خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٠
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣١
-النحل

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَقِيلَ } أى قالوا الوافدون إِلى مكة أيام الموسم وكانت أحياء العرب يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيسأَلون المشركين فيقولون إِنه ساحر أو مجنون أو نحو ذلك وإِن ترجعوا بدون أن تلقوه خير لكم فيقولون إِنا شر وفد إِن رجعنا بدون أن ندخل مكة ونلقاه، فيدخلون مكة فيرون أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقولون ما حكى الله عنهم بقوله وقيل { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } ما حرم الله من شرك ومعاص وهم أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } على محمد فإِذا مفعول لأَنزل بدليل النصب فى الجواب { قَالُوا خَيْراً } أى قالوا أنزل خيرا وهو القرآن والوحى عليه وإِنه رسول صادق أمين أتوا بالجواب مطابقا للسؤال مكشوفا بيننا من غير عدول عنه ولا بطء وتكلف لشدة اطمئنانهم وهنا تم الكلام واستأنف الله سبحانه بقوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا } بالإِيمان والأَعمال الصالحات { فِى هَذِهِ الدُّنْيَا } بدل أو بيان من هذه إن فسرت بالليل والنهار وما حويا أو بالأَرض والسماء وما بينهما، لأَنه إِذ ذاك علم ونعت أو بدل أو بيان إِن أبقيت على الوصفية أى هذه الدار القريبة الزوال وفى متعلقة بأَحسنوا وللذين خبر وقوله { حَسَنَةٌ } مبتدأ وهى الثواب فى الآخرة تضاعف لهم الحسنة إِلى عشر وإِلى سبع مائة وأكثر، والمراد بالحسنة جنس ما يستحسن من الثواب أو سمى مجموعها حسنة. وقال الضحاك الحسنة النصر والفتح وقال مجاهد الرزق الحسن فى الدنيا وقيل جميع ما ينعم به عليهم فى الدنيا وعلى هذه الأَقوال الثلاثة تتعلق فى بأَحسنوا أو بما يتعلق به للذين لو بمحذوف حال من ضمير الحسنة المستتر فى قوله للذين، إِما على أن المراد ثواب الآخرة فيكون قوله { وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } زيادة فى الترغيب وتحريضاً على دار تكون لهم فيها الحسنة والثواب فيها أحسن من غيره على الإِطلاق، وإِما على الأَقوال الثلاثة فيكون تنبيها على أن لهم داراً عظيمة القدر وهى الجنة بعد ما كان لهم من الحسنة فى الدنيا وكأنه قيل إِن ثوابهم فى دار الساعة الآخرة خير لهم مما جرى لهم من الثواب فى الدنيا وعن أنس بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال "إِن الله لا يظلم من حسنة يثيب عليها الرزق فى الدنيا ويجزى بها فى الآخرة أى لا ينقص من ثوابها شيئاً" وفى رواية "لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها بالرزق فى الدنيا إِلى آخره" ، وتضمنت الآية وعداً للذين يقولون أُنزل خيراً فى جواب من قال ماذا أنزل ربكم فإِن قولهم ذلك إِحسان عظيم قد اتبعوه بالعمل الصالح، ويجوز أن يكون خبرا مفعولا لقالوا لا لمحذوف أى ذكروا خيرا فيكون قوله للذين أحسنوا إِلى آخره بياناً لذلك الخير أو بدلا أو مفعولا لقول محذوف مبدل من القول المذكور أى قالوا للذين أحسنوا فى هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لدلالة قوله ولدار الآخرة خير عليه ويجوز أن يكون المخصوص هو قوله { جَنَّاتُ } بساتين { عَدْنٍ } أى إِقامة وعلى أن المخصوص محذوف يكون هذا خبر المحذوف أى هى جنات عدن لا بطريق أُنه المخصوص وقال الحسن دار المتقين هى الدنيا، لأَنهم يتزودون منها للآخرة ولا يصح عليه أن يكون المخصوص جنات عدن والصحيح أن دار المتقين