خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً
٨٢
-الكهف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ } اسمهما أصرم وصريم وأل فى الجدار والمدينة للعهد الذهنى لا الذكْرِى لأن هذا من كلام الخضر مع موسى وذكرهما فى قوله تعالى: { { أتيا أهل قرية } }. وقوله: { { فوجدا فيها جدارا } من كلام الله سبحانه وتعالى وذلك المعهود الذهنى وهو نفس القرية التى أتيا والجدار الذى وجدا.
ومن كتب: { وأما الجدار } - إلى قوله - { صبراً } فى قطعة ذهب قديم مدفون وقرأ عليها عشر مرات وجعلها فى وسادته ونام فى الجانب الأيسر ثم على الأيمن ويقول: يا مظهر العجائب يا دليل كل حائر يا من يرشد كل ضال أرشدنى بكرمك إلى ما طلبت فإنه يرى فى منامه على ما أراد من كنز وعلى ما خبأ الإنسان وخفى عن موضعه.
{ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما } وهو من ذهب وفضة روى أبو الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم
"الكنز ذهب وفضة" رواه البخارى فى التاريخ والترمذى مرفوعا والحاكم وصحح ورواه الثعالبى عن أبى بكر المعشارى بما أخبره به بإسناده عن أبى الدرداء وهو المتبادر من إطلاق الكنز فى الآية والذم على كنز الذهب والفضة لمن لا يؤدى زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق.
وأيضاً يحتمل أن أباهما كنزه لهما عند قرب موته بعد أداء ما لزم فيه لما مضى وأما هما فإنما يكلفان به بعد وجوده وبلوغهما فحينئذ يزكيانه على ما مضى أو لعام أو حتى يحول الحول من حين وجداه أو على ما أشبه ذلك فى شرعهما. وقال ابن عباس: صحف فيها علم وكذا قال ابن جبير.
وعن ابن عباس فى رواية: لوح من ذهب مكتوب فيه: عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبا لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب، عجبا لمن يوقن بالحساب كيف يغفل، عجبا لمن يوقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. إنى أعجب أيها الإنسان عجبا. وفى الجانب الآخر: أنا الله لا إله إلا أنا وجدى لا شريك لى خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه وويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه.
قيل: هذا قول أكثر المفسرين وفى رواية إسقاط ذكر مسألة الحساب وذكر ما فى الجانب الآخر. وكذا روى جعفر بن محمد والحسن إلا أنهما زادا أوله: بسم الله الرحمن الرحيم وقال: لا إله إلا الله محمد عبدى ورسولى.
وقال الكلبى: لوح من ذهب فيه حكمة ثلاث كلمات فقط: عجبا لمن أيقن بالموت كيف يضحك، وعجبا لمن أيقن بالرزق كيف ينصب، وعجبا لمن أيقن بتقلب الدنيا وأهلها كيف يطمئن إليها. وإذا كان هذا اللوح من ذهب فهو كنز مال وكنز علم أو تذكير.
{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } واسمه كاشح وكان من الأتقياء قيل: كان سياحا متعبداً وفى ذكر صلاح أبيهما إشارة إلى أنهما حُفظا فى كنزهما لصلاحه. قال ابن عباس والحسين بن على: حفظا بصلاح أبيهما.
وقال جعفر بن محمد: كان بين الغلامين والأب الذى حفظا به سبعة آباء.
قال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده فلا يزالون فى حفظ من الله تعالى وستر.
زاد بعض فى روايته عنه: وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله فلا يزالون فى حفظ الله ما دام فيهم.
قال سعيد بن المسيّب: إنى أُصلى فأذكر ولدى فأزيد فى صلاتى. وكان إذا رأى ولده قال: يا نبى والله لأزيدن فى صلاتى من أجلك رجاء أن تكون فى حفظ من الله تعالى وستر ويتلو هذه الآية.
قال يحيى بن إسماعيل بن سلمة: كانت لى أخت أسن منى وذهب عقلها وتوحشت وكانت فى غرفة فى أقصى سطوحنا بضع عشرة سنة. وكانت مع ذلك تحرص على الصلاة والطهر فبينما أنا ذات ليلة نائم إذا بباب بيتى يدق نصف الليل فقلت: من هذا؟
فقالت: كجه.
