خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ
١٢٦
وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
١٢٧
-النحل

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } فكفر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن يمينه، فقال: بل أصبر. فقال للصحابة: ما أنتم فاعلون. قالوا: نصبر كما صبرت وكما ندبنا فلم يمثلوا بأحد. "روى أن هند بنت عتبة جاءت حمزة وقد جذع المشركون أنفه وقطعوا ذكره وشقوا بطنه فقطعت من كبده فمضغت ولم تطق أن تبلع، وقيل بلعت ما قطعته ولم يلبث فى بطنها حتى رمت به، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أما لو أكلتها لم تدخل النار أبداً حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار" ، وأسلمت بعد ذلك، فكان قوله ذلك لظنه أنها تموت مشركة لا للجزم بأنها تموت مشركة لعلها مع إِسلامها تموت غير موفية به. وروى "أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى عمه حمزة ـ رضى الله عنه ـ قد شق بطنه وجذع أنفه واصطلم أذناه فقال: لولا أن تحزن النساء أو تكون السنة بعدى لتركته حتى يبعث من بطون السباع والطير، لأقتلن سبعين سيداً مكانه منهم ثم دعا ببرده فغطى بها وجهه فخرجت رجلاه فجعل عليهما شيئاً من الإِذخر فقدمه وكبر عليه عشراً وصلى عليه سبعين صلاة" ، وروى سبعين تكبيرة، وكان القتلى سبعين رجلا دفنهم من غير غسل ولا صلاة، كذا زعم بعض ولا غسل دم. روى "لما رأى حال عمهِ حمزة وقد مثلوا بِه بكى بكاءً شديداً ولم ير شيئاً أوجع لقلبه منهُ، فقال رحمة الله عليه كنت وصولا للرحم فعالا للخيرات ولولا حزن من بعدك عليك لسرنى أن أدعك أن تحشر من أجواف شتى، أما والله لأَن أظفرنى الله بهم لأُمثلن بسبعين منهم مكانك" . وقيل: قال بثلاثين، فنزلت الآية وذلك بالمدينة { وإِن عاقبتم فعاقبوا }.. إلخ. قال كعب: أصيب من الأَنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة، فقالت الأَنصار: لأَن أصبنا منهم يوماً لنزيدن فى الفعل والمثلة، ولما كان فتح مكة أنزل الله تعالى { وإِن عاقبتم }.. الخ، فقالوا: بل نصبر يا ربنا. وروى أن رجلا من المسلمين قال: لا قريش بعد اليوم. فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كفوا عن القوم إِلا أربعة: والذى قتل حمزة هو وحشى كان غلاماً لجبير ابن مطعم بن عدى وكان عمه طعيمة بن عدى أصيب ببدر فلما سارت قريش إِلى أحد قال له: إِن قتلت حمزة عم محمد بعمى فأَنت عتيق، قال: وكنت حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشية ما أخطىء بها شيئاً فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة حتى رأيته فى عرض الجيش مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هداً، ما يقول له شىء فوالله إِنى لأتهيأ له وأستتر منه بحجر وشجر ليدنو منى إِذ تقدم إِليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة قال له: يا ابن مقطعة البطون فضربه والله لكأنما أطاح رأْسه وهززت حربتى فدفعتها إِليه فوقعت فى ثديه حتى خرجت من رجله وتركتهُ حتى مات فأخذت حربتى ثم رجعت إِلى الناس فقعدت فى العسكر ولم يكن لى بغيره حاجة وإِنما قتلتهُ لأُعتق ولما قدمت مكة عتقت وأقمت بها حتى فشا فيها الإِسلام فخرجت إِلى الطائف، فلما رجع منها قدم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرآه. فقال: أنت قاتل حمزة أنت وحشى. قلت: نعم. قد كان من الأَمر ما بلغك وذلك بعد إِسلامه، فقال هل تستطيع أن تغيب وجهك عنى. قال: فخرجت فلما قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخرج الناس إِلى مسيلمة الكذاب، قلت: لأخرجن إِليهِ لعلى أقتلهُ فأُكافئ به حمزة فخرج مع الناس فقتلهُ يوم اليمامة أو شارك رجلا فى قتلهِ. استشهد حمزة رضى الله عنه فى أُحد نصف شوال ثالث سنين الهجرة بعد أن قتل أحد وثلاثين كافراً. قال وحشى: رأيته يهد الأَبطال هداً فاختفيت لهُ فلما تمكنت منهُ رميتهُ بحربتى فأصابته فوليت هارباً فتبعنى ثم سقط. قال بعضهم: لما أسلم قبله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال غيب وجهك عنى، أى خشية أن يصيبه منه شىء إِذا تذكر قتل حمزة، وخرج يوم اليمامة فشارك رجلا فى قتل مسيلمة الكذاب، فكان يقول هذه بتلك ومع ذلك فقد أصابه لما صح عن ابن المسيب أنه قال: كنت أعجب لقاتل حمزة كيف ينجو حتى مات غريقاً فى الخمر. وقال ابن هشام: بلغنى أنه لم يزل يجد فى الخمر حتى خلع عن الديوان، فكان عمر يقول: لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة، ولما رآه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتيلا بكى ولما رأى ما مثل به شهق وقال: لئن أصاب بمثلك أبدا ما وقفت موقفاً أغيظ لى من هذا. وذكر ابن شاذان عن ابن مسعود ما رأينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ باكياً قط أشد من بكائه على حمزة وضعه فى القبلة ثم وقف على جنازته وبكى حتى كاد يغشى عليه، يقول: يا حمزة يا عم رسول