الدار الآخرة وهى جنات عدن وهو قول الجمهور وتم كلامهم على الوجه المذكور آخرا من أن خيرا مفعول لقالوا بأَوجهه عند قوله حسنة وعند قوله يشاءون أو قوله تعلمون أو ذلك كله من كلام الله كما قلنا على الوجه المذكور أولا أن الكلام تم فى قوله خيرا { يَدْخُلُونَهَا } مستأنف أو جنات مبتدأ وهذه الجملة خبره { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا } تحت قصورها ومساكنها ودورها { الأَنْهارُ } ماء ولبناً وخمرا وعسلا { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } من أنواع ما يشتهى ويستلذ حتى زعم بعض الناس أن لهم فيها أن يتمتعوا بأَدبار الولدان وهو باطل، وقد سئل عن ذلك بعض أئمة الشافعية قديما فأَجابوا بالمنع لأَن ذلك المحل لم يبح فى ملة من الملل ولا فى شريعة من الشرائع قال فإِن تعصب متعصب من أهل الطباع المنحرفة وقال إِنما حرم ذلك المحل فى الدنيا للقذر والنجاسة قياساً على دم الحيض والجنة لا قذر فيها ولا نجاسة قلنا له ممنوع ذلك منك لأَن الله سبحانه سماه فاحشة وقد نهى عن الفحشاء ولأن الله تعالى لم يبح دبرا قط أى بخلاف الخمر مثلا فإِن الله سبحانه ولو نهى عنها لكنه قد أخبرنا بأَنها فى الجنة وأيضا قد أباحها لبعض الأُمم. قال السيوطى إِنما سكت أصحاب الإِمام الشافعى عن هذه المسألة لأَنها من العلم الذى لا بصر جهله ولا ينفع علمه بل قال الشعرانى لا أدبار لأَهل الجنة لأَنه لا غائط فيها بل ترشح أبدانهم، ولولا أن فى الجنة جماعا وولادة لما جعل لهم ذكر وفى رواية عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ "جامع ما شئت ولا ولد وإِذا قام عنها عادت بكرا" ، وهى رواية إِذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله ووضعه وسنه فى ساعه واحدة كما يشتهى. قال الترمذى اختلف أهل العلم فقال طاووس ومجاهد والنخعى فيها جماع لا ولادة، وأول إسحاق بن ابراهيم هذا الحديث بأَنه قال إِذا اشتهى ولكنه لا يشتهى ولذا روى فى حديث لقيط أن أهل الجنة لا يكون لهم ولد قلت ومثل هذا التأويل يقال فى جماع الدبر بأَن لا يلقى الله اشتهاء فى قلوبهم وقال جماعة فيها الولادة إِذا اشتهيت ورجحه الأستاذ أبو سهل الصعلوكى انتهى كلام الترمذى بالزيادة. قال السيوطى عن أبى سعيد "قلنا يا رسول الله إِن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأَهل الجنة؟ فقال إِذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله" ، إلى آخر الحديث المتقدم قال لا منافاة بين أحاديث نفى الولد وأحاديث إِثباته لأَن المنفى ترتيب الولادة على الجماع والمثبت حصول الولد عند اشتهائه كما يحصل الزرع عند اشتهائه ولا زرع فى الجنة، انتهى بتصرف قال القاضى إِنما قدم فيها تنبيها على أن الإِنسان لا يجد جميع ما يريده فى الجنة انتهى قلت ليس الأَمر كذلك لأَن تقديمه إِنما يفيد الحصر لو كان هو الخبر وليس بخبر، بل الخبر قوله لهم وأما قوله فيها فمتعلق بالاستقرار المحذوف أو بلهم لنيابته عنه { كَذَلِكَ } أى مثل ذلك الجزاء { يَجْزِى اللهُ الْمُتَّقِينَ } وإِنما قال كذلك مع أن ذلك هو نفس الجزاء لا مثل الجزاء لأَن المراد أنه يجزيهم على الطريقة التى ذكرتها لكم لأَنه ولو ذكر لنا ما ذكر نفهمه على حقيقته حتى نشاهده فى الجنة فإِن كل ما فيها ليس من جنس ما فى الدنيا تحقيقا وإِنما يمثل لنا تمثيلا فذكر الجنات والحرير والذهب ونحو ذلك أو الكلام كناية كقولك مثلك لا يبخل وهكذا فى مثل الآية وقد ذكرت فى مضع من هذا تفسير أكثر من ذلك، قيل وهذا يدل على أن قوله للذين أحسنوا إِلى آخره وعد لا حكاية.