلفة من الناس اختار جماعة وافترضهم واحداً كالإِنسان الواحد، وفرض واحداً منهم للباقين كما يفرض الرأس لبدن الإِنسان ويسميه رئيساً، وفرض كلاً من الباقين كما يفرض العضو من البدن ذي الأعضاء ويسميه عضواً ثم يرتب على الرأس أحكام الرأس الخارجي، وعلى العضو آثار العضو الخارجي وعلى هذا القياس.
وإلى هذا يؤول جميع أفكار الإِنسان الاجتماعية بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط من التصورات والتصديقات إذا حللت تحليلاً صحيحاً كما تؤول إليه أنظاره الفردية فيما يرتبط بأعماله وأفعاله.
الإِنسان شديد الإِهتمام بعقد العقود وتمثيل العهود وما يرتبط بها من الحلف واليمين والبيعة ونحو ذلك، والعامل الأولي في ذلك أن الإِنسان لا همّ له إلا التحفظ على حياته والوصول إلى مزاياها والتمتع بالسعادة التي تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها.
فأي بغية من مبتغياته وجدها وسلّط عليها أخذ في التمتع منها بما يناسبها من التمتع كالأكل والشرب وغيرهما بما جهز به من أدوات التمتع، ودفع كل ما يمنعه من التمتع لو عرض هناك مانع عارض ورأى أنه إنما وفق لذلك في ضوء ما أُوتيه من السلطة.
وقد أُوتي الإِنسان سلعة الفكر وبذلك يدبر أمر حياته ويصلح شأن معاشه فيعمل ليومه ويمهد لغده، وأعماله التي هي تصرفات منه في المادة أو عائدة إلى ذلك في عين أنها جميعاً متوقفة على انبساط سلطته على الفعل وإحاطته بكل ما يتعلق به عمله، مختلفة في أن بعضها يتم بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف غذاء وهو جوعان فتناوله فأكله، فإنه لا يتوقف على سلطة أوسع من زمان العمل، ولا على تمهيد وتقدمة.
وبعضها - وهو جل الأعمال الإِنسانية الاجتماعية - يتوقف على سلطة وسيعة تنبسط على العمل في وقته وعلى زمان قبله فقط أو على زمان قبله وبعده، لحاجته إلى مقدمات يمهدها له، وتدبير سابق يقدمه لوجوده، فما كل عمل يعمله الإِنسان بصدفة، بل جل الأُمور الحيوية من شأنها أن يتهيأ الإِنسان له قبل أوانه.
ومن التهيؤ له أن يتهيأ لجمع أسبابه ونظم الوسائل التي يتوسل بها إليه وأن يتهيأ لرفع موانعه التي من شأنها أن تزاحمه في وجوده وعند حصوله، فالإِنسان لا يوفق لعمل ولا ينجح في مسعاه إلا إذا كان في أمن من أن تفوته الأسباب أو تعارضه الموانع والمزاحمات.
والتنبه لهذه الحقيقة هو الذي بعث الإِنسان إلى أن يأخذ أمناً من رقبائه في الحياة: أن يعينوه فيما يحتاج من الأُمور إلى معين مشارك، أو أن لا يمانعوه من العمل فيما يتوقف إلى ارتفاع الموانع وزوالها.
فالإِنسان وهو يريد أن يتخذ لباساً يلبسه من مادة بسيطة كالقطن أو الصوف، والأمر متوقف على أعمال كثيرة يعملها الغزّال والنساج والخياط ومن يصنع لهم أدوات الغزل والنسج والخياطة، لا يتم له ما يريده من اتخاذ اللباس ولا ينجح سعيه إلا إذا كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء: أن يعملوا على ما يريده ولا يخلوه وحده فيخيب سعيه يخسر في عمله.
وكذا الإِنسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتم له سكناه إلا مع الأمن من ممانعة الناس ومزاحمتهم له في سكناه والتصرف فيه بما يصلح به لذلك.
وهذا هو الذي هدى الإِنسان إلى اعتبار العقد وإبرام العهد، فهو يأخذ ما يريده من العمل ويربطه بما يعينه عليه من عمل غيره ويعقدهما: يمثل به عقد الحبال الذي يفيد اتصال بعض أجزائها ببعض وعدم تخلف بعضها عن بعض، ومثله العهد الذي يعهده إليه غيره أن يساعده في ما يريده من الأمر أو أن لا يمانعه في ذلك.
وإلى ذلك يؤول أمر عامة العقود لعقد النكاح وعقد البيع والشري وعقد الإِجارة، ويصدق عليها العهد بمعناها العام وهو أن يعطي الإِنسان لغيره قولاً أو كتاباً أن يعينه على كذا أو أن لا يمنعه من كذا إلى أجل مضروب أو لا إلى أجل.
والكلام في المقام في العهد الذي لم يختص باسم خاص كعقد البيع والنكاح وغيرهما من عقود المعاملات فهي خارجة من غرضنا ولها في المجتمعات الإِنسانية أحكام خاصة وآثار وخواص مخصوصة بل الكلام في العهد بمعنى ما يعقده الإِنسان لغيره من الإِعانة أو عدم الممانعة في متفرقات المقاصد الاجتماعية، وما يجعله لذلك من الآثار كمن يعاهد غيره أن يعطيه كل سنة كذا مالاً ليستعين به على حوائجه، ويأخذ منه كذا مالاً أو نفعاً، أو يعاهده أن لا يزاحمه في عمله أو لا يمانعه في مسيره إلى أجل كذا أو لا إلى أجل، وهو نوع أحكام وإبرام لا ينتقض إلا بنقض أحد الطرفين أو بنقضهما معاً.
وربما زيد على إحكام العهد بالحلف وهو أن يقيّد المعاهد ما يعطيه من العهد ويربطه بأمر عظيم شأنه يقدسه ويحترمه كأنه يجعل ما له من الحرمة والعزة رهناً يرهن به عهده يمثّل به أنه لو نقضه فقد أذهب حرمته يقول المعاهد: والله لا أخوننك، ولعمري لأساعدنك، واقسم لأنصرنك، يمثل به أنه لو اخلف وعده ونقض عهده فقد أبطل حرمة ربه، أو حرمة عمره أو حرمة قسمه فلا مروة له.
وربما أُبرم العهد والميثاق بالبيعة والصفقة: يضع المعاهد في يد معاهده يمثل به أنه اعطاه يده التي بها يفعل ما يفعل فلا يفعل ما يكره معاهده لأن يده قبضة يده.
2- العهود والمواثيق كما تمسّها حياة الإِنسان الذي هو فرد المجتمع كذلك تمسّها حياة المجتمع فليس المجتمع إلا المجتمع من أفراد الإِنسان، حياته مجموع حياة أجزائه، وأعماله الحيوية مجموع أعمال أجزائه وله من الخير والشر والنفع والضر والصحة والسقم والنشوء والرشد والاستقامة والانحراف والسعادة والشقاوة والبقاء والزوال مجموع ما لأجزائه من ذلك.
فالمجتمع إنسان كبير له مقاصد الحياة ما للإِنسان الصغير، ونسبة المجتمع إلى المجتمع تقرب من نسبة الإِنسان الفرد إلى الإِنسان الفرد فهو يحتاج في ركوب مقاصده وإتيان أعماله من الأمن والسلامة إلى مثل ما يحتاج إليه الإِنسان الفرد بل الحاجة فيه أشد وأقوى لأن العمل يعظم بعظمة فاعله وعظمة غرضه، والمجتمع في حاجة إلى الأمن والسلام من قبل أجزائه لئلا يتلاشى ويتفرَّق، وإلى الأمن والسلام من قبل رقبائه من سائر المجتمعات.
وعلى هذا جرى ديدن المجتمعات الإِنسانية على ما بأيدينا من تاريخ الأُمم والأقوام الماضية، وما نسمعه أو نشاهده من الملل الحاضرة فلم يزل ولا يزال المجتمع من المجتمعات الإِنسانية في حاجة قائمة إلى أن يعاهد غيره في بعض شؤون حياته السياسية والاقتصادية أو الثقافية أو غيرها، فلا يصفو الجو للإِقدام على شيء من مقاصد الحياة أو التقدم في شيء من مآربها إلا بالاعتضاد بالأعضاد والأمن من معارضة الموانع.
3- الإِسلام بما أنه متعرِّض لأمر المجتمع كالفرد، ويهتم بإصلاح حياة الناس العامة كاهتمامة بإصلاح حياة الفرد الخاصة قنّن فيه كليات ما يرجع إلى شؤون الحياة الاجتماعية كالجهاد والدفاع ومقاتلة أهل البغي والنكث والصلح والسلم والعهود والمواثيق وغير ذلك.
