خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ
١
-الإسراء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ سُبْحَانَ الَّذِى } إِلخ سبحان اسم مصدر والمصدر التسبيح وعامله محذوف وجوبا، والأَصل سبحوا الذى أسرى بعبده تسبيحا حذف سبحوا وناب عنه تسبيحا وأُضيف للمفعول وهو الذى ناب سبحان عنه، والأًصل سبحوا تسبيح الذى، أى نزهوا التنزيه اللائق به حذف سبحوا وناب عنه تسبيح، وناب سبحان عن تسبيح وأصل هذا الأَصل سبحوا الذى أسرى الخ بذكر الظاهر مرتين للتقرير والتعظيم أو سبحوا الذى أسرى الخ تسبيحه بالإِضمار ولما حذف سبحوا الذى أسرى الخ ظهر فيما بعد قولك تسبيح ليظهر المعنى ولا يتعطل، وعلى كل حال فسبحان يصدر به الكلام بتنزيه عما ذكره بعده وبذكر تارة للتنزيه عما ذكر قبله ويصدر بها الكلام للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد، كما هنا وأيضا ذكر لينفى توهم التشبيه بالحلول والجهات كيف يسرى إِلى وأنا عنده أين ما كان وهو أبلغ فى التنزيه بقولك سبحوا لأَنه اسم وهو أيضا دال على ما يدل عليه الفعل لأَنه ناب عنه "وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معنى سبحان فقال: معناه تنزيه الله عن كل شئ لا يليق به" وقد يستعمل علما للتسبيح فيقطع عن الإِضافة ويمنع الصرف للعلمية وزيادة الأَلف والنون كقول الأَعشى فى مدح عامر بن الطفيل وذم علقمة:

قد قلت لما جاءنى فخره سبحان من علقمة الفاخر

قال ذلك قبل إِسلامه وقيل إِنه لم يسلم جاء ليسلم فصده المشركون بأَن محمدا يحرم، فقال أرجع أتروى منها عامى، ثم أسلم، فمات قبل الإِسلام والهاء فى فخره لعامر بن الخمر الطفيل ومعنى سبحان من علقمة لعجب من علقمة إِذ يفخر، وكان علقمة قد وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو شيخ فأَسلم وبايع واستعمله عمر بن الخطاب على حوران فمات بها وقد يقال إِن سبحان فى الآية ونحوها علم للتسبيح كما شهر لكنه أُضيف بعد تنكيره والأَصل تسبحوا الذى أسرى الخ. سبحان بالنصب ومنع الصرف ويجوز تقدير العامل مطلقا أسبح بصيغة مضارع الواحد المتكلم وسبح بصيغة أمر الواحد { أسْرَى } أى سرى فإِن سرى وأسرى لغتان بمعنى واحد، فليست الهمزة للتعدية وإِنما الذى للتعدية هو الباء بعد فى قوله بعبده ويجوز كونها للمصاحبة لكن مصاحبة باللطف والحفظ كقوله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم أنت الصاحب فى السفر" وأسند إسراء به إِلى الله تعالى ليعلم أن الأَمر هبة من عنده لم تخطر بقلبه والسرى والإِسراء السير ليلا وإِنما ذكر الليل للتأكيد ولإِزالة الوهم عما قد يعتقد أن الإِسراء والسرى يكونان فى النهار أيضا لأَن القرآن خوطب به الناس كلهم أهل اللسان العربى وغيرهم { بِعَبْدِهِ } هو سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بإِجماع الأُمة ولم يقع إِسراء بغيره من الأَنبياء بالجسم وإِضافته تشريف وتعظيم وكذا تسميته عبد الإِله وقد قال له تبارك وتعالى ليلة المعراج الإِسراء بما شرفك فقال يا رب بنسبتى للعبودية، فنزل: { سبحانه الذى أسرى بعبده } الخ.
قال الشاعر:

بالله لا تدعنى إِلا بيا عبدها فإِنه عندنا أشرف أسمائى

وقال الآخر:

ودعتنى بالعبد يوما فقالوا قد دعته بأَشرف الأَسماء

ولو كان اسم أشرف من لفظ العبد لسماه به فى تلك الحال قال القشيرى لما أرقاه تلك المراقى سماه عبدا ليتواضع للأُلوهية ويجليها { لَيْلاً } نكر للدلالة على قلة مدة الإِسراء كأَنه قيل ما أسرى به إِلى المسجد الحرام ثم إِلى ما فوق السابعة إِلا فى ليلة واحدة ولذلك قرأ عبد الله بن مسعود وحذيفة من الليل أى بعضه، ذكر الزمخشرى حل ذلك ويعترض بأَن كلامه يقتضى استفراغ الليلة ولم تستفرغ ويجاب بأَن المراد أسرى بعبده ليلا لم يستفرغه الإِسراء والحكمة فى كون الإِسرى ليلا أنهُ - صلى الله عليه وسلم - حبيب الله سبحانه وتعالى والخلوة بالحبيب متحققة بالليل وكان فى جوف الليل لا فى أوله ولا فى آخره لأَن جوفه أشد خلوة أو كان ليلا يزداد المؤمنون إِيمانا بالغيب ويفتتن الكافرون فتنة زائدة إِذا الليل أخفى من النهار فلعله لو عرج به نهارا لفات المؤمن زيادة الإِيمان والكافر زيادة الفتنة وقال ابن مرزوق إِن الله جل جلاله لما محا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة انكسر الليل فجبر بأَن أسرى فيه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل افتخر النهار على الليل فقيل لهُ لا تفتخر إِن كانت شمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود فى الليل إِلى السماء وقيل إِنهُ - صلى الله عليه وسلم - سراج والسراج إِنما يوقد ليلا، واعلم بأَن ليلة الإِسرى أفضل من ليلة القدر فى حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليلة القدر أفضل فى حق الأُمة لأَنها لهم خير من عمل فى ثمانين سنة لمن قبلهم وأما ليلة الإِسراء فلم يأت فى أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف ولذلك لم يعينها النبى - صلى الله عليه وسلم - لأَصحابه ولا عينها أحد من أصحابه بإِسناد صحيح ولا صح إِلى الآن ولن يصح بعد، ومن قال فيها شيئا فإِنما لمرجح استأنس به ولو تعلق بها نفع للأُمة ولو قليلا لبينه لهم - صلى الله عليه وسلم - قال مقاتل وقتادة كان الإِسراء قبل الهجرة بعام وقيل بعام ونصف والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة التى كتب فيها قريش أن لا يجالس أحد بنى هاشم ولا يبايعهم ولا يواكلهم ولا يشاربهم ولا يتزوج منهم أو يتزوجوا ولا ينفعوا، وقبل بيعة العقبة وقال شريك بن أبى نمر إِن ذلك قبل أن يوحى إِليه - صلى الله عليه وسلم - واتفق المحدثون على أن هذا وهم ورواية شريك أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إِليه وهو نائم فى المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم. فقال آخرهم: خذوا خيرهم ثم لم يرهم حتى أتوه ليلة أُخرى وقد نامت عيناه لا قلبه وكذا الأَنبياء لا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه وشقوا صدره وذهبوا به إِلى المسجد الأَقصى، وقد أجمع العلماء أن الصلوات الخمس فرضت ليلة الإِسرى فيكف يكون فرضها والإِسراء قبل الوحى. وصرح الخطابى وعياض والنووى إِن شريكا تفرد بذلك قلت لعل المجئ الثانى كان بعد الوحى، ثم رأيت ابن حجر ذكر أن فى دعوى التفرد نظرا، فقد وافقه كثير بن خنيس بمعجمة ونون مصغرة عن أنس كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعد الأَموى فى كتاب المغازى من طريقه قال ولم يقع التعيين بين المجيئين، فيحتمل أن المجئ الثانى كان بعد الوحى وحينئذ وقع الإِسراء فإِذا كان بينهما مدى فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة أو ليالى أو عدد سنين وذكر بعض أن شريكا ليس بالحافظ عند أهل الحديث والله أعلم، إِن صح هذا وذكر البغوى عن بعض المحدثين فى الرد على شريك أن العلماء اتفقوا على أن المعراج كان بعد الوحى بنو اثنتى عشرة سنة، قال البغوى: هذا الرد لا يصح لأَن ذلك فى النوم قبل الوحى ثم عرج به فى اليقظة بعد الوحى وقيل الهجرة بسنة تحقيقاً لرؤياه، كما رأى فتح مكة فى المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة، ثم كان تحقيقها سنة ثمان ونزل قوله تعالى: { { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } وهذا جواب مثل ما مر لى ولابن حجر وقال النووى فى الرد على شريك: إِن أقل ما قيل إِن الإِسراء كان بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر شهراً.
وقال الحربى: كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، وقال الزهرى: بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين وقال ابن إِسحاق: أسرى به - صلى الله عليه وسلم - وقد فشى الإِسلام بمكة والقبائل، قال النووى: وأشبه الأَقوال قول ابن إِسحاق والزهرى وقيل كان فى رجب قبل الهجرة بسنة، وقيل فى رمضان قبل الهجرة لسنة، وذكر النووى فى تفاويه أنهُ أسرى بهِ - صلى الله عليهِ وسلم - مرة فى المنام ومرة فى اليقظة، وذكر السهيلى تصحيح هذا المذهب عن شيخ القاضى أبى بكر بن العربى وأن مرة النوم توطئة له وتيسير كما أن بدوء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة لأَنه تضعف عنهُ القوى البشرية، وقد جوز بعض قائلى ذلك أن تكون قصة المنام قبل البعث لأَجل قول شريك فى روايته أن ذلك قبل أن يوحى إليه، واستشهد بقول عائشة رضى الله عنها أول ما بدأ بهِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح وقد اختلفوا: هل الإِسراء بروحه وجسده فى يقظة أو بروحه فقط فى المنام وهل تعدد أو لا، فقلنا معشر الأَباضية إِنهُ بروحه فى منامه لقولهِ تعالى:
{ { وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إِلا فتنة للناس } فإِن الرؤيا مصدر رأى الحلمية وأما مصدر رأى البصرة فالرؤية وقد أنكر ابن مالك والحريرى وغيرهما: ورد الرؤيا للبصرية ولحنوا المتنبى فى قوله ورؤياك أحلى فى العيون من الغمص، وأجيب بأَنه إِنما الرؤيا لوقوع ذلك فى الليل وسرعة تقضيه كأَنه منام وبأَن الرؤيا والرؤية واحد طرفين كقربى وقربة، ويشهد له قول ابن عباس هى الرؤيا عين أريها - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسرى به وإنما رأى غير الله سبحانه وتعالى، وزاد سعيد بن منصور عن سفيان فى آخر الحديث، وليس رؤيا منام وسواء فى ذلك الجواب فسرنا الرؤيا بما رآه فى طريقه إِلى بيت المقدس أو بما رآه فى السماوات لأَن الكل عندنا فى المنام وذلك لمستدرك على من يقول باختصاص الرؤيا بالحلمية أيضاً، وقيل الرؤيا رؤيا عام الحديبية حين رأى أنه دخل مكة فصده المشركون وارتد بذلك ناس وقيل رؤيا وقعة بدر وسأل ابن النقيب شيخه أبا العباس الأَندلسى القركبى. فقال: الصحيح أنها رؤية عين يقظة أراه جبريل مسارع القوم ببدر فأرى النبى - صلى الله عليه وسلم - والناس مصارعهم كما أراه جبريل فتسامعت به قريش فاستسخروا منه واحتج أيضاً من قال: إن الاسراء بروحه فى منامه، تقول عائشة ما فقد جسده الشريف، ومثله عن حذيفة ومعاوية وأجيب بأَن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة لأَنها لم تكن إِذ ذاك زوجاً ولا فى سن من يضبظ أو لم تكن ولدت بعد على الخلاف فى الإِسراء متى كان، وأجاب السعد بأَن مراد عائشة ما فقد جسده عن الروح بل كان مع روحه فى اليقظة وكان الإِسراء بالجسد والروح جميعاً، واحتج من قال: بالروح والجسد فى اليقظة لإِنكار المشركين ذلك وتعجبهم واختصاص أبى بكر بفضيلة التصديق وبأَن الدواب لا تحمل الأَرواح، وقد صح أنه حمله البراق ولأَن الأَصل فى الفعل إِذا أطلق أنه فى اليقظة حتى يدل دليل ولأَن المتبادر من العبد الروح والجسد معاً ولو كان بالروح لم تقل أم هانى ألا تحدث الناس بهذا لئلا يكذبوك وإِن قلت: لم يذكر الإِسراء إِلى السماء فى الآية. قلت: مذكور بقوله: لنريه من آياتنا وما ذكرناه من كونه بالروح والجسد يقظة مذهب الجمهور وصححه الناس، وبه كنت أقول واحتج بغالب ما مر قبل على أن أطلع على أنه مقول للجمهور ولا لغيرهم، وقيل أن أطلع على تلك الحجج والحمد لله على ما ألهمنا وعلمنا، وقيل كان إِلى بيت المقدس بالجسد والروح يقظة ومنه إِلى السماء بالروح فى المنام لقوله: { سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إِلى المسجد الأَقصى } فجعل المسجد الأَقصى غاية الإِسراء الذى وقع التعجب به بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبى - صلى الله عليه وسلم - به وإِظهار الكرامة له بالإِسراء ولو كان الإِسراء إِلى زائد عن المسجد الأقصى بجسده وروحه لذكره فيكون أبلغ فى المدح والإِعجاز وأجيب بأَن حكمه التخصيص بالإِقصاء سؤال قريش له على سبيل الامتحان عما شاهدوه وعرفوه من صفة المسجد الأَقصى وقد علموا أنه لم يسافر إِليه ويصله فيجيبهم بما عاين ويوافق ما يعلمونه فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع ولذا لم يسأَلوه عما رأى فى السماء إِذا لا عهد لهم فى ذلك، وقيل إنه أسرى أربع إِسراءات يقظة لتعدد الروايات فى الإِسراء واختلاف ما يذكر فيها فبعضهم يذكر ما لم يذكره الآخر، وبعضه يسقط ما ذكره الآخر فأجيب بأنه لا يدل على التعدد لأَن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعمل أو لنسيانه أو لجهله به وذك بعيد جداً وهروب إِلى غير مهرب، ولو تعدد لأخبره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُمته ولنقله الناس على التعدد، وذكر فى فتح البارى أنه وقع إِسراء أيضاً بالمدينة وليس فيه ما وقع بمكة من استفتاح الأَبواب، أبواب السماوات ولقاء الأَنبياء كل فى سماء، بل فى موضع واحد مع نبى إِنسان واحد ومع نبى اثنان ومع نبى ثلاثة وأكثر ولا المراجعة معهم ولا مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلوات وتحقيقها ونحو ذلك، وأنه تكرر لقضايا بعضها قبل الهجرة وبعضها بعدها ومعظمها فى المنام، وذكر بعض أنه - صلى الله عليه وسلم - أسرى به بروحه وجسده فى اليقظة مرة واحدة وبروحه فى النوم ثلاثاً وثلاثين مرة، والحق أن الإسراء لم يكن إِلا مرة واحدة وأنه ما وقع إلا فى اليقظة بروحه وجسده، وهو مذهب الجمهور من المحدثين والفقهاء والمتكلمين وهو الذى دلت عليه ظواهر الأَخبار الصحيحة ولم يذكر تعدده فى القرآن فلا يعدل عن ذلك إِلا لدليل قوى، وأما حديث فجعل يمر بالنبى ومعه واحد وبالنبى ومعه اثنان وهكذا فلا دليل فيه لاحتمال أن ذلك زيادة على الأنبياء المخصوصين المذكورين فى الحديث المشهور فى كل سماء، { مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } هو مسجد مكة الدائر بالكعبة، كما روى البخارى ومسلم عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة الإِسراء. قال: بينما أنا فى الحطيم وربما قال قتادة فى الحجر مضطجع، والحجر هو الحطيم، فذكر حديث الإِسراء وقيل أسرى به من دار أم هانئ بنت أبى طالب وذكره الطبرانى وأنهُ بات فيه، على أن المراد بالمسجد الحرام مكة أو الحرم كله لإِحاطة كل منهما بالمسجد وعن ابن عباس: الحرم مسجد، وقد قيل المسجد الحرام فى الآية الحرم وعلى القولين رجع ذكر المسجد الحرام مع أن المراد دار أم هانئ أو الحرم ليطابق المبدأ المنتهى فإِن المنتهى هو المسجد الأَقصى، وروى الزهرى عن أنس عن أبى ذر فرج سقف بيتى وأنا بمكة، وروى الواقدى بأسانيده أنه أسرى به من شعب أبى طالب، ويجمع بين هذه الأقوال بأَنه بات فى بيت أم هانئ وبيتها عند شعب أبى طالب ففرج سقف بيتها، وأُضيف إِليه لأَنه كان يسكنه فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إِلى المسجد فكان به مضطجعاً وبه أثر النعاس ثم أخذه الملك فأخرجه من المسجد فأركبه البراق وإِنما جاء من السقف لا من الباب مبالغة فى المفاجأَة وتنبيهاً على أنه المراد لا غير وأن الطلب وقع على غير ميعاد حملا لألم الانتظار بخلاف موسى فمناجاته على ميعاد وتنبيها وتمهيداً على أنه يشق بطنه وقلبه ويلتئم على الفور كالسقف وذلك تهوين لأَمر الشق فيصير كذا، قيل وليس المراد أنه تأَلم بالشق ولكن يهابه عند إرادة الشروع فيه فيكون ذلك تهوينا لهذه المهابة وكذا فى شق بطنه وقلبه حين كان فى بنى سعد، كذا ظهر لى ثم رأيت ابن الجوزى وهو فى عصر السعد التفتازانى، قال: فشقه وما شق عليه، وحمله على أن مراده صبر صبر من لا يشق عليه خلاف الظاهر وقيل شق عليه لأَنه ورد فى حديث فأقبل وهو متنقع اللون أى صار كلون الغبار وهو شبيه بلون الميت وذلك للمشقة قلت: بل لرغبة بما رأى أنه فعل به وإِنما شق أولا لينشأ على أكمل الأَحوال من العصمة من الشيطان، ولعل هذا الشق سبب فى الإِسلام قرينة إِذ روى أنه غلب شيطانه فاسلم وشق أيضاً عند البعث لزيادة الكرامة وليقوى على الوحى وشق عند الإِسراء ليتهيأ للترقى إِلى الملأ الأَعلى والثبوت فى المقام الأَسنى والتقوى لاستجلاء الأَسماء الحسنى زاد بعضهم أيضاً أنه شق وهو ابن عشر سنين، قال الأجهورى:

