خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
٢٨
-الكهف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَاصْبِرْ } احبس. { نَفْسَكَ مَع الَّذِينَ يَدْعُونَ } يعبدون { رَبَّهم } وهم: صهيب وعمار وخبّاب بنا الأرت وسلمان الفارسى وسالم مولى أبى حذيفة وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين وكانت ثيابهم متمزقة مرقعة.
دخل عيينة بن حصن الفزارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: وعنده هؤلاء المؤمنون المذكورون وعلى سلمان شملة صوف قد عرق فيها وبيده خوص يشقه وينسجه. فقال عيينة: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحّهم حتى نتبعك واجعل لنا مجلساً فنزل: { واصبر نفسك } ألى آخره.
وروى أن قوما من رؤساء الكفرة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. نحّ هؤلاء الموالى الذين كأن ريحهم ريح الضأن حتى نجالسك فنزل: { واصبر نفسك } إلى آخره. وذلك كقول قوم نوح:
{ أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } }. وعن أبى صالح: قال سلمان الفارسى: إنها نزلت فىَّ. دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس على بساط فجلست إلى جنبه وعلىَّ شملة قد عزقت فيها وذلك فى يوم حار فدخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بينى وبينه وفى يدى خوص أصنعه فجعل يدفعنى بمرفقه حتى أبعدنى عن البساط فقال: يا محمد إنَّا رؤساء مضر وإن نُسْلِم يُسْلم الناس والله ما يمنعنا من اتباعك والدخول عليك إلا هذا وضرباؤه فلو أنك أخرجتهم عنك اتبعناك فإذا دخلنا عليك فأخرج هذا وضُرباءَه فوالله إنه ليؤذينى الآن بيِّن ريحه أو ما يؤذيك ريحه فإذا خرجنا من عندك فائْذن لهم فإن لنا عليك حقا ونحن وجوه مضر وسادات قومنا ثم أنا صاحب مرباعها ورأسها فى الجاهلية إلى يومنا هذا وقد كان من قَدَمِنا وقدم آبائنا ما بلغك فإنا نكره أن نكون نحن هذا عندك سواء بمنزلة فنزل: { واصبر نفسك } إلى آخره.
وقيل: نزلت فى أصحاب الصُّفّة وهم سبعمائة رجل فقراء فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجر ولا زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى ولما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذى جعل فى أمتى من أمُرت أن أصبر معهم.
{ بالْغَدَاةِ } أى فى الصبح وقرأ ابن عامر بالغدوة. قيل: غدوة فى الأكثر علَم فتكون أل فيه على تأويل التنكير.
{ وَالْعَشِىِّ } الواحد عشية والعشية كالكلم والكلمة.
قيل: المراد بدعائهم فى هذين الوقتين صلاة الفجر وصلاة العصر. وقيل: المراد العبادة مطلقا الصلاة وغيرها فى الوقتين وغيرهما فعبَّر عن سائر الأوقات بذكر الوقتين المتطرفين النهار والليل.
{ يُرِيدُونَ } بعبادتهم. { وَجْههُ } أى ذاته هو ويقدر مضاف أى يريدون رضى ذاته وكأنه قيل: يريدون رضاه وإذا رضى عنهم لم يعذبهم وأثابهم ولا يريدون بعبادتهم غير الله من عرض الدنيا أو رياء أو سمعة والجملة حال من واو يدعون.
{ وَلاَ تَعْدُ } لا تنصرف وتتجاوز { عَيْنَاكَ } فاعل تعد وذلك من صيغة نهى الغائب كقولك فى نهى عمرو عن القيام: لا يقم عمر وكأنك قلت: لا تقم يا عمرو. ظاهر الكلام نهى العينين والمراد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتقر فقراء المسلمين ويعرض عنهم لضعف ثيابهم وتمزقها وترقيعها ووسخ أبدانهم إلى نظافة الثوب والبدن، كأنه قال: لا تعد يا محمد بعينيك. { عَنْهم } وعداً متعد بنفسه وتعدى هنا بعن لتضمنه معنى تنصرف أو تنبو أى لا تَنْب عيناك عنهم أى لا تكونا غير متعلقتين بهم.
