خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً
٨
-الإسراء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ عَسَى رَبُّكُمْ أن يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الثانية فيرد دولتكم إِن تبتم. قال فى عرائس القرآن؛ قال محمد ابن اسحاق بن بشار وغيره من أهل الأَخبار: كانت بنو إِسرائيل يرتكبون الأَحداث والذنوب بعد موسى عليهِ الصلاة والسلام، وكان الله سبحانهُ يتجاوز عنهم ويحسن إِليهم وكان أول ما نزل بهم لذنوبهم ملكاً منهم يدعى صديقه، وكان الله إِذا ملك عليهم ملكاً بعث معهُ نبياً يسدده ويرشده ولا ينزل عليهم كتاباً إنما يؤمرون بأَحكام التوراة فبعث الله عز وجل شعياء بن أمضياء يسدد ويرشد صديقه، وشعياء هذا هو الذى بشر ببيت المقدس حين شكا الخراب، فقال: أبشرى سيأْتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير وصاحب الحمار هو سيدنا عيسى وصاحب البعير وسيدنا محمد - صلى الله عليهما وسلم - وكان شعياء قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وبقى الملك لصديقه وشعياء يرشده ولما عظمت فيهم الأَحداث بعث الله عليهم سنجاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية فنزل بيت المقدس وقد هابهم الناس وفروا منهم فكبر ذلك على الملك وهو مريض فى ساقه قرحة، فقال لشعياءٍ: يا نبى الله هل أتاك وحى من الله تعالى فيما حدث فتخبرنا كيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده. فقال: لا، فبينما هم كذلك إِذا أوحى الله إِلى شعياء عليهم السلام أن ائت ملك بنى إِسرائيل فمره أن يوصى بوصيته ويستخلف على أهل مملكته من يشاء من أهل بيته وعشيرته ومراد الله سبحانهُ وتعالى بذلك بيان أن الاجل كأَنه قد حضر ولو طال وبقيت له خمس عشرة سنة وبيان نعمة الله عليه إِذ أنجاه وجنوده من سنجاريب، كان كمن حضره الموت يقينا فنجى منه وإلا فقد بقى من أجله خمس عشرة سنة، والمراد أن عمره قسمان قد انقضى القسم الأَول وبقى القسم الثانى الذى زاده الله لدعائه وتضرعه الذى أذكره فيما بعده بقليل، وهذا القسم الثانى قضاه الله فى الأَزل وعلم به أيضاً والله أعلم، فأَتى شعياء صديقه فأخبره بذلك فاستقبل القبلة يصلى وبكى ودعا وقال فى دعائه وهو يبكى: اللهم رب الأَرباب إِله القدوس المتقدس، يا رحمن يا رحيم، يا رءوف الذى لا تأْخذه سنة ولا نوم، اذكرنى بعملى وفعلى وحسن قضائى، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به منى، سرى وعلانيتى لك. فأوحى الله جل جلاله إِلى شعياء أن خبر صديقه أنى استحييت له ورحمته وأخرت أجله خمس عشرة سنة وأنجيته من عدوه سنجاريب فأخبره بذلك شعياء عليه السلام، ومعنى أخرت أجله أى قضيت له فى الأَزل خمس عشرة سنة يعيشها بعد هذه المدة التى هى فى صورة حضوره الموت، فلما أخبره ذهب عنه الحزن والوجع وخر لله ساجداً، وقال: يا إِلهى وإِله آبائى لك سجدت وسبَّحت وكرمت وعظمت، أنت الذى تعطى الملك لمن تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة الأَول والآخر والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتجيب دعوة المضطرين، أنت الذى أجبت دعوتى ورحمت تضرعى، فلما رفع رأسه أوحى الله إِلى شعياء أن قل للملك صديقه يأْمر عبداً من عبيده فيأْتيه بالتين ويجعله على قرحته فيبرأ ففعل ذلك وبرئ، وقال الملك لشعياء: سل ربك أن يجعل لنا علماً بما هو صانع بعد فينا. قال الله تعالى لشعياء: قل له إنى قد أكفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون موتى كلهم إِلا سنجاريب وخمسة نفر من كتابه، فلما أصبح جاء صارخ يصرخ على باب المدينة: يا ملك بنى إِسرائيل قد كفاك الله عدوك فاخرج إِن سنجاريب ومن معه قد هلكوا فخرج الملك فالتمس سنجاريب فلم يجده فى الموتى فبعث فى طلبه فأدركه الطلب فى مغارة وخمسة من كتابه أحدهم بخت نصر فجعلهم فى الجوامع أى فى القيود والسلاسل ثم أتوا بهم الملك، فلما رآهم خر لله تعالى ساجداً من حيث طلعت الشمس إِلى العصر ثم قال لسناجريب: كيف ترى فعل الله بكم ألم يغلبكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنجاريب: قد أتنى خبر ربكم ونصره إِياكم قبل أن أخرج من بلادى فلم أطع مرشداً فلم يلقنى فى الشقوة إلا قلة عقلى ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت على وعلى من معى فقال صديقه الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذى كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك ولكنه إِنما إبقاك لتزدادوا شقوة فى الدنيا وعذاباً فى الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل الله، ودمك ودم من معك أهون عند الله من دم قراد لو قتلت، ثم إن ملك بنى إِسرائيل أمر أمير جيشه فقذف فى رقابهم الحال وطاف بهم سبعين يوماً حول بيت المقدس وإِيلياء وكان يرزقهم فى كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنجاريب لملك بنى إِسرائيل: القتل خير مما يفعل بنا فافعل ما أمرت فأَمر بهم إِلى السجن حتى يخرجهم إِلى القتل فأوحى الله تعالى إلى