خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً
٧٨
أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً
٧٩
-الكهف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قَالَ } الخضر لموسى: { هذَا } أى هذا الوقت { فِرَاقُ } أى وقت فراق وهذا الاعتراض الثالث سبب فراق أو موجب فراق أو هذا الفراق الذى تضمنه قولك: { إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبنى } وهو فراق.
{ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } وإضافة الفراق لبين من إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع.
وقد قرأ ابن أبى عبلة بتنوين فراق وفتح بينك فيكون بينى وبينك منصوبين على الظرفية.
ويجوز أن يكون بينى وبينك بمعنى وصلى ووصالك فإضافة فراق إضافة مصدر لمصدر أى فراق بينى وبينك وبينك بينى أى وصلى وصالك ووصالك وصلى فهى إضافة مصدر لفاعله أو مفعوله لأن كلا من المتفارقين مفارق للآخر أو مفارقتك بينى ومفارقتى بينك أى مفارقتك وصلى ومفارقتى وصلك فهى إضافة مصدر لمفعوله وقراءة ابن أبى عبلة تدل على الظرفية لأنه لما نون نصب إلا أن يقال: يحتمل النصب فيها المفعولية للمصدر المنون.
{ سَأُنَبِّئُكَ } سأخبرك { بِتَأْوِيلِ } بتفسير وهو تفسير الشئ على خلاف ظاهره.
{ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } لأنه بحسب علمك الظاهرى منكر.
روى أن موسى أخذ بثوب الخضر وقال: أخبرنى بمعنى ما عملت قبل أن تفارقنى فقال الخضر: { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } أى صارت لهم من أبيهم بالإرث أو ثبتت لهم منه إلى الآن والكون هو الكون الذى له خبر أو الذى لا خبر له وعلى كل فقد استعمل لفظ كانت الموضوع للمضى فى الحال بقطع النظر عن كونها لهم فى المضى أيضاً. ولك أن تقول مستعملة فى المضى ويفهم منه الاستمرار لأنك إذا أثبت شيئاً لأحد مِلكا فالأصل بقاؤه على ملكه حتى يدل ذلك وفى الآية دليل على أن المسكين يجوز إطلاقه على من له شئ لا يكفيه أو يكفيه على تضييق وإقتار.
وقال عكرمة: قلت لابن عباس: رأيت قوله تعالى: { أما السفينة فكانت لمساكين } والسفينة تساوى ألف دينار فقال: إن المسافر مسكين ولو كان معه ألف دينار ولهذا قيل: إن المسافر ومتاعه على قلة إلا ما وَقَى الله. وقيل: سموا مساكين لعجزهم عن دفع الملك ولزمانة خمسة منهم. وقيل: لكل علة وهم عشرة.
{ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ } بين فارس والروم. قال كعب وغيره: كانت السفينة لعشرة إخوة زَمْنَى لم تكن لهم معيشة غيرها ورثوها عن أبيهم خمسة يعملون فى البحر مجذوم وأعور وأعرج وآدر وهو من انتفخت بيضتاه ومحموم لا تنقطع عنه الحمى أبداً وهو أصغرهم، وخمسة لا يعملون أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون وعلى هذا فالحكم على الكل بالعمل حكم على المجموع لا على الجميع فإن خمسة لا يعملون وناسب الحكم عليهم لاجتماعهم فى المسكينية والأب والأم أو فى الأب ولرضى الباقين بالعمل وأمرهم به.
وإن قلت: أين مفعول يعملون؟
قلت: محذوف أى يعملون السفينة أى يجرونها ويسوسونها أو يعملون شأنها أو يعملون ما يؤجرون عليه وهو الحمل فيها فإن لهم الأجرة على ذلك أو لا معمول له لتضمنه معنى يحترفون.
{ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } بالخرق لئلا يأخذها الملك لأنه لا يأخذ السفينة المعيبة وأعيب فى تأويل مصدر مفعول لأردت أى أردت عيبها أى تصييرها كريهة غير مقبولة له والعيب يطلق بمعنى المصدر كما رأيت وبمعنى ما يكره به الشئ.
{ وَكَانَ } مثل كان المذكورة وقس عليهما نظائرهما.
{ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ } قيل: خلفهم لأن رجوعهم فى طريقهم عليه ولم يعلموا به فأعلم الله به الخضر أنه يأخذ كل سفينة غير معيبة فخرقها وأعلم أهلها بأمر ذلك الملك وقال: إذا جاوزتم فأصلحوها وانتفعوا بها. وقيل: وراءهم بمعنى قدامهم.
ويحتمل أن يكون وراءهم ملك بمعنى أن عليهم بأس ملك وعبَّر عن ذلك بوراءهم لأن المغلوب المقهور يكون غالبه القاهر له وراءه يتبعه والصحيح عندهم القول الثانى أى قدامهم ملك فى ذهابهم وأما الأول فمشكل لأنهُ إن كان أمامهم فى ذهابهم فما فائدة الإخبار بأنه خلفهم فى رجوعهم وأيضاً فيأخذها حين الذهاب لا يتربض للرجوع وإن كانوا يرجعون فى طريق غير الأول فيكون خلفهم فلا يكون خلفهم إلا بعد أن كان قدامهم فيأخذها إذا كانوا مستقبليه فما فائدة الإخبار بأنهُ خلفهم؟ اللهم إلا أن يقال: يأخذها بعد الإدبار لا يأخذ فى عادته عند الإقبال وذلك الملك هو الجلندى أعنى أنه ملك عمان لأن ملك عمان يسمى الجلندى ولكن الذى حفظت قديما أن الملك المذكور فى الآية ملك من ملوك اليمن.
وذكر بعض أنه جلندى بن كركر. وقيل: منوال بن جندل الأزدى. وقال ابن إسحاق: مشواه بن خليد الأزدى. وقيل: مزد بن بده. وقيل: جلهان.
وقال شعيب الجمانى: هرد بن ورد. قيل: كان له ثلاث مائة وستون قصرا له فى كل قصر امرأة وهو كافر وقد افتخر به إبراهيم بن مخرمة الكندى على خالد ابن صفوان بن الأهتم بحضرة أبى العباس السفاح. حضر عنده ليلة وكان يحب السمر ومنازعة الرجال فخاضوا وتذاكروا مضر واليمن فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين إن أهل اليمن هم العرب الذين دانت لهم الدنيا ولم يزالوا ملوكا ورثوا الملك كابراً عن كابر وآخِراً عن أول منهم النعمان المنذر ومنهم عياض صاحب البحرين ومنهم من يأخذ كل سفينة غصبا وليس من شئ لهُ خطر إلا إليهم ينسب، إن سئلوا أعطوا وإن نزل بهم ضيف أقروه فهم العرب العاربة وغيرهم المستعربة.
وقال أبو العباس: ما أظن التميمى رضى بقولك ثم قال: ما تقول أنت يا خالد؟ قال: إن أذن لى أمير المؤمنين فى الكلام تكلمت. قال: تكلم ولا تهب أحدا. قال: أخطأ المقتحم بغير علم ونطق بغير صواب وكيف يكون ذلك لقوم ليس لهم ألسن فصيحة ولا لغة صحيحة نزل بها كتاب ولا جاءت بها سنّة يفتخرون علينا بالنعمان والمنذر ونفتخر عليهم بخير الأنام وأكرم الكرام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فلله المنة به علينا وعليهم فمنا النبى المصطفى والخليفة المرتضى ولنا البيت المعمور وزمزم والحطيم والمقام والحجابة والبطحاء وما لا يحصى من المآثر ومنا الصِّدِّيق والفاروق وذو النورين والرضى والولى وأسد الله وسيد الشهداء وبنا عرفوا الدين وأتامهم اليقين فمن زاحمنا زاحمناه ومن عادانا اصطلمناه.
ثم أقيل خالد عَلَى إبراهيم فقال: ألك علم بلغة قومك؟
قال: نعم.
قال: فما اسم العين عندكم؟
قال: الجمجمة.
قال: فما اسم السن؟
قال: الميذن.
قال: فما اسم الأذن؟
قال الصنارة.
قال: فما اسم الأصابع.
قال: الشناتر.
قال: فما اسم الذئب؟
قال: الكنع.
قال: فعالم أنت بكتاب الله عز وجل؟
قال: نعم.
قال: فإن الله تعالى يقول:
{ { إنا أنزلناه قرآنا عربياً } وقال تعالى: { { بلسان عربى مبين } }. وقال تعالى: { { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } فنحن العرب والقرآن بلساننا أنزل ألم تر أن الله تعالى قال: { والعين بالعين } ولم يقل: والجمجمة بالجمجمة. وقال تعالى: { { والأذن بالأذن } ولم يقل: والصنارة بالصنارة.
وقال تعالى:
{ { يجعلون أصابعهم فى آذانهم } ولم يقل: شناترهم فى صفاراتهم. وقال تعالى: { فأكلهُ الذئب } ولم يقل: فأكلهُ الكنع.
ثم قال لإبراهيم: إنى أسألك عن أربع إن أقررت بهن قهرت وإن جحدتهن كفرت. قال: وما هن؟
قال: الرسول منا أو منكم؟
قال: منكم.
قال: فالقرآن أنزل علينا أو عليكم؟
قال: عليكم.
قال: فالمنبر فينا أو فيكم؟
قال: فيكم.
قال: فالبيت لنا أو لكم؟
قال: لكم.
قال فاذهب فما كان بعد هؤلاء فهو لكم بل ما أنتم إلا سائس قرد أو دابغ جلد أو ناسج برد.
قال: فضحك أبو العباس وأقر خالد وحباهما جميعا.
{ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ } أى كل سفينة غير معيبة أو كل سفينة صالحة. قال بعضهم: ولعمرى لو كان يأخذ كل سفينة ما انفلتت ولكن يأخذ خيار السفن ويدل لذلك أنهُ خرقها لتكون معيبة وقد قرأ أُبىّ وعبد الله بن عباس كل سفينة صالحة.
وقرأ بعضهم كان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة فذكروا النعت المحذوف لدليل فى قراءة الجمهور { غَصْباً } من أصحابها.
وإنما قدم قوله: { فأردت أن أعيبها } عن قوله: { وكان وراءهم ملك } مع إن إرادة تصييرها معيبة عن خوف الغصب وذكر المسبب يتأَخر عن ذكر السبب لأن السبب لما كان مجموع خوف الغصب وكون مالكيها مساكين رتب السبب على أقوى الخوفين وأدعاهما وهو كون مساكينها مساكين وعقبه بالآخر على سبيل التقييد والفهم أو قدم للعناية به.