خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٩٨
-النحل

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } إِذا أردت قراءته فعبر بالقراءة عن إِرادتها لأَن إِرادتها سبب لها وملزومة لها. هذا مذهبنا ومذهب الجمهور فى الاستعاذة من أنها قبل القراءة متصلة بها غير مفعول له؛ فذلك كقوله تعالى: { { إِذا قمتم إِلى الصلٰوة } أى إِذا أردتم القيام إِليها، وكقولهم: إِذا أكلت فقل بسم الله، وإِذا سافرت فتأَهب، أى إِذا أردت الأَكل وإِذا أردت السفر، وذلك مذهب أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأَئمة وفقهاء الأَمصار وذلك أن الوسوسة تحصل فى أثناء القراءة فتقدم على القراءة لتذهب الوسوسة فلا تؤخر عن وقت الحاجة وسواء كان ذلك فى الصلاة أو غيرها، وقال أبو هريرة وجماعة من الصحابة والتابعين: إن الاستعاذة بعد القراءة فى الصلاة وغيرها، وهو قول مالك وجماعة وداود الظاهرى فى أحد قوليه وابن سيرين فى إِحدى الروايتين عنه والنخعى لأَن قارىء القرآن يستحق ثواباً عظيماً، وربما حصلت الوسوسة فى قلبه هل حصل ذلك الثواب أم لا، فإِذا استعاذ اندفعت وخلص الثواب ولظاهر الآية وحجة الجمهور ما روى عن أبى سعيد الخدرى، "أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إِذا قام إِلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إِله غيرك. ثم يقول: الله أكبر كبيرا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" ، أخرجه الترمذى. وقال: الحديث أشهر حديث فى الباب وتكلم فى بعض رجاله، وقال أحمد: لا يصح. ولا أبى داود والنسائى عن أبى سعيد نحوه لكن قد نهاه جبريل عن هذا التعوذ، فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وأخرج أبو داود عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلى صلاة. قال عمر: ولا أدرى أى صلاة هى. قال: الله أكبر كبيرا ثلاثاً، والحمد لله كثيراً ثلاثاً، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثاً أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه، قال عمر: نفخه الكبر ونفثه الشعر وهمزه المؤتة أى الجنون وهمزه وسوسته فى الصلاة ونفخه إِلقاء الشبه فى الصلاة ليقطعها، وقيل إِذا قرأ الآية الأَولى استعاذ والخطاب للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويلتحق به غيره من أُمته لأَنها مخاطبة بما خوطب به إِلا ما قام دليله، ولأَنه إِذا احتاج إِلى الاستعاذة فغيره أحق بها. { فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أى قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما هو المتبادر من لفظ الآية فأعوذ طلب للإِعاذة كما أن استعذ بمعنى اطلب الإِعاذة فإِن العين والتاء زائدتان للطلب، ولفظ أعوذ خبر ومعناه دعاء وطلب وقولك بالله من الشيطان الرجيم مذكور بلفظه فى الآية وكذلك قال صاحب الدرر اللوامع: وغير ما فى النحل لا يختار فجعل قولك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنه مذكور فى هذه السورة بلفظه، وقيل أعوذ مأخوذ من قوله تعالى: { { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } وبالله من الشيطان الرجيم مأْخوذ من آية النحل هذه وكذلك مذهبنا ومذهب الشافعى وأبى حنيفة لفظا الآية، وحديث مطعم بن جبير المذكور، روى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عند جبريل: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فنهاه من ذلك، وقال له الذى أخذته من اللوح المحفوظ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا الذى نهاه عنه هو تعوذ النكار تمسكوا لجهلهم بما هو منسوخ منهى عنه، وروى أنه أول ما نزل جبريل على نبينا عليهما السلام، قال له: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال له: ثم قال له: قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيه دليل أيضا على تقدم التعوذ على القراءة وكان بعض المقرئين يقول: أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد، "وعن عبدالله ابن مسعود قرأت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. فقال لى: يا ابن أم عبد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هكذا اقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ" ، وروى عن اللوح المحفوظ عن القلم وهو أظهر. وكان جماعة من السلف يتعوذون كتعوذ النكار المنهى عنه وعن حمزة أستعيذ ونستعيذ واستعذت واختاره صاحب الهداية من الحنفية لمطابقة القرآن فى السين والتاء مع الإِفراد ولكن أستعيذ مثله وعن حميد بن قيس أعوذ بالله القادر من الشيطان الغادر. وعن أبى السماك أعوذ بالله القوى من الشيطان الغوى وعن قوم أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم وعن آخرين منهم أحمد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أنه هو السميع العليم، وبه قال الثورى والأوزاعى جمعاً بين هذه الآية، وقوله فاستعذ بالله أنه هو السميع العليم ولحديث أبى سعيد المذكور وبذلك تمسك أيضاً أحمد فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وروى نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قبل القراءة وجهر به جهراً. وروى أنه أول ما نزل جبريل قال: قل يا محمد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال. ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، اقرأ باسم ربك الذى خلق.. الخ. وقيل: يقال أعوذ بالله وكلماته من الشيطان وهمزاته، وقيل: أعوذ بالله بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، وفيها ألفاظ أخر. قال الحلوانى فى جامعه: ليس للاستعاذة حد ينتهى إِليه من شاء زاد، ومن شاء نقص، والمختار عند أئمة القراء الجهر بها، وقيل يسر بها مطلقاً، وقيل يسر بها فيما عدا الفاتحة وأطلقوا اختيار الجهر وقيده أبو شامة بقيد لا بد منه، وهو أن يكون بحضرة من يسمعه، قال: لأن الجهر بالتعوذ إِظهار شعار القراءة كالجهر بالتلبية وتكبيرات العيد، ومن فوائده أن السامع ينصت للقراءة من أولها لا يفوته منها شىء، وإِذا خفى التعوذ لم يعلم السامع بها إِلا بعد أن فاته من المقروء شىء وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة فى الصلاة وخارجها، والجمهور على أن المراد بإِخفائها التلفظ مع إِسماع النفس فقط، وقيل الذكر فى القلب بلا تلفظ وإِذا قطع القراءة إِعراضاً أو تلقيناً أو بكلام أجنبى ولو رد السلام استأْنفها أو يتعلق بالقراءة فلا ولا يكفى استعاذة واحد عن غيره من واحد أو جماعة لأَن المقصود اعتصام القارىء والتجاؤه بالله من الشيطان الرجيم فلا يكفى تعوذ أحد عن أحد. ذكر ذلك ابن الجزرى. قال النووى: لو مر القارئ على قوم فسلم عليهم وعاد إِلى القراءة حسن أن يعيد التعوذ ومذهبنا الجهر بها إِن قرأها فى غير الصلاة قدر ما يسمع من يليه أو أكثر بلا مبالغة فى الجهر وفيما قيل تكبيرة الإِحرام قدر ما يسمع من يليه أو قدر ما يسمع نفسه فقط بلا فساد صلاة إِن صدر منه الجهر أكثر من ذلك لعدم الدخول فيهما وإِن استعاذ بعد الدخول تلفظ بها وأسمع نفسه فقط وقيل: يتلفظ ولا يسمع نفسه وفى النقص إِن جاوز ذلك خلاف، وإِن تلفظ بها فى غير الصلاة ولم يسمع نفسه أجزأه أيضاً ولا يجزيه إِن لم يتلفظها واقتصر على قلبه، وروى إِسحاق والمسيب عن نافع أنه يخفيها فى جميع القرآن. وروى سليم عن حمزة أخفاؤها فى جميعه إِلا الفاتحة فيجهر بها أو لها. وروى عنه خالد جواز الإسرار والجهر ووجه الإِخفاء أن لا يظن أنها من القرآن والفرق بين ما جلس إِليه وما لم يجلس إِليه ووجه الجهر أنه قد يثبت أنه ليس من القرآن بالإِجماع وهو دعاء والدعاء يجوز إسراره وإِجهاره. قال الله تعالى: { { ادعوا ربكم تضرعاً } قيل: برفع صوت وخفته أى بإِسرار، وأجمع العلماء أن نحو قول أحد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليس آية من القرآن بل الأَمر به من القرآن والاستعاذة عندنا واجبة فى الصلاة وغيرها ويجوز وصل التعوذ والبسملة والسورة وقطعهن وقطع التعوذ وحده ووصل البسملة مع قطعهما عن السورة وكذا قال قوم: وهو الصحيح لظاهر الأَمر فى الآية ولا تعوذ إِلا فى قراءة الركعة الأُولى عندنا، وعند الشافعى وأبى حنيفة ذهابا إِلى أن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة. وقال ابن سيرين والنخعى وقوم: يتعوذ فى كل ركعة وهو المتبادر من ظاهر الآية لأَن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرر الشرط قياساً، فكلما تكررت إِرادة القراءة تكررت الاستعاذة وذلك للفصل بين قراءة الركعتين مما ليس متعلقا بالقراءة، وقال الجمهور: الاستعاذة مستحبة فى الصلاة وغيرها واجبة وكان مالك لا يرى التعوذ فى الصلاة المفروضة وقرأه فى قيام رمضان كان غير حافظ عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تعوذ فى صلاة ومعنى أعوذ بالله أعتصم به فالاستعاذة تطهير القلب عن كل ما يشغل عن الله وأقرار بالعجز والضعف واعتراف بقدرة البارئ عز وجل وأنه الغنى القادر على دفع المضرات واعترافا بعداوة إِبليس وكل شيطان والمراد بالشيطان كل الشيطان لا إِبليس فقط والشيطان عند الجذاق فيعال من شطن إِذا بعد لأَنه بعيد من الخير والرحمة أو من شطن إِذا خالف أمر الله جل وعلا، فلو سمى أحد شيطان بدون ال لصرف الإِمالة النون وقيل فعلان من شاط يشيط فلو سمى به لمنع الصرف فلزيادة الأَلف والنون والعلمية، والرجيم فعيل بمعنى فاعل لأَنه يرجم الناس بالوسوسة أو الشر أو بمعنى مفعول لأَنه مرجوم بالشهب عند استراق السمع، وقيل مرجوم بالعذاب، وقيل بالشتم كما قيل فى قوله تعالى: { { لئن لم تنته لأرجمنك } وقيل مطرود على الرحمة والخير ومنازل الملأ الأعلى ولما كان الأمر بالاستعاذة ربما توهم متوهم منه أن للشيطان ولاية على أولياء الله نفى ذلك بقوله: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَلْطَانٌ }.