خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً
٩٦
-الكهف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ آتُونِى زُبَرَا الحَدِيدِ } جعلوها آتية إلىّ بأن تأتونى بها كأنه قال: أعطونى زبر الحديد أى قطعه الكبار والقطعة زُبره بضم الزاء وإسكان الباء.
وإن قلت: أليست زبر الحديد وللقِطر مالا؟
قلت: بلى ولكنه مال مردود فى منافعهم ومنافع العباد لا مال يأخذه ذو القرنين ويرجع به متملل له والمال الذى جعلوا له إما يريدون أن يأخذه ويذهب به أو يترتب عليهم أبدا فى ذمتهم لكل سنة مثلا كذا وكذا والإعانة بآلة ليست خراجا بل إعانة بالقوة ومناولة.
وقد قرأ أبو بكر { ردماً ائتونى زبر الحديد } أمر من الإتيان أى بزبر الحديد فيكسر تنوين ردما الساكن ونصب على نزع الخافض على هذه القراءة.
ويحتمل أن يريد بالقوة القوة التى أطلبها منكم ولو نوع مال لكن ليس خراجا لى.
ويحتمل أن يأتوه بالزبر والقِطر فيشتريه وجملة آتونى بدل من أعينونى أو متسأنفة جوابا لسؤال كأنهم قالوا: ما تلك القوة؟
قال: عمال وصناع وآلة.
فقالوا: وما تلك الآلة؟
فقال: أتونى زبر الحديد والحطب فآتوه إياها.
{ حتَّى إذَا سَاوَى بَيْن الصَّدَفَيْنِ } أى الجانبين أى جانبى الجبلين والمراد أنه ساوى بينهما ببناء الزبر والحطب أى جعل ما بينهما مساويا بهما فى العلو وذلك من الصدف وهو الميل لأنه كلا من الجانبين منعدل عن الآخر ومنه التصادف للتقابل والجانبان أيضاً متقابلان.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بضم الصاد والدال. وقرأ أبو بكر بضم الصاد وإسكان الدال.
وقرئ بفتح الصاد وضم الدال وذلك لُغات بمعنى.
وقرئ سَوَّى بفتح السين وتشديد الواو وإسقاط الألف قبلها.
وقرئ سُووِىَ بضم السين ممدودة بواو ساكنة وبعد الواو واو مكسورة بعدها ياء مفتوحة وعليها فالغائب مستتر أى سُووِىَ الخلل بينهما.
وقيل بجواز حذف الموصول مع بقاء صلته ولو لم يذكر مثله، وجواز حذف النائب أى سووى ما بين الصدفين ويجوز كون بين بمعنى الفصل أَى ساوى فصلهما أى وصله.
قال بعضهم: بُعد ما بين الصدفين فرسخ وذكر الكوفى أنه مائة فرسخ حفره حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب جعله كالعجين للصخر والبناء من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما بتركيب الحطب والفحم على الحديد والحديد عليهما وعَرْض ذلك التركيب خمسون ذراعاً وطوله إلى جهة السماء مائة ذراع وأمرهم بالفتح كما قال الله عز وعلا: { قَالَ انْفُخُوا } فى النار بالمنفاخ فنفخوا.
{ حَتَّى إذَا جَعَلَهُ } بنفخهم أى جعل بين الصدفين وهذا دليل على تصريف بين حيث رجع إليها ضميراً منصوباً على أن مفعول به إلا أن يقال: إن بين هنا بمعنى الفصل أو يرد الضمير إلى الخلل المقدر أو الموصول المقدر على ضعف أو إلى الحديد فإن زبر الحديد حديد. وإنما أضيفت للجنس إضافة عام للخاص أو إلى المنفوخ فيه المدلول عليه بانفخوا.
{ نَاراً } مبالغة كقولك: زيد أسد أو على نية أداة التشبيه أى مثل نار أو كنار فى شدة الحر فإن الحديد المذاب أخو النار أو نار حقيقة انظر إلى اشتعال الفحم والحطب وإلى حمرة الحديد وصيرورته جمرة حمراء.
{ قال آتَونى } أى آتونيه وهذه الهاء التى قدرت عائدة إلى قِطرا فى قوله: { أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } فإنه تنازعه آتونى وأفرغ وأعمل فيه الثانى وأعمل الأول فى ضميره وحذف لأنه فضلة وهو تلك الهاء التى قدرت وباب التنازع مما يجوز فيه عود الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة ولما كان عوده إلى متأَخر لفظا ورتبة على خلاف الأصل وكان صعبا على الإنسان كان يحذف إذا كان فضلة ولو كان العامل فى قِطر هو الأول لأعمل أفرغ فى ضميره وأثبت به أن يقال: أفرغه بهاء عائدة إلى متأَخر لفظا لا رتبة إذ يتوهم بعدم إثباته حينئذ أن أفرغ عامل فى قِطرا وبذلك تمسك الكوفيون على ترجيح إعمال التالى للظاهر والكوفيون لا يعتبرون هذا التوهم فرجحوا الأول. والقِطر: النحاس المذاب لأنه يقطَّر وهاء عليه عائدة إلى ما عادت عليه هاء جعله.
وقرأ حمزة وأبو بكر قال ايتونى بهمزة الوصل من الإتيان بعدها ياء مبدلة من همزة أنى أى ائتونى به أى بقِطر. والإفراغ: الصب. فلما آتوه القِطر أفرغه على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصارا جبلا صلدا أكلت النار الحطب والفحم وصار النحاس المذاب مكانهما وذلك معجزة عظيمة لأن الزُّبرة الواحدة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر أحد على القرب منها فأمكنهم الله من العمل قرب ذلك بالنفخ والإفراغ وكان كالبُرْد المحبَّر طريقة سوداء وطريقة حمراء.