وقرئ: ولا تعد بضم التاء وإسكان العين وكسر الدال مضارع أَعدَى بالهمزة. وقرئ بضم التاء وفتح العين وكسر الدال مشددة وعينيك بياء التثنية على القراءتين بالنصب على المفعولية وفى الفعل تعد ضمير المخاطب والهمزة والتشديد فى القراءتين عندى للتعدية كأنه قيل: لا تجعل عينيك نابيتين عنهم أى غير متعلقتين بهم أو لا تجعلهما منصرفتين. وزعم أنهما لموافقة الثلاثى المجرد وإلا لتعديا إلى مفعولين وهو معتبر لأصل عدا فإنه متعد لمفعول بمعنى جاوز فيتعدى الاثنان بالهمز أو التشديد وأنه معتبر لمعنى الفعل اللازم الذى تضمنه عدا فلما ضعف وأدخلت عليه الهمزة تعدى لواحد. واعلم أن لفظة { عن } أشد فى إظهار المجاوزة من تركها فاختير لا تعد عيناك عنهم عن لا تعْدُهم عيناك.
{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيٰةِ الدُّنْيَا } من حسن الثياب والأبدان ونظافتهما ومجالسة الأغنياء والأشراف والجملة حال من الكاف فى عيناك فى القراءة الأولى ولا ضمير عليها فى تعد وحال من الضمير المستتر فى تعد العائد إلى المخاطب فى القراءتين الأخيرتين بنصب عينيك فإن فى تعد عليهما ضمير.
{ وَلاَ تُطِعْ } فى طرد الفقراء المؤمنين عن مجلسك. { مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبهُ عَنْ ذِكْرنَا } كعيينة بن حصن وأمية بن خلف والهمزة فى أغفلنا للتعدية أى صيَّرنا قلبه غافلا عن ذكرنا فكان يدعوك إلى طرد الفقراء الذاكرين الله عن مجلسك ليجالسك هو وأضرابه وليس هذا التصيير جبراً بل خذلانا وتخلية فاختاروا عدم الذكر وغفلوا واختيارهم وغفلتهم مخلوقان لله تعالى ويجوز أن تكون الهمزة لوجود الشئ على حال أى من وجد قلبه غافلا من ذكرنا كقولك أجبنته وأخجلته إذا وجدته جبانا وخجلا أو للنسبة أى من نسبنا قلبه إلى الغفلة عن الذكر كقولك: أكفرت عمراً أى نسبته إلى الكفر وذلك من أغفلت الإبل إذا تركتها بلا علامة أى لم نعلمه بالتشديد بالذكر كما علمنا قلوب للمؤمنين وليس ذكر هذه الأوجه خروجا عن الوجه الأول الذى هو عدم الجبر بل تصرف فى محتملات الآية مع إثبات الاختيار ونفى الجبر ويدل لنفيه قوله: { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } فهذه طريقة وسطى حاصلها أنه لا جبر وأنه لا خالق إلا الله.
وقرئ وأَغفلَنا قلبُه بفتح لام أغفلنا ورفع قلب على الفاعلية أى حَسِبَنا بفتح الباء قلبُه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة على معاصيه وإضافة المصدر على هذه القراءة فى ذكرنا من إضافة المصدر لفاعله.
{ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } متقدما على الحق ومصادرا عنه فيجعل الحق وراء ظهره ومنه الفَرط لمن يتقدم القوم ويهيئ لهم الماء وفرس فرط أى يتقدم الخيل. وقيل: المعنى كان أمره تضييعا وتفريطا كقوله: يا حسرتى على ما فرطت فى جنب الله. وقيل: إسرافا والآية دلت على أن الداعى فى طلب عيينة وأمية ونحوهما طرد الفقراء المؤمنين عن المجلس هو غفلة قلوبهم عن ذكر الله سبحانه واتباع أهوائهم وتقدمهم عن الحق وانهماكهم فى الزينات المحسوسات كنظافة بدن وثوب ولم يعلموا أن الزينة إنما هى الزينة المعقولة. وهى امتثال الأمر واجتناب النهى الفائز بها هؤلاء الفقراء المؤمنون.