شعياء أن قل لملك بنى إسرائيل يرسل سنجاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ويكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم، فبلغ شعياء ذلك فخرج سنجاريب ومن معه حتى قدموا بابل، فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له سحرته: يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبرهم وخبر نبيهم ووحى الله إِليهم فلم تطيعونا وهم أمة لا يستطيعها أحد من ربهم وكان ذلك آية وعبرة ومات سنجاريب بعد ذلك بسبع سنين واستخلف بخت نصر وكان ابن ابن له، وكان بخت نصر يعمل كما يعمل جده ويقضى بقضائه فلبث سبع شرة سنة ثم قبض الله ملك بنى إِسرائيل صديقه فمرج أمر بنى إِسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضاً وظهر فيهم الفاسد ونبيهم شعياء ينهاهم عن ذلك ولا يرجعون إِليه ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك، قال الله تعالى لشعياء عليه السلام: قم فى قومك فأَوحى على لسانك فلما قام فيهم أنطق الله لسانه بالوحى فقال: يا سماء اسمعى ويا أرض أنصتى فإِن الله يريد أن يقص شأن بنى إِسرائيل الذين أنعم الله عليهم بنعمته واصطفاهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده واستقبلكم بالكرامة وهم كالغنم الضائعة لا ارعى لها فآوى شاردها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها وسمن مهزولها وحفظ سمينها فلما فعل ذلك بطرت وتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضاً حتى لم يبق فيهم عظم صحيح يجبر إِليه آخر كسير، فويل هذه الأُمة الخاطئة الذين لا يريدون ما جاءهم من الخير وهم أولو الأَلباب والعقول ليسوا ببقر ولا حميراً إِنى ضارب لهم مثلا فليسمعوه: قل كيف ترون أرضا مواتا لا عمران فيها وكان لها رب حكيم فأَقبل عليها بالعمارة يكره أن تخرب أرضه فأَحاط عليها جداراً وشيد فيها قصراً وأنهر فيها نهراً وصنف فيها غرساً من الزيتون والرمان والنخيل والأَعناب وأنواع الثمار كلها وولى عليها واستحفظ ذا رأى وحكمة حفيظاً قوياً أميناً وانتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروباً فقالوا بئست الأَرض هذه نرى أن نهدم جدارها وقصرها وندفن نهرها ونقطع قيمها ونحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خراباً مواتاً لا عمران فيها. قال الله عز وجل: قل لهم إِن الجدار دينى والقصر شريعتى والنهر كتابى والقيم نبيي والغرس هم والخروب الذى أطلعه الغرس أعمالهم الخبيثة وإنى قضيت لهم قضاءهم على أنفسهم وأنه مثل ضربه الله لهم يتقربون إِلى بذبح البقر والغنم وليس ينالنى اللحم ولا آكله، ويدعون أن يتقربوا إِلى بالتقوى والكف من ذبح الأَنفس التى حرمتها فأيديهم مخضوبة منها ملئت بدمائهم يشيديون بها المساجد ويطهرون أبوابها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها فأَى حاجة لى بتشييد البيوت ولست أسكنها وأى حاجة لى بتزويق المساجد ولست أدخلها إِنما أمرت برفعها لأُذكر فيها ولأسبح ولتكون معلما لمن أراد أن يصلى فيها، يقولون لو كان الله يقدر على أن يفقه قلوبنا لفقهها فائت بعمودين يابسين وقل لهما الله يأْمر كما أن تكونا عوداً واحداً فلما قال لهما ذلك اختلطا فصارا واحداً. فقال الله عز وجل قل لهم إِنى قدرت على أن أجمع بين الأَعواد اليابسة وأن ألف بينهما فكيف لا أقدر أن أجمع ألفتهم إِن شئت، أم كيف لا أقدر أن أفقه قلوبهم يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تزل صدقتنا ودعونا مثل حنين الحميم وبكينا بمثل عواء الذئاب وفى كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله عز وجل: فاسأَلهم ما الذى يمنعهم أن أستجيب لهم ألست أسمع السامعين وأنظر الناظرين وأقرب المخبتين وأرحم الراحمين ولست قليلا ذات اليد كيف ويداى مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء، مفتاح الخزائن عندى لا يفتحها غيرى أو الآن رحمتى ضاقت كيف ورحمتى وسعت كل شئ وإِنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو الآن البخل يعترينى أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات أجود من أعطى وأكرم من سأَل لو أن هؤلاء القوم نظروا لأَنفسهم بالحكمة لنورت قلوبهم ونبذوها واشتروا بها الدين أو لا يعلمون أنها أعدى الأَعداء فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونهُ بقول الزور ويتقون عليهِ بطعمه الحرام أم كيف أقبل صلاتهم وقلوبهم طاغية تركن إِلى من يجاربنى وينتهك محارمى أو تزكو عندى صدقاتهم وهم يتصدقون بأَموال غيرهم، إِنما أجزى أهلها المغصوبة هى منهم أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإِنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إِنما أستجيب للورع اللين، وإِنما أسمع قول المتعفف المسكين وأنه من علامة رضائى رضاء المساكين ولو قربوا الضعفاء وأنصفوا المظلوم وأدوا اليتيم والأَرملة والمسكين ولك ذى حق حقه لكلمتهم، لو كان ينبغى أن أكلم البشر ولكنت أبصارهم وسمع آذانهم ومعقول قلوبهم ولكنت عمارة أركانهم وقوة