وروى
"أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره بالردم فقال: صفة. قال: يا رسول الله انطلقت إلى أرض ليس لأهلها إلا الحديد يعملونه فدخلت فى بيت فلما كان وقت الغروب سمعت ضجة عظيمة أفزعتنى فارتعدت منها فقال صاحب البيت: لا بأس عليك؛ إن هذه الضجة أصوات قوم يذهبون هذه الساعة من خلف هذا الردم تريد أن تنظر إليه، فإذا لَبِنُه مثل الصخرة ومساميره مثل جذوع النخل كله من حديد كأنه البُرْد المحبَّر طريقة سوداء وطريقة حمراء" .
وقال ابن عطية فى روايته: "طريقة صفراء وطريقة سوداء وطريقة حمراء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت قد رأيته. من سره أن ينظر إلى مَن رأى الردم فلينظر هذا الرجل" . وذهابهم وقت الغروب إنما هو إلى منازلهم يعملون فى تثقيب هذا السد إلى الغروب ليجيئوا إلى هذه الجهة كل يوم فيرده الله كما كان بعد أن كادت تضئ منه الشمس ويقولون: عدا نفتحه وإذا أراد الله عز وجل ألقى فتحه على لسان كبيرهم على الفتح أن يقول: غدا نفتحه إن شاء الله فيجدونه كما تركوه فيثقبونه.
وروى عن بعض أنه بناه من صخور مرتبطة بكلاليب حديد وما بقى أجوف بين الصخور أفرغ فيه النحاس المذاب.
وروى أنه لما بنى ذو القرنين السد حمد الله وأثنى عليه ونام فوقه فصعد حيوان من البحر سد الأفق واستعلى على السد برمية سهم فظنوا أنه يريد ابتلاعهم ففزعوا وضربوه بالسهام فلم يلتفت إليهم فانتبه فقال: ما لكم؟
فقالوا: انظر ما حل بنا وكان متوجها إليه.
فقال: ما كان لله ليأخذ نفسا قبل انقضاء أجلها وقد منعنى من العدو وما كان الله ليسلط علىَّ دابة من البحر تهلكنى وقطعت عمرى فى مصالح عباده بتوفيقه فدنا منه فقال: أيها الملك أنا حيوان من هذا البحر وقد رأَيت هذا السد بُنى وخرب سبع مرات ولم يرد على ذلك، ثم غاب فى البحر. تبارك مَن له هذا الملك العظيم لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وروى أنهُ لما فرغ من السد سر سرورا عظيما وأمر بسرير فنصب له على السد ورقى عليه وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا رب الأرباب ومسهل الصعاب أنت ألهمتنى أسد هذا المكان صوناً للبلاد وإراحة للعباد وقمعاً لهذا العدو المطبوع على الفساد فأَحسن لى المثوبة يوم ورُدَّ عربتى وأحسن أوبتى. ثم سجد سجدة أطال فيها ثم استوى على فراشة واستلقى على ظهره وأغفى غفوة فطلع من البحر طالع سد الأفقى بطوله وارتفع كالعمامة العظيمة السوداء فسد الضوء عن الأرض فبادرت الجيوش والمقاتلة قسيهم واشتد الصياح فانتبه ونادى: ما شأنكم؟
فقالوا: الذى ترى.
فقال: امسكوا عن سلاحكم وكفوا لم يكن الله عز وجل ليلهمنى لما أراد ويغربنى عن أهلى ومسقط رأسى فى البلاد لمصالح العباد مدة عشرين سنة وستة أشهر ثم يسلط على بهيمة من بهائم البحر المسجور. فكفوا.
وأقبل المطالع نحو السد وارتفع عليه رمية منهم ثم قال: أيها الملك أنا ساكن هذا البحر وقد رأيت هذا المكان مسدودا سبع مرات وفى وحى الله عز وجل: أنا ملكا صورته صورتك واسمه اسمك يسده سدا مؤبدا فأحسن الله معونتك وأجزل مثوبتك ورد غربتك وأحسن أوبتك فأنت ذلك الملك الهمام وعليك من الله السلام ثم غاب عن بصره فلم يعلم كيف ذهب والله أعلم.
وفى جبل يأْجوج ومأْجوج حيات وأفاعٍ عظيمة جدا ويسير فى هذا الجبل فى النادر من يريد أن ينظر ما وراءه فلا يصل إلى طرفه الأعلى ولا يمكنه الرجوع فيهلك وربما رجع من ألفٍ واحدٌ فيخبر أنه رأى خلف الجبل نيرانا عظيمة وطلوعه من هذه الجهة ممكن وإنما يمتنع من داخل لملاسته وقيامه كالحائط.
وكان يأْجوج ومأْجوج أخوين شقيقين تناسلا، وكانت لهم غارات على من جاورهم قبل وصول ذى القرنين إليهم فأخلوا كثيرا من البلاد وأهلكوا غزيرا من العباد، فكانت منهم طائفة عفيفة ينكرون ذلك عليهم فلما وصل ذو القرنين إليهم أقام بجيوشه عليهم وشكت الطائفة العفيفة إليه ما فعلوا من البلاد والأمم المجاورة من الفساد وأنهم على خلاف مذهبهم وبريئون من معتقدهم وشهدت لهم قبائل كثيرة بذلك فمال إليهم وتركهم خارج السد وأقطعهم تلك الأراضى ليعمروها ويأكلوها وهم الخزلجية والسنية والخرجز والبغرغر والكماكية والحاجانية والأنكش والتركش والخفشاج والخيج والغر والتلغى وأمم عظيمة يطول ذكرها.