(بيان)
الآيات تقبل الاتصال بالآيات التي قبلها وهي تعقب غرضاً يعقبه ما تقدمها.
قوله تعالى: { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } الآية الفرح والسرور خلاف الغم وهما حالتان نفسيّتان وجدانيّتان ملذة ومؤلمة، والمخلّفون اسم مفعول من قولهم خلفه إذا تركه بعده والمقعد كالقعود مصدر قعد يقعد وهو كناية عن عدم الخروج إلى الجهاد.
والخلاف كالمخالفة مصدر خالف يخالف، وربما جاء بمعنى بعد كما قيل ولعل منه قوله: { وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً } وكان قياس الكلام أن يُقال: { خلافك } لأن الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما قيل: { خلاف رسول الله } للدلالة على أنهم إنما يفرحون على مخالفة الله العظيم فما على الرسول إلا البلاغ.
والمعنى فرح المنافقون الذين تركتهم بعدك بعدم خروجهم معك خلافاً لك - أو بعدك - { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله }.
وقوله تعالى: { وقالوا لا تنفروا في الحر } خاطبوا بذلك غيرهم ليخذلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبطلوا مسعاه في تنفير الناس إلى الغزوة، ولذلك أمره الله تعالى أن يجيب عن قولهم ذلك بقوله: { قل نار جهنم أشد حراً } أي إن الفرار عن الحر بالقعود إن أنجاكم منه لم ينجكم مما هو أشد منه وهو نار جهنم التي هي أشد حراً فإن الفرار عن هذا الهين يوقعكم في ذاك الشديد. ثم أفاد بقوله: { لو كانوا يفقهون } المصدر بلو التمني اليأس من فقههم وفهمهم.
قوله تعالى: { فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون } تفريع على تخلفهم عن الجهاد بالأموال والأنفس وفرحهم بالقعود عن هذه الفريضة الإِلهية الفطرية التي لا سعادة للإِنسان في حياته دونها.
وقوله: { جزاء بما كانوا يكسبون } والباء للمقابلة أو السببية دليل على أن المراد بالضحك القليل هو الذي في الدنيا فرحاً بالتخلف والقعود ونحو ذلك، وبالبكاء الكثير ما كان في الآخرة في نار جهنم التي هي أشد حراً فإن الذي فرع عليه الضحك والبكاء هو ما في الآية السابقة، وهو فرحهم بالتخلف وخروجهم من حر الهواء إلى حر نار جهنم.
فالمعنى: فمن الواجب بالنظر إلى ما عملوه واكتبسوه أن يضحكوا ويفرحوا قليلاً في الدنيا وإن يبكوا ويحزنوا كثيراً في الآخرة فالأمر بالضحك والبكاء للدلالة على إيجاب السبب وهو ما كسبوه من الأعمال لذلك.
وأما حمل الأمر في قوله: { فليضحكوا } وقوله: { وليبكوا } على الأمر المولوي لينتج تكليفاً من التكاليف الشرعية فلا يناسبه قوله: { جزاء بما كانوا يكسبون }.
ويمكن أن يكون المراد الأمر بالضحك القليل والبكاء الكثير معاً ما هو في الدنيا جزاء لسابق أعمالهم فإنها هدتهم إلى راحة وهمية في أيام قلائل وهي أيام قعودهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم إلى هوان وذلة عند الله ورسوله والمؤمنين ما داموا أحياء في الدنيا ثم إلى شديد حر النار في الآخرة بعد موتهم.
قوله تعالى: { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج } إلى آخر الآية المراد بالقعود أول مرة التخلف عن الخروج في أول مرة كان عليهم أن يخرجوا فيها فلم يخرجوا، ولعلها غزوة تبوك كما يهدي إليه السياق.
والمراد بالخالفين المتخلفون بحسب الطبع كالنساء والصبيان والمرضى والزمنى وقيل: المتخلفون من غير عذر، وقيل: الخالفون هم أهل الفساد، والباقي واضح.
وفي قوله: { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } الآية دلالة على أن هذه الآية وما في سياقها المتصل من الآيات السابقة اللاحقة نزلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفره ولما يرجع إلى المدينة، وهو سفره إلى تبوك.
قوله تعالى: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } نهي عن الصلاة لمن مات من المنافقين والقيام على قبره وقد علل النهي بأنهم كفروا وفسقوا وماتوا على فسقهم، وقد علل لغوية الاستغفار لهم في قوله تعالى: السابق: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } الآية 80 من السورة، وكذا في قوله { { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين } [المنافقون: 6] بالكفر والفسق أيضاً.