وشق صدر المصطفى وهو فى دار بنى سعد بلا مرية
كشقه وهو ابن عشر وفى ليلة المعراج وللبعثة

ويروى شق صدره، ويروى شق بطنه، ويروى شق قلبه ويجمع بأَن المراد بالصدر البطن وقد ثبت أنه شق من الموضع المنخفض أسفل الصدر إِلى موضع نبات شعر العانة، ولما شق بطنه شق قلبه ولم يكن استخراج العلقة السوداء إِلا فى الشق الأَول، أخرجها الملك فقال: هذا خط الشيطان منك، وأما فى غير الأولى فاستخرج الأَذى وهو ما يكون فى جبلة البشر أو بقية ذلك العقلة وزاد خيراً وقوة قلب وإِسلام، روى أنه أتاه جبريل وميكائيل وملك آخر فاحتملوه من الحجر تعظيماً له حتى جاءوا به زمزماً فألقوه على ظهره فشق ذلك جبريل، وقال لميكائيل ائتنى بطست من ماء زمزم كى أطهر قلبه وأشرح صدره أى أُزيده تطهيراً وشرحاً، فاستخرج قلبه وغسله ثلاث مرات ونزع ما فيه من أذى وأتاه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم وبهن كان ذلك الغسل ثم أُعيده ما طهر به قلبه إِلى زمزم ليحصل لزمزم كمال الشرف، وقد جزم علماء الشافعية بأن ماء زمزم أفضل المياه أى سوى الماء النابع من بين أصابعه كما قيل:

وأفضل المياه ماء قد نبع بين أصابع النبى المتبع
يليه ماء زمزم والكوثر فنيل حيل مصر ثم باقى الأَنهر

قلت بل ماء الفرات يلى ماء النيل وماء سيحون، يلى ماء الفرات وماء جيحون، يلى ماء سيحون، ثم باقى الأَنهر، لأَن الأَربعة من الجنة على ما يذكر فى بعض الآثار ثم أتى بطشت من ذهب ممتلئا حكمة وإِيماناً أى شيئاً من الأَجسام يحصل الإِيمان والحكمة أو ذلك من تجسيم المعانى أو بتمثيل، وقال ابن أبى جمرة: الإِيمان والحكمة جوهران فأفرغه فى قلبه وملأه حكماً وعلماً ويقيناً وإِسلاماً، أى انقياداً لأَوامر الله فهو أثبت الناس ثم أطبقه ثم ختم بين كتفيه مائلا إِلى اليسار بخاتم النبوة، وكان خاتم النبوة لغيره من الأَنبياء فى أيديهم الأيمان، وشاركه الأَنبياء أيضاً فى شق الصدر وإِنما اختص بشق القلب وتكرر الشق وإِخراج العلقة وأنكر عياض وقوع الشق عند الإِسراء، والصحيح ثبوته ذكر الطبرانى عن ميمون أنه أتاه جبريل وميكائيل فقالا: أيهم؟ وكانت قريش تنام حول الكعبة. فقالا: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبنا ثم جاءوه وهم ثلاث، وذكر الشق. وروى مسلم: سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين فأتيت فانطلق بى، والمراد بالرجلين حمزة وجعفر رضى الله عنهما، وكان نائماً بينهما وذكر الشق وروى أنه أتوه مضطجعاً بين نوم ويقظة وهو محمول على ابتداء الحال، ولما خرج إِلى باب المسجد وأركب البراق استمر على اليقظة، وروى أنه استيقظ وهو فى بيت أم هانئ أو فى المسجد وأنه ذكر ذلك وبه تمسك أيضاً من قال: أنه أسرى بروحه فإِن قيل بالتعدد فلا إِشكال وإلا حمل على الاستيقاظ من الملكوت إِلى عالم الدنيا وإِنما كان طست من ذهب لأَنه أوانى الجنة ولا تأَكله النار ولا التراب ولا يصدأ وأنه أثقل الجواهر، كما أن قلبه - صلى الله عليه وسلم - أوانى أحوال الجنة لا تأكله النار ولا التراب بعد موته ولا يصدأ وأنه أثقل القلوب وأن الوحى ثقيل وأيضاً كان ذهباً ليناسب إِذهاب الرجس والذهاب إِلى الله تبارك وتعالى ولوقائه ونقائه وصفائه وإِنما استعمل فى أمره مع أنه حرام فى شرعه على الرجال لأَنه إِنما حرم فى الدنيا وتلك الحال من أحوال الآخرة، ولأَنه لم يتمتع به وإِنما كان بيد ملك هو المتناول به والملك لم يحرم عليه، وذكر ابن حجر أنه إِذا كان محرماً عليه تنزه أن يستعمل فى أمره يتعلق ببدنه المكرم، فالأَولى أن يجاب بأَن الذهب إِنما حرم بعد الهجرة، والحكمة فى شق القلب للحكمة والإِيمان مع إِمكانهما بلا شق أن تحصل له القوة على يمان من ثلاثة أوجه التصديق والمشاهدة وعدم الخوف من العادات المهلكة فإِنه معلوم أن القلب إِذا جرح مات صاحبه وكان الغسل بماء زمزم لأَنه يقوى القلب ويسكن الروع واستدل البلقينى بأَنه أفضل المياه حتى ماء الكوثر إِذ لو كان ماء أفضل منه لكان الغسل به، والمراد بالصدر فى رواية فغسل صدرى القلب كما فى الرواية الأَخرى أو غسل صدره وغسل قلبه ولما تم الشق والغسل وأخرج لباب المسجد أركبه جبريل على البراق ومضى به إِلى بيت المقدس المراد بقوله { إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } أى الأبعد وصفه بالأَقصى لأَنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد والمقدس بفتح الميم وكسر الدال مصدر ميمى بمعنى الطهارة وأُضيف إِليه لأَنهُ لم يعبد فيه صنم ولم يكن فيهِ، ويقال المقدس بضم الميم وفتح الدال وإِسكان القاف وبفتحها فتشدد الدال والإِضافة على هذين الوجهين إِضافة موصوف لصفة أى البيت المقدس أو المقدس عليهما هو الله سبحانه، ويسمى أيضاً مسجد الميا { الَّذِى بَارَكْنَا } التفات من الغيبة إِلى التكلم { حَوْلَهُ } بركات الدين والدنيا لأَنه متعبد الأَنبياء من وقت موسى عليه السلام ومهبط الوحى محفوف بالأَنهار الجارية والأَشجار المثمرة وقبلة الأَنبياء وهناك الحشر وحول الشئ جانبه وكان البراق مسرجاً ملجماً والسرج من لؤلؤة بيضاء، واللجام من ياقوت أحمر، والركابان من زمرد أخضر وليس البراق من خصوصيته - صلى الله عليه وسلم - ولكن اختص بكونه مسرجاً ملجماً ووضع حافره عند منتهى طرفه وكانت الأَنبياء تركبه قبله ويمشى بهم على شكل سير دواب الدنيا ولكن ذكروا أن إِبراهيم عليه السلام يغدو من الشام إِلى هاجر وإٍسماعيل ويقيل بمكة ويروح منها ويبيت عند أهله بالشام عليه ولعله يبارك له فى السير تحت إِبراهيم أو تطوى له الطريق أو يسرع البراق به إِسراعاً ليس على شكل وضع الرجل فى منتهى الطرف وفى هذا الجواب الآخر بعض منافرة لما ذكر من كون مشيه على شكل سير دواب الدنيا. قال النووى: شاركه - صلى الله عليه وسلم - فى ركوبه جميع الأَنبياء. قال الأَجهورى: وهو يحتاج إِلى نص صريح وأما ركوب إِبراهيم فسلم يركبه للبيت الحرام لزيارة إِسماعيل وهاجر أو للحج، قلت: بل النووى نفسه ذكر ذلك ونصه: قال صاحب مختصر العين وتبعه صاحب التحرير كان الأَنبياء يركبون البراق، قال: وهذا يحتاج إِلى نقل صحيح أ. هـ ذكر يزيد ابن أبى مالك عن أنس وصلا بالحديث ما نصه وكانت تسخر للأنبياء قبله، وفى حديث أبى سعيد عند ابن اسحاق نحوه، وقال ابن دحية وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - اختص به وأول قول جبريل للبراق لما استعصت ما ركبك أكرم على الله منه بأن المعنى ما ركبك أحد قط فكيف يركبك أكرم منه كقول امرئ القيس على الأحب لا يهتدى بمناره ظاهره أن له منارا لا يهتدى به والمراد أنه لا منار له البتة فكيف يهتدى به وقد جزم السهيلى بأَن البراق استصعب عليه لبعد ركوب الأَنبياء قبيله وكذا وقع عند ابن اسحاق أنها استصعبت لبعد العهد بركوب الأَنبياء، لم تكن ركبت فى الفترة وعلى ذلك يحمل أحاديث - أنه صلى الله عليه وسلم - ربطه حيث تربط الأَنبياء بدون ذكر المربوط ما هو ولا حاجة إِلى ادعاء احتمال أن الذى يربطونه غير البراق وأنهم يربطون أنفسهم بحلقة صخرة بيت المقدس أى يتمسكون بها وتكون من جنس العروة الوثقى، وذكر البيهقى عن أبى سعيد فأَوثقت دابتى بالحلقة التى كانت الأَنبياء تربطها بها وذلك الربط عند وصوله إِلى بيت المقدس والبراق يذكر ويؤنث كما رأيت، وليس بذكر ولا أنثى وهو مخلوق بلا توليد ولا لتوليد، وذلك البراق هو نفس البراق الذى يركبه إِبراهيم وغيره. وروى أن الله تبارك وتعالى أعد لرسوله الله - صلى الله عليه وسلم - فى الجنة أربعين ألف براق ترعى فى مروج الجنة، ذكره بعض شراح البخارى، والمرج الأَرض الواسعة المخضبة والحكمة فى الإِسراء به راكبا مع القدرة على طى الأَرض له إِشارة إِلى أن ذلك تأْنيس له بالعادة فى مقام خرق العادة لأَن العادة جرت أن الملك إِذا استدعى من يختص به بعث إِليه بمركوب سنى يحمله عليه فى وفادته إِليه والحكمة فى كون البراق دون البغل وفوق الحمار أبيض ولم يكن على شكل الفرس، الإِشارة إِلى أن الركوب كان فى سلم وامن لا فى حرب وخوف وإِظهار المعجزة بوقوع الإِسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك فى العادة وسمى براقاً أُخذ من البريق وهو شديد البرق وهو اللمعان، وقيل سمى لسرعة سيره فهو كالبرق، وقيل لأَنه ذو لونين أبيض وأسود يقال شاة برقاء إِذا كان خلال صوفها الأَبيض طاقات سود حمر وكان هو كذلك فيه طاقات سود وصح أنه يضع خطوه عند أقصى طرفه بسكون الراء وبالفاء أى رجله عند منتهى ما يرى بصره فيقطع من الأَرض إِلى السماء فى خطوة لأن بصر الذى فى الأَرض يقع على السماء. قال ابن المنير: فبلغ أعلى السماوات فى سبع خطوات. وعن ابن مسعود كان إِذا أتى على جبال ارتفعت رجلاه، وإِذا هبط ارتفعت يداه، رواه أبو يعلى والبزار، ومعنى ارتفعت طالت وذلك رفقا براكبه. وروى ابن سعد له جناحان، ذكره الواقدى وذكر الغبطى أن له جناحين فى فخذيه يحفر بهما رجليه أى يعين، وكان فى فخذيه لئلا يتضرر راكبه وأنه مضطرب الأَذنين أى محركهما دائماً، وقيل طويلهما، وعن ابن عباس بسند ضعيف له خد كخد الإِنسان وعرف كَعُرْف الفرس وقوائم كالإِبل وأظلاف وذنب كالبقر وكان صدره ياقوتة حمراء ولما أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يركبه استصعب فقال له جبريل: ما حملك على هذا، ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه فارفض عرقاً أى سال وجرى عرقه بسبب العتاب. رواه الترمذى وابن حبان، قال الترمذى: حسن غريب. وقال ابن حبان: صحيح. وذكر ابن اسحاق عن قتادة أنه استصعب فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال: ألا تستحى يا براق، فوالله ما أركبك خلق اكرم على الله منه فاستحى حتى ارفض عرقاً وقر حتى ركبه، وهو مرسل لأَنه أسقط ذكر الصحابى وهو أنس. وفى رواية ويثمة عند ابن اسحاق تعست حتى لصقت بالأَرض فاستويت عليها وفى رواية ابن سعد فى شرف المصطفى فكان الذى أمسك بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل أى بمقوده، وأما اللجام فكان بيده - صلى الله عليه وسلم - وذكر أن جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، وذكر أن جبريل ركب أمامه على ذلك البراق وذكر أنه ركب خلفه ويجمع بين هذه الروايات بأَنه تارة يفعل كذا وتارة يفعل كذا، وإِنما استصعب ليضمن - صلى الله عليه وسلم - له الجنة أو لأَنه لم يذلل قبل ذلك إِن قلنا إِنه لم يركبه أحد قبله - صلى الله عليه وسلم - أو لبعد العهد بركوبه إِن قلنا إِنه ركب قبله أو للزهو بركوبه - صلى الله عليه وسلم - والطرب به وعليه فإِنما أراد جبريل بقوله ما حملك على هذا وقوله ألا تستحى زجره عما يوهم الامتناع أو استنطاقه بأَنه لم يرد الامتناع فعرق خجلا من العتاب وما أوهمه استصعابه. وفى مسند أحمد عن حذيفة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبراق فلم يزل على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إِلى بيت المقدس وهذا يفكر على الجمع المذكور بين الروايات آنفاً لكن لم يسند حذيفة ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ولعله قاله عن اجتهاد أو جبريل بالنصب على المعية والمصاحبة فى مجرد السير دون الركوب أو بالرفع على الابتداء أى وجبريل سائق أو قائد، وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريل وميكائيل إِلى أن بلغوا أرضاً ذات نخل. فقال له جبريل: انزل فصل هنا ففعل ثم ركب. فقال له: اتدرى اين صليت. قال: لا. قال: صليت بطيبة أى المدينة وإليهما الهجرة. وروى المهاجر فقيل بضم الميم وفتح الجيم مصدر ميمى بوزن مفاعلة لكن أسقطت التاء شذوذاً وكان الإِسراء قبلها بعام ونصف على الراجح فانطلق البراق يهوى به أى يسرع فهو مجاز مرسل تبعى علاقته اللزوم لأَنه يلزم من الهوى الإِسراع أو شبه مشية بالهوى بجماع غاية السرعة يضع حافره حيث أدرك طرفه ويسمى الحافر لأَنه يحفر الأَرض وهكذا سائر حوافر الدواب، فقال له جبريل انزل فصل هنا ففعل ثم ركب فقال له أتدرى أين صليت. قال: لا. قال: صليت بمدين عند شجرة موسى، ومدين بلد بالشام تلقاء غزة، والشجرة هى التى استظل بها موسى عليه السلام، وأسند ظهره ليستريح حين اتهم بقتل القبطى فهرب، وقال الحلبى: هى التى سمع منها النداء { { يا موسى إِنى أنا الله رب العالمين } والراجح الأَول ثم ركب فانطلق البراق يهوى به ثم قال له: انزل فصل، ففعل ثم ركب فقال: أتدرى أين صليت. قال: لا. قال: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى وهو جبل بالشام، وفى كلام بعض: جبل بين مصر وإيليا، ويقال طور سنين، وقد أقسم الله جل جلاله به وألفهُ للإِلحاق لا للتأْنيث فإِنما منع الصرف للعلمية مع العجمة أو مع التأْنيث على إِرادة البقعة ثم بلغوا أرضاً وبدت قصور فقال له انزل فصل، ففعل، ثم ركب وانطلق البراق يهوى به، فقال لهُ: أتدرى أين صليت. قال: لا. قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى بن مريم، وهو قرية بالشام تلقاء بين المقدس سميت بذلك لأَن اللحم يطلق على البيت الذى يغتاب فيه الناس، فلعل هذه القرية كانت محل اغتياب الناس كما فى القاموس وجملة المواضع التى صلى فيها فى طريقه إِلى المقدس أربعة، وذكر شداد ابن أوس أنهُ صلى فى ثلاثة واسقط الصلاة عند الشجرة، وذكر مر بمدين بأَرض بيضاء هى مدين فأمره بالصلاة فيها ذكره البزار والطبرانى والبيهقى مصححاً لهُ فى دلائلهُ وبين ما هو يسير على البراق إِذ رأى عفريتاً من الجن يطالبه بشعلة من نار يريد أن يحرق بها وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما التفت رآه. فقال له جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن إِذا قلتهن طفشت شعلته وخر لفيه أى على فيهِ، وكذلك كناية عن الموت فقال لهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلى فقال جبريل: قل أعوذ بوجه الكريم وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ فى الأَرض ومن شر ما يخرج منها ومن فترة الليل والنهار إِلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن. فقالها، فانكب العفريت لفيهِ وانطفأَت شعلته وكلمات الله القرآن والتامات صفة كاشفة وما ينزل من السماء البلايا والمصايب كالزلازل والصواعق وما يعرج فيها هو سؤال الأَعمال التى هى سبب نزول البلاء، وذرأ خلق وما يخرج من الأَرض نبات ودواب مضرة ومعنى فترة الليل والنهار سكون الأَصوات فيهما وفى نسخة فتن الليل والنهار جمع فتنة وهى الميل عن الله وطارق الليل والنهار ما يحدث بغتة فساروا وأتى على قوم يزرعون فى يوم ويحصدون فى وقت والمراد باليوم الوقت، فلا يقال انهُ لم يمكث عندهم يومين كلما حصدوا شيئاً عاد كما كان فقال يا جبريل ما هذا. قال: هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شئ فهو يخلفهُ وقولهُ ما هذا إِشارة إِلى الفعل فيقدر مضاف فى المبتدأ ومضاف فى الخبر أى كفعل هؤلاء فعل المجاهدين أو استعمل ما فى العقلاء استنكاراً لحالهم حتى كأَنهم لم يعرف جنسهم والمراد بالحسنة النفقة وغيرها وظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إِلى سبعمائة ضعف" إِن هذه المضاعفة لا تختص بالمجاهدين. وقد يقال تكرر الجزاء هذا العدد المذكور لا يتخلف فى المجاهدين بخلاف غير وساروا ووجد ريحاً طيبة فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة. فقال: رائحة ماشطة بنت فرعون، ورائحة أولادها وهى امرأة حزقيل خازن فرعون واسمها قنه، بينما هى تمشط بنت فرعون أى تسرح شعرها إِذ سقط المشط بتثليث الميم، فقالت: بسم الله تعس فرعون. فقالت ابنة فرعون: أو لك رب غير أبى؟ فقالت: نعم؟ قالت: أفأَخبر بذلك أبى. قالت: نعم. فدعاها، فقال: ألك رب غيرى؟ قالت: نعم. ربى وربك الله الذى خلقنا ورزقنا ويميتنا ويحيينا رب السماوات والأَرض لا شريك له، وكان للماشطة ابنان كبيران وولد صغير ذكر وقيل أنثى وزوج، فأَرسل إِليهم فرعون فحضروا، فراود المرأة وزوجها إِن يرجعا عن دينهما فأَبيا. فقال: إِنى قاتلكما. قالت: إِحسانا منك إن قتلتنا أن تدفننا فى بيت واحد. قال ذلك بما لك علينا من الحق وهو الخدمة. والتقدير أحسن إِلينا إِحساناً منك فأَمر ببقرة من نحاس أى بقدرة كبيرة واسعة من التبقر وهو التوسع أو تسع بقرة تامة بتوابلها وروى بنقرة بالنون وهى قدر يسخن فيها الماء أو غيره فاحميت، وروى أنه أحمى فيهما زيت طيب فألقوا فيها واحداً واحدا وابتدأ بالأَولاد للتخويف والحسرة حتى بلغوا الرضيع وكانت تحمله فتأَخرت قليلا، فقال: يا أماه قعى بفتح القاف فعل أمر من الوقوع ولا تقاعسى بفتح التاء أى لا تقاعسى أى لا تتأَخرى فإِنك على الحق فألقيت هى وأولاها، وأما زوجها فأرسل إِليه فرعون فى طلبه فقيل إنه أوى إِلى موضع كذا .. بجبل كذا.. كذا فبعث فى طلبه وأتى على قوم ترضخ رءوسهم كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شئ فقال جبريل من هؤلاء قال الذين تتثاقل رءُوسهم عن الصلاة المكتوبة أى يكسلون من الأُمم السالفة لأَن الصلاة لم تفرض حينئذ ومثل له حال من يكون بهذا الوصف من هذه الأُمة فيكون إِخبارا بما سيكون ثم أتى على قوم عراة على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون فى أودية جهنم كالإِبل والغنم ويأَكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم أى حجارتها المحماة فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله شيئاً قيل عوقبوا بذلك لأَنهم يمنعونها ليزينوا بها ملابسهم ويوفوا بها مأكلهم ومشاربهم ويتفكهوا بها فأُبدلوا الرقاع والعراء بدل الملابس المزينة وأُبدلوا الضريع والزقوم والرضف بدل المآكل والمشارب الطيبة والمراد من يمنعها من الأُمم السابقة لأَنها لم تفرض حينئذ ومن يمنعها من هذه الأُمة فيكون إِخبارا بما سيكون قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ينزل فى كل سنة اثنتان وسبعون لعنة لعنة على اليهود ولعنة على النصارى وسبعون على مانع الزكاة" ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدور ولحم آخر فى قدور نىّ خبيث فجعلوا يأكلون من النى الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا الرجل من أُمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأَتى امرأة خبيثة والمرأة تأتى غير زوجها ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب ولا شئ إِلا حرقته فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا مثل أقوام من أُمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه أى يمنعون من سلوكه وتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل جبريل ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ورأى رجلا يسبح فى نهر من دم أى يعوم يلقم الحجارة أى ترميهِ الملائكة بالحجارة فى فيهِ فقال ما هذا يا جبريل؟ فقال هذا مثل آكل الربوا أى آخذه فهو مجاز مرسل من إِطلاق اسم المسبب على السبب ونكتته أن الأَكل أعظم منافع المال ثم أتى على رجل جمع حزمة حطب بضم الحاء الأولى وكسرها لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا الرجل من أُمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها قيل المراد بالأَمانات ما يشمل أيضا الوفاء بالعهد والأَمر بالمعروف والنهى عن المنكر والنصح وسائر ما يجب للمسلم وأتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، وروى من نار كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء خطباء الفتنة خطباء أُمتك أى بعض خطباء أُمتك وهو بدل بعض يقولون ما لا يفعلون والمراد بالخطباء ما يشتمل الوعاظ والمدرسين والعلماء وغيرهم وأضافهم إِلى الفتنة إِضافة سبب لمسبب لأَن حالهم سبب للإِفتان لمناقضة أقوالهم أفعالهم. ومر بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدرهم وكونها من نحاس حقيقة أو مجازا أى شديدة كالنحاس ولا شك أن الحديد أحد من النحاس ولكن خص النحاس لأَنه فى النار أشد حرارة ولذا تصنع منه القدور فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحم الناس ويقعون فى أعراضهم وخص الوجوه والصدور لأَنها يظهر فيها الشين كما أظهروا شين أعراض من اغتابوا والغيبة كبيرة فى المسلم عندنا مطلقا وقال قوم إِن كانت فى العلم وحامل القرآن وإِلا فصغيرة قيل تباح فى مواضع منظومة فى قوله:

القدح ليس بغيبة فى ستة متظلم ومعرف ومحذر
ولمظهر فسقا ومستفت ومن طلب الإِعانة فى إِزالة منكر

وأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل يريد أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الرجل أى مثله يتكلم بالكلمة العظمية تكون سببا للهلاك مثلا أو لإِضاعة مال أو هجر مسلم ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها وفى الحديث البلاء موكل بالمنطق وبين ما هو يسير إِذ دعاه داع عن شماله يا محمد انظرنى بوصل الهمزة وضم الظاء أى انتظرنى أو انظر إِلى أن أسأَلك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل؟ قال داعى اليهود أى مثل الداعى إِلى هواهم وما ظلوا به وكذا فى داعى النصارى والإِضافة عند اللقانى للبيان كما فى حديث ابن أبى ليلى قال له جبريل أتدرى من الرجل الذى دعاك عن يمين الطريق؟ قال: لا. قال تلك اليهود تدعوك إِلى دينها اهـ. أما أنك لو أجبته لتهودت أُمتك وبينما هو يسير إِذا دعاه داع عن شماله يا محمد انظرنى أسأَلك، فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل؟ قال داعى النصارى أما أنك لو أجبته لتنصرت أُمتك وبينما هو يسير إِذ هو بامرأة حاسرة عن ذراعيها أى كاشفة وعليها من كل زينة خلقها الله وذلك ما يجلب القلوب فقالت يا محمد انظرنى أسألك فلم يتلفت إِليها فقال: من هذا يا جبريل؟ قال تلك الدنيا أما أنك لو أجبتها لاختارت أُمتك الدنيا على الآخرة وقد تعرضت له يوما فقال إِنى لست أُريدك. قالت إِن لم تردنى فسيريدنى غيرك، وبينما هو يسير إِذا هو بشيخ يدعوه متنحيا عن الطريق مظهرا الديانة والورع يقول هلم يا محمد. فقال جبريل بل سر يا محمد قال من هذا يا جبريل؟ قال هذا عدو الله إِبليس أراد أن تميل إِليه وقد عصمك الله منه وإِنما بادره جبريل هنا بقوله بل سر يا محمد إِن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان عنده زيادة لطف ورحمة بالشيوخ والفقراء وقد علم جبريل ذلك منه ولأَن فتنة إِبليس أشد من فتنة غيره وسار فإِذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقالت يا محمد انظرنى أسأَلك فلم يلتفت إِليها فقال من هذه يا جبريل قال إِنه لم يبق من عمر الدنيا إِلا ما بقى من هذه العجوز. وروى البيهقى فى الدلائل عن أنس أنه مر بجماعة فسلموا عليه فقالوا السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر. فقال له جبريل اردد عليهم السلام وهم ابراهيم وموسى وعيسى. وفى رواية أنه مر بموسى عليه السلام يصلى فى قبره فقال أشهد أنك رسول الله ولا مانع عن صلاة الأَنبياء فى قبورهم لأَنهم أحياء عند ربهم يرزقون يتعبدون بما يجدون من دواعى أنفسهم لا بما يلزمون به كما يليهم أهل الجنة الذكر. وروى أبو هريرة أنه رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد وأُخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون قال جبريل هؤلاء الذين يأكلون الحرام ويتركون الحلال ومر بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر. قال جبريل هم أكلة الربا ومر بقوم مشافرهم كالإِبل يلتقمون جمرا فيخرج من أسافلهم قال جبريل هم الذين يأَكلون أموال اليتامى ظلما ومر بنساء علقن بثديهن، وقال جبريل إِنهن الزوانى ومر بقوم يقطع من جنوبهم اللحم فيطعمون وأنهم الغمازون واللمازون ومر على واد فوجد ريحا طيبة باردة وريح مسك وسمع صوتا فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا صوت الجنة تقول رب ائتنى بما وعدتنى فقد كثرة عرفى واستبرقى وعبقرى ولؤلؤى ومرجانى وفضتى وذهبى وأكوابى وصحافى وأبارقى ومركبى وعسلى ومائى ولبنى وخمرى فائتنى بما وعدتنى فقال لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بى وبرسلى وعمل صالحا ولم يشرك بى ولم يتخذ من دونى أندادا ومن خشينى فهو آمن ومن سالنى أعطيتهُ ومن أقرضنى أجزيته ومن توكل علىَّ كفيته إِننى أنا الله لا إِله إِلا أنا لا أُخلف الميعاد. قد أفلح المؤمنون وتبارك الله أحسن الخالقين قالت قد رضيت، ثم أتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحا منتنا فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا صوت جهنم تقول ربى ائتنى ما وعدتنى فقد كثرت سلاسلى وأغلالى وسعيرى وحميمى وضريعى وغساقى وعذابى وقد بعد قعرى واشتد حرى فائتنى بما وعدتنى. قال لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب. قالت قد رضيت ولما وصل بيت المقدس ربط البراق بالحلقة، وروى ربط فرسه يعنى البراق لأَنه نزل منزلة الفرس وأنكر حذيفة الربط إِذ لا يفر منه وقد سخره له عالم الغيب والشهادة. رواه أحمد والترمذى وصلى ببيت المقدس وأنكر حذيفة أيضاً الصلاة فيه والواضح ثبوت الربط والصلاة والمثبت مقدم على النافى. وعن بريدة وضع جبريل إِصبعه فى الصخرة فخرقها فقد بها البراق أى بزمامه. رواه البزار والترمذى. وعن ابن مسعود وأبى سعيد دخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل منا ركعتين أى على حدة وروى أنه دخل من بابه اليمانى ثم نزل عن البراق وربطه بالحلقة بالباب وروى أنه دخل من باب تميل فيه الشمس والقمر. ويجمع بين أحاديث الربط قبل الدخول وأحاديث الربط بعده بأَنهُ ربط أولا خارج المسجد ثم فك وربط داخله إِكراما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفى ربطه الأَخذ بالاحتياط فى الأُمور وتعاطى الأَسباب وليس ذلك قادحا فى التوكل وكان فى ذلك تأَنيس بالعادة فى ربط الدواب ومعنى ميل الشمس والقمر عن الباب أنما يمران عليهِ فيغربان منه: وقال القيلوبى يميلان إِليه عند طلوعهما بظهورهما عليه أو يميلان عند زوالهما عن الاستواء فيزول ضوؤها عنه جهة المشرق وقيل فيه تمثيل الشمس والقمر أى مثالهما فيه. وكان هذا الباب مفتوحا روى أن بعض بطارقة الروم وكله هرقل بحفظ بيت المقدس وكان لا ينام حتى يغلق أبوابه، فلما كان تلك الليلة أغلقها كلها إِلا هذا الباب الذى دخل منه - صلى الله عليه وسلم - فإِنه أعياه حتى استعان بعماله ومن حضره عليه فلم يستطع أحد أن يحركه ولما صلى الركعتين لم يلبث إِلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثيرون من الأَموات بأَرواحهم وأجسادهم على الراجح وقيل بأَرواحهم من الأَنبياء والشهداء ومن ألحق بهم فعرف النبيين بصفة تميزهم من بين راكع وساجد ثم أعلم جبريل الحاضرين بالصلاة وشرعوا فيها بلا أذان ولا إِقامة لأَنهما شرعا بالمدينة أو بهما ولو قبل أن يشرعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُمته وقاموا صفوفا ينتظرون من يومهم فأَخذ جبريل بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدمه فصلى بهم فى مقدم المسجد وكانوا سبعة صفوف ثلاثة من المرسلين وأربعة من سائر الأَنبياء عليهم الصلاة والسلام وكان خلق ظهره إِبراهيم وعن يساره إِسحاق. وعن كعب أذن جبريل ونزلت الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين وزاد الله فى سعة المسجد حتى وسعهم فصلى بهم جميعا ركعتين كانتا مفروضتين عليه وقيل هما نافلتان والراجح أنهما نقل مطلق ولا يضر وقوع الجماعة فيها لأَنه للتشريع وجوز كثير من العلماء النفل السنن مطلقا بالجماعة وصلاة الموتى تلذذ لا تكليف لانقطاعه بالموت وعلى أنهما مفروضتان عليه فالأَقرب عند بعض أنهما الصبح ويحتملان أنهما العشاء على أنهما قبل العروج وإِما على أنهما بعده فالصبح قال ابن كثير ومن الناس من يزعم أنه أمهم فى السماء والذى تظاهرت به الروايات أنه بيت المقدس والظاهر أنها بعد رجوعه إِليه لأَنه لما مر بهم فى منازلهم جعل يسأَل جبريل عنهم واحدا واحدا وهو يخبره قال هذا هو اللايق لأَنه أولا كان مطلوبا ليفرض عليه الله تعالى أُمته ما يشاء ثم لما فرغ مما أُريد به اجتمع هو وإِخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم لتقديمه فى الإِمامة والظاهر أنه صلى بهم فى السماء بعد العروج وفى بيت المقدس قبلة وانتقلوا إِليه كما انتقل موسى من قبره الذى رآه يصلى فيه إِلى بيت المقدس والسماء وعن أنس لما بلغ بيت المقدس وبلغ المكان الذى يقال له باب محمد أتا إِلى الحجر الذى به فغمزه جبريل بإِصبعه فنقبه ثم ربط البراق ولما استويا فى سرحه المسجد قال جبريل يا محمد هل سأَلت ربك أن يريك الحور العين قال نعم قال فانطلق إِلى هؤلاء النسوة فسلم عليهن قال فسلمت عليهن فرددن على السلام فقلت لمن أنتن فقلن خيرات حسان نساء قوم أبرار نقوا فلم يدرنوا. أى لم يتوسخوا وأقاموا فلم يظعنوا وخلدوا فلم يموتوا وروى أنهن راهن عن يسار الصخرة ولا يبعد أنهن صلبن خلفه ويحتمل قبل أنه كشف عنهن له حتى راهن فى ذلك المحل وهن فى الجنة كرامة له وخرقا للعادة والحكمة فى رويته لهن تعظيمه واحتياجه إِلى معرفتهن لأَنه يزوجهن أمته وكن على اليسار مع شرف النبى إِشارة لتيسير حصولهن لهذه الأمة وليتفاول بتيسير المعراج وسهولته أو ليكون جانب اليمين له يرقى منه الصخرة وهل رقى الصخرة أو عرج من جهة يمينها خلاف والحور خلقن من الزعفران أو من تسبيح الملائكة ومن قطرات تقطر من جناح جبريل لينتفض بعد خروجه من بعض الأَنهار ولما فرغ من صلاته قال جبريل يا محمد أتدرى من صلى خلفك مؤتما بك قال لا قال كل نبى بعثه الله أى أوحى إِليه ولا ينافى قوله ما مر من أنه عرف النبيين لأَنه يحتمل أنه عرفهم بأَشخاصهم ولم يعرف أنهم صلوا كلهم خلفه مكانه. قال له أتدرى من صلى خلفك منهم لو عرف ونسى أو عرفهم ولم يعرف أنه لم يبق منهم أحد، ولما فرغ أثنى كل نبى على ربه سبحانه بثناء جميل فقال ابراهيم الحمد لله الذى اتخذنى خليلا وأعطانى ملكا عظيما وجعلنى أُمة قانتا يؤتم بى وأنقذنى من النار وجعلها على بردا وسلاما وقال موسى الحمد لله الذى كلمنى تكليما وجعل هلاك فرعون ونجاة بنى إِسرائيل على يدى وجعل من أُمتى قوما يهدون بالحق وبه يعدلون وقال داود الحمد لله الذى جعل لى ملكا وعلمنى الزبور وألان لى الحديد وسخر لى الجبال يسبحن والطير وأعطانى الحكمة وفصل الخطاب وقال سليمان الحمد لله الذى سخر لى الرياح وسخر لى الشياطين يعملون لى ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات وكانت باليمن لا تحرك من مواضعها يأْكل من الواحدة ألف رجل، وعلمنى منطق الطير وآتانى من كل شئ فضلا وسخر لى الإِنس والطير والدواب وفضلنى على كثير من عباده المؤمنين وآتانى ملكاً لا ينبغى لأَحد من بعدى وجعل ملكى ملكاً طيباً ليس فيه حساب ولا عقاب، وقال عيسى عليه السلام: الحمد لله الذى جعلنى كلمته وجعل مثلى مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وعلمنى الكتاب والحكمة والتوراة والإِنجيل وجعلنى أبرئ الأَكمه والأَبرص وأُحيى الموتى بإِذن الله ورفعنى وطهرنى وأعاذنى وأُمى من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - " كلكم أثنى على ربه وأنا مثن على ربى أى مزيد للثناء عليه ثم شرع يقول: الحمد لله الذى أرسلنى رحمة للعالمين وكافة للناس بشيراً ونذيراً، وأنزل على الفرقان فيه تبيان كل شئ وجعل أُمتى خير أمه أُخرجت للناس وجعل أُمتى وسطاً أى خياراً عدولا، وجعل أُمتى هم الأَولون والآخرون، وشرح لى صدرى ووضع عنى وزرى، ورفع لى ذكرى، وجعلنى فاتحاً أى للشفاعة، خاتماً" .. أى للنبوة. فقال إِبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بهذا فضلكم محمد - صلى الله عليه وسلم - الإِشارة إِلى الثناء لا خصوص قولهِ ورفع لى ذكرى خلافاً للأجهورى أى بفصاحته وبلاغته وثوابه، وفضلكم بفتح الضاد والتخفيف زاد عليكم فى الفضل والأجر دنيا وأخرى وفيه رد على المعتزلة القائلين لا فضل لبعضهم على بعض، ويرد عليهم ظاهر القرآن أيضاً تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض وتوقف بعضهم، وقال السكوت أفضل والصحيح ثبوت التفضيل بين الأَنبياء غير المرسلين وأن المرسلين أفضل والتفضيل بين المرسلين، وفى حديث أبى أمامة عند الطبرانى فى الأَوسط ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمداً - صلى الله عليه وسلم - والجمع بينه وبين ما مر من أن مقدمه جبريل أنهم لما قدموه لم يتقدم حتى قدمه جبريل، وأخذ النبى - صلى الله عليه وسلم - من العطش أشد ما أخذه فجاءه جبريل - صلى الله عليه وسلم - بإِناء من خمر وإِناء من لبن فاختار اللبن، فقال له جبريل: اخترت الفطرة، ولو شربت الخمر لغوت أمتك ولم يتبعك منهم إِلا قليل. وفى رواية أن الآنية كانت ثلاثة والثالث فيه ماء، وأن جبريل قال له: لو شربت الماء لغرقت أمتك. وفى رواية أن أحد الآنية التى عرضت عليه فيه عسل بدل الماء، وأن جبريل قال له: لو شربت العسل لهلكت أمتك بحب الدنيا، ويجمع بين ذلك بان يكون بعض الرواة اقتصر على إِناءين وأن يكون أحد الثلاثة كان فيه عسل، ثم جعل فيه الماء أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل أو تكون الأَوانى أربعة، وبعض الرواة اقتصر وبعض وفىَّ، روى أنه شرب من العسل قليلا. وروى أنه شرب من الماء قليلا، فمعنى لو شربت لورويت، والخمر التى أتى بها هى من خمر الجنة كما جزم به اللقانى وإِنما تجنبها لشبهها بخمر الدنيا التى ستحرم ويكون ذلك ابلغ فى الورع وأدق لأَنه ترك ما يشابه ما سيحرم، وأراد بالفطرة اللبن الذى هو علامة الفطرة التى خلق الله عليها العبد وهى الإِسلام لكون اللبن سهلا طيباً طاهراً سائغاً للشاربين سليم العاقبة، أو المعنى اخترت اللبن الذى عليه تنبت الخلقة وبه نبت اللحم ونشر العظم أو اخترته لأَنه الحلال الدائم فى دين الإِسلام بخلاف الخمر فستحرم وهى أم الخبائث جالبة لأَنواع الشر حالا ومثالا، وبما ذكرته أولا قال النووى، وقال القرطبى: يحتمل أنه سمى اللبن قطرة لأَنه أول شئ يدخل جوف المولود ويشق أمعاءه والسر فى ميله - صلى الله عليه وسلم - إِليه كونه مألوفا له، وترد القريبى القرطبى والغيطى فى كون تلك الخمر من الجنة أو لا فعلى أنها منها توقاها لمشابهة الخمر التى ستحرم وهى خمر الدنيا، حرمت فى المدينة وعلى أنها من الدنيا فتوقاها تورعاً وتعريضاً بأَنها ستحرم ولما وافق الصواب قال له جبريل: أصبت الفطرة، وروى: أصبت أصاب الله بك، قال ابن المنير: اتخذ شراباً حلالا ولو ماء وضاهى به الخمر فى الصورة وهيأَهُ بالهيئة التى يتعاطاها أهل الشهوات فى اجتماع وآلات فقد أتى منكراً ولا يجد وقد ذكر مثل ذلك صاحب المعلقات وهو من أصحابنا الأَباضية لكنه مجهول فالتحقيق أن ماء البن بلام واحدة وباء مضمومة ونون مشددة المسمى بالقهوة يحرم من حيث تسميته بالخمر وهى لفظ القهوة والاجتماع عليه بهيئة مخصوصة وآلة، فإِن لم يكن ذلك لم يحرم ولو سماه شاربه الخمر