الله، يا أسد الله، وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا ذابا عن وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس فى هذا نواح ولا تعديد شمائل بل إِخبار بفضائله وشمائلهِ رضى الله عنه، وصح حديث "أنه سيد الشهداء يوم القيامة" ، وصحح الحاكم حديث "والذى نفسى بيده إِنه لمكتوب عند الله تبارك وتعالى فى السماء السابعة حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله" ، لكن تعقب وورد من طرق أن الملائكة غسلته، وصححه الحاكم لكن تعقب، ورويت بفضل الله ورحمته فى صحيحى الذى منَّ الله بِهِ علىَّ مع قِلة عِلمى الذى جعلته تماماً لترتيب مسند الربيع بن حبيب وما ألحق به ما يدل على أن تعديد فضائل حمزة عند موته جائز وأنهُ مختص بذلك عن غيره وصرحت الآية أن للمقتص أن يماثل الجانى فيمثل به كما مثل به بلالا زيادة وفيها الحث على العفو تعريضاً بقوله إِن عاقبتم بإِن الشرطية الدالة على الشك بحسب الوضع وتصريحاً بقوله ولئن صبرتم.. الخ. فإِنه قيل الصبر خير فإِن كان ولا بد من القصاص فلا تزيدوا على ما فعل بكم، وقد اتفقوا على تحريم الزيادة وأنها ظلم وعلى تحريم المثلة بمن لم يمثل وإِن قلت هل يتصور القصاص بالقتل فى قتال المشركين والنهى عن الزيادة. قلت: نعم. بأَن يقتل ولى المقتول قاتل وليه لأَنه قتل وليه، ويقتل سواه لشركهِ ونهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المثلة ولو بالكلب العقور وقيل لما أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدعاء إِلى سبيل الرب وبين له طرق الدعاء أشار إِليه وإِلى من تبعه باستعمال المسامحة مع العدو لأَنها أجلب له إِلى الدين أو بالعدل إِن عاقبوا وترك المخالفة فإن الدعاء إِلى سبيل الرب لا ينفك عن ترك المخالفة، لأَن الدعاء يتضمن رفع العادة وترك الشهوة وترك القدح فى دين الإِسلام ويتضمن الحكم عليهم بالكفر والضلال وعلى كل حال فالآية محكمة واردة فى تعلم الأَدب فى القصاص بأَن يعفو ولا يجاوز الجناية وبذلك قال مجاهد والنخعى والشعبى وابن سيرين والثورى، وقال ابن عباس والضحاك: هى أمر بقتال من قاتل ولا يبدأ بقتال ثم عز الله الإِسلام ونزلت براءة فنسخت آية السيف وعليه فالمعنى ولئن صبرتم عن قتال من بدأكم بالقتال، والصحيح الأَول والمعنى ولئن صبرتم عن القصاص والضمير فى قوله لهو عائد إِلى الصبر أى الصبر خير للصابرين من الانتقام للمنتقمين والمراد جنس الصبر وجنس الصابرين ويحتمل أن يراد صبر المخاطبين فوضع الظاهر موضع المضمر أى لصبركم خير لكم ثناء عليهم بصبرهم على الشدائد أو وصفاً بهم بالصفة التى تحصل بهم إِذا صبروا عن المعاقبة وإن قتل الفعل الأَول ليس عقاباً وهو فعل المشركين فلم قيل بمثل ما عوقبتم به، قلت: قيل ذلك ليشاكل قوله عاقبتم ويسمى ذلك مشاكلة، وهى ذكر الشىء بلفظ غيره لوقوع ذلك الشىء فى صحته ذلك الغير وقوعاً محققاً كما فى الآية أو مقدراً كما مر فى قوله صيغة الله وقرىء وإِن عقبتم فعقبوا بالتشديد وإِسقاط الأَلف أى إِن تبعتم من ظلمكم بالانتصار فاتبعوا بمثل ما فعل بكم ولما كان الصبر أفضل شىء وأنكى سلاح فى العدو وأمتن عدة وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى الناس بزيادة علمه بالله سبحانه ووثوقه به أمره به تصريحاً فقال { وَاصْبِرْ } على ما يؤذيك وعما تحب من الانتقام وغيره { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ } أى إِلا بتوفيق الله وإِعانته وتقويته فاستعن به، { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أى على المشركين إِن لم يسلموا كقوله تعالى: { { فَلا تَأْس على القوم الكافرين } }. وقوله: { { فلعلك بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلى آثَارِهِمْ إِن لَّم يُؤْمِنُوا } }. الخ ونحو ذلك وقيل لا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم من المثلة فإِنهم قد افضوا إِلى رحمة الله ورضوانه والأَول أصوب ويناسبه عود الواو فى يمكرون إِلى المشركين فإِنه عائد إِليهم على كلا القولين، { وَلاَ تَكُ } وقرىء تكن، { فِى ضَيْقٍ } بفتح الضاد وإِسكان الياء مصدر ضاق وذلك ضيق الصدر، ويجوز أن يكون صفة على أن أصله ضيق الصدر، ويجوز أن يكون صفة على أن أصله ضيق بفتح الضاد وكسر الياء مشددة فخفف أى فى أمر ضيق، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد وإِسكان الياء هنا، وفى النمل وهو مصدر أو وصف والقراءتان بمعنى واحد وهما لغتان، وقال أبو عمرو بن العلاء: الضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيدة الكسر فى قلة المعاش وفى المسكن والفتح فى القلب والصدر، فى الكلام قلب فإِن مقتضى الظاهر أن يقال ولا يك فيك ضيق لأَن الصفة هى الحالة فى الموصوف دون العكس، ونكتة القلب هنا أن البشر مطبوع على الضيق مما يؤذيه فلابد من وجود بعض الضيق فنهاه أن يحيط بهِ الضيق كما يحيط اللباس بلابسهِ { مِمَّا يَمْكُرُونَ } ما مصدرية أى من مكرهم فإِن الله كافيك وناصرك.