فقلت: أختى؟
قالت: أختك.
فقلت: لبيك.
فقمت وفتحت الباب فدخلت ولا عهد لها بالباب أكثر من بضع عشرة سنة.
فقلت: يا أختاه خيرا؟
فقالت: خير. أُتيت الليلة فى منامى فقيل لى: السلام عليك يا كجة.
فقلت: وعليك السلام.
فقال لى: إن الله تعالى قد حفظ أباك إسماعيل بن سلمة جدك وحفظ لأبيك إسماعيل؛ بإن شئتِ دعوت الله لكِ فيذهب ما بك وإن شئت صبرتِ لكِ الجنة فإن أبا بكر وعمر قد شفعا فيك إلى الله تعالى لحب أبيك وجدك إياهما.
فقلت: إن كان ولا بد من اختيارى أحدهما فالصبر على ما أنا فيه والجنة وإن الله لا يتعاظمه شئ ولو شاء أن يجمعهما إلىَّ فَعَل.
فقال لى: قد جمعهما لك فانزلى فنزلت فأذهب الله عنى ما كان بى.
وحكى أن بعض العلوية دخل على هارون الرشيد وقد هم بقتله فأكرمه وخلى سبيله فقيل له: بم دعوت الله حتى نجاك منه؟
قال: قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيين بصلاح أبيهما احفظى بصلاح آبائى.
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ } يا موسى.
{ أنْ يَبلُغَا أَشُدْهُمَا } العقل كمال الرأى. قيل: وذلك لثمانى عشرة سنة وسمى ذلك أشد لأنهُ شدة وقوة.
{ وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزهُمَا } لأن فى وقوع الجدار ظهور ذلك الكنز فيؤخذ وإذا أقامه لم يظهر الكنز من تحته حتى يكون الغلامان هما اللذين يخرجانه باطلاعهما عليه بما شاء الله كحفر لحاجة من الحوائج تحت ذلك الجدار أو كتابة أو وصاية.
{ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } مفعول مطلق مؤكد للجملة وعامله محذوف أى رحمهما ربك رحمة فحذف رحمهما على أن يكون اسم الله مجروراً متعلقاً بمحذوف نعت لرحمة أو مفعول مطلق لأراد ربك لأن إرادة الخير رحمة أو حال بمعنى مفعول أى مرحومين من ربك أو بتقدير مضاف أى ذوى رحمة.
ويجوز أن يكون مفعولا لأجله ناصبه أراد وإن قلنا ناصبه يبلغا أو يستخرجا فإنما يصح على عدم اشتراط اتحاد الفاعل وكذا إن قيل ناصبه محذوف أى فعلت ما فعلت رحمة من ربك إلا إن قدرنا: فعلت ما فعلت رحمة منى موجودة من الله أسند الإرادة فى قوله: { فأردت أن أعيبها } إلى نفسه لأنه المباشر لتصييرها معيبة وللتأدب مع الله لأنه ذكر العيب وأسند الإرادة إلى نفسه وإلى الله فى قوله: { فأردنا أن يبدلهما ربهما } لأن التدبيل بإهلاك الغلام وإهلاكه بيده وباتخاذ الله بدله وإسنادها على الله وحده فى قوله: { فأراد ربك } لأنه لا مدخل لغير الله فى بلوغ الصبيين أو لأن الثالثة فى الخير بخلاف الأولى فإنها عيب وشر والثانية فإنها ممزوجة أو أسند الأولى لنفسه لأنهما فى عيب فتأدب مع الله وعبر فى الثانية بصيغة الجماعة تنبيها على أنهُ من العلماء العظماء فى علم الباطن وعلم الحكمة وأنه لم يقدم إلى مثل هذا الفعل إلا لحكمة عالية وأسند الثالثة إلى الله سبحانه لأنها فى رعاية المصالح فى مال اليتيمين لصلاح أبيهما. وحفظ الأبناء فى أحوالهم لرعاية صلاح الآباء ليس إلا الله تعالى أو فعل ذلك فى المواضع الثلاثة لاختلاف حال العارف بالله فى الالتفات إلى الوسائط ففى الأولى يلتفت إلى واسطة الخارق وهو المخلوق وفى الثانية إلى المخلوق الواسط وإلى الله وفى الثالثة إلى الله.
{ وَمَا فَعَلْتُهُ } أى ما فعلت ما لم تستطع عليه صبرا فالهاء عائدة إلى ما فى قوله: { ما لم تستطع عليه صبرا } وهذا أولى من عدوها إلى ما ذكر أو إلى ما رأيت يا موسى ولو كان الماصَدَق واحدا.
{ عَنْ أمْرِى } عن اختيارى ورأيى بل عن إلهام من الله عز وجل، على القول بأنه غير نبى أو عن الوحى على القول بأنه نبى والأول أصح كما مر أو ما فعلت ذلك بمجرد قوتى بل بنصر الله وأمره لى بوحى أو إلهام.
ومبنى أفعال الخضر فى المواطن الثلاثة على أنه إذا تعارض ضرران وجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما وهى قاعدة ممهدة غير أن الشرائع فى تفصيله مختلفة فساغت أفعال الخضر فى شرعه لا فى شرع موسى وهذا النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وعليهما كما ساغ أكل المحرم من نحو الميت لدفع الموت بالجوع. وكما ساغ لدفعه قول: إلهين اثنين.
وقد قيل: إن المعنى إنما فعلت ذلك لتظهر رحمة الله تعالى لأنها بأسرها ترجع إلى معنى واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الأعلى.
وقد استدل مالك بخرق السفينة على جواز أخذ المال عن الجانى بدلا من حده لإصلاحه كما ذكره العلامة أبو يعقوب يوسف لى الدليل والبرهان وقد رددت على المستدل فى حاشيتى على ورقة أرسلها بعض الجربيين الفاطنين بمصر.
ومن فوائد هذه القصة: أن لا يعجب المرء بعمله ولو بلغ ما بلغ وفاق به الأولين والآخرين أو ساوى به الملائكة أو فاقهم من علم أو عمل دينى أو دنيوى وأن لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعل فيه سرا لا يعرفه فإنه ولو كان منكرا فإنه يرخص له مقدار أن يتثبت أنه منكر فينهى عنه وإن تثبت حرم عليه التأخير فى النهى ولو لحظة بحسب الإمكان وأن يداوم على التعلم ويتدلل لمعلمه فى ما لا يعلمه ولو فاق معلمه فى غير تلك المسألة التى يتعلمها. فإذا ظهرت للتلميذ مسألة لم تظهر لشيخه وجب على شيخه التذلل له فى حين تفهمه إياها منه لأن ذلك هو الإنصاف وقبول الحق وحرم عليه استخراجها منه بتخيل أو كبر أو أن يراعى المتعلم وغيره الأدب فى المقال، وأن ينبه الإنسان المجرم على إجرامه بلين إن عرف أنه يرتدع به أو لم يعرف وبإغلاظ إن علم أنه لا يرتدع أصلا أو لا يرتدع إلا بإغلاظ.
وقيل: إذا لم يعلم أنه لا يرتدع لا يجب عليه نهيه ويتسامح للمجرم بعدم المهاجرة عنه حتى يتحقق إصراره على إجرامه فليهاجر عنه.
وقد روى عن على وغيره أن موسى عليه السلام لما أراد فراق الخضر قال له الخضر: استودعتك الله.
قال له موسى: أوصنى.
فقال له الخضر عليه السلام: لا تطلب العلم لتحدِّث به واطلبه لتعمل به، واجعل همك فى معادك ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن الخوف فى أمنك، ولا تيأس من الأمن فى خوفك، وتدبر الأمور فى علانيتك، ولا تذر الإحسان فى قدرتك ولا تكن مَشْاءً فى غير حاجة. وإياك واللجاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعيِّر الخطائين بخطاياهم، وابك على خطيئتك ولا تؤخر عمل اليوم إلى غد، ولا تنس عيوبك.
ثم قال: يا موسى أتلومنى على خرق السفينة وكسرها مخافة غرق أهلها ونسيت نفسك حين كسرت الألواح، وتلومنى على قتل الغلام ونسيت نفسك حين قتلت القبطى بغير أمر، وتلومنى على ترك الأجرة على إقامة الجدار ونسيت نفسك حين سقيت غنم شعيب لله الملك الجبار وليس هذا الأخير عيبا بل أمر حسن مرغب فيه.
وروى أن موسى جاء مع فتاه إلى الخضر من التيه ورجعا منه إليه التيه.
{ ذَلِكَ } الذى قررته عليك يا موسى { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ } أصل تسطع تستطع حذفت منها التاء ويقال أيضا فى الآخر اسطاع بحذف التاء وذلك تخفيف لقرب مخرج التاء من الطاء { عَلَيْهِ صَبْراً } تقدم مثل ذلك. والله أعلم.
فصل
اختلف: الخضر حى أم ميت؟ قال الأكثرون: حى واتفقت عليه الصوفية وحكايات رؤيته ووجوده فى مواضع الخير لا تحصر وبذلك تقول العامة. وهو وإلياس حيان يلتقيان فى كل سنة فى الموسم يأخذ كل منهما من شعر الآخر بفتح العين وهما معمَّران مجوبان عن الأبصار إلا من شاء الله.
وروى محمد بن المتوكل عن سمرة بن عبد الله بن هوازان: الخضر من ولد فارس وإلياس من بنى إسرائيل يلتقيان كل عام فى الموسم قال عمرو بن دينار: إنهما حيان ما دام القرآن فى الأرض فإذا رفع ماتا وكان السبب فى حياة الخضر أنه شرب من عين الحياة يوم دخل هو وذو القرنين الظلمة فطلب عين الحياة وكان على مقدمة ذى القرنين على العين فاغتسل وشرب منها وصلى شكراً لله تعالى وأخطأها ذو القرنين.
وقال آخرون: إنه ميت لقوله تعالى:
{ { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } وقوله صلى الله عليه وسلم "بعد ما صلى العشاء ليلة: أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى على رأَس مائة سنة أحد ممن هو اليوم على ظهر الأرض ولو كان الخضر حيا لكان لا يعيش بعدها" . والله أعلم:
فصل
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد رائحة طيبة حين أسرى به قال: يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة.
قال: كان ملك عظيم فى الزمان الأول له سيرة حسنة فى أهل ممكلته وكان له ابن ولم يكن له ولد غيره فسلمه للمؤدب فأدبه وكان بين منزله ومعلمه رجل عابد يمر به فأعجبه حاله فألفه وكان يجلس عنده والمعلم يظن أنه فى منزل أبيه وأبوه يظنه أنه عند المعلم حتى شب ونشأ فى العبادة.
فقالوا لأبيه: ليس لك ولد غيره لو زوجته فعرض عليه التزوج فأبى ثم عاوده فقال: نعم: فزوجه جارية من بنات الملوك وزفت إليه فقال لها: إنى مخبركِ بأمره إن سمعتِ وكتمتِه صرف الله عنكِ شر الدنيا وعذاب الآخرة وإن أفشيتهِ عذبكِ الله فى الدنيا والآخرة فإنى رجل مسلم ولست على دين أبى ولست من حاجتى فإن رضيتِ أن تقيمى معى وتتابعينى على دينى فذلك وإن أبيتِ فالحقى بأبيك وأُمك.
قالت: بل أقيم معك فلما أتت عليها مدة قالوا لأبيه: ما نظن ابنك إلا عاقرا ما يولد له فسأله أبوه فقال: ما ذلك بيدى وإنما ذلك بيد الله يؤتيه من يشاء. فدعا المرأة فردت عليه مثل ما رد عليه ولده.
فمكث أبوه زمانا ثم دعا ابنه فقال: أحب أن تطلق أمرأتك هذه وأزوجك امرأة غيرها ولودا لعلك ترزق منها ولدا فكره ذلك وألح عليه حتى فرق بنيهما وزوجه امرأة شابة فعرض عليها الخبر الأول فقالت: أقيم عندك فبقيا زماناً ثم إن أباه استبطأ الولد فدعاه فقال: ليس يولد لك.
فقال: ليس ذلك بيدى ولكن بيد الله تعالى فدعا امرأته وقال: أنت امرأة شابة ولود وقد كنت ولدتِ عند زوجكِ ولستِ تلدين من ابنى.
فقالت: ما مسنى منذ أخذنى وكذلك المرأة التى قبلى. فدعاها وسأَلها فقالت مثل ذلك فدعا ابنه وعيّره وعنفه ففزع ولم يأمن على نفسه فخرج من عنده وهام على وجهه.
فندم أبوه على ما فعل وأرسل فى طلبه مائة رجل فى طرق مختلفة شتى فأَدركه عشرة فى جزيرة من جزائر البحر فقال لهم: إنى أقول لكم شيئاً فإن كتمتموه كشف الله عنكم شر الدنيا وعذاب الآخرة وإن أفشيتم سرى عذبكم الله فى الدنيا والآخرة.
قالوا له: قل ما شئت.
قال لهم: لست على دين أبى ولا تخبروه بمكانى ولا تخبروا غيره بمكانى فلما دخلوا عليه قال تسعة: وجدناه وقال: كيت وكيت فخلينا عنه. ولما دخل العاشر قال: ما لى به علم. والتسعة قالوا: بل ظفرنا به وإن شئت أتيناك به.
قال: ارجعوا فى طلبه وائتونى به.
فخاف الخضر أن يظفروا به فانتقل إلى موضع آخر فرجعوا وقالوا: لم نجده فقتلهم: وقال لامرأته: ألستِ فعلت بابنى هذا حتى هرب فقتلها. وسمعت امرأته الأولى فخافت من القتل فهربت.
فقال العاشر: ما يؤمننى أن أقتل كالتسعة فهرب فأتى قرية فإذا المرأة الهاربة فى تلك القرية وكانت تحتطب فقلت يوماً: باسم الله فسمعها الرجل فقال لها: مَن أنتِ؟ فأخبرته.
فقال لها: يا هذه أنا العاشر فهل لك أن أتزوجك فنعبد الله حتى نموت؟
فقالت: نعم. فتزوجها ثم انطلقا حتى أتيا قرية فيها بعض الفراعنة فأَخذا بيتاً من قصب وقال لها: إذا متُّ فادفنينى فى هذا البيت، وإن متِّ دفنتك فيه ومن تأخر منا أوصى أن يهدم عليه البيت فلا نقبر مع هؤلاء فمات ودفنتْه.
ثم بلغ فرعونَ زمانهم أنها تعبد الله وتوحّده فأمر أن يؤتى بها فأتى بها فأمرها أن ترجع عن دينها فأبت فأمر بِقدر نحاس فملئت زيتا وغلت غليانا شديدا وأمر بولدها الأكبر وألقى فى القدر فمات وكذا الثانى وكان فى حجرها ولد رضيع فأرادوا إلقاءه فى القدر فرقّت ونازعتهم فيه فتكملم الرضيع وقال لها: اصبرى فإنا جميعا فى الجنة.
فلما أرادوا أن يلقوها قالت: لى إليكم حاجة.
قالوا: ما هى؟
قالت: إذا رميتمونيى فى القدر فضموا ما فيها من عظامنا فى بيتنا واهدموه علينا ففعلوا فلما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم وجد رائحة طيبة فقال: ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟
فأخبره جبريل بقصتهم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه رائحتهم.
ثم إن قوما من تلك المدينة ركبوا فى البحر لتجارة ورمت بهم الأمواج فانكسرت سفينتهم فأغرقوا إلا رجلين على لوح فرمت الأمواج بهما إلى جزيرة من جزائر البحر فخرجا يجولان فى الجزيرة فإذا هما بالخضر عليه السلام وعليه ثياب بيض وهو قائم يصلى فجلسا حتى فرغ من صلاته فالتفت إليها وقال: مَن أنتما؟
فقالوا: نحن من مدينة كذا وكذا وخرجنا من هذا البحر فانكسرت بنا السفينة ودفعتنا الأمواج إلى هذه الجزيرة.
فقال: فاختارا أن تقيما فى هذا الموضع وتأتيكما أرزاقكما وإن شئتما أردكما.
فقالا: بل تردنا إلى منازلنا.
فقال: على أن تعطيانى عهد لله وميثاق أنكما لا تخبران بشئ مما تريانه فأعطياه العهد والميثاق.
فنظر فإذا سحابتان فدعاهما وسألهما فقالت كل واحدة: أريد بلد كذا وكذا فدعا السحابة التى تريد بلدهما فقال: احملى هذين حتى تضعهما على سطح دورهما.