أيديهم وأرجلهم ولكنت ألسنتهم وعقولهم، يقولون لما سمعوا كلامى وبلغتم رسالتى إِنها أقاويل منقولة وأحاديث متواترة وتأْليف مما يؤلف السحرة والكهنة وزعموا أن لو شاءوا لأتوا بحديث مثله وأن يطلعوا على ذلك من علم الغيب بما يوحى إِليهم الشيطان وكلهم يستخفى بالذى يقول ويسروهم يعلمون إنى أعلم غيب السماوات والأَرض قضاء أثبته على نفسى وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد منه واقعاً فإِن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه وإِن كانوا يقدرون بمثل كلامى فليأْتوا بمثل هذه القدرة التى أمضى بها القضاء وليؤلفوا مثل الحكمة التى دبرتها وإِنى قضيت يوم خلقت السماوات والأَرض بأَن اجعل النبوة فى الأَرض والغنى فى الفقر والثورة فى الأَقلام والمدائن فى الفلوات والعلم فى الجهلة والحلم فى الأُميين فسأَلهم متى هذا ومن القيم بهذا وعلى يد من أسسه ومن أعوان هذا الأَمر وأنصاره فإِنى باعث لذلك نبياً أُمياً أهدى به أعمى من العميان وضالا من الضالين ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأَسواق ولا مريد الفحش ولا قوال بالخباء أسدده بكل جميع أهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لباسه والوقار شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق سجيته والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إِمامه والإِسلام ملته وأحمد اسمه، أهدى به من الضلالة وأعلم به بعد الجهل وأرفع به الخمالة وأستشهد به النكرة وأكثر به عبد القلة وأغنى به بعد العيلة وأجمع به بعد التفرقة وأؤلف به قلوباً مختلفة وأهواء مشتتة وأُمما متفرقة، فاجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأْمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إِيماناً وتوحيداً وركوعاً وسجوداً ويقاتلون فى سبيلى صفوفاً وزحوفاً ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتى ألهمهم التحميد والتكبير والتسبيح فى مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يكبرون ويهللون ويقدسون على رءوس الأَشهاد والأَشراف ويطهرون الوجوه والأَطراف ويعقدون فى الأَنصاف قربانهم دماءهم وأناجيلهم صدورهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، ذلك فضلى أُوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم. فلما فرغ شعياء من مقالته عمدوا ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها أدركه الشيطان فأَخذ بهدبة من ثوبه فأَراهم إِياها فوضعوا المنشار فى وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه، واستخلف عليهم رجلا منهم يقال له قاسية بن أرمص ملكاً وبعث إِليهم نبياً ليسدده ويأْتيه بالخبر من الله تعالى واسمه أرمياء بن خليفا فيما قيل، وقال الله تعالى له: يا أرمياء من قبل أن خلقتك اخترتك، ومن قبل أن صورتك فى بطن أُمك قدستك، ومن قبل أن أخرجتك من بطن أُمك طهرتك ومن قبل أن تبلغ السعى نبأتك، ولأَمر عظيم اجتبيتك فذكر قومك نعمتى وعرفهم أحداثهم وادعهم إِلى. فقال أرمياء إِنى ضعيف إِن لم تقونى عاجز إِن لم تنصرنى، فقال الله عز وجل أنا ألهمك، فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول، فألهمه الله عز وجل فى الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وقال لهم فى آخرها عن الله عز وجل إنى لأَحلف بعزتى لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم ولا سلطان عليهم جباراً قاسياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ثم أوحى الله سبحانه وتعالى إِلى أرميا عليه السلام إِنى مهلك بنى إِسرائيل بيافث، يعنى ذرية يافث بن نوح عليه السلام من أهل بابل فلما سمع أرمياء صاح وبكى فأَوحى الله سبحانه وتعالى وعز وجل شق عليك ما أوحيت إِليك. قال: نعم، يا رب أهلكنى قبل أن أرى فى بنى إسرائيل ما لا أسر به، قال الله: وعزتى لأهلك بنى إِسرائيل حتى يكون الأَمر فى ذلك من قبلك ففرح أرمياء بذلك وطابت نفسه فقال: لا والذى بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بنى إِسرائيل ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكاً صالحاً فاستبشر وفرح وقال: إِن يعذبنا ربنا فبذنوب لنا كثيرة وإِن عفى عنا فبرحمته ثم لبثوا بعد الوحى ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا فى الشر وذلك حين اقترب هلاكهم فقد الوحى ودعاهم الملك للتوبة فلم يفعلوا فسلط الله عليهم بخت نصر فخرج فى ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس فلما فصل سائراً أتى الملك الخبر، فقال الملك: لأرمياء أين ما وعدتنا زعمت أن أوحى إِليك، فقال: إن الله لا يخلف المعياد وأنا به واثق، فبعث الله عز وجل إِلى أرمياء ملكين فى صورة جل من بنى إسرائيل. فقال يا نبى الله أستغيثك فى أهل رحمى وصلتهم ولا يأْتيهم منى إلى حسن ولا يزيدوننى إلا تسخطا فاقتنى فيهم. فقال: لا حسن فيما يبنك وبين الله عز وجل وصلهم وأبشر بخير، فانصرف الملك فما لبث إِلا أياما ثم أقبل فى صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه، فقال أرمياء، أو ما ظهرت أخلاقهم لك بعد. فقال نبى الله: والذى بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأْتيها أحد من الناس إِلى أهل رحمه إلا قدمتها إِليهم وأضل، فقال أرمياء عليه السلام: ارجع إِلى أهلك وأحسن إِليهم واسأْل الله الذى يصلح عبده الصالحين أن يصلحهم لك فقام الملك ومكث أياماً ونزل بخت نصر وجنوده حول بيت المقدس بأَكثر من الجراد ففزع منهم بنو إِسرائيل وشق عليهم ذلك. فقال الملك لارمياء: فأَين ما وعدك الله فقال إِنى بربى واثق، ثم أقبل الملك على أرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذى وعده وقعد بين يديده ذلك الملك، وقال: أنا الذى أتيتك فى شأْن أهل رحمى فقال الم يأن لهم أن يقلعوا عن الذى هم فيه. فقال الملك يا نبى الله كل شئ كان قبل، كنت أطيعهم واليوم رأيتهم على عمل لا يرضاه الله عز وجل فقال النبى عليه السلام: على أى عمل رأيتهم؟ قال: على عمل عظيم من سخط الله تعالى، فغضبت لله تعالى على ذلك وأتيتك لأخبرك وإنى أسألك بالله الذى بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم، فقال أرمياء: اللهم يا مالك السماوات والأَرض إِن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإِن كانوا على سخط وعمل لا ترضاه فأهلكهم.
فلما خرجت الكلمة من فم أرمياء أرسل الله صاعقة من السماء إِلى بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها فلما رأى ذلك أرمياء عليه السلام صاح وبكى وقال: يا مالك السماوات والأَرض أين ميعادك الذى وعدتنى فنودى إنه لم يصبهم الذى أصابهم إلا بدعائك وهى فتياك، فاستيقن أنها فتياه، وأن ذلك السائل كان رسول ربه، فطار أرمياء حتى خالط الوحوش ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس ثم أمر جنوده أن يملأ كل واحد منهم ترسيه تراباً ثم يقذفه من بيت المقدس، فقذف فيه التراب حتى ملأه ثم انصرف راجعاً إِلى بابل واجتمع عنده سبايا بنى إِسرائيل، واختار منهم سبعين ألف صبى فلما أراد أن يقسم الغنائم فى جنوده، قال له الملك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها وأقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بنى إِسرائيل، ففعل ذلك فأَصاب كل رجل منهم أربعة غلمان، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحماليا وعزازبا ومنشانيا وسبعة آلاف من بيت داود، وأربعة عشر ألفاً من سبط يوسف بن يعقوب عليه السلام وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط آرمر بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهودا، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوى ابنى يعقوب والباقى من بنى إِسرائيل فجعل بخت نصر سبايا بنى إِسرائيل ثلاث فرق، ثلث أقر بالشام وثلث سبى وثلث مثل وذهب بأَوانى بيت المقدس حتى قدم بها بابل وهذه هى الوقعة الأَولى، وذلك قوله سبحانه وتعالى:
{ فإِذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا } ، يعنى بخت نصر وأصحابه، روى حجاج عن ابن جريج عن يعلى بن مسلم عند سعيد ابن جبير، قال: كان رجل من بنى إِسرائيل يقرأ توراة حتى إِذا بلغ: بعثنا عليكم عبادا لنا أُولى بأْس شديد، فاضت عيناه ثم أطبق المصحف وقال: أى ربى أرنى وجه هذا الرجل الذى جعلت هلاك بنى إِسرائيل على يديه، فرأى فى المنام مسكيناً ببابل يقال له بخت نصر فانطلق بمال وعبيد له وكان رجلا موسراً، فقيل له: أين تريد. قال: أريد التجارة، فسار حتى نزل داراببابل فاستكراها ليس فيها أحداً غيره فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لا يأتيه أحد إِلا ساءَله عن اسمه، فقال هى بقى منكم مسكين غيركم. فقولوا: نعم مسكين بفتح آل فلان مريض يقال له بخت نصر. فقال لغلمانه احتملوه، وأُتوا به إِليه وداواه وكساه وأعطاه نفقته وقال له: ما اسمك فأْخبره باسمه ثم أذن الإِسرائيلى بالرجل فبكى بخت نصر، وقال له الإِسرائيلى: ما يبكيك فقال أبكى لأَنك فعلت معى ما فعلت ولا أجد شيئاً أجزيك به. قال بلى شيئاً يسيرا. فقال: ما هو؟ فقال: إِن ملكت فأعتقنى، فجعل يتبعه ويقول أتستهزئ بى، فبكى الإِسرائيلى وقال لقد علمت ما يمنعك أن تعطينى ما سأَلتك إِلا أن الله تعالى يريد أن ينفذ ما قضى وضرب الدهر ضرباته فقال صحيون وهو ملك فارس وبابل لو أنا بعثنا طليعة إِلى الشام، قالوا وما ضرك إِن فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلانا فبعث رجلا وأعطاه مائة ألف راية وخرج بخت نصر فى مطبخته لم يخرج إِلا ليأكل فى مطبخته وكان مسكينا يسائل ما يقتات به فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا فكبر ذلك فى ذرعه فلم يسأل فجعل بخت نصر يسأَل مجالس الشام ويقول ما يمنعكم أن تغزوا بابل فلو غزوتموها لغنمتم غنيمة عظيمة. قالوا: لا نحسن القتال. قال: فلو أنكم غزوتم لأَحسنتم القتال. قالوا: لا نقاتل فلم يزل يقول ذلك فى كل مجلس حتى أتم مجلس الشام ثم رجعوا فأَخبر الطليعة ملكهم بما رأوا وجعل بخت نصر يقول لفوارس الملك لو دعانى الملك لأَخبرته