ويتحصل من الجميع أن من فقد الإِيمان بالله باستيلاء الكفر على قلبه وإحاطته به فلا سبيل له إلى النجاة يهتدي به، وأن الآيات الثلاث جميعاً تكشف عن لغوية الاستغفار للمنافقين والصلاة على موتاهم والقيام على قبورهم للدعاء لهم.
وفي الآية إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي على موتى المسلمين ويقوم على قبورهم للدعاء.
قوله تعالى: { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم } الآية تقدم بعض ما يتعلق بالآية من الكلام في الآية 55 من السورة.
قوله تعالى: { وإذا أُنزلت سورة إن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله } إلى آخر الآيتين. الطول القدرة والنعمة، والخوالف هم الخالفون والكلام فيه كالكلام فيه، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } لما ذم المنافقين في الآيتين السابقتين بالرضا بالقعود مع الخوالف والطبع على قلوبهم استدرك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه - والمراد بهم المؤمنون حقاً الذين خلصت قلوبهم من رين النفاق بدليل المقابلة مع المنافقين - ليمدحهم بالجهاد بأموالهم وأنفسهم أي أنهم لم يرضوا بالقعود ولم يطبع على قلوبهم بل نالوا سعادة الحياة والنور الإِلهي الذي يهتدون به في مشيهم كما قال تعالى: { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } [الأنعام: 122]. ولذلك عقب الكلام بقوله: { وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون } فلهم جميع الخيرات - على ما يقتضيه الجمع المحلى باللام - من الحياة الطيبة ونور الهدى والشهادة وسائر ما يتقرب به إلى الله سبحانه، وهم المفلحون الفائزون بالسعادة.
قوله تعالى: { وأعدّ الله لهم جنات تجري } الآية الإِعداد هو التهيئة وقد عبر بالإِعداد دون الوعد لأن الأُمور بخواتيمها وعواقبها فلو كان وعداً وهو وعد لجميع من آمن معه لكان قضاء حتمياً واجب الوفاء سواء بقي الموعودون على صفاء إيمانهم وصلاح أعمالهم أو غيروا والله لا يخلف الميعاد.
والاصول القرآنية لا تساعد على ذلك، ولا الفطرة السليمة ترضى أن ينسب إلى الله سبحانه أن يطبع بطابع المغفرة والجنة الحتمية على أحد لعمل عمله من الصالحات ثم يخلي بينه وبين ما شاء وأراد.
ولذلك نجده سبحانه إذا وعد وعداً علقه على عنوان من العناوين العامة كالإِيمان والعمل الصالح يدور مع الوعد الجميل من غير أن يخص به أشخاصاً بأعيانهم فيفيد التناقض بالجمع بين التكليف والتأمين كما قال تعالى: { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات } الآية 72 من السورة، وقال تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } [الفتح: 29] إلى أن قال { { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } [الفتح: 29]. قوله تعالى: { وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم } الآية. الظاهر أن المراد بالمعذرين هم أهل العذر كالذي لا يجد نفقة ولا سلاحاً بدليل قوله: { وقعد الذين كذبوا } الآية، والسياق يدل على أن في الكلام قياساً لإِحدى الطائفتين إلى الأُخرى ليظهر به لؤم المنافقين وخستهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم، حيث أن فريضة الجهاد الدينية والنصرة لله ورسوله هيج لذلك المعذرين من الأعراب وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذنونه، ولم يؤثر في هؤلاء الكاذبين شيئاً.
قوله تعالى: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } المراد بالضعفاء بدلالة سياق الآية: الذين لا قوة لهم على الجهاد بحسب الطبع كالزمنى كما أن المرضى لا قوة لهم عليه بحسب عارض مزاجي، والذين لا يجدون ما ينفقون لا قوة لهم عليه من جهة فقد المال ونحوه.
فهؤلاء مرفوع عنهم الحرج والمشقة أي الحكم بالوجوب الذي لو وضع كان حكماً حرجياً، وكذا ما يستتبعه الحكم من الذم والعقاب على تقرير المخالفة.