قهوة مع أن القهوة من أسماء الخمر إِذا لم يعرف معنى هذا الاسم أو عرف ولكن لم ينو المضاهاة، وعن بعض أنه أتى بإِناء خمر وإِناء لبن بعد ما خرج من المسجد ولم يذكر ثالثاً. وروى شداد وأوس أنه أتى بإِناء لبن وإِناء عسل فأخذ العسل بهداية الله فقال جبريل للملك الذى ناوله أخذ صاحبك الفطرة، وذكر ابن كثير وغيره أنه أتى بالأَوانى أيضاً عند سدرة المنتهى، قال جبريل أيضاً: أصبت الفطرة للتأْكيد والتحذير فيما سواه ثم أتى بالمعراج الذى تصعد عليه أرواح بنى آدم غير المشركين مع الملائكة بعد قبضها حتى تأْتى الدار البيضاء تحت العرش فتسجد ثم تؤمر بالرجوع حتى تحضر الدفن وما يفعل بجسدها ولم تر الخلائق أحسن من المعراج يراه المحتضر له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب أحد جانبيه ياقوتة حمراء والآخر زمردة خضراء، وهو من جنة الفردوس منضد باللؤلؤ، عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة ليصعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع جبريل عليه السلام إِلى السماوات ليرى فيهن قدرة الله وآياته كما قال { لِنُرِيهُ } وقرأ الحسن ليريه بالتحتية التفاتاً عن قوله باركنا، وقال أيضاً بعد أنه هو والالتفات من طريق البلاغة، { مِنْ آيَاتِنَا } فى السماوات فإِنما أسرى به إِلى بيت المقدس ليسرى منه إِلى السماوات فيرى الآيات وقد رأى آيات عظاماً سأَذكرها إِن شاء الله لك، وهى أعظم وأكثر مما رأى إِبراهيم الخليل عليه السلام، ولو ذكرت بمن التبعضية لأَن إِبراهيم رأى ملكوت السماوات والأَرض وهى بعض الآيات، وآيات الله أعم رؤيا منها أكثر مما رأى إِبراهيم ويحتمل أن يراد لنريه من آياتنا فى طريقه إِلى المسجد الأَقصى وفى طريقه إِلى السماوات، وذلك كله فى ليلة واحدة على الراجح وبما قررت به الآية يعلم بطلان استدلال بعض، على أن المعراج كان فى ليلة غير ليلة الإِسرى إِلى المسجد الأَقصى بالآية، لأَن الإِسراء إِلى السماوات لم يذكر هنا وإِنما قدم الإِسرى إِليه على المعراج ليعرج منه مستويا وقصداً لتفاؤته بالاستقامة وفى رؤيته بيت المقدس مطلقاً فوائد منها: إِظهار الحق على من عاند لأَنه لو عرج به إِلى السماء من مكة ولم ير المقدس فى ذهابه ولا رجوعه لم يجد لرد معاندتهم سبيلا إِلى البيان والإِيضاح وقد سأَلوه عن أشياء من بيت المقدس كانوا رأوها فأخبرهم بما يصدقونه، فيلزم أن يصدقوه فى بقية ما ذكر من العروج ومنها أن يرى القبلة التى صلى إِليها زماناً كما عرف الكعبة التى صلى إِليها ومنها أن المسجد الأقصى مجمع أرواح الأَنبياء عليهم السلام فاراد أن يشرفهم بزيارته - صلى الله عليه وسلم - ولما ارتقى هو وجبريل على المرقاة الأُولى ارتفعت بهما خمسمائة عام حتى بلغا السماء كما أن بين الدرجتين فى الجنة خمسمائة عام تنحط الدرجة كالجمل المبرك فيصعد عليها ولى الله ثم ترتفع إِلى مكانها والظاهر أنهُ سلم واحد خرق السماوات السبع من الأَرض لا سبع سلالم لكل سماء سلم، وفى كلام بعض ما يدل على أنه ارتقى على البراق والمشهور ما ذكرته، ورأيت فى كلام البخارى نصاً عن أنس أنه ارتقى على البراق وهو حسن ولو اشتهى أنه ارتقى على السلم، ولما ارتقيا بلغا بابا من أبواب السماء الدنيا يقال له باب الحفظة عليه ملائكة يحفظون السماوات من الشياطين لا يسمعون إِلى الملأَ الأَعلى ويحفظون الوحى النازل عليه - صلى الله عليه وسلم - ولكل أمة باب فى السماء الأُولى وقيل لكل شخص بابان، باب ينزل منه رزقه وباب يصعد منه عمله، وقيل للسماء باب واحد ينزل منه الرزق وتصعد منه الأَعمال، وعليه فالجمع باعتبار تعدد الأمور الصاعدة منه والنازلة وعلى هذه السماء ملك يسكن الهواء أسفلها قريباً منها هو خازنها وقائمها، ويسمى إِسماعيل أى مطيع الله لم يصعد إِلى السماء بالدخول فيها قط وقيل يدخلها ولا يصعد إِلى الثانية ولم يهبط إِلى الأَرض قط إلا يوم مات النبى - صلى الله عليه وسلم - فإِنه نزل مع ملك الموت ثم رجع وذكروا أن بين يديه فى خدمته سبعين ألف ملك، وعن أبى سعيد اثنا عشر ألف ملك، ألف ملك جند كل ملك مائة ألف ملك، فاستفتح جبريل باب السماء بالقرع وكان صوته معروفاً ولكونه بالقرع قيل من هذا وإِنما لم يفتح قبل مجئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنه أبلغ فى الكرامة ليلم أن الفتح لأجله ولإِطلاعه على أنه معروف عند أهل السماء، بدليل قولهم أبعث إِليه ولم يقولوا ومن محمد وكذلك فى كل سماء ولما استفتح قال له أهل السماء: من هذا. قال: جبريل وذلك أنهم رأوهما ولم يعرفوهما بدليل قولهم من هذا، وقولهم ومن معك: وقد ذكروا أن جبريل لم يكن حينئذ على الصورة التى يعرفونه بها فسأَلوه من هذا ولما أخبرهم قالوا: ومن معك. قال: محمد وذلك أنهم أحسوا أن معه رفيقاً بالمشاهدة لكون السماء شفافة أو لزيادة النور بحضوره - صلى الله عليه وسلم - فسأَلوه عنه فقال: محمد. فقالوا: أوقد أرسل إِليه وفى رواية بعث إِليه وعلى الوجهين، فالمراد البعث للعروج لا الرسالة، لأَنهم عرفوا بها قبل ذلك واشتهرت فى الملأ الأَعلى، وقيل سأَلوا عن بعثه للعروج تعجباً من نعمة الله عليه بذلك واستبشاراً به وقد علموا أن بشر لا يترقى هذا الترقى إِلا بإِذن من الله تعالى وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إِليه، وقيل إِن الله تعالى أراد اطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأَعلى، لأنهم قالوا أو بعث إِليه أو أرسل إِليه فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له وإِلا لقالوا: ومن محمد كما مر ولما قيل أو بعث إِليه وقال جبريل نعم. قيل: مرحبا به وأهلا، أى صادفت رحبا بك، أى وسعاً أو رحب الله بك مرحباً أى ترحيباً، وأتيت أهلا وأهلك الله أهلا أى تأْهيلا، ويزيد الناس فى كلامهم وسهلا أى وصادفت أو أصبت مكاناً سهلا وعامل الثلاثة محذوف وجواباً لجريان ذلك مجرى المثل حياه الله من أخ ومن خليفة، أى أبقاه الله من الحياة أو سلم عليه من التحية أو طال حياته أو أكرمه غاية الإِكرام ومن زائدة فى التمييز عند بعض الأَخوة أخوة الإِيمان. قال الله سبحانه وتعالى: { { إِنما المؤمنون إخوة } والخليفة وكيل الله فى تنفيذ الأَحكام والباقى دينه لأَنه خلف الأَديان كلها ولا ينسخ والآخر لأَنه خاتم الأَنبياء قالوا ولنعم المجئ جاء أى جاء ونعم المجئ مجيئه، ويحتمل أن يكون قالوه لما عاينوه من بركاته عليه السلام التى سبقته السماء مبشرة بقدومه وفيه تقديم وتأْخير كما علمت ويحتمل أن يكون جملة جاء حالا من المجئ، أى جاءه أو جاء وهو أى المجئ مجازاً وإِنما قيل مرحباً به لا مرحباً بك، لأَنه حيا قبل فتح الباب وقبل صدور الخطاب من النبى - صلى الله عليه وسلم - أو للتعظيم لأَن الغيبة ربما كانت أفخم من كاف الخطاب، والمتكلم بذلك هو ملك غير صاحب السماء وقيل هو صاحبها إِسماعيل المذكور، وقيل جماعة وهكذا سائر السماوات، ففتح الملك لما فلما قطعا غلظ السماء وجد فيها آدم كهيئته يوم خلق على صورته وجماله تعرض عليه أرواح الأَنبياء وذريته المؤمنين بعد موتهم، فيقول: روح طيبة نفس طيبة، وهذا عطف تفسير على أن الروح والنفس واحدة وهو الراجح، اجعلوها فى عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكفار، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها فى سجين، وعن يمينه أسودة وباب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله أسودة وباب يخرج منه ريح خبيثة وإِذا نظر قبل يمينه ضحك واستبشر وإِذا نظر قبل شماله حزن وبكى فسلم عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح، والنبى الصالح، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - من هذا يا جبريل. قال: أبوك آدم وهذه الأَسودة نسم بنيه، فأَهل اليمين منهم أهل الجنة، وأهل الشمال منهم أهل النار، فإِذا نظر قِبل يمينه ضحك، وإِذا نظر قِبل شماله بكى، وهذا الباب الذى عن يمينه باب الجنة إِذا نظر من يدخله من ذريته ضحك واستبشر، والباب الذى عن يساره باب جهنم، إِذا نظر من يدخله من ذريته بكى وحزن، وقوله اجعلوها فى عليين، وقوله اجعلوها فى سجين تفويض من الله الأَمر إِليه فهو يقضى بحكم الله السابق والأَسودة جمع سود وهى أرواح لم تدخل الأَجساد ستخلق أجسادها بعد فهى غير المعروضة، وكرر الصلاح فى وصف النبى - صلى الله عليه وسلم - مع ذكر النبوة، وذكر النبوة بصلاحيته لكل من النبوة الكاملة والنبوة والصالح هو القائمة بحقوق الله سبحانه وحقوق العباد وإِن قلت أرواح المؤمنين فى عليين، وأرواح الكفار فى سجين، قال الله عز وجل: { لا تفتح لهم أبواب السماء } قلنا يحتمل أن تلك الأَرواح التى فى السماء هى التى لم تدخل فى الأجساد وقد تقرر أن الأَرواح خلقت قبل الأَجساد أو أنها أرواح الأجساد حين خروجها وقيل استقرارها فى عليين أو سجين أو رآها من مكانه وهى فى محالها أو مثلت له حالة الأَرواح فى الآخرة فليست أرواحاً حقيقية أو كانت تعرض عليه الأَرواح فى بعض الأَوقات أو عرضت عليه فى ذلك الوقت فوافق المعراج، وفى بعض ذلك منافرة لقوله اجعلوها فى عليين اجعلوها فى سجين، إِلا أن يقال معناه الاستبشار والتحسر أو معناه أبقوها كما هى ولا ينافى كون باب الجنة عن يمينه وباب النار عن يساره ما قيل أن الجنة فى السماء السابعة والنار تحت الأَرض السابعة، لأَن الشئ قد يكون عن يمينك أو يسارك وهو أعلى أو أسفل وكان آدم فى السماء لأَنه أول الآباء وأول الأَنبياء والرسل وهو الأَصل ولأَجل تأْسيس النبوة بالأُبوة فى أول انتقاله إِلى العالم العلوى والتنبيه على ما سيقع له - صلى الله عليه وسلم - من خروجه من مكة ثم عودة إِليها كخروج آدم من الجنة ثم عودة إِليها وكلا الخروجين بسبب العدو، ثم مضى قليلا فوجد أكلة الربا وأموال اليتامى والزناة وغيرهم على حالة شنيعة بنحو ما تقدم من الحالة التى رآهم عليها قبل صعوده وأشنع، وروى البخارى عن شريك أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى فى السماء الدنيا النيل والفرات أصلهما والمشهور أن أصلهما تحت سدرة المنتهى ويجمع بأَن أصل نبعهما من تحتها ومقرهما فى السماء الدنيا ومنها ينزلان إِلى الأَرض، ووقع فى هذه الرواية أيضاً ما نصه: ثم مضى به فى السماء الدنيا فإِذا هو بنهر آخر عليه قصور من لؤلؤ وزبرجد، وأنهُ الكوثر وهو مما استشكل من رواية شريك فإِن الكوثر من الجنة وهى فى السماء السابعة وأُجيب بأَن التقدير: ثم مضى فى السماء الدنيا إِلى السماء السابعة فإِذا هو نهر ثم صعد إِلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من هذا. قال: جبريل. قيل: ومن معك. قال: محمد. قيل: أو قد أرسل إِليه. قال: نعم. قيل: مرحباً به وأهلا حياه الله من أخ، ومن خليفة فنعم الأَخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء فلما خلصا إِذا هو بابنى الخالة عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، شبيه أحدهما لصاحبه بثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما، وإِذا بعيسى جعد الشعر ليس طويله ولا قصيره من نوع إِلى الحمرة والبياض، سبط الرأس أى مسترسل الشعر كأنما خرج من ديماس أى حمام والحمام والطاعون والزجاج والقص والصابون من عمل الجن وشبهه - صلى الله عليه وسلم - بعروة بن مسعود الثقفى فسلم عليهما فردا عليه السلام، ثم قالا مرحباً بالأَخ الصالح، والنبى الصالح ودعوا له بخير توافقت الأنبياء والرسل فى مخاطبة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - بصيغة واحدة وذلك من وقوع الخطر وذلك لأَنهم على قلب واحد ولسان واحد وكذا توافقت الملائكة فى سؤال جبريل والكلام معه فى شأْن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإِن قلت لم لم يسل عن عيسى ويحيى عليهما السلام، قلنا لعل وجهه أنه رأى عيسى عليه السلام فى بيت المقدس حيا فرآه فى السماء كما رآه فى الأَرض، لأَن ذاته لم يحصل فيها تغير ويعلم أن يحيى مع عيسى فى محل فلم يسأَل عنهما بخلاف غيرهما فإِنه تغيرت حالته فى السماء، فسأَل عنه وكل منهم قد رفع له من قبره إِلى بيت المقدس وإِلى السماوات بالروح والجسد عند بعض، وحكمة رؤية عيسى ويحيى فى السماء الثانية أنهما الممتحنان باليهود أما عيسى فكذبته اليهود وأذته وهموا بقتله فرفعه الله، وأما يحيى فقتلوه ففيه الإِشارة إِلى ما وقع له - صلى الله عليه وسلم - فى السنة الثانية من الهجرة من امتحانه باليهود، أذوه وعادوه وهموا بإِلقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجاه الله منهم كما نجى عيسى منهم، ثم سموه فى الشاة فلم تزل تلك الأَكلة تعاوده حتى قطعت أبهره وتوفى شهيداً - صلى الله عليه وسلم - فعيسى طلب الانتصار عليهم بقوله { { من أنصارى إِلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله } كذاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - طلب الانتصار، فى السنة الثانية للخروج إِلى بدر العظمى فأجباوه ونصروه ولأَنه أقرب الأَنبياء إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نسخت شريعته إِلا شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأَنه ينزل فى آخر الزمان لأُمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على شريعتهم ويحكم بها، وإِذا قال - صلى الله عليه وسلم - أنا أولى الناس بعيسى وكان يحيى معه لأَنه ابن خالته وهما كالشئ الواحد وهذا ما يفيده ظاهر الحديث، أن مريم أخت أم يحيى، وعليه مالك وجماعة، وقيل أم مريم أخت أم يحيى فعيسى ابن بنت خاله يحيى ابن خالة أم عيسى، فهما أبناء خالة كما فى الحديث لكن بواسطة ثم صعد إِلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا. قال: جبريل، قيل: ومن معك. قال: محمد. قيل: قد أرسل إِليه. قال: نعم. قيل: مرحباً به وأهلا وسهلا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأَخ ونعم الخليفة، ونعم المجئ جاء ففتح لهما فما خلصا إِذا هو بيوسف ومعه نفر من قومه، فسلم عليه فرد عليه السلام، ثم قال مرحباً بالأَخ الصالح والنبى الصالح أى كامل فى الصلاح والمراد بالأَخوة أخوة النبوة، وهكذا فى مثل هذا ودعا له بخير وإِذا هو قد أعطى شطر الحسن، وفى رواية أحسن ما خلق الله قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قال من هذا يا جبريل. قال: أخوك يوسف، أى شطر الحسن المنقسم بين الناس غير نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإِنه قد أعطى الحسن الكامل كما قال البوصيرى:

منزه عن شريك فى محاسنه فجوهر الحسن فيه غير منقسم

ولم يحصل الافتتان به كيوسف عليه السلام لأَن حُسن يوسف لم يكن عليهِ غطاء، وحُسن نبينا - صلى الله عليه وسلم - غطى بالجلال والمهابة والمتكلم لا يدخل فى عموم كلامه إِلا بقرينة فلا يقال إِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاسم للناس فى الشطر الباقى ولا يقال إنهُ داخل فى قوله احسن ما خلق الله وقوله قد فضل الناس، وقال ابن المنير جد الدمامينى إِن المراد أنهُ أعطى شطر الحسن الذى أوتيه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجهاً وأحسنهم صوتاً، قيل حكمة رؤيته - صلى الله عليه وسلم - يوسف عليه السلام فى السماء الثالثة ثلاثة أمور الأَول: الإِشارة إِلى حاله فى السنة من الهجرة تشبه حالة يوسف وما جرى له مع أخوته الذين أخرجوه من بين أظهرهم ثم ظفر بهم فصفح عنهم، وقال: لا تثريب عليكم اليوم وكذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - جرى له مع قريش كذلك نصبوا له الحرب وأرادوا هلاكه، وكانوا سبباً فى إخراجه من بين أظهرهم ثم ظفر بهم فى غزوة الفتح فصفح عنهم وقال: أقول كما قال أخى يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، وفى هذا نظر فإِنهُ لا يختص بالسنة الثالثة. الثانى: أن المناسبة أن السنة الثالثة من سنى الهجرة وقعت فيها غزوة أحد ومما اتفق فيه من المناسبة شيوع قتل النبى - صلى الله عليه وسلم - فناسب ما حصل للمسلمين من الأَسف على فقد نبيهم ما حصل ليعقوب من الأَسف لاعتقاد فقده إِلى أن وجد ريحه بعد تطاول الأَمد الثالث أن يوسف كيد وألقى فى غيابات الجب حتى استنقذه الله تعالى على يد من شاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقع يوم أحد فى حفرة حفرها أبو عامر الفاسق لعنه الله مكيدة المسلمين على جنبه فضرب بالحجارة على جبهته فأخذ على بيده واحتضنه طلحة حتى قام - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن أبى جمرة - حكمة ذلك أن أمة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - تدخل الجنة على حُسن يوسف، فأرى له فى الثالثة تبشيراً ثم صعد إِلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل من هذا. قال: جبريل. قيل: ومن معك. قال: محمد. قيل: أرسل إِليه بحذف همزة الاستفهام، قال: نعم. قيل: مرحباً به واهلا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء، وفتح لهما فلما خلصا إِذا هو بإِدريس قيل هو جد أى نوح قد رفعه الله مكانا علياً هو الجنة أو السماء الرابعة وخص بالرفعة، مع أن من فى الخامسة أو فوقها أرفع لأَنه أرفع حيا فسلم عليه فرد عليه السلام ثم قال مرحباً بالأَخ الصالح والنبى الصالح ثم دعا له بخير وقال بالأَخ الصالح تلطفاً وتأَدباً، وقد روى مرحباً بالابن الصالح على أنه من آبائه، وفى عمود نسبه - صلى الله عليه وسلم - وقيل المراد به إِلياس وهو بعد نوح وليس من عمود نسبه وهو ضعيف، ولم يسأَل عن إِدريس لأَنه رآه فى بيت المقدس على حاله فى السماء الرابعة وحكمة رؤيته فى الرابعة الإِشارة لحالة رابعة فى السنة الرابعة من الهجرة من علو شأنه ورفعة منزلته وعظم سطوته وأحرزه - صلى الله عليه وسلم - لخصائص إِدريس - عليه السلام - فإِنه أول من كتب بالقلم وكتب إِلى الملوك يدعوهم إِلى التوحيد وقاتل بنى قابيل فكذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - اتخذ الكاتب والخاتم، وكتب عنه بالقلم إِلى ملوك الآفاق عند استعجال الإِسلام يدعوهم إِلى طاعته، وقال ابن أبى جمرة: كان إِدريس فى الرابعة لأَنه هناك توفى، ولم تكن له توبة فى الأَرض على ما ذكر ثم صعد إِلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل، قيل من هذا. قال: جبريل. قيل: ومن معك. قال: محمد. قيل: أو قد أرسل إِليه. قال: نعم. قيل مرحباً به وأهلا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأَخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء، ففتح لهما فلما خلصا فإِذا هو بهارون والنصف الأَعلى من لحيته أبيض والنصف أسود تكاد تصل سرته من طولها والنصف الأَسود هو الذى قبض عليهِ موسى وحوله قوم من بنى إِسرائيل وهم أولاد يعقوب عليهم الصلاة والسلام ومعنى إسرائيل بالعربية صفوة الله، وقيل عبد الله فأسر عبداً وصفوة وائل الله وهو يقص عليهم أخبار الأُمم السابقة فسلم عليه فرد عليه السلام، ثم قال مرحبا بالأَخ الصالح والنبى الصالح ثم دعا له بخير، فقال: يا جبريل من هذا. قال: هذا الرجل المجيب فى قومه هارون بن عمران، وكان ألين وفى موسى شدة فكانوا يؤذونه وكان فى الخامسة ملك، نصفه نار ونصفه ثلج يقول سبحان من ألف بين الثلج والنار، وقال القرطبى إن هذا تسبيح أهلها كلهم، وإِن من قالها مرة كان له مثل ثوابهم ومات هارون قبل موسى، وقال يا رب مات أخى فاغفر له فأْوحى الله تبارك وتعالى إِليه لو سألتنى الأَولين والآخرين لأعطيتك إلا قاتلى الحسين ابن على فإِنى انتقم منهم يوم القيامة وحكمة رؤيته لهارون فى الخامسة ثلاثة أمور الأَول: الفصاحة فإِنه أفصح من موسى كما قال الله تعالى عن موسى، وهو أفصح منى لساناً ولا شك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصح من هارون لأَن كلامه عربى وكلام هارون عبرى، والعربية أفصح ثم هو أفصح العرب كلهم، وكثر ظهور فصاحته فى العام الخامس من الهجرة لكثرة انتشار القرآن والأَمر والنهى فيه لظهور الإِسلام فيه أكثر مما سبق الثانى: المحبة فإِن هارون محبب فى قومه فلقيه فى الخامسة ليؤذن بمحبة قريش له - صلى الله عليه وسلم - فى السنة الخامسة فإِنه كثر فيها الإِسلام وحبه ولو بقى جمهورهم على الكفر تبعاً لمن توغل فى الكفر والبغض. الثالث: الإِشارة إِلى حصول حاله له - صلى الله عليه وسلم - تشبه حاله هارون مع بنى إِسرائيل مما ناله منهم من الإِيذاء ثم انتصاره عليهم بعد ما عبدوا العجل بعد ذهاب موسى للمناجاة ونظير ذلك ما وقع لنبينا - صلى الله عليه وسلم - فى السنة الخامسة من قريظة والنضر وقينقاع، فإِنهم نقضوا العهد وحزبوا الأَحزاب وجمعوها وأظهروا عداوته - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله فأظهره الله بهم وقتلهم ذكره النجم الغيطى. قال اللقانى: فيه شئ يمنع المناسبة فى ذكر بنى النضير وقينقاع إِذ وقعة بنى النضير إِنما كانت فى الرابعة بعد أحد وكانت أحد فى الثالثة باتفاق، وأما بنو قينقاع فغزوتها فى الثانية فلا مناسبة إِلا فى ذكر قريضة، إِذ كانت بعد الخندق والخندق على قول الجمهور كانت فى السنة الخامسة، ثم صعد إِلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل من هذا. قال: جبريل. قيل: ومن معك. قال: محمد. قيل: وقد أرسل إِليه قال: نعم. قيل: مرحبا به وأهلا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأَخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء ففتح لهما فجعل يمر بالنبى والنبيين معهم الرهط، أى أقل من عشرة رجال والنبيين معهم القوم والنبى والنبيين ليس معهم أحد لعدم من صدق به، ثم مر بسواد عظيم فقال: من هذا. قيل: موسى وقومه ولكن ارفع رأسك فإِذا هو بسواد عظيم قد سد الأُفق من الجهات الست، فقال هؤلاء أُمتك وسوى هؤلاء من أُمتك سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، ولما ذكر ذلك قال عكاشة رضى الله عنه أنا منهم. قال: نعم. فقال منافق: أنا منهم. قال: سبقك بها عكاشة ولم يقل لست منهم سترا عليه، والقول بأَن القائل لهُ بعد عكاشة مسلم وأنهُ سعد بن عبادة مردود ولما جاوزا ما ذكر من النبى والنبيين فإِذا هو بموسى بن عمران رجل آدم أى أسمر طوال بضم وتخفيف كأَنه من رجال أزدشنوءة كثير الشعر مع صلابته، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دونهما حال الغضب فسلم النبى - صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ثم قال مرحبا بالأَخ الصالح والنبى الصالح ثم دعا له بخير، وقال يزعم الناس أنى أكرم بنى آدم على الله منى فلما جاوره النبى - صلى الله عليه وسلم - بكى فقيل له ما يبكيك. قال: أبكى لأَن غلاما بعث من بعدى يدخل الجنة من أُمته أكثر ممن تدخل الجنة من عم بنو أُمتى إِسرائيل إِنى أكرم بنى آدم على الله، وهذا رجل من بنى آدم خلفنى فى دنيا وأتى فى أخرى بتخفيف اللام أى أتى خلفى فلو أنه فى نفسه لم أبال ولكن معه أُمته وهم أفضل الأُمم عند الله وفى رواية لهان على وإِنما سماه غلاما على عادة العرب وهى أنهم لا يطلقون الغلام على الرجل إِلا إِذا كان سيدا فيهم. قاله ابن أبى جمرة، وقيل باعتبار زمان موسى وسنه إِلى أن اجتمعا وقيل العرب يسمى مستجمع السن غلاما ما دامت فيه بقية القوة، وكان هو مستمر القوة إِلى أن دخل سن الشيخوخة حتى أن الناس فى قدومه للمدينة لما رأوه مردفا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبى بكر اسم الشيخ مع أنه - صلى الله عليه وسلم - سن أمن أبى بكر، واعلم أن أكثر أهل الجنة هذه الأُمة، وقد صح أن أهل الجنة مائة وثمانون صفا، هذه الأُمة ثمانون صفا وسائر الأُمم أربعون وبكى موسى، وكلامه فى شأن ذلك كله الغبطة المحمودة وأسف على ما فاته من الأَجر لأَن لكل نبى مثل أجر من اتبعه والقائل له ما يبكيك هو الله سبحانه وهو أعلم ويدل لهذا قوله فى بعض الروايات: وكيف لا أبكى يا رب، وكان بكاؤه بعد مفارقته - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن يبعد مراعاة لجانبه وليسمع بشارته بأَن داخلى أُمتهُ الجنة أكثر من داخلى أُمة موسى، وكان لقاء موسى فى السادسة لأَنهُ - صلى الله عليه وسلم - أراد فى العام السادس أن يدخل مكة بمن معهُ ليقيم شريعة الله سبحانهُ وسنة إِبراهيم فصدوه ودخلها فى العام المقبل وآل أمره إِلى أن فتح مكة وقهر المتجبرين والمستهزئين كما أن موسى عليهِ السلام أراد أن يقيم الشريعة فى الأَرض المقدسة وحمل قولهُ على ذلك فتقاعدوا وقالوا إِن فيها قوما جبارين وإِنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، وتعجلوا بعد ذلك بالشرط فقالوا إِنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها أبدا ما داموا فيها وأوقعهم الله فى التيهِ وآل الأَمر إِلى قهر الجبارين على يد يوشع عليه السلام وإِخراجهم من أرضهم قد عالج موسى قومهُ كما عالج رسول الله - صلى الله عليهِ وسلم - قومهُ فلذلك لقيهُ إِيذانا بذلك وأُوذى كما أذى موسى قومهُ بل أكثر لقولهِ - صلى الله عليه وسلم - لقد أُوذى موسى بأَكثر من هذا فصبر، قال ابن أبى جمرة كان موسى فى السادسة لفضائلهِ ولأَنهُ الكليم وأكثر الأَنبياء اتباعا بعد نبينا - صلى الله عليهِ وسلم - فلذلك لم يكن هارون معهُ فى السادسة بل كان فى الخامسة ثم صعد إِلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا. قال: جبريل. قيل: ومن معك. قال: محمد. قيل: أو قد أُرسل إِليهِ. قال: نعم. قيل: مرحبا بهِ وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأَخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء ففتح لهما فلما خلصا فاذا هو النبى - صلى الله عليهِ وسلم - بإِبراهيم الخليل - صلى الله عليهِ وسلم - جالس عند باب الجنة أشمط كل كرسى من ذهب، وقال القليوبى من زبرجد أخضر مسند ظهره إِلى البيت المعمور، أى أكثر من يدخله ويسمى الضراح لأَنه ضرح عن الأَرض أى بعد، فقيل إِنه فى السماء الرابعة وقيل فى الأُولى وهو من عقيق، وقيل من ياقوتة حمراء لا صدع فيها ولا وصل وفى حديث إِن له أربعة أركان ركن من ياقوت أحمر وركن من زمرد أخضر وركن من فضة بيضاء وركن من ذهب أحمر، ومعهُ نفر من قومه فسلم عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه السلام وقال مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح، فقد عرفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجرد الرواية فلم يسأَل عنه، وفى رواية أن جبريل قال له بلا سؤال هذا أبوك فسلم عليه، فسلم عليه وقال مرحبا بالابن الصالح من أُمتك فلتكثر من غراس الجنة أى من مغروسها، أى سببه أو هى ثوابه غراس الجنة، فإِن تربتها طيبة أى لا يخيب غراسها وأرضها واسعة، فقال وما غراس الجنة قال: لا حول ولا قوة إِلا بالله أى فيغرس لقائلها بكل مرة شجرة. قال ابن مسعود "عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عن الله: معنى ذلك لا حول عن معصية الله إِلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إِلا بعون الله" . وفى رواية: "أقرئ أُمتك منى السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إِله إِلا الله والله أكبر" ، ويجمع بأَن كلا من غراسها وعنده أطفال فقال: من هم يا جبريل قال أولاد المؤمنين وأولاد الكافرين وهم فى كفالته وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس بياضا ونقاء وقوم فى ألوانهم شئ فقام هؤلاء الذين فى ألوانهم شئ فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خرج من ألوانهم شئ، ثم دخلوا نهرا فاغتسلوا فيه وقد خلص من ألوانهم شئ ثم دخلوا نهرا فاغتسلوا فيه وقد خلص ألوانهم فصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءُوا فجلسوا إِلى أصحابهم أى عندهم. فقال جبريل من هؤلاء البيض الوجوه ومن هؤلاء الذين فى ألوانهم شئ وما هذه الأَنهار التى دخلوها فاغتسلوا فقال: أما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا أى يخلطوا إِيمانهم بظلم أى بمعصية وأما هؤلاء الذين فى ألوانهم شئ فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم أى قبل توبتهم ورجعت نعمته إِليهم وألطافه فمحا ذنوبهم ولم يؤاخذهم بها وأما هذه الأَنهار فأَولها رحمة الله والثانى نعمة الله والثالث سقاهم منه ربهم شرابا طهورا، أى صيرهم من أهله وحكمته رؤية ابراهيم فى السماء السابعة أن ابراهيم الأَب الأَخير فناسب أن يتجدد للنبى - صلى الله عليه وسلم - بلقيه أنس لتوجهه بعده إِلى عالم آخر وأيضا فمنزلة الخليل تقتضى أن تكون أرفع المنازل ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته. ولذلك ارتفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى ما فوق السابعة وأيضا أنه اعتمر عمرة القضاء فى السنة السابعة ودخل مكة هو وأصحابه ملبين معتمرين محييا لسنة إِبراهيم عليه السلام فكان لقاؤه فى السماء السابعة فقد علمت حكمة اختصاص كل نبى من تلك الأَنبياء بسماء وتلك الخصال المذكورة عنهم أيضا هى سبب لقاء النبى - صلى الله عليه وسلم - إِياهم دون سائر الأَنبياء وقيل إِن الأَنبياء كلهم امروا بملاقاته - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من أدركه فى أول وهلة ومنهم من تأَخر فلحقه، ومنهم من فاته وقد قيل إِنه لم يرنوحا مع أنهُ من أُولى العزم أو أنهُ أبوه لأَن تلك الليلة رحمة، فناسب أن لا يرى من استأَصل قومهُ بالعذاب، وروى شريك عن أنس أن إِدريس فى الثانية وهارون فى العرابة وإِبراهيم فى السادسة وموسى فى السابعة بتفضيل كلام الله ولم أحفظ الباقى، وقال يزيد بن أبى ملك عن أنس كذلك لكنه قال هارون فى الرابعة وإِدريس فى الخامسة، وكذا قال بعض لكن قال يوسف فى الثانية ويحيى وعيسى فى الثالثة وقد يجمع بتعدد الإِسراء أو بأَن موسى كان حالة العروج فى السادسة وإِبراهيم فى السابعة وعند الهبوط كان موسى فى السابعة لأَنه هو الذى كلمه فيما يتعلق بما فرض على أُمته من الصلاة فناسب أن يكون فى السابعة لأَنها أول ما ينتهى إِليه الهبوط أو لقيه فى السادسة فأصعد معه إِلى السابعة تفضيلا له من أجل كلام الله, ظهرت فائدت ذلك فيما يتعلق بأمر أمته فى الصلاة والله أعلم، رأى أرواحهم إِلا عيسى وإِدريس فرأى روحيهما وجسديهما ويحتمل رؤيتهم فى بيت المقدس بأَرواحهم أو بها وبأَجسادهم أو عاين كلا فى قبره من الموضع الذى ذكرنا أنه رآه فيه، بأَن قوى الله بصره وبصيرته ولا ترجيح لوجه على الآخر إِذ القدرة صالحة لكل ثم قيل له - صلى الله عليه وسلم - هذا مكانك ومكان أُمتك وإِذا أمته شطران شطر عليهم ثياب كأَنها القراطيس وشطر عليهم ثياب رمد جمع أرمد أى أكدر، فدخل البيت المعمور ودخل معه الذين عليهم الثياب البيض وحجب الذين ثيابهم رمد، وهم على خير، فصلى ومن معه من المؤمنين ركعتين فيه أعلمه جبريل أنه يدخله أى من بابه الشرقى سبعون ألف ملك ويخرجون أى من الغربى ولا يعودون إِليه أبدا، قيل وفى ذلك إِشارة إِلى أنه إِذا دخل البيت الحرام بعد الهجرة لا يدخله إِلا يوم الفتح ثم لا يعادوه إِلا فى حجة الوداع وهكذا أوقع على الصحيح وفى رواية يدخله كل يوم سبعون وجيها مع كل وجيه سبعون ألف ملك والوجيهِ الرئيس ودل ذلك فى الروايتين أن الملائكة أكثر المخلوقات إِذ لا يعرف من جميع العوالم ما يتجدد من جنسهِ كل يوم ذلك العدد، والبيت المعمور بحذاء الكعبة لو خر لخر عليها وقيل فى البيت المعمور بالمؤمنين والأَنبياء والملائكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رفعت إِلى سدرة المنتهى أى أظهرت لى وإِليها ينتهى ما يعرج من الأَرض بواسطة الملائكة فيقبض عندها، وإِليها ينتهى ما يهبط من فوق فيقبض عندها وإِليها ينتهى ما يهبط من فوق فيقبض عندها، من أمر ونهى وحكم وعمل وغير ذلك مما يجرى على الخلق وما يصدر منهم وعندها تقف الحفظة وغيرهم ولا يتعدونها ولذلك سميت سدرة المنتهى، ولا يجاوزها من فوقها ولا من تحتها وقيل لأَنه ينتهى إِليها علم الخلق لا يعلم ما وراءها إِلا الله، وقيل لأَنه ينتهى إِليها من مات مؤمنا حقا من هذه الأُمة قال النووى لأَن علم الملائكة ينتهى إِليها ولم يجاوزها أحد إِلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثر الأَخبار أنها لى السماء السابعة، وروى مسلم عن ابن مسعود أنها فى السادسة ويجمع بينهما بأَن أصلها فى السادسة وفروعها وأغصانها فى السابعة، وروى أن أغصانها تحت الكرسى. قال - صلى الله عليه وسلم - وإِذا هى شجرة يخرج من أصلها النهار من غير آسن بمد الهمزة وقصرها أى لا يتغير فيتبين وأنها من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ومراده بأَصلها، أصلها حقيقة أو ما يقرب منه يسير الراكب فى ظلها سبعين عاماً، وفى رواية مائة عام لا يقطعها، وروى مسلم عن أنس ثم ذهب بى إِلى سدرة المنتهى فإِذا ورقها كآذان الفيلة، وإِذا ثمرها كالقلال أى قلال هجر، كما صرح به فى روايات وهجر بفتحتين قرية من قرى المدينة، والفيلة بكسر الفاء وفتح الياء جمع فيلة بكسر فإِسكان والمراد أن شكل ثمارها وشكل أوراقها كما ذكر وإِلا فهى أعظم من ذلك ولكن مثل لهم بما يعرفون، روى تكاد الورقة منها تغطى هذه الأُمة، وروى الورقة منها تغطى الخلق على كل ورقة ملك يسبح الله تعالى، فغشيها ألوان لا يدرى ما هى فلما غشيها من أمر الله ما غشيها وهو الملائكة أو فَراش الذهب بفتح الفاء تغيرت إِلى حالة من الحسن غير التى كانت عليها، والمفرد فراشة وهى الطير الشبيه بالذباب يلقى نفسه فى ضوء السراج، والمراد هنا جراد حقيقة من ذهب والقدرة صالحة لذلك، كما ورد فى حديث يزيد ابن مالك، عن أنس، وقال البيضاوى: ذكر الفراش تمثيلا لأَن من شأَن الشجرة أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وروى ثابت عن أنس عند مسلم فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها، وروى حميد عن أنس عند ابن مردويه، تحولت ياقوتاً وزبرجدا ومغرسها تراب من أرض الجنة أو الهواء أو لا مغرس لها، والله على كل شىءٍ قدير، وإِذا فى أصلها أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقال ما هذه الأَنهار يا جبريل. قال: أما الباطنان فنهران فى الجنة أى الكوثر والسلسبيل، وأما الظاهران، فالنيل والفرات. قال القرطبى: ما فى الجنة نهر إِلا يخرج من أصل سدرة المنتهى قيل ولعلها مغروسة فى الجنة، والأَنهار من أصلها فيصح أن الأَنهار المذكورة من الجنة كما روى مسلم عن أبى هريرة: أربعة أنهار من الجنة، النيل والفرات وسيحان وجيحان، ومن خواص ماء الجنة أن من شربه لا يموت، وأنه لا فضلة له ولكن ذلك ما دام فى محله. قيل: والباطنان يبطنان ويغيبان فى الجنة بعد خروجهما من أصل السدرة، وذكر بعضهم أن النيل والفرات ينزلان من الجنة على أغصان سدرة المنتهى ثم ينزلان إِلى أصلها فإِلى السماوات وإِلى الأَرض، وعن أبى حاتم عن أنس أن جبريل عليه السلام انطلق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ظهر السماء السابعة حتى انتهى به إِلى الكوثر فوجد عليه طيراً خضراً أنعم طير، وعن أبى سعيد عند البيهقى فإِذا فيها عين تجرى يقال لها السلسبيل ينشق منها نهر الكوثر، ونهر الرحمة، ويروى أن تحت ساق العرش شجرة تشبه الرمان فيها أوراق على عدد أرواح الخلق، مكتوب فى كل ورقة اسم صاحبها وملك الموت ينظر إِليها فإِذا اصفرت منها ورقة علم قرب أجل صاحبها فيوجه إِليه أعوانه فإِذا سقطت قبض روحه. وفى بعض طرق هذا الأَثر أن سقوطها على ظهرها علامة حسن الخاتمة وعلى بطنها علامة سوء الخاتمة، أعاذنا الله من ذلك. وروى أن فى يمين العرش نهراً من نور يقال له الحيوان يدخله جبريل كل سحر يوم فينغمس ويغتسل فيه، فيزداد نوراً وجمالا ويخرج فينتفض فيخرج سبعون ألف قطرة بخلق الله من كل قطرة ملكاً وفيهم الذين يصلون فى البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألفاً ولا يعودون إِليه أبداً، وروى أن ثم ملائكة يسبحون الله تعالى فيخلق بكل تسبيحة ملكاً وهم غير ملائكة التعبد وغير ملائكة النبات والرزق والحفظ وتصير ابن آدم والسحاب وكتابة الناس يوم الجمعة والجنة والنار والتعاقب بالليل والنهار والتأْمين على قراة المصلى وقول ربنا ولك الحمد والدعاء المنتظر الصلاة ولعن من هجرت فراش زوجها، وفى السماء الأُولى ملائكة من ماء وريح عليهم ملك يقال له الرعد موكل بالسحاب والمطر، يقولون سبحان ذى الملك والملكوت، وفى الثانية ملائكة على ألوان شتى رافعين أصواتهم يقولون سبحان ذى العز والجبروت وفيها ملك نصفة نار، ونصفه ثلج فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار يقول يامن ألف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين وأهل الثالثة يقولون سبحانك أنت الحى الذى لا يموت وهم صفوف كبنيان مرصوص لا يعرف أحدهم لون صاحبه من خشية الله، وأهل الرابعة يقولون سبوح قدوس ربنا الرحمن الذى لا إِله إلا الله وهم على ألوان شتى من العبادة يبعث الملك إِلى أمر فينصرف ولا يعرف الذى بجنبه من شدة العبادة، وأهل الخامسة ركوع وسجود لم يعرفوا أبصارهم إِلى يوم القيامة، فإِذا كان يوم القيامة قالوا: ربنا لم نعبدك حق عبادتك، وأهل السادسة عليهم ملك جنده سبعون ألف ملك وكل واحد جنده سبعون ألف ملك وأهل كل سماء على ضعف التى تحتها والسابعة على أضعاف لا تحصى، ولحملة العرش وجوه وأعين لكل واحد لا يشبه بعضها بعضاً يتجاوبون بصوت حسن رخيم، يقول أربعة منهم سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، وأربعة سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك تطبق الدنيا بريشة واحد منهم، وقيل هم فى الدنيا أربعة فقط وفى رواية "أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل عند السدرة وله ستمائة جناح يتناثر من أجنحته الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله ثم أخذ يسير جهة الكوثر حتى دخل الجنة فإِذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فرأى مكتوباً على بابها الصدقة بعشر والقرض بثمانية عشر، فقال يا جبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة. قال: لأَن السائل يسأَل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة أى غالباً. والمعتمد أن ذلك غير باق وأن الصدقة أفضل وإنما قال: ما بال.... الخ" . قبل أن يعلمه الله بأفضلية الصدقة وجمع ابن حجر بأن القرض أفضل من حيث الابتداء لما فيه من صون وجه من لا يعتاد السؤال عن السؤال والصدقة أفضل من حيث انتهاء لما فيها من عدم رد المقابل، ووجه تخصيص ثمانية عشر، أن درهم القرض بدرهمين من دراهم الصدقة كما ورد، ودرهم الصدقة بعشرة فدرهم القرض بعشرين اثنان أصل والبقية فضل ودرهم القرض يرجع مثله للمقرض وهو بدرهمين من جملة مبلغ أصله الدرهم المردود وعدله لما ورد أنه بدرهمين ومبلغ أصله عشرون يتأَخر للمقرض ثمانية عشر وإِنما لم تبطل يرجع أصلها، كما بطل ذلك الأَصل برجوعه له لأَنه محض فضل من الله الرحمن الرحيم، والباب الذى كتب فيه ذلك هو باب الزكاة للمناسبة ولذلك الزكاة وأبوابها ثمانية باب الصلاة وباب الزكاة وباب الصوم وباب الجهاد وباب التوبة وباب الراضين وباب الكاظمين الغيظ وباب من لا حساب عليهم، وقال رأيت رمان الجنة كالدلاء، وروى كجلود الإِبل المقتبة أى التى بأقتابها والعرب تتخذ جلد ناقة دلو فتناسب الروايتان، وطيرها كالبخاتى فى العظم وطول العنق والبختى البعير العظيم الطويل العنق ذكراً أو أنثى، " قال أبو بكر: يا رسول الله إن تلك الطير لناعمة أى متنعمة. عرف أبو بكر ذلك بمحلها، قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكلتها بفتح الهمزة والكاف جمع آكل أنعم منها وإنى أرجو أن تأْكل منها، ورأى نهر الكوثر على حافته قباب الدر المجوف وإِذا طينه مسك أذفر كالمسك فى الرائحة وكالزعفران فى اللون، وقيل أبيض اللون وكل تراب الجنة أبيض وشرب منه وهو أبيض فوق اللبن وأحلى من العسل وهو غير حوضه الذى بعد النار وقبل الجنة على الراجح ثم عرضت عليه النار فإِذا فيها غضب الله ونقمته لو طرح فيها الحجارة والحديد لأَكلتها فإِذا قوم يأْكلون الجيف أى الميتات المنتنات فقال: من هؤلاء يا جبريل. قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أى المغتابين، ورأى مالكاً خازن النار فإِذا هو رجل عابس يعرف الغضب فى وجهه رآه على صورة الرجل ولو كانت بصورته لم يطق أن ينظر إِليه ويحتمل أن يكون رآه على باب النار أو فيها إِذا لم تسلط عليه فبدأ مالك النبى - صلى الله عليه وسلم - بالسلام تعظيماً وإِزالة للوحشة. وفى رواية بدأه النبى - صلى الله عليه وسلم - وجمع بأَن هذه مرة ثانية ثم أغلقت النار دونه ولما رفع فوق سدرة المنتهى غشيته سحابة فيها من كل لون فتأَخر جبريل، فقال - صلى الله عليه وسلم - يا أخى يا جبريل: فى مثل هذا المحل يترك