غير ما أخبره فلان، قد دعاه فقال إن فلانا لما رأى أرض الله كراعا ورجلا جلد أكبر ذلك فى ذرعه ولم يسألهم عن شئ، وإِنى لم أدع مجلسا بالشام إِلا سأَلت أهله فقلت لهم كذا وكذا. قال سعيد بن جبير قال صاحب الطليعة لبخت نصر أعطى لك مائة ألف وتنزع عما قلت. قال لو أعطيتنى بيت بابل ما نزعت فضرب الدهر من به، فقال الملك لو بعثنا جريدة خيل إِلى الشام فإِن وجدوا مساغا سعوا وإِلا مشوا ما قدروا قالوا ما ضرك لو فعلت. قال: فمن ترون. قالوا: فلانا. قال: بل الرجل الذى أخبرنى فدعا بخت نصر فأَرسله واختار معه أربعة آلاف فارس من فرسانهم فانطلقوا وخربوا وقتلوا ومات صحيون فقالوا: نستخلف رجلا، فقالوا: على رسلكم حتى يأتى أصحابكم فإِنهم فرسانكم فأَمهلوا حتى جاء بخت نصر بالسبى ومن معهم فقسموا بين الناس فقالوا ما رأينا أحق بالملك من هذا فملكوه. وقال السدى بإِسناده إن رجلا من بنى إِسرائيل رأى فى المنام أن خراب بيت المقدس وهلاك بنى إِسرائيل على يد غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل ويدعى بخت نصر، فأَقبل يسأَل حتى نزل على أُمه وقد ذهب تحطب فجاء وعلى رأسه حزمة من حطب فأَلقاها ثم رأى رجلا قاعدا بجانب من البيت فكلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم وقال اشترى بها طعاما وشرابا، فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا، فأَكلوا وشربوا حتى إِذا كان اليوم الثانى فعل ذلك واليوم الثالث فعل ذلك ثم قال: إنى أحب أن تكتب لى أمرا إِن ملكت يوما من الدهر فقال: تسخر بى. قال: لا إِنى لا أسخر بك ولكن ما منعك أن تكتب لى تتخذها عندى يدا فكلمته أُمه، وقالت: ما عليك إِن كان وإِلا لم ينقصك شيئا فكتب له أمانا فقال: أرأيت إِن جئت والناس حولك قد حالوا بينى وبينك فاجعل لى علامة تعرفنى بها. قال: ترفع صحيفتك على قصبة أعرفك بها فأَعطاه وكساه، ثم إِن ملك بنى إِسرائيل كان يقرب يحيى ابن زكريا ويدنى مجلسه ويستشيره فى أُموره ولا يقطع أمرا دونه وإِنه هم أن يتزوج امرأة، هذا قول السدى وقيل: كانت ابنة أخيه وهو الصحيح إِن شاء الله لما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعث الله عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا فى إِثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، فكان ما نهاهم عنه نكاح بنت الأَخ قال وكانت لملكهم بنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها، وكانت لها فى كل يوم حاجة تقضيها من الملك فسأَل الملك يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحها فقال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أُمها فحقدت على يحيى عليه السلام فأَلبست بنتها لباساً رقيقاً أحمر وطيبتها بالمسك وألبستها الحلى وفوق ذلك كساء أسود، وأرسلتها إِلى الملك حين جلس على سريره للشراب وأمرتها أن تسقيه وتتعرض له، فلما أخذ فيه اشراب وراودها عن نفسها قالت لا أفعل حتى تعطينى ما أسأَلك. قال: ما تسألينى؟ قالت: أسأَلك أن تبعث إِلى برأس يحيى بن زكريا فى هذا الطست فقال ويحك اسأَلينى غير ذلك. قالت: ما أريد إلا هذا. وقال: اسأَلينى غير هذا، فلما أبت عليه الثالثة بعث إِليه فأَتى برأسه والرأس يتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول لا تحل لك، فلما أصبح الملك إِذا دمه يغلى فأَمر بتراب فأَلقى عليه فرقى الدم فوق التراب يغلى فأَلقى عليه التراب أيضاً فارتفع الدم فوقه، فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو مع ذلك يغلى. وروى أن الملك فى ذلك الزمان لا يليه من كذب عمدا وإِن الملك سأَل أن يتزوج بنت أخيه فرخصوا له ومنع يحيى، فلما قال لابنة أخيه سلى حكمك. قالت حتى أنطلق إِلى أُمى فقالت أُمها: قوى دم يحيى فقالت: أقول خيرا من هذا فقالت أُمها: هذا خير لك فوضعت الشفرة على عنقه فقال بالله وتا الله هذا ما بايع عليه يحيى بن زكريا عيسى بن مريم على أنه يزنى ولا يسرق ولا يلبس أمانة بسوء، فلما مرت الشفرة على أوداجه وذبحته نادى مناد يا رب البنت الخطئة العاوية. قيل: إنها كذلك فما تريد منها قال: إِن تهلك فإِنها أول من يدخل النار فخسفت البنت فجاءُوا بالمعاويل ويحفرون وهى تدخل فلم يقدروا عليها فبلغ ذلك سنجاريب ملك بابل فندى فى الناس وأراد أن يبعث إِليهم جيشا ويؤمر عليهم رجلا، فأَتاه بخت نصر وكلمه وقال له: إن الذى أرسلت تلك المرة ضعيف وإِنى قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها فابعثنى فبعثه فسار بخت نصر بالجيش حتى بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه فى مدائنهم فلم يطقهم فلما اشتد عليه المقام وجاع أصحابه أرادوا الرجوع فخرجت إِليهم عجوز من بنى إِسرائيل فقالت: أين أمير الجيش فأَتوا بها إِليه فقالت له: بلغنى عنك أنك تريد الرجوع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة. قال: نعم، طال مقامى وجاع أصحابى فلست أستطيع المقام فوق الذى كان منى. فقالت: أرأيتك إِن فتحت لك المدينة أتعطينى ما أسألك. قال: نعم. قالت: أتقتل