وقد قيد الله تعالى رفع الحرج عنهم بقوله: { إذا نصحوا لله ورسوله } وهو ناظر إلى الذم العقاب على المخالفة والقعود فإنما يرفع الذم والعقاب عن هؤلاء المعذورين إذا نصحوا لله ورسوله، وأخلصوا من الغش والخيانة ولم يجروا في قعودهم على ما يجري عليه المنافقون المتخلفون من تقليب الأُمور وإفساد القلوب في مجتمع المؤمنين، وإلا فيجري عليهم ما يجري على المنافقين من الذم والعقاب.
وقوله: { ما على المحسنين من سبيل } في مقام التعليل لنفي الحرج عن الطوائف المذكورين بشرط أن ينصحوا لله ورسوله أي لأنهم يكونون حينئذ محسنين وما على المحسنين من سبيل فلا سبيل يتسلط عليهم يؤتون منه فيصابون بما يكرهونه.
ففي السبيل كناية عن كونهم في مأمن مما يصيبهم من مكروه كأنهم في حصن حصين لا طريق إلى داخله يسلكه الشر إليهم فيصيبهم، والجملة عامة بحسب المعنى وإن كان مورد التطبيق خاصاً.
قوله تعالى: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت } الآية قال في المجمع: الحمل إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول: حمله يحمله حملاً إذا أعطاه ما يحمل عليه قال:
ألا فتى عنده خفّان يحملني عليهما إنني شيخ على سفر
قال: والفيض الجري عن امتلاء من قولهم: فاض الإِناء بما فيه، والحزن ألم في القلب لفوت أمر مأخوذ من حزن الأرض وهي الأرض الغليظة المسلك. انتهى.
وقوله: { ولا على الذين } الآية. موصول صلته قوله: { تولوا } الآية، وقوله: { إذا ما أتوك لتحملهم } كالشرك والجزاء والمجموع ظرف لقوله: { تولوا } وحزناً مفعول له، { وإن لا يجدوا } منصوب بنزع الخافض.
والمعنى: ولا حرج على الفقراء الذين إذا ما أتوك لتعطيهم مركوباً يركبونه وتصلح سائر ما يحتاجون إليه من السلاح وغيره قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا والحال أن أعينهم تمتلئ وتسكب دموعاً للحزن من أن لا يجدوا - أو لأن لا يجدوا - ما ينفقونه في سبيل الله للجهاد مع اعدائه.
وعطف هذا الصنف على ما تقدمه من عطف الخاص على العام عناية بهم لأنهم في أعلى درجة من النصح واحسانهم ظاهر.
قوله تعالى: { إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء } الآية، القصر للإِفراد والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: { يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم } إلى آخر الآية. خطاب الجمع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعاً، وقوله: { لن نؤمن لكم } أي لن نصدقكم على ما تعتذرون به بناء على تعدية الإِيمان باللام كالباء - أو لن نصدّق تصديقاً ينفعكم - بناء على كون اللام للنفع - والجملة تعليل لقوله: { لا تعتذروا } كما أن قوله: { قد نبأنا الله من أخباركم } تعليل لهذه الجملة.
والمعنى يعتذر المنافقون إليكم عند رجوعكم من الغزوة إليهم قل يا محمد لهم: لا تعتذروا إلينا لأنا لن نصدّقكم فيما تعتذرون به لأن الله قد أخبرنا ببعض أخباركم مما يظهر به نفاقكم وكذبكم فيما تعتذرون به، وسيظهر عملكم ظهور شهود لله ورسوله ثم تردّون إلى الله الذي يعلم الغيب والشهادة يوم القيامة فيخبركم بحقائق أعمالكم.
وفي قوله: { وسيرى الله عملكم ورسوله } الخ في إيضاحه كلام سيمرّ بك عن قريب.
قوله تعالى: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم } الآية أي لتعرضوا عنهم فلا تتعرضوا لهم بالعتاب والتقريع وما يتعقب ذلك فأعرضوا عنهم لا تصديقاً لهم فيما يحلفون له من الأعذار بل لأنهم رجس ينبغي أن لا يقترب منهم { ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون }.
قوله تعالى: { يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } أي هذا الحلف منهم كما كان للتوسل إلى صرفكم عنهم ليأمنوا الذم والتقريع كذلك هو للتوسّل إلى رضاكم عنهم أما الإِعراض فافعلوه لأنهم رجس لا ينبغي لنزاهة الإِيمان وطهارته أن تتعرض لرجس النفاق والكذب وقذارة الكفر والفسق، وأما الرضى فاعلموا أنكم إن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى لفسقهم والله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
فالمراد أنكم إن رضيتم عنهم فقد رضيتم عمن لم يرض الله عنه أي رضيتم بخلاف رضى الله، ولا ينبغي لمؤمن أن يرضى عمَّا يسخط ربَّه فهو أبلغ كناية عن النهي عن الرضا عن المنافقين.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: { فرح المخلفون } الآية أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه - عليهما السلام - قال: كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي غزوة الحرّ { قالوا لا تنفروا في الحرّ } وهي غزوة العسرة.
وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال رجال: يا رسول الله إن الحرّ شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحرّ فقال الله { قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون } فأمره بالخروج.
أقول: ظاهر الآية أنهم إنما قالوه ليخذلوا الناس عن الخروج، وظاهر الحديث أنهم إنما قالوه إشارة فلا يتطابقان.
وفيه أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد إلى تبوك فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحرّ فأنزل الله: { قل نار جهنم أشدّ حراً } الآية.
أقول: تقدمت أخبار في قوله تعالى: { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } الآية أن القائل لقوله: { لا تنفروا في الحر } هو جدّ بن قيس.
وفي الدر المنثور أيضاً في قوله تعالى: { ولا تصل على أحد منهم } الآية أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أُبي بن سلول أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقام عمر بن الخطاب فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: إن ربي خيرني وقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، وسأزيد على السبعين فقال: إنه منافق فصلى عليه فأنزل الله تعالى: { ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } فترك الصلاة عليهم.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أُخرى رواها أصحاب الجوامع ورواة الحديث عن عمر بن الخطاب وجابر وقتادة، وفي بعضها أنه كفنه في قميصه ونفث في جلده ونزل في قبره.
وفيه أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم والنحاس وابن حبّان وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أُبي دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أتصلي على عدو الله عبد الله بن أُبي القائل كذا وكذا والقائل كذا وكذا - أُعدد أيامه - ورسول الله يتبسم حتى إذا أكثرت قال: "يا عمر أخّر عني إني قد خيّرت قد قيل لي: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة، فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه"
].
فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عزّ وجلّ.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي أن عمر بن الخطاب قال: لقد أُصبت في الإِسلام هفوة ما أُصبت مثلها قط أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أُبي فأخذت بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا. لقد قال الله: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قد خيرني ربي فقال: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم }"
].
فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه، يا حباب افعل كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحباب اسم شيطان أنت عبد الله"
].
وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن ابن عبد الله بن أُبي قال له أبوه: اطلب لي ثوباً من ثياب النبي صلى الله عليه وسلم فكفّني فيه ومره أن يصلي علي قال: فأتاه فقال: يا رسول الله قد عرفت شرف عبد الله وهو يطلب إليك ثوباً من ثيابك نكفّنه فيه وتصلي عليه.
فقال عمر: يا رسول الله قد عرفت عبد الله ونفاقه أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال: "وأين؟ فقال: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } قال: فإني سأزيد على سبعين" فأنزل الله: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } الآية قال: فأرسل إلى عمر فأخبره بذلك، وأنزل الله: { سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم }.
أقول: وقد ورد استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن أُبي وصلاته عليه في بعض المراسيل من روايات الشيعة أيضاً أوردها العيَّاشي والقمي في تفسيريهما، وقد تقدم خبر القمي.
وهذه الروايات على ما فيها من بعض التناقض والتدافع واشتمالها على التعارض فيما بينها يدفعها الآيات الكريمة دفعاً بيناً لا مرية فيه:
أما أولاً فلظهور قوله تعالى: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } ظهوراً بيّناً في أن المراد بالآية بيان لغوية الاستغفار للمنافقين دون التخيير، وأن العدد جيىء به لمبالغة الكثرة لا لخصوصية في السبعين بحيث ترجى المغفرة مع الزائد على السبعين.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أجل من أن يجهل هذه الدلالة فيحمل الآية على التخيير ثم يقول سأزيد على سبعين ثم يذكره غيره بمعنى الآية فيصر على جهله حتى ينهاه الله عن الصلاة وغيرها بآية أُخرى ينزَّلها عليه.
على أن جميع هذه الآيات المتعرضة للاستغفار للمنافقين والصلاة عليهم كقوله: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وقوله: { سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم } وقوله: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } تعلل النهي واللغوية بكفرهم وفسقهم، حتى قوله تعالى في النهي عن الاستغفار للمشركين: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } آية: 113 من السورة ينهى عن الاستغفار معللاً ذلك بالكفر وخلود النار، وكيف يتصور مع ذلك جواز الاستغفار لهم والصلاة عليهم؟.