فعزم أحدهما على الكتمان ونزل إلى منزله وعزم الآخر على الإذاعة فنزل من سطحه وخرج من بابه وانطلق إلى باب الملك ونادى بالنصيحة فأُدخل على الملك وقال: نصحتك. رأيت ابنك فى موضع كذا وصنع بنا كذا وكذا.
فقال: مَن يعلم ذلك؟
فقال: فلان فبعث إليه وسأَله عما قال فأنكر وقال: أما ركوب البحر فقد ركبنا جميعاً فانسكرت بنا السفينة وصرنا على لوح واحد فلم تزل الأمواج تضربنا حتى صرنا إلى الساحل فخرجنا من البحر فلم نزل نعيش بالشجر والنبات والثمر ترفعنا أرض وتضعنا أخرى حتى أتينا منازلنا.
فقال الآخرة للملك: فعلى رِسلك حتى آتيك به وتعلم أنه هذا قد كذب فبعث معه رجالا فركبوا البحر حتى أتوا الجزيرة فطلبوا الخضر فلم يجدوه فيها وردوا الرجل إلى الملك وقالوا: هذا أكذب خلق الله فما رأينا مما قال شيئاً فقتله وخلى عن الآخر. وما زال أهل تلك المدينة يعملون بالمعاصى فغضب الله عز وجل عليهم فبعثنى فأدخلت جناحى تحتها فاقتلعتها ورفعتها حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديوك فقلبتها فجاءت تهوى بمن فيها ولم ينج منها إلا رجل وامرأة فجعلا يدوران فى حدود المدينة فلا يلقى كل واحد منهما غير صاحبه فلما كثر ذلك اعتزلا.
فقال الرجل: أيتها المرأة قد رأيتِ ما أصاب القوم وإنه لم يفلت غيرى وغيرك فعاهد كل منهما صاحبه على الكتمان وقال: هل لك أن تتزوجينى فخرج إلى مدينة من هذه المدائن فأكتسب عليك وتكسبين علىَّ حتى يقضى الله من أمره ما يشاء؟
ففعلا وذهبا إلى مدينة لبعض الفراعنة قيل: هو فرعون موسى فاتخذا لأنفسهما بيتا وولد لهما أولاد وتلطفت المرأة لآل فرعون فحضنت عندهم فبينما هى ذات يوم تسرّح رأس بنت الملك إذ سقط المشط من يدها فقالت: باسم الله تعس مَن كفر بالله. فقتلها على ما فصّلْتُه فى محله هى وزوجها وأولادهما فى قِدر نحاس مغلاة بالزيت إذ أبوا إلا الإسلام. فكل من الرائحة تفوح من حيث جمعوا عظامها. والمشهور أنها هى الرائحة التى بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فسأل جبريلَ عنها فأخبره عليهما السلام ولا تزول تلك الرائحة إلى يوم القيامة.
وكان الخضر فى أيام أفريدون الملك على قول عامة أهل الكتاب.
وقيل: كان على مقدمة عسكر ذى القرنين الأكبر الذى كان فى أيام الخليل عليه السلام وهو الذى قضى ببئر التسعة وهى بئر احتفرها إبراهيم عليه السلام لماشيته فى صحراء الأردن وإن قوما من أهل الأردن ادعوا الأرض التى احتفرها إبراهيم عليه السلام.
وقيل: إن ذا القرنين الذى على عهد إبراهيم وكان الخضر على مقدمته هو أفريدون الملك.
وزعم بعضهم أن الخضر من ولد مَن آمن بإبراهيم واتبعه على دينه ببابل.
وروى ابن إسحاق عن وهب بن منبه أن الخضر هو أرميا بن خلقيا من سبط هارون بن عمران وهو الذى بعثه الله فى أيام قاسية بن أرمص ملك بنى إسرائيل ورُدَّ بأن قاسية بن أرمص كان فى عهد كنساسب بن هرارست وفى أيام بُخْتَ نَصَّر وبين كنساسب وبين أفريدون من الدهور ما لا يجهله ذو علم بأخبار الناس وأيامهم وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن صاحب موسى بن عمران هو الخضر.
وقد يقال: كان على مقدمة ذى القرنين الأكبر صاحب إبراهيم وشرب من ماء الحياة ولم يبعث فى أيام إبراهيم ومَن بعده إلى أيام قاسية.
وعن أنس بن مالك:
"خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بصوت يجيبنى من شِعب فقال: فانطلق وأبصر هذا الصوت.
فانطلقت فإذا رجل يصلى تحت شجرة وهو يقول: اللهم اجعلنى من أمة محمد المرحومة المغفور لها المستجاب لها.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمته بذلك.
فقال: انطلق فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤك السلام ويقول لك: مَن أنت؟
فأتيته فأَعلمته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: اقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له: أخوك الخضر يقول لك: ادع الله أن يجعلنى من أمتك المرحومة"
.
وروى أبو أمامة الباهلى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أحدثكم بحديث.
قالوا: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: بينما الخضر يمشى فى سوق من أسواق بنى إسرائيل إذ لقيه مكاتَب فقال له: تصدَّق علىَّ بارك الله لك.
فقال: آمنت بالله ما قدَّر من أمرى سيكون ما معى من شئ أعطيكه.
فقال له السائل: أسألك بوجه الله إلا ما تصدقت علىَّ.
قال له الخضر: آمنت بالله ما يقضى من أمرى سيكون ما معى شئ أعطيكه.
فقال الرجل: تصدَّق علىَّ بارك الله لك فإنى أرى الخير فى وجهك رجوت الخير من فعلك.
فقال له الخضر: آمنت بالله ما يقضى الله من أمرى سيكون ما معى شئ أعطيكه إلا أن تأخذ بيدى وتدخلنى السوق وتبيعنى.
قال الرجل: وهل يكون مثلك يباع؟
قال: الحق أقول: سألتنى بعظيم سألتنى ربى. قد أجبتك فخذ بيدى وأدخلنى السوق وبعنى.
فأدخله السوق وباعه بأربع مائة درهم فلبث عند المتباع أياما لا يستعمله فى شئ.
فقال له الخضر: استعملنى.
فقال له: إنك شيخ كبير وأكره أن أشق عليك.
قال: لا يشق ذلك علىَّ.
قال: فقم أنقل هذه الحجارة من ها هنا إلى ها هنا. وكانت الحجارة لا ينقلها إلا شاب فى يوم تام. فقام فنقلها فى ساعة واحدة وأمده الله تعالى على نقلها بملك من الملائكة فتعجب الرجل منه فقال له: أحسنت.
ثم عرض للرجل سفر فقال للخضر عليه السلام: إنى أريد أمينا ناصحا فاخلفنى فى أهلى.
قال: نعم إن شاء الله تعالى فاستعمل فى شئ.
قال: أكره أن أشق عليك.
قال: لا يشق ذلك علىَّ.
قال: اضرب لَبِناً لقصر أريده ووصفه له ثم خرج لسفره فلما قضى حاجته ورجع من سفره إذا هو بالقصر قد شُيِّد بنيانه على ما أراد. فازداد منهُ تعجباً وقال له: مَن أنت؟
قال: أنا المملوك الذى اشتريت.
قال: سأَلتك بوجه الله إلا ما أخبرتنى مَن أنت؟
فقال له الخضر: إن هذا القسم هو الذى أوقعنى فى العبودية. أنا الخضر. سألنى سائل بوجه الله أن أعطيه فلم يكن معى شئ أعطيه فأمكنته من نفسى حتى باعنى منك. وبلغنى أنه من سُئل بوجه الله العظيم فرد سائله وهو يقدر على حاجته وقف يوم القيامة بين يدى الله عز وجل ليس على وجهه لحم ولا جلد.
قال: فانكب الرجل عليه وهو يقول: بأبى أنت وأُمى شققتُ عليك ولم أعرفك فاحكم على فى مالى وأهلى وأحبِّ الأشياء إليك.
قال: أحب الأشياء إلىَّ أن تخلى سبيلى أعبد ربى. وكان الرجل كافراً فأسلم على يديه وأعطاه أربع مائة دينار وخلى سبيله"
.
قيل: فأوحى الله إليه: قد نجيتك من الرق وأسلم الكافر وأعطاك مكان كل درهم دينارا ولا يخسر مع الله أحد والله أعلم.