من أمرتك بقتله وتكف إِذا أمرتك أن تكف. قال: نعم قالت: إِذا أصبحت فاقسم الجيش أربعة أقسام ثم أقم على كل زاوية ربعاً ثم ارفعوا أيديكم إِلى السماء ونادوا إِنا استفتحناك بالله وبدم يحيى بن زكريا فإِنها تساقط ففعلوا فتساطقت المدينة، فدخلوا من جوانبها: فقالت له: كف يدك واقتل على هذا الدم حتى يسكن، فانطلقت به إِلى دم يحيى بن زكريا وعليه تراب كثير وهو يغلى فقتل عليه سبعين ألفاً فسكن الدم فلما سكن الدم قالت له: أمسك يدك فإِن الله تبارك وتعالى إِذا قتل نبى لم يرضى حتى قتل من قتله وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفة فكف عنه وعن أهل بيته، وخرب بيت المقدس وأمر أن تطرح الجيف والعذر فيه، وقال لبنى إِسرائيل من طرح فيه جيفة فله جزية تلك السنة وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بنى إِسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا فلما خربه بخت نصر ذهب معه بنو إِسرائيل وأُمراءَهم ودانيال وقوم من أولاد الأَنبياء وذهب برأس يحيى فلما قدم بخت نصر أرض بابل وجد سنجاريب قد مات، فملك مكانه واستقام له الأَمر وأتت على ذلك مدة، ثم إِن بخت نصر رأى رؤيا عجيبة فأَفزعته فساءل عنها الكهنة والسحرة فعجزوا عن تفسيرها فبلغ ذلك دانيال، وكان فى السبى مع أصحابه وقداحه صاحب السجن وأُعجب به لما رأى من حسن سمعته فقال دانيال لصاحب السجن: إِنك قد أحسنت إِلى وإِن صاحبكم قد رأى رؤيا فدله على لأَعبرها له فجاء السجان فأَخبر الملك بقصة دانيال فقال: على به، وكان لا يقف بين يديه أحد إلا سجد له فأَتوا به فقام بين يديه ولم يسجد فقال؛ ما الذى منعك من السجود. فقال: إِن لى رباً أتانى العلم والحكمة وأمرنى أن لا أسجد لغيره فخشيت إن سجدت لغيره أن ينزع منى علمه الذى أتانى فيهلكنى، فعجب منه وقال: نعم ما عملت حين وفيت بعهده وجللت علمه، وقال له: هل عندك علم بهذه الرؤيا. قال: نعم. قال: أى شئ رأيت. قال: إنك رأيت كذا .. وكذا. قال: نعم. روى عبد الرحمن بن معقل أنهُ سمع وهب بن منبه يقول: إن يخت نصر رأى رؤيا أخر زمانه صنما رأسه ذهب، وصدره فضة، وبطنه نحاس، وفخذاه من حديد، وساقاه من فخار، ثم رأى حجراً وقع عليه من السماء فدقه ثم ربا الحجر حتى ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأى شجرة أصلها فى الأَرض وفرعها فى السماء ثم رأى رجلا عليها وبيده فأْس، وسمع منادياً ينادى اضرب جذعها لينفر الطير من فرعها وتفرق الدواب والسباع من تحتها واترك أصلها قائما، فعبرها دانيال فقال: أما الصنم الذى رأْيته رأْسه من ذهب فأنت الرأس وأنت أفضل الملوك، وأما الصدر الذى من فضة فابنك يملك بعدك، وأما البطن الذى رأيت من نحاس فملك يكون من بعدك وأما الفخذان اللذان رأيت من حديد ففرقتان فى فارس تملكان أشد الملك، وأما الفخار فأُمتان ضعيفتان تملكهما امرأتان، وأما الحجر الذى رأيت قد ربا حتى بلغ ما بين المشرق والمغرب فنبى يبعثه الله فى آخر الزمان فيغرق ملكهم كله حتى يبلغ ما بين المشرق والمغرب، وأما الشجرة التى رأيت والطير والسباع والدواب والذى أمر بقطعها فيذهب ملكك فيردك الله طائراً تكون نسراً تملك الطير ويردك الله تملك الدواب ثم يردك الله أسداً تملك السباع والوحوش سبع سنين فى كل من ذلك على حدة وقلبه فى ذلك كله قلب إِنسان حتى يعلم أن الله سبحانهُ له ملك السماوات والأَرض وهو يقدر على الأَرض ومن عليها، فما دام أصلها قائما فإِن ملكك قائم فمسخ بخت نصر نسراً ثم ثوراً ثم أسداً ثم رد الله عليه ملكه فآمن ودعا الناس إِلى الله عز وجل، وشك ابن وهب أمات مؤمناً، قال: وجدت أهل الكتاب اختلفوا فمنهم من قال: مات مؤمنا، ومنهم من قال: مات كافراً لأَنه أحرق بيت المقدس وكتبه وقتل الأَنبياء، وغضب الله عليهِ غضباً شديداً فلم يقبل منه توبته، قال: فلما عبر دانيا لبخت نصر رؤياه وأخبره بها أكرمه وأكرم أصحابه وجعل يقبل من يستشيره فى أمره، حتى كان أكرم الناس عليه وأحبهم إِليه، فحسده أصحابه المجوس على ذلك فأَتوا به وأصحابه إِلى بخت نصر وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا يأْكلون ذبيحتك. فدعاهم فسأَلهم. فقالوا: إِن لنا رباً نعبده ولسنا نأْكل من ذبيحتك فأَمر بخد فخدلهم فألقاهم فيها هم ستة, ألقى معهم سبعاً ضارياً ليأْكلهم، ثم قال لأَصحابه: انطلقوا بنا لنأْكل ونشرب فذهب وأكلوا وشربوا، ثم رجعوا فوجدوهم جلوساً والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم واحداً ووجدوا معهم رجلا فعدوهم فوجدوهم سبعة، فقالوا: ما هذا السابع إِنما كانوا ستة فخرج السابع وكان ملكاً فلطمه لطمة فصار فى الوحوش ثم رده الله إِلى صورته ورد عليه ملكه، فلما رده الله كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسده المجوس ووشوا به ثانية، وقالوا بخت نصر إِذا شرب الخمر لا يملك نفسه أن يبول وكان ذلك فيهم عاراً فجعل لهم بخت نصر طعماً فأكلوا وشربوا، وقالوا: للبواب انظر أول من يخرج عليك ليبول فاضربه وإِن قال: أنا بخت نصر أمرنى، فحبس الله البول على دانيال عليه