والعهد الذي نتكلم فيه قد اعتبره اعتباراً تاماً وأحكمه إحكاماً يعدُّ نقضه من طرف أهله من أكبر الإِثم إلا أن ينقضه المعاهد الآخر فيقابل بالمثل فإن الله سبحانه أمر بالوفاء بالعهود والعقود، وذمَّ نقض العهود والمواثيق ذمّاً بالغاً في آيات كثيرة جداً قال تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [المائدة: 1]، وقال: { { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } [الرعد: 25] إلى أن قال - { أُولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } [الرعد: 25]، وقال: { { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً } [الإسراء: 34] إلى غير ذلك.
ولم يبح نقض العهود والمواثيق إلا فيما يبيحه حق العدل وهو أن ينقضه المعاهد المقابل نقضاً بالغي والعتوِّ أو لا يؤَمن نقضه لسقوطه عن درجة الاعتبار، وهذا مما لا اعتراض فيه لمعترض ولا لوم للائم، قال تعالى:
{ { وإما تخافنَّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [الأنفال: 58] فأجاز نقض العهد عند خوف الخيانة ولم يرضَ بالنقض من غير إخبارهم به واغتيالهم وهم غافلون دون أن قال: { فانبذ إليهم على سواء } فأوجب أن يخبروهم بالنقض المتقابل احترازاً من رذيلة الخيانة.
وقال:
{ { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [التوبة: 1] فلم يرضَ بالبراءة دون أن وسّع عليهم أربعة أشهر حتى يكونوا على مهل من التفكُّر في أمرهم والتروِّي في شأنهم فيروا رأيهم على حرية من الفكر فإن شاؤا آمنوا ونجوا وإن لم يشاؤا قتلوا وفنوا، وقد كان من حسن أثر هذا التأجيل أن آمنوا فلم يفنوا.
وقد تمَّم سبحانه هذه الفائدة أحسن إتمام بقوله بعد إعلام البراءة:
{ { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } [التوبة: 6]. وقال مستثنياً الموفين بعهدهم من المشركين: { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتَّقين، كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون } [التوبة: 7-8] وقد علل الاستقامة لمن استقام بأنه من التقوى - ذاك التقوى الذي لا دعوة في الدين إلا إليه - وأن الله يحب المتقين، وهذا تعليل حي إلى يوم القيامة.
وقال تعالى:
{ { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [البقرة: 194] وقال: { ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان } [المائدة: 2]. واما النقض الابتدائي من غير نقض من العدو المعاهد فلا مجوّز له في هذا الدين الحنيف أصلاً، وقد تقدم قوله تعالى: { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } الآية وقال: { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } [البقرة: 190]. وعلى ذلك جرى عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام حياته فقد عاهد بني قينقاع وبني قريظة وغيرهم من اليهود ولم ينقض إلا بعدما نقضوا، وعاهد قريشاً في الحديبية ولم ينقض حتى نقضوا باظهار بني بكر على خزاعة وقد كانت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبنو بكر في عهد قريش.
وأما النقض من غير نقض فلا مبيح له في الإِسلام وإن كان الوفاء مما يفوّت على المسلمين بعض منافعهم، ويجلب إليهم بعض الضرر وهم على قدرة من حفظ منافعهم بالبأس والقوة أو أمكنهم الاعتذار ببعض ما تصور لهم الحجة ظاهراً وتصرف عنهم اللوم والعذل فإن مدار الأمر على الحق، والحق لا يستعقب شراً ولا ضراً إلا على من انحرف عنه وآوى إلى غيره.
3- المجتمعات الإِنسانية سيما الراقية المتمدنة منها غير المجتمع الديني لا هدف لاجتماعهم ولا غرض لسننهم الجارية إلا التمتع من مزايا الحياة المادية ما قدروا عليه فلا موجب لهم للتحفظ على شيء أزيد مما بأيديهم من القوانين العملية الناظمة لشتات مقاصدهم الحيوية.
ومن الضروري أن الظرف الذي هذا شأنه لا قيمة فيها للمعنويات إلا بمقدار ما يوافق المقاصد الحيوية المادية فالفضائل والرذائل المعنوية كالصدق والفتوة والمروة ونشر الرحمة والرأفة والإِحسان وأمثال ذلك لا اعتبار لها إلا بمقدار ما درّت بها منافع المجتمع، ولم يتضرروا بها لو لم تعتبر، وأما فيما ينافي منافع القوم فلا موجب للعمل بها بل الموجب لخلافها.
ولذلك ترى المؤتمرات الرسمية وأولياء الأُمور في المجتمعات لا يرون لأنفسهم وظيفة إلا التحفظ على منافع المجتمع الحيوية، وما يعقد فيها من العهود والمواثيق إنما يعقد على حسب مصلحة الوقت، ويوزن بزنة ما عليه الدولة المعاهدة من القوة والعدة، وما عليه المعاهد المقابل من القوة والعدة في نفسه وبما يضاف إليه من سائر المقتضيات المنضمة إليه المعينة له.
