خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
٥٨
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وجاء إخْوةُ يُوسفَ فدَخلُوا عليْهِ } إلا واحدا فإنه أمسكه أبوه وهو بنيامين، ويدل على هذا الاستثناء قوله: { ائتونى بأخ لكم من أبيكم } { فَعَرفهمْ } قيل: عرفهم أولا أنه لم يميز بين يهودا وشمعون، ونزل الملك فميز له بينهما، فعرف كلا على حدة { وهُم لهُ منْكرونَ } قال ابن عباس، ومجاهد: عرفهم يوسف بأول نظرة، قال الحسن: لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه.
قال ابن عباس: بين أن قذفوه فى الجب وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة، ولذلك أنكروه، وذكر بعضهم: أن المعصية تورث النكرة وتلا هذه الآية، وما يوجب النكرة أنهم فارقوه صغيرا، وأنهم اعتقدوا أنه مات، وأنه ذهب عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه، واهتمامهم به، ولبعد حاله التى هو فيها من السلطان والملك، عن حاله حين ألقوه فى الجب، وحين باعوه بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم، ولأن الملك يبدل الزى ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف.
وقال عطاء: لم يعرفوه لأنه كان على سرير الملك، وعلى رأسه تاج الملك، وقيل: لأنهم رأوه على زى ملوك مصر، عليه ثياب الحرير، جالسا على سرير، فى عنقه طوق من ذهب، وفى رأسه تاج، ولأنه يتكلم بالقبطية، وقيل: لأنهم وقفوا من بعيد حيث يقف طلاب الحوائج، وعلى كل حال، فإن الله جل وعلا لم يخلق فيهم معرفة تحقيقا لما أخبره أنه سينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال، ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذاك، لاهتمامه بهم، فكان يتأمل ويتفطن.
وروى أنه أدخلهم فى ثانى يوم، وروى أنه قال لصاحب المائدة: لا تنزل هؤلاء فى دار الغرباء، ولكن أدخلهم فى دارى، وانصب لهم المائدة كما تنصبها بين يدى، واحفظهم وأكرمهم، فقال: من هم يا مولاى، فقد أتاك أقوام ومعهم الأموال والذخائر وما أنزلتهم إلا فى دار الغرباء؟ فقال: لا تكثر قولك، افعل بهم ما أمرتك، فنزل الخادم من القصر، وأمرهم بدخول الدار، وبسط لهم الفرش والمساند، ويوسف ينظر إليهم من الكوة ويأمر الخادم بلسان القبط ويقول: ابسط لهم كذا وكذا، وافعل بهم كذا وكذا، ولا يدرون ما يقول.
ولما رأوا ملكه حين دخلوا إليه أول مرة، نكسوا رءوسهم، وكان كل ينتظر ما يؤمر به، ويحكم فيه، فجعل ينظر إليهم ويتذملهم، ويطيل النظر إليهم، ولا يدرون، ثم يتشاغل عنهم بغيرهم، وينظر إلى جهة أخرى، ويكلم وزراءه بما يريد، وأمر باعتزالهم إلى حيث أمر الخادم أن ينزلهم ولم يكلمهم، ولما جن الليل، وضع بين أيديهم الموائد والشموع والمجامير، فنظروا إلى دار الغرباء من كوة، والخدم يرفعون لكل فقير قرصة شعير للغلاء.
وكان حمل البعير بألف دينار ومائتى دينار، والتفت لابنه ميشا وقال له: اشدد وسطك بالمنطقة الملكية واخدمهم، قال: ومن هم يا أبت؟ قال هم أعمامك يا بنى، قال: هم الذين باعوك؟ قال: نعم باعونى حتى صرت ملك مصر، ما تقول يا بنى أحسنوا أم أساءوا فيما عملوا، قال له: يا أبت بل أحسنوا والله فيما عملوا، فماذا أقول لهم؟ قال: لا تكلمهم، ولا تفش ذلك لهم حتى يأذن الله تعالى لنا، فبكى ميشا وبكت زليخا حين أخبرهما أنهم إخوته، ولم يأذن لهم بالدخول بعد لاشتغاله، وتشوشت خواطرهم.
وفى رواية أنهم عالمون بنظره إليهم، وتشوشت خواطرهم من كثرة نظره إليهم، فقال يهودا: يا إخوتاه إن هذا الملك يكثر النظر إلينا، ويكرمنا غاية الإكرام، فإما أن يكون أعجبته أجسامنا فأراد الاستعانة بنا على عدوه، وسد ثغر من ثغوره، وإما أن يكون فعل ذلك غبطة لآبائنا وأنسابنا، أو بلغة ما فعلنا بيوسف، فأراد أن يفضحنا ويدمر علينا، وهذا هو المصرع الذى أخوفكم، أو رحمكم لفقركم، ويوسف يسمع ما يقول ويبكى.
ورى وأنهم يعدون عليه ويروحون وهم فى كرامة متصلة، ويظهر لهم التجهم فتحيروا من جمعه بين التجهم والإكرام، وكلما أرادوا مفاجأته بالكلام داخلهم الهبة والخجل، ثم أذن لهم يوما فى الجلوس إليه، وأكرم مجلسهم، وسألهم بترجمان، وكان كلما له الترجمان بما قالوا نقر الصواع فيقول: إن الصواع يخبرنى بصدقهم، فيخبرهم الترجمان بذلك، وكان سؤاله عن نسبهم وأسمائهم ومقصودهم وبلدهم.
