خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً
٢٩
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً
٣٠
-الإسراء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً } مربوطة بالقيد. { إِلى عُنُقِكَ } لا تمسك عن الإِنفاق فى الخير والمباح كل الإِمساك كالذى ربطت يده إِلى عنقه لا يطيق أن يمدها بالإِعطاء فهذا تمثيل لمنع الشحيح. { وَلاَ تَبْسُطْهَا } فى الإِنفاق. { كُلَّ الْبَسْطِ } فتعطى جميع ما عندك كالذى لا تنقبض كفه على شئ ولا يطيق قبضها فكان لا يحفظ بها شيئاً وهذا تمثيل لإِسراف المبذر فإِن المبالغة فى الإِعطاء هكذا إِسراف ولو فى الخير، وتانك قضيتان سالبتا عموم فأَفادتا أنه مأْمور بأَن يمسك عن الإِنفاق بعض الإِمساك، ويبسط به بعض البسط فذلك هو التوسط المسمى بالكرم لا شح ولا تبذير. قال جابر بن عبد الله "أتى صبى فقال: يا رسول الله إِن أُمى تستكسيك درعاً أى قميصاً ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلا قميصه. فقال - صلى الله عليه وسلم - عد إِلينا بعد ساعة، والمروى من ساعة إِلى ساعة يظهر فعد إِلينا، أى أخر سؤالك من ساعة ليس لنا فيها درع إِلى ساعة يظهر لنا فيها درع فعاد إِلى أُمه. فقالت له: قل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أُمى تستكسيك الدرع الذى عليك، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريان، وأذن بلال للصلاة وانتظروه فلم يخرج فاشتغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فوجدوه عريان ولم يرى عورته، فنزل قوله سبحانه وتعالى: { ولا تجعل يدك مغلولة إِلى عنقك ولا تبسطها كل البسط }" . { فَتَقْعُدَ } تصير أو تلبس مثل ما مر { مَلُوماً } عند الله تبارك وتعالى لأَنه لا يحب الشح ولا الإِسراف وعند الناس فإِن المحتاج منهم يقول: أعطى فلاناً وحرمنى، والغنى يقول: ما يحسن تدبير المعيشة إِذا أعطى حتى لم يبق شيئاً لنفسه وعند نفسك إِذا احتجت فلم تجد كفافاً فتندم، وقيل أعطى الأَقرع ابن حابس وعيينه بن حصن مائة مائة فجاء العباس بن مرداس وقال:

أتجعل نهبى ونهب العبيد بين عيينة والأَقرع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان شيخى فى مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع

فقال - صلى الله عليه وسلم - لأَبى بكر اعطه مائة من الإِبل. فنزلت الآية، والعبيد فهو الشاعر وشيخه أبوه مرداس كما صرح به فى رواية هكذا يفوقان مرداس فى مجمع وكان قد أعطاه قبلهما خمسين فمعنى اعطه مائة أتم له مائة، وذكر هذه القصة الشيخ خالد فى التصريح، وذكرت فى غيره من كتب النحو والفقه والحديث. وملوماً اسم مفعول اصله ملؤوم بواوين كمنصور ثقلت ضمة الواو فنقلت اللام فحذفت إحدى الواوين على الخلاف. { مَّحْسُوراً } مقطوعاً بك لا شئ عندك، وإِن فقل: منقطعا بك بفتح الطاء يقال انقطع بالمسافر بالبناء للمفعول إِذا عطبت دابته أو نفد زاده، يقال حسره السفر، إِذا بلغ منه الجهد وحسره بالمسأَلة إِذا لم يُبْقِ عنده شيئاً، وحسر الشئ صير كالاً ومنه البصير الحسير وحسرت البعير وغيره استفرغت قوته، وقيل محسوراً مصيراً نادماً، وذكر بعضهم أن ملوماً راجع إِلى قوله عز وجل: { ولا تجعل يدك مغلولة إلا عنقك }. ومحسوراً راجع إِلى قوله عز وجل: { ولا تبسطها كل البسط }. وذكر ابن العربى أن الخطاب فى الآية للنبى - صلى الله عليه وسلم - والمراد أُمته ما كان سيد وواسطتهم إِلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب فى ذلك، والآية فى الخير وإلا فمع أقل قليل من الواجب شح، وإِنفاق أقل قليل فى المعصية إِسراف، وقيل المراد فى الآية بغل اليد عدم الإِنفاق فى الطاعة وبسطها كل البسط، الانفاق فى المعصية فتكون القضية الثانية من عموم السلب لأَن الإِنفاق فى المعصية إسراف ولو قل والمشهور الأَول ولما كان ذلك النهى قد يضيق به النبى - صلى الله عليه وسلم - ذرعاً سلاه الله الرحمن الرحيم بأَن ذلك ليس لهوانك على ربك ولا لبخل منه عليك سبحانه، ولكن لحكمته البالغة فى بسط الرزق لمن يشاء وتضييقه عمن يشاء وعن المبسوط له تارة أخرى والمصلحة لك ولهم فقال:
{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يشَاءُ وَيَقْدِرُ } أى يوسعه من أول مرة أو بعد تضييق ويقدره يضيقه على من يشاء من أول أو بعد بسط بحسب المصلحة والحكمة ولو خفيتا عنهم فإِنه العالم بهما كما قال: { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً } عالماً ببواطنهم المعلومة لهم والمغيبة عنهم { بَصِيراً } بظواهرهم ومن ذلك أن العرب إِذ شبعت طغت، فإِنما يصلحها الفقر إلا من شاء الله منهم، فإِنه لا يطغى وهم مع ذلك ذوو خصال حسان لا توحد فى العجم وكذا العجم قد يطغون بالشبع ويجوز أن يكون قوله: { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.. } إلخ، بمعنى أن القبض والبسط من أمر الله العالم بالباطن والظاهر، وأما العباد فعليهم أن يتوسطوا أو بمعنى أنه تعالى يبسط تارة ويقبض تارة لحكمة يستأْثر بها إِذ هو الخبير البصير فاستنوا بسنته فلا تقبضوا كل القبض وهو القبض المتتابع ولا تبسطوا كل البسط وهو البسط المتتابع أو بمعنى أنه تعالى يبسط ولا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده ويقبض ولا يبلغ المقبوض عليه أقصى مكروهه فهكذا فافعلوا أنتم ويجوز أن يكون غير متصل بما قبله بل مستأْنفاً تمهيداً لقوله سبحانه:
{ وَلاَ تَقْتُلُوا أوْلاَدَكُمْ }.