السلام وكان أول من خرج من القوم يريد البول بخت نصر فقام ليبول وكان ذلك ليلا فقام يحسب أذياله فلما رآه البواب فقال: أنا بخت نصر قال: كذبت. بخت نصر أمرنى أن أقتل أو من يخرج فضربه فقتله، فقال السدى: لما أراد الله جل جلاله هلاك بخت نصر قال لمن كان فى يده من بنى إِسرائيل: أرايتم هذا البيت الذى خربت وهؤلاء الناس الذين نلت منهم، وما هذا البيت. قالوا: بيت الله عز وجل ومسجد من مساجده وهؤلاء أهله كانوا من ذرارى الأَنبياء فظلموا وتعدوا وعصوا الله فسلطك الله عليهم بذنوبهم وربهم رب السماوات والأَرض يكرمهم ويمنيهم ويعزهم فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله تعالى وسلط عليهم عدوهم فقال: أخبرونى ما يطلع بى إِلى السماء العليا فأقتل من فيها وأتخذ ملكاً فإِنى قد عرفت من فى الأَرض ومن فيها. قالوا: لا يقدر أحد من الخلائق. قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم، فشكوا إِلى الله عز وجل وتضرعوا إِليه فبعث الله بعوضة ليريه قدرته وضعفه أى ضعف بخت نصر ودخلت فى منخره ثم ساخت به حتى غاصت بأُم رأْسه فما كان يقر ولا يسكن حتى شرف على الموت فلما أيقن بالموت قال لخاصته من أهله: إِذا مت فشقوا رأسى وانظروا ماذا الذى قتلنى، فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة غاصت بأُم رأسه ليرى عباده قدرته وسلطانه ونجى الله من بقى فى يده من بنى إِسرائيل ورحمهم وردهم إِلى أيليا والشام وتبوأوا فيها وربوا وكثروا حتى كانوا أكثر مما كانوا قبل ذلك، فيزعمون أن الله عز وجل أحيا أُولئك المؤمنين الذين قتلوا ولحقوا بهم، أنهم لما رجعوا إِلى الشام وقال بعضهم: عمر بخت نصر أيام مسخه ألفاً وخمسمائة عام وخمسين يوماً، ولما مات استخلف ابنه سطاس وكانت آنية بيت المقدس التى حملها بخت نصر إِلى بابل عنده وشحمها بلحوم الخنازير وأكل وشرب فيها واستقضى دانيال ولم يقبل منه واعتزله دانيال فبينما سطاس قاعد ذات يوم إِذا برزت له كف متعلقة بغير ساعد وكتبت له ثلاثة أحرف بمشهده، ثم غابت وعجب من ذلك ولم يدر معنى ذلك فدعا دانيال عليه السلام واعتذر إِليه وسأَله أن يقرأ ذلك ويخبره بتأْويله. فقال دانيال: بسم الله الرحمن الرحيم وزن يخف ووعده يجز وجمعه يتفرق فقال: أما وزن يخف فإِنه وزن عملك فى الميزان، ووعد يجز فإِنه ما تقدم لك ولأبيك من الملك العظيم، والجمع المتفرق تفرقكم إِلى يوم القيامة فلم يلبث إِلا يسيراً حتى أهلكه الله تعالى وأضعف ملكهم وبقى دانيال بأَرض بابل حتى إِلى أن مات بالسوس، قيل لما فتح الله السوس على يد أبى موسى الأَشعرى فى خلافه عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - غنم أموالهم وأفضى إِلى خزانة مقفلة ختم قفلها بالرصاص، فقال أبو موسى فى الخزانة فإِنى أراها مختومة بالرصاص. فقالوا: أيها الأَمير ليس فيها من حاجتك. فقال: لا بد لى أن أعلم بما فيها فافتحوا لى بابها حتى أنظر ما فيها فكسروا القفل وفتحوا الباب ودخل أبو موسى الخزانة فنظر فإِذا هو بحجر طويل محفور على مثل الحوض وفيه رجل ميت كفن فى أكفان منسوجة بالذهب ورأْسه مكشوف، فتعجب أو موسى من طوله وكذلك كل من كان معه ثم أنهم شبروا أنفه، فإِذا أنفه يزيد على شبر. فقال أبو موسى: ويحكم من هذا الرجل. فقالوا: هذا الرجل كان بالعراق وكان أهل العراق إِذا حبس عنهم الغيث بستسقون به فيسقون فأَصابنا من قحط المطر ما كان يصيب أهل العراق فأرسلنا إِليهم وسأَلناهم أن يدفعوه إِلينا حتى نستسقى به فأَبوا علينا، فرهنا عندهم خمسين رجلا وحملناه إِلى بلدنا هذا ثم استسقينا به فسقينا فرأينا أن نرده عليهم فلم يزل مقيماً عندهم إِلى أن أدركته الوفاة، وكتب أبو موسى إِلى عمر يخبره بما فتح الله عز وجل عليه من السوس وأموالها وبخبر الرجل فدعا عمر - رضى الله عنه - أكابر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عن ذلك فما وجد عند أحد علما، فقال على بن أبى طالب: إن هذا الرجل هو دانيال الحكيم وهو نبى غير مرسل كان فى قديم الزمان مع بخت نصر ومن بعده من الملوك وجعل على يحدث عمر بقصته إِلى وفاته، ثم قال له اكتب إِلى صاحبك وأْمره أن يصلى عليه ويدفنه فى موضع لا يقدر أهل السوس على حفره. فكتب عمر إِلى أبى موسى فأمر أبو موسى أهل السوس أن يقلبوا نهرهم إِلى موضع آخر ثم أمر بدانيال فكفن فى أكفان فوق التى كانت عليه ثم صلى عليه هو وجميع أصحابه ومن كان معه من المسلمين وأمر بقبره فحفره فى وسط النهر ثم دفنه وأجرى عليه الماء - ويقال إن دانيال فى نهر السوس إِلى يومنا هذا يجرى عليه الماء. قال الأستاذ: بعض ما ذكر من قصة بخت نصر غلط لأَن بخت نصر غزا إِسرائيل عند قتلهم شعياء، وفى عهد أرمياء عليه السلام وهى الوقعة الأُولى التى قال فيها الله تبارك وتعالى: { { فإِذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأْسٍ شديد } . يعنى بخت نصر وأصحابه ومن عهد أرميا وتخريب بخت نصر بيت المقدس إِلى مولد يحيى بن زكريا أربعمائة وستون سنة وإِنما الصحيح من ذلك محمد بن إِسحاق أن بنى إِسرائيل عَمَّرُوا الشام