خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
١٨
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وجَاءُوا عَلى قميصِهِ } متعلق بمحذوف حال من دم، ولا يقاس ذلك، لأن الحال لا تتقدم على صاحبها المجرور بحرف غير زائد، وأجاز ابن مالك قياسه كالفارسى، وابن كيسان، وابن برهان، وابن ملكون، وبعض الكوفيين، قال ابن مالك فى شرح التسهيل: هو الصحيح، انتهى، وعلى كل حال فتخريج الآية عليه أنسب المعنى، وأسلم من التكلف، ويجوز كون على بمعنى مع فتعلق بمحذوف حال من الواو، أو بجاءوا على الأول تكون الباء فى قوله:
{ بدمٍ } بدلا من همزة التعدية متعلقة بجاءوا بمعنى مع متعلقة بمحذوف حال من الواو، وبجاءوا على الثانى، تكون بدلا من الهمزة متعلقة بجاءوا بمحذوف حال من قميص، ويجوز كون الباء متعلقة بكون خاص هو الحال من قميص أى ملطخا بدم.
{ كَذبٍ } وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب كقوله:

* فهن به جود وأنتم به بخل
*

فجعلهن نفس الجواد، وجعلهم نفس البخل مبالغة، أو يأول باسم مفعول أى بدم مكذوب فيه، أو يقدر مضافا أى ذى كذب، أو هو صفة مبالغة لا مصدر ولو قل مثله، وقرئ كذبا لنصب على الحال بأحد تلك الأوجه من كونه مصدرا مبالغة، أو مؤلا بالوصف لكن باسم الفاعل هنا، أى كاذبين، أو كونه بتقدير مضاف، أى ذوى كذب، أو كونه صفة مبالغة، وأجيز كونه مفعولا لأجله، وإنما وصف الدم بأنه كاذب لأنه ليس دم يوسف كما قالوا، وقراءة عائشة كذب بإهمال الذال، أى طرى وقيل: كدر، واختاره بعض.
وقال ابن جنى أصله البياض الخارج على أظفار الصغار، شبه به الدم اللاصق على القميص، وفى رواية أنهم لم يجيئوا أولا بقميصه إليه بل أمسكوه عندهم حتى، قال: ماعلامة ذلك؟ فأخرجوه إليه، وقيل: لما قالوا له:
{ إنَّ ذهبنا نستبق } الخ قال لهم: أرونى قميصه، فأروه إياه فقال: والله الذى لا إله إلا هو ما رأيت ذئبا أحلم من هذا لم يخرق له قميصا، ولم يشق له جيبا، وصاح صيحة وخر مغشيا عليه، فلم يفق إلا بعد ساعة طويلة، فلما فاق بكى بكاء شديدا، وأخذ القميص يشمه ويضعه على وجهه وعينيه.
قال الشعبى: كان فى قميص يوسف ثلاث آيات: لما جاءوا به إلى أبيه وقالوا: أكله الذئب: فقال: لو أكله لشق قميصه، وحيث سعى نحو الباب فقدت زليخا قميصه من خلف، فعلم العزيز أنه لو راودها لكان الشق من بين يديه، وحيث ألقى على وجه أبيه فارتد بصيرا، وكل قميص غير الآخر.
وعن ابن عباس: لما أعطوه القميص بكى، ثم تأمله فلم ير به خرقا ولا أثر ناب، استدل على كذبهم فقال: متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يخرق قميصه، وذلك أنهم غفلوا أن يمزقوه.
وروى انه [لما] سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته: أين القميص؟ فأعطوه، فألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابنى ولم يمزق عليه قميصه.
وروى أنه لما رأى الدم على القميص بكى، ولما قلبه ضحك، قالوا: يا أبانا الضحك والبكاء فى موضع واحد من فعل المجانين، فقال: أما بكائى فعلى الدم صحب القميص، لما رأيت الدم توهمت أن الذئب أكله، ولما رأيت القميص صحيحا رجوت أن الحديث غير صحيح، لأن الذئب إذا أكل الإنسان يمزق قميصه.
وروى أنه قال لهم: ائتونى بالذئب الذى أكله إن كنتم صادقين، فعمدوا إلى ذئب فصادوه.
وروى لما رجعوا إلى مراعيهم من الغد، قال بعضهم لبعض: هل رأيتم ما كان من تكذيب أبيكم البارحة، فإذا أردتم أن يصدقكم فنسير إلى الجب فنخرج يوسف، ونفرق بين أضلاعه ولحمه، ونأتيه به، فقال: يهودا: يا إخوتاه أين العهد الذى بينى وبينكم، لئن فعلتم لأخبرن يعقوب بما كان منكم، ثم لأكونن لكم عدواً، فتركوه، وكان يهودا راحما به، يأتيه ليلا يؤنسه ويطعمه ويسقيه، فيقول يوسف: لا بأس بى، فيقول: فما بكاؤك؟ فيقول: حزنا على بكاء أبى وأختى، وحزنهما علىَّ ويسأله عنهما.
ولما قال لهم: ائتونى بالذئب عمدوا إلى حبالهم وعصيهم، وعمدوا ألى الصحراء فاصطادوا ذئبا فشدوه وأوثقوه كتافا، ثم حملوه إلى يعقوب فتركوه بين يديه، فقال: حلوا عقاله، فحلوه، فقال له يعقوب: أيها الذئب أكلت قرة عينى، وثمرة فؤادى، وحبيب قلبى، لقد أورثتنى حزنا طويلا، فتكلم الذئب بإذن الله تعالى فقال: لا وحقّ شيبتك يا نبى الله ما أكلت لك ولدا، وإن لحومكم ودماءكم معاشر الأنبياء محرمة علينا، وإنى لمظلوم مكذوب علىَّ، وإنى ذئب غريب من بلاد مصر، فقال له يعقوب: ما الذى أدخلت أرض كنعان؟ فقال له: أنا ذئب غريب أتيت من أرض مصر فى طلب أخ لى، فما أدرى أحى هو أم ميت.
وروى أنه لم يطالبهم أن يأتوا بالذئب، ولكن قالوا: نأتى به؟ فقال: نعم، ولم يعلموا أن الذئب ينطق له، فاصطادوا ذئبا فكسروا رباعيته فحملوه بسلسلة نحوه، فقال: بئس ما فعلت، أكلت وجها كالقمر المنير، أما رحمت ذلك الصغير؟ أما أشفقت على هذا الشيخ الكبير؟ فأنطقه الله فقال: السلام عليك يا نبى الله، إن لحوم الأنبياء محرمة على جميع السباع وأنا برئ مما توهمت، والله تعالى بينى وبين أولادك، قالوا علىَّ الزور، أما قرءوا فى صحف إبراهيم أن: الزور والبهتان عظيم.
فتحير يعقوب ونكس أولاده رءوسهم، ثم قال: أيها الذئب من أين أنت؟ قال: أنا غريب من أرض أصبهان، جئت فى طلب ولد لى فارقنى ودخل بلاد الشام، فلقيت الذئاب فأخبرونى أنه اصطاده ملكهم على أن يذبحه غدا، ولى سبعة عشر يوما ما ذقت طعاما من حرقتى عليه، فبكى يعقوب وقال: إذا حزن الذئب على الفراق فكيف أطيق أنا الفراق؟ ثم قال: هل عندك خبر يوسف؟ قال: نعم، قال: أخبرنى. قال: ولم؟ قال: أخشى العار يسمنى غمازا، والغماز عندنا مبغوض عند الله وعند الناس، ولا نصيب له فى الرحمة والجنة، أى إن كان من المكلفين، وإلا فالذئب ونحوه لا مطمع لهم فى الجنة، ولا عقاب عليه بالنار، قال له يعقوب: أنا أشفع فى ابنك، قال: فأنا أشفع فى ابنك واسأل الله أن يرده عليك.
وروى أنه قال: والله ما رأيت ولدك قط ولا أكلته، وإنما وقعت بأرض كنعان لأصل رحما، فأنطق الله الذئب له ولرؤيته القميص صحيحا، وعلمه من حسدهم: أو لإيحاء الله سبحانه إليه كما قال الحسن: إنه أوحى إليه بحياة يوسف دون إعلام بمكانه، قال لهم: ليس الأمر كما قلتم.
{ بَلْ سَوَّلتْ } أى زينت وسهلت، أو هونت من السول وهو استرخاء ما تحت السرة من البطن، قال بعض: أصل التسويل تقدير معنى فى النفس مع الطمع فى إتمامه { لكُم أنفُسكم أمراً } عظيما تصنعونه بيوسف { فَصبرٌ جَميلٌ } لا أشكوا فيه إلى الخلق، ولا أجزع.
وفى حديث مرفوع: أشكوا فيه أى إلى الخلق بدليل قوله:
{ إنما أشكوا بثى وحزنى إلى الله } وفى حديث: من بث أى إلى الخلق لم يصبر صبرا جميلا، وقيل مراده لا أعايشكم على كئابة الوجه، بل أكون لكم كما كنت، وقيل: هو أن لا يحدث المصيبة ولا يزكى نفسه.
وروى أن حاجبيه سقطا على عينيه، فكأن يرفعهما بعصابة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان، وكثرة الأحزان، فأوحى الله سبحانه وتعالى: يا يعقوب تشكونى؟ قال: يا رب خطيئة فاغفر لى، وصبر مبتدأ خبره محذوف أو بالعكس.
قال ابن هشام: إذا دار العمر بين كون المحذوف مبتدأ وكونه خبرا، قال الواسطى: الأولى كون المحذوف المبتدأ، لأن الخبر محط الفائدة: وقال العبدى: الأولى حذف الخبر لأن التجوز أضر لجملة أسهل، نقل القولين ابن إبان، ومثال المسألة هذا جميل، أى شأنى صبر جميل، أو صبر جميل أمثل من غيره، أى لأن المقام يدل على كل واحد ويقلبه، وقدر بعضهم فصبرى صبر جميل، وبعض فأمرى صبرى جميل وفصبر جميل أجمل، وبعض فشأنى صبر جميل، والمصدق واحد.
{ والله المستعان } المطلوب منه العون { عَلى ما تَصِفُون } على احتمال ما تصفون هلاك يوسف، والصبر على المصيبة، وقيل: من القول الكاذب، وبه قال الشيخ هودرحمه الله ، قال ابن عباس: إنما كان سبب بلاء يعقوب أنه ذبح شاة وهو صائم فاستطعمه جار له فلم يطعمه، قيل ذبح ناقة وشوى، فوجد جاره ريح الشواء ولم يطعمه، وقيل طبخ فوجد ريح الطبيخ فلم يطعمه، وقيل: سأله سائل طعاما فلم يطعمه، وقيل: باع أمة وفرق بينها وبين ولدها، ولما قال يوسف: يا صانع غير مصنوع إلى آخر ما مر، وذلك فى اليوم الرابع، قيض الله جل وعلا من يخرجه من الجب كما قال: { وجَاءتْ سيَّارةٌ... }