خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
٣٦
-الإسراء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلاَ تَقْفُ } لا تتبع من قفاه يقفوه بمعنى اتبعه وقرئ بضم القاف وإِسكان الفاء من قاف يقوف كقال يقول، أى اتبعه وهما لغتان بمعنى كعتا وعات ومنه القافة جمع قايف، وهو متبع الأَثر العالم بمؤثره أصله قوفة بفتح الواو قلبت الفاء لتحركها بعد فتحه، حكى ابن جرير الطبرى أن ذلك لغة فرقة. { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أى لا تتبع فى قول أو فعل ما ليس لك به اعتقاد جازم، فالآية نهى عن التقليد لمن له قوة على معرفة الحق بأدلته وعن رجم الغيب ومن لم تكن له قوة جاز له تقليد العالم الأَمين فذلك منه علم، وعن الظن إلا المجتهد فإِن حكمه بعد استفراغ الوسع بشئ، ظن معدود من أنواع العلم لأَنه لا يقبل التشكيك وقد نص الشرع الضم مقام العلم، وأمرنا بالعمل به فى الغالب فإِذا كان ظن المجتهد نوعاً من العلم لم يكن فى الآية دليل على إِبطال الاجتهاد خلافاً لمن زعم ذلك فالعلم الاعتقاد الراجح المستفاد من دليل قطعياً كان أو ظنياً واستعماله فى هذا المعنى شائع كما شاع استعماله فى الاعتقاد الجازم المقابل للاعتقاد الراجح المسمى ظناً، والآية أيضاً نهى عن ولاية من لا يعرف له موجب ولاية وبراءة من لا يعرف له موجب براءة، وعن ولاية الشرط وبراءة الشرط بل إن ظهر لك موجب ولاية فوالله ولا تدخل فى براءته التى لا علم لك بموجبها وشرط كونه عند الله أو فيما خف من أمره مستوجباً لها لا يخرجك عن كونك داخلا فيما لا علم لك به ولا تشترط فى ولايته كونه مستوجبا لها عند الله أو فيما خفى من أمره فإن ذلك استفتاح لباب مبهم ودخول فيه وإن ظهر لك موجب براءة فتبرأ منه ولا تدخل فى ولايته التى لا علم لك بموجبها بشرط كونه أهلا لها عند الله تعالى، أو فيما خفى من أمره ولا تشترط فى براءته كونه أهلا على حد ما ذكر، وذلك أنا كلفنا بما ظهر لنا ونهى الجاهل أن يقلد عالماً فى فعل أو قول بأَن رآه يفعل شيئاً فيفعله أو رآه يقول شيئاً فيقول وإِنما يقلده إِذا قال يجوز له أو لغيره فعل كذا، أو قوله أو أفعل أو قل وكثيراً ما يطمئن القلب إِلى فعل عالم أو قوله الذى لم يأْمر به فيقتدى وهذا فى أهل عمان وغيرهم شائع يستدلون بذلك استدلالا كما تراه مسطراً ولا يكون حجة عندى ولا يجوز عندى ذلك الاقتداء إلا إن ظهر إنما يفعل أو يذكر جائز كبعض الأَدعية إِذا سمعه يذكرها وذلك لإِمكان أن يفعله المقتدى من غير مدخل المقتدى به فلو رأى جاهل عالماً توضأ ثم مشى على نجس ثم فعل هو ذلك لكان خطأ لإِمكان أن العالم تعمد أن يعيد الوضوء بعد ولإِمكان أنه ما مشى عليه إلا بعد ما تيبس ما يلى الأَرض من قدمه، فلو رآه كبر للإِحرام وكبر تكبيرة أخرى أو أكثر ففعل ذلك لكان خطأ لأَن العالم إِذا فعل ذلك فى غير الصلاة العيد مثل إِنما فعله لشك فى شئ من نفس تكبيره الأَول أو تيقنه الخلل فى شئ مما قبل التكبير فتكبيره الأَول وما بعده ملغى عنده، وإِنما اعتد بالأَخير، والجاهل إن فعل ذلك مقتدى به إِنما ينوى الأَول إِحراماً، وما بعده زوائد جائزة عنده فى زعمه، وهكذا ما أشبه ذلك، ونهى عن التجسس والبحث عن العورات إلا إِذا رجعت أمارة فيجوز أن تتبعها بالتفحص عن مقتاضها حتى يصح أو تضمحل، ونهى عن كتابه ما لا يعلم معناه إِذا خيف أن يكون كفراً أو سحراً وكتابة حروف لا يدرى ما هى كذلك إلا إن كان ذلك عن ثقة، وقد قيل إِذا كانت تلك الطلاسم مختومة بالشين جاز كتابتها ولو لم يدر ما هى، ذكره الشيخ الحاج إِبراهيم بن نجمان ونهى عن تتبع ما لا علم لك به دينياً أو دنيويا، وقيل الآية مخصوصة بالعقائد، وقيل بالرمى والزور، فإِن قفا وقاف يستعملان فى القدف. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نحن بنو النظر لا نقفو أمنا ولا نقتف من أبينا" ، وقال صلى الله عليه وسلم - "من قاف مؤْمنا بما ليس فيه حبسه الله فى ردعه الخبال حتى يأْتى بالمخرج" . ورواه ابن جرير الطبرى بمعناه، وردعة الخبال بإِسكان الدال وفتحها ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم من صديد وقيح ودم وعرق. وقال الكميت:

ولا أرمى البرئ بغير ذنب ولا قفو الحواصن إن فقينا

أى لا أرمى النساء العفائف إِذ رمين ببناء فقين للمفعول.
وقال شاعر:

ومثل الدماشم العرانين ساكن بهن الخباء لا يشعن التقافيا

أى التقاذف وفسر ابن الحنيفية الآية بشهادة الزور، وعن الحسن لا تقف أخاك إِذا مر بك فتقول هذا يفعل كذا ورأيته يفعل كذا وسمعته، ولم تره ولم تسمعه. { إِنَّ الْسَّمْعَ والْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ } السمع والبصر بمعنى الاستماع والرؤية بلا تقدير ولا تأويل فإِنه يسأْل عن فعله الذى هو الاستماع وفعله الذى هو الإبصار أو يقدر مضاف أى آلة السمع وهى الأُذن، وآلة الرؤية وهى العين، أو السمع والبصر بمعنى الأُذن والعين وهو اشد مناسبة لقوله والفؤاد وقرأ والفؤاد بالواو بدلا من الهمزة وقرئ بالواو بفتح الفاء قلبت الهمزة واواً بعد الضمة ثم أبدلت الضمة فتحة. { كُلُّ أوْلَئِكَ } الأَكثر فى أولاء وأولى الإِشارة إِلى العقلاء وأشار بها فى الآية بالسمع والبصر والفؤاد إِما تنزيلا لها منزلة العاقل، لأَنها تسأَل عن أحوالها وتشهد على صاحبها والسؤال والشهادة من شأْن العقلاء بل إِن فرضنا أنها يجعلها الله سبحانه يوم القيامة عاقلة هى من العقلاء يومئذ تحقيقاً لا تنزيلا، وإِما على القلة من استعمال أولاء وأولى فى غير العقلاء ويحتمل التنزيل والقلة قوله:

ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أُولئك الأَيام

وروى بعد أولئك الأقوام والأَقوام عقلاء، قيل هذه الرواية أصوب { كَانَ } فيه ضمير عائد إِلى كل { عَنْهُ } الهاء عائدة إِلى كل أيضاً والضمير فى قوله. { مَسْئُولاً } لكل أيضاً وعنه فضلة متعلق بكل وقدم للفاصلة وإنما صح عمل مسئول فى ضميرى شئ واحد متصلين لأَنه عمل فى أحد لهما بواسطة الجار أو لأَن المعنى مسئولا عن حاله أو شأْنه أو فعله أو نفسه وفعله هو ما استعمله فيه صاحبه ويجوز عود الهاء إِلى القفو المعلوم من تقف أى كل من السمع والبصر والفؤاد كان مسئولا عن قفو ما ليس للإِنسان به علم، ويجوز كون ضمير كان وضمير مسئولا عائد إِلى صاحب السمع والبصر والفؤاد والهاء عائدة إِلى كل أى يسأَل الإِنسان عما فعل بسمعه وبصره وفؤاده ويجوز عودهما إِلى كل، وعود الهاء إِلى صاحبه أى يسأل السمع والبصر والفؤاد عن صاحبهن ماذا فعل بهن ولم فعل ما فعل، ويجوز كون عنه نائبا عن فاعل مسئولا فلا ضمير فى مسئولا وليس ذلك يخطأ خلافاً للقاضى لأَن علة منع تقديم النائب اللبس بالمبتدأ ولا لبس فيما إِذا كان النائب جاراً ومجروراً مع أنه يسامح فيه ولا يسامح فى غيره وإِنما لم يجز الزيدون قام أو أكرم على تقديم الفاعل أو النائب مع أنه لا لبس فيه بفتح اللفظ هذا ما ظهر لى وزاد بعض أن النائب قدم هنا لمحاً لأَصالة ظرفيته لعروض كونه نائباً ولأَنه ليس فاعلا حقيقة بل مفعول فى المعنى واعلم أن الإِنسان يسأْل لم سمعت ما لا يحل لك سماعه، ولم نظرت إِلى ما لا يحل لك النظر إِليه ولم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه ولم اعتقدت ما لا يجوز لك اعتقاده ولم حقدت على فلان ولم أحببت كذا ولم أبغضت كذا ولم ولم وها وهنا دعاء حسن يحتاج إِليه أهل الفراغ والسعة والثبات خصوصاً والناس عموما، أخرجه عن شكل بن حميد أبو داود والترمذى والنسائى، وقال حديث حسن غريب. "قال ابن حميد: أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله علمنى تعويذاً أتعوذ به. فأخذ بيدى ثم قال: قل أعوذ بك من شر سمعى وشر بصرى، وشر لسانى، وشر قلبى، وشر منيى" ، أراد نطفته وذكره.