فما كان التوازن على حالة التعادل كان العهد على حاله، وإذا مالت كفة الميزان للدولة المعاهدة على خصمه أبطلت اعتبار العهد بأعذار مصطنعة واتهامات مفتعلة للتوسل إلى نقضه، وإنما يراد بتقديم الأعذار أن يتحفظ على ظاهر القوانين العالمية التي لا عقبى لنقضها والتخلف عنها إلا ما يهدد حياة المجتمع أو بعض منافع حياتهم، ولولا ذلك لم يكن ما يمنع النقض ولو من غير عذر إذا اقتضته منافع المجتمع القوي الحيوية.
وأما الكذب أو الخيانة أو التعدي لما يتخذه الغير منافع لنفسه فليس مما يمنع مجتمعاً من المجتمعات من حيازة ما يراه نافعاً لشأنه إذ اخلاق والمعنويات لا أصالة لها عندهم وإنما تعتبر على حسب ما تقدره غاية المجتمع وغرضه الحيوي وهو التمتع من الحياة.
وأنت إذا تتبعت الحوادث العامة بين المجتمعات سابقها ولاحقها وخاصة الحوادث العالمية الجارية في هذا العصر الأخير عثرت على شيء كثير من العهود الموثقة ونقوضها على ما وصفناه.
وأما الإِسلام فلم يعد حياة الإِنسان المادية حياة له حقيقية، ولا التمتع من مزاياها سعادة له واقعية، وإنما يرى حياته الحقيقية حياته الجامعة بين المادة والمعنى، وسعادته الحقيقية اللازم إحرازها ما يسعده في دنياه وأُخراه.
ويستوجب ذلك أن يبني قوانين الحياة على الفطرة والخلقة دون ما يعده الإِنسان صالحاً لحال نفسه، ويؤسس دعوته الحقة على اتباع الحق والاهتداء به دون اتباع الهوى والاقتداء بما يميل إليه الأكثرية بعواطفهم وإحساساتهم الباطنة قال تعالى:
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم } [الروم: 30] وقال: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } [الصف: 9]، وقال: { بل أتيناهم بالحق } [المؤمنون: 90]، وقال: { { ولو اتّبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن } [المؤمنون: 71]. ومن لوازم ذلك أن يراعي حق الاعتقاد وفضيلة الخلق وصالح العمل جميعاً فلا غنى للمادة عن المعنى ولا غنى للمعنى عن المادة فمن الواجب رعاية جانب الفضائل الإِنسانية نفعت أو ضرّت والتجنب عن الرذائل نفعت أو ضرت لأن ذلك من اتباع الحق، وحاشا أن يضر إلا من انحرف عن ميزانه وتخطى ما يخط له الحق.
ومن هنا ما نرى أن الله سبحانه ينقض عهد المشركين لنقضهم عهده ويستعمل الرحمة بإمهالهم أربعة أشهر، ويأمر بالاستقامة لمن استقام في عهده من المشركين وقد استذلهم الحوادث يومئذ وضعفوا دون شوكة الإِسلام، وكذا يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إن خاف من قوم خيانة أن ينقض عهدهم لكن يأمره بإعلامهم ذلك ويعلله بأنه لا يحب الخيانة.
(كلام في نسبة الأعمال إلى الأسباب طولا)
تقدم في مواضع من هذا الكتاب أن الذي تنتجه الأبحاث العقلية أن الحوادث كما أن لها نسبة إلى أسبابها القريبة المتصلة بها كذلك لها نسبة إلى أسبابها القصوى التي هي أسباب لهذه الأسباب فالحوادث افعال لها في عين أنها من أفعال أسبابها القريبة المباشرة للعمل فإن الفعل كالحركة مثلاً يتوقف على فاعله المحرك ويتوقف على محرك محركه بعين ما يتوقف على محركه، نظير العجلة المحركة للاخرى المحركة لثالثة وليست من الحركة بالعرض.
فللفعل نسبة إلى فاعله، وله انتساب إلى فاعل فاعله بعين هذه النسبة التي إلى فاعله لا بنسبة أُخرى منفصلة عنها مستقلة بنفسها غير أنه إذا انتسب إلى فاعل الفاعل عاد الفاعل القريب بمنزلة الآلة بالنسبة إلى فاعل الفاعل أي واسطة محضة لا استقلال لها في العمل بمعنى أنه لا يستغنى في تأثيره عن فاعل الفاعل إذ فرضُ عدمه يساوق انعدام الفاعل وانعدام أثره.