وعادوا إِليه بعد تخريب بخت نصر فأحدثوا أحداثاً بعد موت عزير وبعث الله تعالى فيهم أنبياء فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون وآخر من بعث الله جل جلاله إِليهم زكريا ويحيى وعيسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وكانوا من بيت آل داود فمات زكريا وقتل يحيى وبعض يقول قتل زكريا فبعث الله سبحانهُ وتعالى إِليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له كردوس فلما ظهر عليهم قال لرئيس جنوده: إنى حلفت بإِلههم لئن ظهرت على بيت المقدس لأقتلهم حتى تسيل دماؤهم فى وسط عسكرى إلا إن لم أجد أحداً أقتلهُ، فأَمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك فأَقام ذلك الرئيس ويسمى نبوازرادان فى البقعة التى يقربون فيها قربانهم فوجد دماً يغلى فسألهم عنه فقالوا: هذا دم قربان قربناه فلم يتقبل منا فلذلك كان يغلى كما تراه ولقد قربناه منذ ثمانى مائة سنة، قال ما صدقتمونى الخبر. قالوا له: لو كان من أول زماننا تقبل منا ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحى فلذلك لم يقبل منا فذبح منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين من رؤسائهم فلم يهدأ الدم فأَمر بسبعة آلاف من سباياهم وذبحهم على الدم فلم يهدأ فقال لهم ويلكم يا بنى إِسرائيل اصبروا واصدقوا على أمر ربكم فقد طال ما ملكتم فى الأَرض تفعلون ما شئتم قبل أن لا أترك فيكم نافخ نار منكم ذكراً ولا أنثى إلا قتلته فلما رأوا الحد وشدة القتل صدقوه الخبر. فقال: هذا دم نبى منا كان ينهانا عن أُمور كثيرة من سخط الله تعالى فلو أطعناه فيها كان أرشد لنا وكان يخبرنا بأَمركم فلم نصدقه وقتلناه وهذا دمه فقال لهم: ما اسمه. قالوا: يحيى بن زكريا. قال: الآن صدقتمونى المثل هذا ينتقم منكم ربكم فخر ساجداً، وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان هنا من جيش كردوس وخلا فى بنى إِسرائيل، ثم قال يا يحيى بن زكريا قد علم ربى وربك ما أصابك قومك من أجلك وما قتل منهم من أجلك فهذا بإِذن الله قبل أن لا أبقى من قومك أحداً فهذا دم يحيى بن زكريا بإِذن الله تعالى ورفع بنوازرادان عنهم القتل، وقال: آمنت بالذى آمنت به بنور إِسرائيل، وصدقت به وأيقنت أن لا رب غيره، فأَوحى الله إِلى رئيس من رؤسائهم من بقية الأَنبياء أن بنوازرادان حنون صدوق وحنون بالعبرانية حديث الإِيمان قريب العهد به، ثم قال بنوازرادان أن عدوم الله كردوس أمرنى أن نقتلكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره وإنى لست أستطيع أن أعصيه. قالوا: نفعل ما تؤمر به، فأَمرهم فحفروا خندقا ومروا بما لهم من الخيل والبغال والحمير والإِبل والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم فى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم فلما نظر كردوس ما فى الخندق من الدم وبلغ الدم عسكره بعث إِلى بنوزرادان أن ارفع عنهم القتل ثم انصرف عنهم إِلى باب وقد أفنى بنى إِسرائيل فى الوقعة الأَخيرة التى أنزل الله فى بنى إِسرائيل فى قوله تعالى: { { فإِذا جاء وعد الآخرة } وكان لكردوس وجنوده فلم تقم لهم بعد راية وانتقل الملك عن الشام ونواحيها إِلى الروم الآن بقايا بنى اسرائيل كثروا بعد ذلك وانتشروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك وكانوا فى نعمة ومتعة إِلى أن بدلوا وأحدثوا واستحلوا المحارم وضيعوا حدود الله عليهم طلطوس الرومى ابن اشتيانوس فأخبر بلادهم وطردهم عنها ونزع الله منهم الملك والرياسة وضرب عليهم الذلة والمسكنة، فلم يكونوا فى أمم من الأمم إلا وعليهم الجزية والصغار والملك فى غيرهم وبقى بيت المقدس خراباً إِلى أيام عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - فعمره المسلمون بأَمره وهذه مرة ثالثة عادوا إِلى الفساد فأعاد الله عليهم بالانتقام فما زالوا فى ازدياد هوان كما قال الله تبارك وتعالى: { وإِنْ عُدتُّمْ } إِلى المعصية، { عُدْنا } إِلى العقوبة. وقال قتادة فعادوا فبعث الله عز وجل عليهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وكذا عن الحسن، قال قتادة: بعث الله عليهم هذا الحرب من العرب فهم منهم فى عذاب إِلى يوم القيامة وذلك أنهم كذبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقصدوا قتله فسلط الله جل جلاله عليهم فقتل قريظة وأجلى بنى النضير وضرب الجزية على الباقين ثم أجلاهم عمر رضى الله عنه عن جزيرة العرب ويجمع ذلك بما ذكرته من أنهم عادوا إِلى الفساد مرة ثالثة فعاد الله عليهم بالانتقام فما زالوا فيه بأَيدى فارس ثم بأَيدى العرب هذا جزاؤهم فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب دائم كما قال الله تعالى جل جلاله: { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ } منكم يا بنى إِسرائيل وغيركم { حَصِيراً } سجناً يحصرهم حصراً عظيماً لا يقدرون على الخروج منه ولا يخرجون أبدا، وعن الحسن حصيراً بساطاً كما يبسط الحصير ففيه تهكم بهم فإِن الحصير يبسط للخير أخبرهم أنه يفرش لهم النار.