وقد ثبت فى الحديث: كان يوسف يلقى حصاة فى إناء مخوص بالذهب فيطن، ورى أيضا أنه قال: إنه طن، وقال يوسف: إنه يخبرنى أن لكم أباً شيخاً كبيراً، وقال: هل لوالدكم سواكم؟ قالوا: نعم كان له ولد اسمه يوسف فقده ولا ندرى كيف خبره، وأخ شقيق ليوسف حبسه عنده يأنس به، فنقر الصوع فخرج طنين عال فقال لترجمانه: قل لهم: إن الصواع يخبرنى أنكم كاذبون فى خبر هذا الواحد المفقود، إذ قلتم لا ندرى كيف خبره، فتغيرت ألوانهم، وتجلجلت ألسنتهم، وارتعد فرائصهم.
ثم قال: كيف كان سبب فقده، حتى لم يعلم حقيقة أمره؟ فقال واحد: أكله الذئب، وقال آخر: أسره العدو، وقال آخر: غرق فى البحر، فهز يوسف رأسه ونظر إلى الأرض، ثم رفع رأسه وقال: ما حال والده بعده؟ قال: هو باكى العين، قريح القلب، حليف الأسى، لا يستلذ بهجوعه، ولا يشرب إلا ماء دموعه، قد اعتزل عن الناس، وهجر الخدين، واتخذ لنفسه غارا تحت الأرض، ودخل فيه وبكى حتى ابيضت عيناه، وليس له ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار، فتقلقل يوسف تقلقل الواجد، سماع أخبار الوالد.
فنقر الصواع فقال للترجمان: قل لهم ما ذكرتم من أنكم أنبياء وأولاد أنبياء، فإنى لا أرى عليكم أسرة إنما أنتم لصوص أو جواسيس لأحد الملوك المجاورين، إنما بعثكم لتطلعوا على عوراتنا، فإذا رجعتم جئتم بأمثالكم من أهل القوة والنجدة تقاتلوننا، ومراد التشبيه لهم بمن ذكر، أو ذلك قول بعضهم: أنه لم يعرفهم حتى عرفوه بأنفسهم - وإن قوله هذا إنما هو قبل تعرفهم له أو ذلك منه بمنزلة قولك لمن عرفته،: إنه غير فلان لعلك فلان، وما الدليل على أنك غيره، تريد مباحثته، وأن يستدل لك - إنما نحن رعاة إبل وشاء، قال لا أسرحكم من سجنى حتى أعلم خبركم، فإن الصواع يخبرنى عنكم بأمور، فأظهروا الخضوع، وسكبوا الدموع.
وقالوا: نسألك أيها الملك بالذى بلغك هذه المنزلة، وأكرمك إلا رحمتنا وسرحتنا إلى أبينا، فإنه اليوم أعظم حقا عليك، وعلى أهل الأرض، وإن لم ترحمنا فارحم الشيخ يعقوب، فلو رأيته لأبكاك، قد احدودب ظهره، وابيضت عيناه، وكابده الوهن والشيب قبل أوانه، وقد توسلنا إليك به فلا تضيع وسيلتنا، ولا تخيب ظنوننا فيك.
فقال: أما ما ذكرتم من حرمة أبيكم فإنى لا أعلم اليوم أحدا على وجه الأرض أعظم حرمة منه، ولا أعلى قدرا، ولا أوجب حقا فلو مشى على ظهرى مقبلا ومدبرا ما قضيت حقه، ولا أنكرت سبقه، فأخبرونى ما أحزنه وهو نبى، أليست الجنة بين عينيه يرجوها، وقد أمنه الله فى عاقبته، ولعله كثرة سفهكم عليه وعقوقكم؟ قالوا: كلنا لسنا سفهاء ولا عاقين، إنما ذلك من فقد أنيسه وحبيبه يوسف، وكان أصغرنا وأحبنا إليه، خرج إلى المرعى معنا فأكله الذئب، وقد حبس أصغرنا بعده يستأنس به وهو أحبنا إليه بعد يوسف.
فقال: كيف يحب الصغير دون الكبير؟ فقالوا: أيها العزيز لو رأيته لاخترته على جميع العالمين، وكنا نحبه، ورأى رؤيا نكرهها فكرهناه، فقال: ما هى؟ قالوا: ظن أنه يكون ملكا ونحن بين يديه كالعبيد، قال: فهل وصل إلى الملك؟ كل واحد منهم: بل وصل إلى مُلْك الجنة، وأما مُلْك الدنيا فما وصل إليه، قال: لولا أنى أخشى أن تكونوا صادقين لحبستكم وعذبتكم عذابا شديدا، ولكن إن صدقتم فارجعوا إلى أبيكم وأقرءوه منى السلام، وقولوا له: يكتب إلى كتابا يشرح فيه حاله، ويخبرنى ما الذى أحزنه وأعمى بصره، وأنا أوقر لكم دوابكم ودابة الذى تخلف مع أبيكم وهو أصغركم فيما تقولون، وإذا بلغتم فأتونى به كما قال الله عز وجل: { ولمَّا جَهَّزهُم... }