وليس من شرط الواسطة أن تكون غير ذات شعور بفعلها أو غير مختارة فإن الشعور الذي يؤثر به الفاعل الشاعر في فعله لم يوجده هو لنفسه وإنما أوجده فيه فاعله الذي أوجد الفاعل وشعوره، وكذلك الاختيار لم يوجده الفاعل المختار لنفسه وإنما أوجده الفاعل الذي أوجد الفاعل المختار، وكما يتوقف الفعل في غير موارد الشعور والاختيار إلى فاعله، ويتوقّف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله، كذلك يتوقف الفعل الشعوري والفعل الاختياري إلى فاعله ويتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله الذي أوجد لفاعله الشعور والاختيار.
ففاعل الفاعل الشاعر أو المختار أراد من الفاعل الشاعر أو المختار أن يفعل من طريق شعوره فعلاً كذا أو يفعل باختياره فعلاً اختيارياً كذا فقد أُريد الفعل من طريق الاختيار لأنه أُريد الفعل وأهمل الاختيار الذي ظهر به فاعله فافهم ذلك فلا تزلّ قدم بعد ثبوتها.
وعلى هذه الحقيقة يجري الناس بحسب فهمهم الغريزي فينسبون الفعل إلى السبب البعيد كما ينسبونه إلى السبب القريب المباشر بما أنه أثر مترشح منه يقال: بني فلان داراً، وحفر بئراً وإنما باشر ذلك البناء والحفّار، ويقال: جلد الأمير فلاناً، وقتل فلاناً، وأسر فلاناً، وحارب قوماً كذا، وإنما باشر الجلد جلاده، والقتل سيّافه، والأسر جلاوزته، والمحاربة جنده، ويُقال، أحرق فلان ثوب فلان، وإنما احرقه النار، وشفى فلان مريضاً كذا وإنما شفاه الدواء الذي ناوله وأمره بشربه واستعماله.
ففي جميع ذلك يعتبر أمر الآمر أو توسل المتوسّل تأثيراً منه في الفاعل القريب ثم ينسب الفعل المنسوب إلى الفاعل القريب إلى الفاعل البعيد، وليس أصل النسبة إلا نسبة حقيقية من غير مجاز قطعاً.
ومن قال من علماء الأدب وغيرهم أن ذلك كله من المجاز في الكلمة لصحة سلب الفعل عن الفاعل البعيد فإن مالك البناء لم يضع لبنة على لبنة وإنما هو شأن البنّاء الذي باشر العمل! إنما أراد الفعل بخصوصية صدوره عن الفعل المباشر ومن المسلَّم أن المباشرة إنما هو شأن الفاعل القريب، ولا كلام لنا فيه، وإنما الكلام فيما يتصور له من الوجود المتوقّف إلى فاعل موجد، وهذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل.
واعتبار هذه النكتة هو الذي أوجب لهم أن يميزوا بين الأعمال وينسبوا بعضها إلى الفاعل القريب والبعيد معاً، ولا ينسبوا بعضها إلا إلى الفاعل القريب المباشر للعمل فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة والاتصال بالعمل كالأكل بمعنى الالتقام والبلع والشرب بمعنى المصّ والتجرع والقعود بمعنى الجلوس ونحو ذلك لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيد خادمه أن يأكل غذاء كذا ويشرب شراباً كذا ويقعد على كرسي كذا، قيل: أكل الخادم وشرب وقعد ولا يُقال: أكله سيده وشربه وقعد عليه، وإنما يُقال: تصرَّف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق كذا ونحو ذلك لما ذكرناه.
وأما الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة والحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل والأسر والإِحياء والإِماتة والإِعطاء والإِحسان والإِكرام ونظائر ذلك فإنها تنسب إلى الفاعل القريب والبعيد على السوية بل ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجوداً وأشد سلطة وإحاطة.
فهذا ما ينتجه البحث العقلي ويجري عليه الإِنسان بفهمه الغريزي، والقرآن الكريم يصدق ذلك أوضح تصديق كقوله تعالى في الآيات السابقة: { قاتلوهم يعذِّبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم } الآيتان. حيث نسب التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه بجعل أيديهم بمنزلة الآلة.
ونظيره قوله تعالى:
{ { والله خلقكم وما تعملون } [الصافات: 96] فإن المراد بما تعملون إما الأصنام التي كانوا يعملونها من الحجارة أو الأخشاب أو الفلزات فإنما أُريد به المادة بما عليها من عمل الإِنسان ففيه نسبة الخلق إلى الأعمال كنسبته إلى فواعلها، وأما نفس الأعمال فالأمر أوضح.