وثانياً: أن سياق الآيات التي منها قوله: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } الآية صريح في أن هذه الآية إنما نزلت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفره إلى تبوك ولما يرجع إلى المدينة، وذاك في سنة ثمان، وقد وقع موت عبد الله بن أُبيّ بالمدينة سنة تسع من الهجرة كل ذلك مسلم من طريق النقل.
فما معنى قوله في هذه الروايات: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على عبد الله وقام على قبره ثم أنزل الله عليه: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } الآية؟
وأعجب منه ما وقع في بعض الروايات السابقة أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اتصلِّي عليه وقد نهاك عن الصلاة للمنافقين فقال: إن ربي خيَّرني ثم اأزل الله: { ولا تصلّ على أحد منهم } الآية.
وأعجب منه ما في الرواية الأخيرة من نزول قوله: { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم } الآية، والآية من سورة المنافقون وقد نزلت بعد غزاة بني المصطلق وكانت في سنة خمس وعبد الله بن أُبيّ حي عندئذ وقد حكي في السورة قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وقد اشتمل بعض هذه الروايات وتعلَّق به بعض من انتصر لها على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما استغفر وصلى على عبد الله ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلى الإِسلام، وكيف يستقيم ذلك؟ وكيف يصح أن يخالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم النص الصريح من الآيات استمالة لقلوب المنافقين ومداهنة معهم؟ وقد هدَّده الله على ذلك بأبلغ التهديد في مثل قوله { { إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } [الإسراء: 75] الآية. فالوجه أن هذه الروايات موضوعة يجب طرحها بمخالفة الكتاب.
وفي الدر المنثور في قوله: { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } الآية أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن علي بن أبي طالب خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء ثنية الوداع يريد تبوك، وعلي يبكي ويقول تخلفني مع الخوالف؟ فقال رسول الله صى الله عليه وسلم: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة.
أقول: والرواية مروية بطرق كثيرة من طرق الفريقين.
وفي تفسير العيّاشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } قال: مع النساء.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال: لقد تركتم بالمدينة رجالاً ما سرتم في مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر.
وفي المجمع في قوله تعالى: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى } الآيتين قيل: إن الآية الأولى نزلت في عبد الله بن زائدة وهو ابن أُم مكتوم وكان ضرير البصر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إني شيخ ضرير خفيف الحال نحيف الجسم وليس لي قائد فهل لي رخصة في التخلف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية. عن الضحاك: وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. عن قتادة.
والآية الثانية نزلت في البكّائين وهم سبعة نفر: منهم عبد الرحمن بن كعب وعلبة بن زيد وعمرو بن ثعلبة بن غنمة وهؤلاء من بني النجار، وسالم بن عمير وهرمي بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن عوف [أ] وعبد الله بن مغفل من مزينة جاءوا إلى رسول الله فقالوا يا رسول الله احملنا فإنه ليس لنا ما نخرج عليه فقال: لا أجد ما احملكم عليه عن أبي حمزة الثمالي.
وقيل: نزلت في سبعة من قبائل شتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: احملنا على الخفاف والنعال. عن محمد بن كعب وابن إسحاق.
وقيل: كانوا جماعة من مزينة. عن مجاهد، وقيل: كانوا سبعة من فقراء الأنصار فلما بكوا حمل عثمان منهم رجلين، والعباس بن عبد المطلب رجلين، ويامين بن كعب النضري ثلاثة عن الواقدي قال: وكان الناس بتبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين ألفاً منهم عشرة آلاف فارس.
أقول: والروايات في أسماء البكّائين مختلفة اختلافاً شديداً.
وفي تفسير القمي قال: قال: وإنما سأل هؤلاء البكّاؤن نعلاً يلبسونها.
وفي المعاني بإسناده عن ثعلبة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: { عالم الغيب والشهادة } فقال: الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان.
أقول: وهو من باب إراءة بعض المصاديق واللفظ أعمّ.
وفي تفسير القمي قال: ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك كان أصحابه المؤمنون يتعرّضون المنافقين ويؤذونهم فأنزل الله: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم } إلى آخر الآيتين.
وفي المجمع قيل: نزلت الآيات في جدّ بن قيس ومتعب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلاً، ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة راجعاً عن تبوك قال: لا تجالسوهم ولا تكلموهم. عن ابن عباس.