الخل خليله. فقال: إن تجاوزته احترقت بالنور وما منا إلا له مقام معلوم، ثم عرج به - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل موضعاً مسترفعاً سمع فيه صرير الأَقلام أى صوتها، تنقل الملائكة من اللوح المحفوظ ما كتبه القلم فيه فى كتبهم بأقلامهم ورأى رجلا مغيباً فى نور العرش حقيقاً أو مثالا ترغيباً فى الذكر فقال: من هذا. أملك. قيل: لا. قال: أنبى. قيل: لا. قال: من هو. قيل: هذا رجل كان فى الدنيا لسانه رطب من ذكر الله وقلبه معلق بالمساجد ولم يستسب لوالديه قط، لم يتعرض لشتمهما بأَن يشتم والدى غيره فيسب والديه" . وعن ابن مسعود أن إِبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - يا نبى إنك لاق ربك الليلة وإن أمتك آخر الأُمم وأضعفها فإِن استطعت أن تكون حاجتك فى أمتك فافعل، وذكر بعضهم أنه لما قال جبريل إن جاوزته احترقت قال له رسول الله - صلى الله عليه سلم يا جبريل: هل لك من حاجة إِلى ربك. قال يا محمد: سل الله أن يبسط جناحى على الصراط لأُمتك حتى يجوز ولما كلمه الله سبحانه وتعالى هنالك بالوحى كما يكلمه به فى الأَرض قال له - صلى الله عليه وسلم - الله تبارك وتعالى وأين حاجة جبريل. فقال: اللهم إِنك أنت أعلم. فقال: يا محمد قد أجبته فيما سأَل ولكن فيمن أحبك وصحبك وظاهر ذلك ثبوت الصراط بمعنى الجسر الممدود على النار ولا مانع منه ولو شدد أصحابنا على من أثبته وإِنما الممنع تفسير الصراط المستقيم به فإِن الصراط المستقيم دين الحق ولم ير ربه، ومن زعم أنه رأى ربه سبحانه وتعالى فقط أعظم الله الفرية كما قال الربيع بن حبيبرحمه الله من عائشة ومثله فى صحيح البخارى ومسلم بلا وحى الله جل جلاله إِليه. سل. فقال: إِنك اتخذت إِبراهيم خليلاً وأعطيته ملكاً عظيماً، أى الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين، والملك فى ذريته لسليمان وكلمت موسى تكليماً وأعطيت داود ملكاً عظيماً أى إِباحة النساء فكان له مائة امرأة وألنْتَ له الحديد وسخرت له الجبال للتسبيح وأعطيت سليمان ملكاً عظيماً سخرت له الجن والإِنس والرياح وأعطيته ملكاً لا ينبغى لأَحد من بعده وعلمت عيسى التوراة والإِنجيل وجعلته يبرئ الأَكمه والأَبرص ويحيى الموتى بإِذنك وأعذتهُ وأمهُ من الشيطان الرجيم. قال بعض العلماء: قال عيسى عليه السلام: أعيانى مداوة الأَحمق ولم يعينى مداوة الأَكمه والأَبرص وإِن ملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أعظم من ملك سليمان لأَنه أعطى مفاتيح خزائن الأَرض وجبال تهامة وبطحاء مكة ذهباً وفضة فأَباها، فقال: يا رب أجوع يوماً وأشبع يوماً، فأَشكرك إِذ شبعت وأتضرع إِليك إِذا جعت. ولما كان قوله - صلى الله عليه وسلم - إِنك اتخذت إِبراهيم خليلا الخ متضمناً للسؤال ولا سيما أنه مجيب لربه إِذ قال له: سل أجابه الله سبحانه وتعالى بأنى قد اتخذتك حبيباً، قال القليوبى الحبيب أعلى رتبة من الخليل والمحبة أرفع من الخلة، والخلة لازمة للمحبة خلافاً لبعضم وهو مكتوب فى التوراة حبيب الله وأرسلتك للناس كافة بشيراً ونذيراً وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك لا أذكر إلا ذكرت معى وجعلت أمتك خير أمه أخرجت للناس، وجعلت أمتك وسطاً وجعلت أمتك هم الأَولون وهم الآخرون وجعلت أمتك لا تجوز، أى لا تكمل لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولى وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم أى محل أناجيلهم جمع إِنجيل والمراد القرآن، أى يحفظونه فى قلوبهم وجعلتك أول النبيين خلقاً وآخرهم بعثاً وأولهم يقضى له بالانصراف من المحشر وبدخول الجنة وأعطيتك سبعاً من المثانى لم أعطها نبياً قبلك، وأعطيتك خواتم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبياً قبلك وأعطيتك الكوثر وأعطيتك ثمانية أسهم الإسلام والهجرة والجهاد والصدقة وصوم رمضان والأَمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأى يوم خلقت السماوات والأَرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك والأَكثر على أن صوم رمضان من خصوصية هذه الأُمة على أن الضمير فى قوله عز وعلا: كما كتب على الذين من قبلكم، لمجرد الصوم والمختص به من الأَمر والنهى استمرار وجوبهما بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل فى المعروف الواجب والمندوب والمستحب وفى المنكر ما كان حراماً أو مكروها أو خلاف الأُولى والإِسلام اختص باسمه هذه الأُمة عن الأُمم لا عن الأَنبياء فإِنهم قد اتصفوا بها، وفى رواية وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس أى بحسب آخر الأَمر وأما أولا فكانت خمسين أو بحسب الأَول والآخر لأَن الخمسين هى الخمس لأَن الحسنة بعشر وأعطى خواتم سورة البقرة وغفر لنا لم يشرك بالله شيئاً للقحطان أى الكبائر بمجرد التوبة وشروطها بلا قطع عضو عصى به ونحو ذلك، ثم انجلت عنه السحابة المسماة بالرفوف الأَخضر وبحجاب النور وأخذ بيده جبريل فانصرف سريعاً فأتى على إِبراهيم فلم يقل شيئاً ثم أتى على موسى فرده ليراجع ربه فى أمر الصلاة كما يأْتى وذلك أن إِبراهيم خليل ومقام الخلة التسليم وموسى كليم ومقام المكالمة المراجعة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم الصاحب كان لكم يعنى موسى. قال له: ما صنعت يا محمد، ما فرض ربك عليك وعلى أُمتك. قال: خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: ارجع إلى ربك أى إِلى موضع مناجاة ربك، فاسأَله التخفيف عنك وعن أمتك فإِن أمتك لا تطيق ذلك فإِنى قد خبرت الناس قبلك، وبلوت بنى إِسرائيل وهم مراده بالناس والعطف تفسير وعالجتهم أشد المعالجة على أدنى من هذا يعنى ركعتين بالعداة وركعتين بالعشى، وقيل ركعتان بالزوال لا خمسون صلاة، كما قيل إِنها من الأَمر الذى كلفوه. وفيه حديث موضوع وقيل خاص لبعضهم. قال موسى: فضعفوا عنه وتركوه فأمتك أضعف أجساداً فى النحافة وأبداناً أى فى الطول وقلوبا أى فى الرقة وأبصاراً وأسماعاً وهما تابعان لقوة البدن وضعفه غالباً، وقول موسى ذلك المذكور من عدم الطاقة بحسب العادة، واستدل بعضهم به على أن الحكم بالعادة جائز، وإِنما قال إِن أمتك لا تطيق ذلك لأَن العجز مقصور عليها لا يتعداها إِلى نبينا ومقام النبوة لا يليق به العجز فإِن نبينا - صلى الله عليه وسلم يطيق ذلك وأكثر لما أعطى من الكمال ولا سيما أنه قال: جعلت قرة عينى فى الصلاة وتستشهد بقوله فإِنى قد خبرت الناس... الخ. فالتقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى جبريل يستشيره فيما قال موسى عليه السلام، فأَشار إِليه جبريل أن نعم إن شئت، فرجع سريعاً حتى انتهى إِلى الشجرة فغشيته السحابة وخر ساجداً، وقال: رب خفف عن أمتى فإِنها أضعف الأُمم ولم يقل وعنى أو عنها وعنى تأَدباً ولأَنه يفهم طلب التخفيف عنه، قال الله تبارك وتعالى: قد وضعت عنهم خمساً ولزم من الوضع عنهم الوضع عنه ثم انجلت السحابة ورجع إِلى موسى فقال: وضع عنى خمساً. فقال: ارجع إِلى ربك فاسأَله التخفيف فإِن أمتك لا تطيق ذلك فلم يزل يرجع بين موسى وبين موضع مناجاة ربه يحط عنه خمساً خمساً حتى قال: يا محمد. قال: لبيك وسعديك. قال: هن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة لا يبدل القول لدى أى أن الخمس هى الخمسون المأْمور بها أولا بلا نقص ولكن أظهر له أنها خمسون ثم ما زال يحط عنه إِظهاراً لكرمه وقبول شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى أمته وفى ذلك دليل على أن كل صلاة مكررة عشر مرات فالظهر كانت عشرة أظهار كل واحدة أربع ركعات، وأن صلاة الحضر تامة خففت فى السفر وهو قول الجمهور وصححوه، قال ابن عباس: فرضت أربعاً إِلا المغرب فثلاثا وإِلا الصبح فاثنتين، وقال بعض فرضت اثنتان ثم زيد فى الحضر إِلا الفجر فلم يزد فيه وبه قال أصحابنا قال بعض: والحكمة فى كون الصلاة خمساً أن الحواس التى تقع بها المعصية خمس فيمحون معاصى الحواس وجعلت مثنى وثلاث ورباع لتوافق أجنحة الملائكة لتطير بها إِلى الله سبحانه وتعالى وفرضت ليلة الإِسرى لأَنه رأى فيها الملائكة متعبدين فمنهم قائم لا يقعد وراكع لا يسجد وساجد لا يقعد فجمع الله سبحانه ذلك لنا فى ركعة نصليها بإِخلاص. قال الله جل جلاله يعد الخط إِلى الخمس ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإِن عملها كتبت له عشرا أو من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإِن عملها كتبت سيئة واحدة، قوله فى الحسنة فلم يعملها المراد به أنه لم يعملها لمانع أو لغير مانع ويتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع فإِن كان خارجياً وقصد الذى هم مستمر فهى عظيمة القدر، وإن كان الترك من قبل الذى هم فهى دون ذلك فإِن قصد الأَغراض عنها جملة فالظاهر أنه لا تكتب له حسنة أصلا ولا سيما أن عمل بخلافها مثل أن يهم بأَن يتصدق درهماً فصرفه بعينه فى معصية وإِن قل هل تكتب بمجرد الهم قلت لا بد من العزم والتصميم ويحتمل أن تكتب بمجرد الهم زيادة فى الفضل، وكل من الهم والعزم والتصميم قلبى لكن يطلع سبحانه وتعالى الملائكة الحفظة على ذلك أو يجعل لذلك رائحة طيبة والوجهان فى الهم بالسيئة فإِن تركها الله كتبت له حسنة وإِن صمم على السيئة، كتبت له سيئة ولكن إِثم العامل أكبر من إِثم المصمم وإِنما اقتصر فى ذكر الحسنة على العشر لأَنه لا بد من العشر لكل حسنة مقبولة وإلا فالتضعيف يكون إِلى المبلغ مائة وضعفه وأضعاف كثيرة بسبب قوة الإِخلاص وبعد ذلك انجلت السحابة فنزل حتى انتهى إِلى موسى - صلى الله عليه وسلم عليهما - فأْخبره بذلك إِلا قوله ما يبدل القول لدى بدليل أن موسى أمره بالرجوع فإِنه قال له ارجع إِلى ربك الكريم فاسأَله التخفيف فإِن أمتك لا تطيق ذلك، فقال: قد راجعت ربى حتى استحييت منه ولكن أرضى وأسلم، فنادى مناد وهو ملك أو صوت خلقه فى الهوى حكاية عن الله جل جلاله أن قد أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى وكأَنه موسى لم يوافق نبينا - صلى الله عليهما وسلم - على ترك الرجوع فنادى المنادى إِعلاماً بذلك له وذلك التخفيف واقع فى حقنا وحقه - صلى الله عليهِ وسلم - خلافاً للسيوطى فى قوله: أنه - صلى الله عليه وسلم - باق عليه فرض الخمسين. قال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان موسى عليه السلام أشدهم على حين مررت، وخيرهم لى حين رجعت" ، رواه الطبرانى والبزار. قال السهيلى: اعتنى موسى عليه السلام بهذه الأُمة وألح فى التخفيف عليها كما يعتنى بالقوم من هو منهم شفقة ورحمة لأَنه لما رأى فى المناجاة أمة صفتهم كذا صفتهم كذا فكان يقول: اللهم اجعلهم أمتى، اللهم اجعلهم أُمتى، فيقول الله جل جلاله: هى أمة محمد. قال: اللهم اجعلنى منهم، وإِن قلت هل فى نسخ الخمسين إِلى الخمس دليل على جواز النسخ قبل التبليغ، قلت: لا دليل فيه وذلك ممنوع إِجماعاً والنبى - صلى الله عليه وسلم - مكلف بذلك، وقد بلغه المالك فذلك نسخ فى حقه بعد التبليغ وقيل الفعل لجواز النسخ قبله وبعد التبليغ خلافا للمعتزلة وقد مر ما يدل على أنهُ لا نسخ فى ذلك أصلا ولكن بيان وإِيضاح فى كون الخمس قائمة مقام الخمسين بفضل الله وكرمه وأن الخمسين المأَمور بها أولا هى الخمس فمن صلى الخمس فقد صلى الخمسين فلم يتبدل القول. ثم قال له موسى: اهبط بسم الله ولم يمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا عليك بالحجامة، وفى رواية: مرأمتك بالحجامة ويجمع بأنهم الحجامة منه ومن أمته - صلى الله عليه وسلم - إِذا ظهرت مضرة الدم ولا سيما الأَرض الحارة كالحجاز ثم انحدر فقال لجبريل: مالى لم آت أهل سماء إلا رحبوا بى وضحكوا لى غير واحد سلمت عليه فرد على السلام ورحب بى ودعا لى ولم يضحك لى، فقال ذلك مالك خازن النار لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك لأَحد لضحك لك ولما نزل إِلى سماء الدنيا نظر إِلى أسفل منها، فإِذا هو برهج ودخان وأصوات والرهج الغبار، فقال: ما هذا يا جبريل. قال: هذه الشياطين أى رهجهم ودخانهم وأصواتهم يحومون على أعين بنى آدم لا يتفكرون فى ملكوت السماوات والأَرض ولولا ذلك لرأوا العجائب المؤدية إِلى التوحيد والعبادة ثم ركب البراق منصرفاً إِلى مكة وهو معد له فى الأَرض أو تحت السماء الدنيا وتقدم قول بعضهم أنه عرج به إلى السماوات ويوافقهُ ما فى حياة الحيوان، وقول البوصيرى:

وترقى به إِلى قاب قوسين قبلك السيادة القعساء

وصححوا أنه صعد على المعراج وقد يجمعوا بأنه صعد عليه راكباً على البراق والله أعلم. ويأْتى باقى الكلام إِن شاء الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى: { { وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس } فإِن المشركين كذبوا بالإِسراء وهددهم بقوله عز وجل: { إِنَّهُ هُوَ الْسَّمِيعُ } لتكذيبهم لأَقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعائه وكل صوت أى العليم بذلك كله { الْبَصِيرُ } العليم بأَفعال المكذبين وغيرهم والحافظ لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وقت إسرائه فى الليل.