ويقرب من ذلك قوله تعالى:
{ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } [الزخرف: 12]، ففيه نسبة الخلق إلى الفلك والفلك بما هي من عمل الإِنسان.
هذا فيما نسب فيه الخلق إلى الأعمال الصادرة عن الشعور والإِرادة، وأما الأفعال التي لا تتوقف في صدورها على شعور وإرادة كالأفعال الطبيعية فقد ورد نسبتها إلى الله سبحانه في آيات كثيرة جداً لا حاجة إلى إحصائها كإحياء الأرض وإنبات النبات وإخراج الحب وإمطار السماء وإجراء الأنهار وتسيير الفلك التي تجري في البحر بأمره إلى غير ذلك.
ولا منافاة في جميع هذه الموارد بين انتساب الأمر إليه تعالى وانتسابه إلى غيره من الأسباب والعلل الطبيعية وغيرها إذ ليست النسبة عرضية تزاحم احدى النسبتين الأُخرى بل هي طولية لا محذور في تعلقها بأزيد من طرف واحد.
وقد تقدم في مطاوي أبحاثنا السابقة دفع ما اشتبه على المادّيين من إسناد الحوادث العامة كالسيول والزلازل والجدب والوباء والطاعون إلى الله سبحانه مع الحصول على أسبابها الطبيعية اليوم حيث خلطوا بين العلل والأسباب العرضية والطولية، وحسبوا أن استنادها إلى عللها الطبيعية يبطل ما أثبته الكتاب العزيز وأذعن به الإِلهيون من استنادها إلى مسبّب الأسباب الذي إليه يرجع الأمر كله.
وللأشاعرة والمعتزلة بحث غريب في الآية السابقة: { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } وما يناظرها من الآيات، أورده الرازي في تفسيره نورده ملخّصاً.
قال: استدلت الأشاعرة بقوله تعالى: { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله، وأن الناس مجبرون في افعالهم غير مختارين فإن الله سبحانه يخبر فيها أنه هو الذي يعذب المشركين بقتل بعضهم وجرح آخرين بأيدي المؤمنين ويدل ذلك على أن أيدي المؤمنين كسيوفهم ورماحهم آلات محضة لا تأثير لها أصلاً وإنما الفعل لله سبحانه، وأن الكسب الذي يعدّ مناطاً للتكليف اسم لا مسمى له.
وهذه الآية أقوى دلالة على المطلوب من دلالة مثل قوله تعالى: { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } إذ فيه إثبات الرمي على النبي صلى الله عليه وسلم - وإن كان مع ذلك نفي عنه - وإثبات لإِسناده إلى الله سبحانه لكن الآية أعني قوله: { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } إثبات للتعذيب على الله سبحانه وجعل أيدي المؤمنين التي لهم آلات في الفعل لا تأثير لها وفيها أصلاً.
وأجاب عنه الجبّائي من المعتزلة: بأنه لو جاز أن يُقال: إن الله يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين بحقيقة ما أدّعي له من المعنى لجاز أن يُقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين، وإنه تعالى يكذب أنبياءه بألسنتهم، ويلعن المؤمنين ويسبهم بأفواههم لأنه تعالى خالق لذلك كله، وإذ لم يجز ذلك علمنا أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد، وإنما أعمالهم خلق أنفسهم.
وبذلك يعلم أن إسناد التعذيب في الآية إليه تعالى بنوع من التوسع لأنه إنما تحقق عن أمره ولطفه كما أنه تعالى ينسب جميع الطاعات والحسنات إلى نفسه لتحققها عن أمره وتوفيقه.
وأجاب عنه الرازي بأن أصحابنا يلتزمون جميع ما ألزم به الجبائي وأصحابه من لزوم إسناد القبائح إليه تعالى ويعتقدون به لبّاً وإن كانوا لا ينطقون به لساناً أدباً مع الله سبحانه، انتهى ملخصاً.
والأبحاث التي قدمناها في هذا الكتاب حول هذه المعاني تكفي لإِيضاح الحق وإنارته في هذا المقام، والكشف عما وقع فيه الفريقان جميعاً.
أما ما ذكرته الأشاعرة والتزموا به فإنما أوقعهم في ذلك ما ذهبوا إليه من نفي رابطة العلّية والمعلولية من بين الأشياء وقصرها فيما بينه تعالى وبين خلقه عامة فلا سبب في الوجود لا استقلالاً ولا بالوساطة غيره تعالى، وأما رابطة السببية التي بين الأشياء أنفسها فإنما هي سببية بالاسم فقط لا بالحقيقة، وإنما هي العادة الإِلهية جرت بإيجاد ما نسميها مسببات عقيب ما نسيمها أسباباً فما بينها وبينه تعالى سببية حقيقية، وما بينها أنفسها يعود إلى الاتفاق الدائم أو الأكثري.
ولازم ذلك إبطال العلِّية والسببية من أصلها، وببطلانها يبطل ما أثبتوه من انحصار السببية فيه تعالى إذ لو جاز أن يكون نسبة كل شيء إلى كل شيء نسبة واحدة من غير اختلاف بالتأثير والتأثر لم يبق للإِنسان ما يتنبه به لأصل معنى السببية فلا سبيل له إلى إثبات سببيته تعالى لكل شيء.
على أن الإِنسان يترقب حوادث من حوادث أُخرى، ويقطع بالنتائج عن مقدماتها ويبني حياته على التعليم والتربية، وعلى تقديم الأسباب طمعاً في مسبباتها سواء اعترف بالصانع أو لم يعترف، ولا يتم له شيء من ذلك إلا عن إذعان فطري بأصل العلِّية والمعلولية، ولو أجازت الفطرة الإِنسانية بطلان ذلك وجريان الحوادث على مجرد الاتفاق اختل نظام حياته ببطلان سعيه الفكري والعملي، وانسد طريق إثبات سبب ما فوق طبيعة الحوادث.
على أن الكتاب العزيز يجري في بياناته على تصديق أصل العلِّية والمعلولية، وينسب كل حسنة إليه تعالى وينفي استناد السيئات والمعاصي إليه ويسميه بكل اسم أحسن ويصفه بكل وصف جميل، وينفي عنه كل هزل وعبث ولغو ولهو وجزاف، ولا يتم شيء من ذلك إلا على أصل العلِّية والمعلولية، وقد تقدم في الأبحاث السابقة ما يتبين به ذلك كله.
وقد ذهب طائفة من المادّيين وخاصة أصحاب المادية المتحوّلة إلى عين ما ذهب إليه الأشاعرة من ثبوت الجبر ونفي الاختيار عن الأفعال الإِنسانية، وإنما الفارق بين قولي الطائفتين هو أن الأشاعرة بنوا ذلك على سببيَّة الواجب تعالى المنحصرة واستنتجوا من ذلك بطلان السببيَّة الاختيارية وانتفاءها عن الإِنسان، والمادّيون بنوه على معلولية الأفعال الإِنسانية لمجموع الحوادث المحتفّة بالفعل التي هي علّة حدوثه، ولا معنى للعلّية إلا بالإِيجاب، فالإِنسان موجب في فعله مجبر عليه.
وقد فات منهم أن الذي نسبة المعلول إليه بالإِيجاب إنما هو العلّة التامة، وهي مجموع الحوادث المتقدمة على المعلول التي لا يتوقف هو في وجوده على شيء وراءها، وبوجودها جميعاً لا يبقى له إلا أن يوجد، وأما بعض أجزاء العلّة التامة فإنما نسبة المعلول إليه بالإِمكان لا بالوجوب لتوقّف وجوده على أشياء أُخر وراءه فلا يتحقق بوجود الجزء المفروض جميع ما يتوقف عليه وجوده حتى يعود واجباً وجوده.
والأفعال الإِنسانية يتوقف في وجودها على الإِنسان وإرادته وعلى أُمور غير محصورة أُخرى من المادة والشرائط الزمانية والمكانية فهي إذا نسبت إليها جميعاً كانت النسبة الحاصلة نسبة الوجوب والضرورة، وأما إذا نسبت إلى الإِنسان وحده أو إلى الإِنسان المريد فقد نسبت إلى جزء العلَّة التامة وعادت النسبة إلى الإِمكان دون الوجوب، فالأفعال الإِرادية الإِنسانية اختيارية أي أنه يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل فإن فعل فبمشيَّئته وإرادته، وإن لم يفعل فلم يختره ولم يرده وإنما اختار وأراد شيئاً آخر، لكنها لا تقع في الخارج إلا واجبة لاستنادها حينئذ إلى جميع أجزاء عللها.
فؤلاء خلطوا في كلامهم بين النسبتين فوضعوا النسبة الوجوبية التي للفعل إلى مجموع أجزاء علَّتها التامة موضع النسبة الإِمكانية التي للفعل إلى بعض اجزاء علّته التامة وهي التي تسمى في الإِنسان بالاختيار على نحو من العناية.
وأما ما ذكره المعتزلة أنه لو جاز كونه تعالى هو الفاعل للفعل الذي أتى به المؤمنون وهو التعذيب، وليس لهم إلا مقام الآلية المحضة من غير تأثير لجاز إسناد تعذيب الكفّار للمؤمنين وتكذيبهم للأنبياء ولعنهم المؤمنين أيضاً إليه، وهو باطل قطعاً فأفعال العباد مخلوقة لهم لا صنع لله تعالى فيها.
ففيه أن الملازمة حقَّة لكن بطلان التالي لا يستلزم كون الأفعال مخلوقة لهم لا نسبة لها إلى الله سبحانه أصلاً لجواز كونها منسوبة إليه تعالى بعين ما ينتسب به إليهم فإنهم فاعلون لها وهو فاعل الفاعلين فينتسب إليهم بالصدور عن الفاعل المباشر، وينتسب إليه بالصدور عن الفاعل الذي هو فاعله والنسبتان في الحقيقة نسبة واحدة مختلفة بالقرب والبعد وانتفاء الواسطة وثبوتها، ولا يستلزم ذلك اجتماع فاعلين مستقلين على فعل واحد لكونهما طوليين لا عرضيين.
فإن قلت: فيبقى محذور استناد الحسنات والسيئات والإِيمان والكفر إليه تعالى في محله.
قلت: كلاّ وإنما ينتسب إليه أصل وجودها، وأما عنوان الفعل الذي يشير إلى جهة قيام الحركة والسكون بالموضوع المتحرك كالنكاح والزنا والأكل المحرّم والمحلل فإنما ينسب إلى الإِنسان لكونه هو الموضوع المادي الذي يتحرك بهذه الحركات: وأما الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره حركته وليس بنفسه متحركاً بها وإنما يوجدها إيجاداً إذا تمت شرائطها وأسبابها فلا يتَّصف بأنواع هذه الحركات حتى يتَّصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بالإِنسان.
نعم هناك عناوين عامة لا تستتبع معنى الحركة والمادة، لا مانع من إسنادها إلى الإِنسان وإليه سبحانه إذا لم يستلزم محذوراً كالهداية والإِضلال إذا لم يكن إضلالاً ابتدائياً، وكالتعذيب والابتلاء، فقتل المؤمن للكافر تعذيب إلهي للكافر، وقتل الكافر للمؤمن بلاء حسن للمؤمن يستوجب به أجراً حسناً عند الله، وعلى هذا القياس.
على أن الذي ذهب إليه المعتزلة يوقعهم فيما وقعت فيه الأشاعرة وهو انسداد طريق إثبات الصانع عليهم فإنه لو جاز أن يوجد في العالم حادث من الحوادث عن سبب له وينقطع عمَّا وراء سببه ذلك انقطاعاً تاماً لا تأثير له فيه جاز في كل ما فرض من الحوادث أن يستند إلى ما يليه من غير أن يرتبط بشيء آخر وراءه، ومن الجائز أن يفنى الفاعل ويبقى أثره فمن الجائز أن يستند كل ما فرض معلولاً إلى فاعل له غير واجب الوجود ومن الجائز أن يستند كل عالم مفروض إلى عالم قبله هو فاعله وقد فنى قبله على ما هو المشهود من حوادث هذا العالم المولد بعضها بعضاً: والمتولد بعضها من بعض، ولا يلزم محذور التسلسل لعدم تحقق سلسلة ذات أجزاء في وقت من الأوقات إلا في الذهن.
وفي كلامهم مفاسد كثيرة أُخرى مبينة في المحل المربوط به، وقد تقدم في الكلام على نسبة الخلق إليه تعالى في الجزء السابع من الكتاب ما ينفع في هذا المقام.
وكيف يسع لمسلم موحّد أن يثبت مع الله سبحانه خالقاً آخر بحقيقة معنى الخلق والإِيجاد وقد قال الله سبحانه:
{ ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو } [غافر: 62] وقد كرر ذلك في كلامه، وليس في تجاهه إلا نسبة أفعال الإِنسان إليه من غير قطع رابطتها إليه تعالى بل مع إثبات النسبة بدليل آيات القدر ودلالة العقل على أن لفعل الفاعل نسبة إلى فاعل فاعله بحسب ما يليق بساحته.
فالحق أن للأفعال الإِنسانية نسبة إلى فواعلها بالمباشرة، ونسبة إليه تعالى بما يليق بساحة قدسه، قال تعالى:
{ كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً } [الإسراء: 20]