خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً
٧١
-مريم

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإنْ } أى ما { مِنْكُمْ } نعت لمحذوف، أى ما أحد منكم. { إلاّ وَارِدُهَا } أى جهنم. وقدر بعضهم القَسم أى والله إنْ منكم إلا واردها، والخطاب للإنسان على طريق الالتفات من الغيبة للخطاب، كما تدل له قراءة ابن عباس وعكرمة وجماعة: وإن منهم. أو يقدر: قل يا محمد. فلا التفات، أو الخطاب للناس بلا التفات.
وإذا جعلناه للناس جميعاً أو للإنسان المؤمن والكافر، فمعنى ورود المؤمنين إياها الانتهاء إليها ورؤيتها والعلم بها، من غير دخول، كقوله جل وعلا:
{ ولما ورد ماء مدين } ولم يقل أحد: إنه دخل الماء. وقول زهير:

ولما وردنا الماء زرقا حمامة وضعنا عصا الحاضرِ المتخيِّم

وقول امرئ القيس:

فأوردها ماء قليلا أنيسه يحاذرنَ عَمْراً صاحب العترات

وأما ورود الكافر فورود دخول، كذا قال أصحابنا رحمهم الله. وفيه أن الورود إن كان حقيقة فى وصول الشئ أو رؤيته أو علمه كما هو فى الدخول لزم استعمال الكلمة فى معنيين.
وقد يحاب بجواز استعمالها فيهما كما هو قول وبأن المراد حقيقة الورود بقطع النظر عن كونه وصولا أو دخولا وإن كان مجازاً فى الوصول أو الرؤية أو العلم لزم استعمال اللفظ فى حقيقته ومجازه وهو ممنوع لكن أجازه مجيزون.
وأيضاً يجاب بأَن ذلك من عموم المجاز واستعمال الورود فى العلم أو الرؤية إذا قلنا: إنه مجاز فعلاقته اللزوم لاستلزام الوصول إلى الشئ أو رأيتِه العلمَ به. واستعماله فى الحضور إن قلنا مجاز فعلاقته السببية مع القرب والتجاور؛ فإن حضور الشئ سبب لدخوله، أو اللزوم، فإن حضوره يستلزم دخوله استلزاماً بيانيا.
والصحيح أن الورود حقيقة فى الحضور وفى الدخول أيضاً.
وإن قلت: لو كان الورود ورودَ حضور أو رؤيةٍ أو علمٍ لا ورودَ دخولٍ لم يقل: ونذر الظالمين.
قلت: إذا دخل الظالمون جهنم وتُركوا فيها ورآها المؤمنون من غير دخول فقد نجى الله المؤمنين وترك الظالمين فيها.
ولك أن تقول: كل مِن ورود المؤمن والكافر ورود حضور ثم ينجِّى الله المؤمنين من دخولها، ويُدْخِل الكافرين فيها ويتركهم فيها جثيا كما كانوا حولها، ففى ذلك حذف أى ندخلهم ونذرهم. وما تقدم فى الورود مذهب ابن عباس.
وروى عنه وعن ابن مسعود وخالد بن معدان وابن جريج والحسن وجابر ابن عبد الله وغيرهم أن الورود ورود دخول ونسب للأكثر، يدخلها المؤمن والكافر خامدة، فيعبرها المؤمنون، ثم تَحِرّ للكافرين.
وقيل: يدخلها المؤمن والكافر، باردة للمؤمن حارة للكافر فى حال واحد.
"وسأل جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعض لبعض: أليس وعدَنا ربنا أن نرد النار؟ فقال لهم: قد وردتموها وهى خامدة" . وعن ابن عباس: كأنها إهلة أى رمل.
وعن جابر:
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الورود: الدخول لا يبقى بار ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن برداً وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى إن للنار ضجيجا من بردها" . والخمود - بالخاء المعجمة والجمود بالجيم - بمعنى واحد هنا وهما مرويان.
وعنه صلى الله عليه وسلم:
"من له ثلاثة أولاد لم تسمه النار إلا تحَلةَ القَسَم" . يعنى بتحلة القَسَم { وإن منكم إلا واردها }. وفيه دليل على تقدير القسم كما مر تقديره أو أراد بالقسم ما أخبر الله به؛ فإن إخباره لتحققه كالإقسام.
وعن المهدوى عن قتادة: يَرِدُ الناسُ جهنم وهى سوداء مظلمة فأَما المؤمن فتضئ له حسنته فينجو وأما الكافر فتوبقه سيئاته وتحبسه.
روت حفصة عنه صلى الله عليه وسلم:
"لا يدخل النارَ أحد من أهل بدر والحديبية قالت: فقلت: يا رسول الله وأين قول الله جل ثناؤه: { وإن منكم إلا واردها }؟
فقال صلى الله عليه وسلم بانتهارٍ: مَهْ أى كفى. أفلم تسمعيه يقول: { ثم ننجى الذين اتقوا }"
فهذا منه إشارة إلى دخول الكل وأن المؤمن يخرج منها بلا ضرر.
وقد يقال: إن مراده أن المؤمن لا يدخلها أصلا، وإنه ينجَّى من دخولها. وفى رواية: يقول أهل الجنة: ألم تعدنا يا ربنا أن نَرِد النار؟ فيقال: بلى وقد وردتموها خامدة.
وفى الحديث:
"تقول النار للمؤمن: جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبى" .
وعن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس: ليس الورود الدخول. فقال ابن عباس: بلى فتلا: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } أدخلها هؤلاء أم لا؟ والله أنا وأنت ندخلها، وأرجو أن يخرجنى منها ولا يخرجك لتكذيبك بالآية. وهذا منه زجر لنافع وإلا فنافع غير مكذب بالآية لكن خالفه فى التفسير.
وفى رواية: أما أنا وأنت فسندخلها وانظر هل نخرج منها أم لا؟
وإن قلت: فى دخول المؤمنين النار تخويف وزجر فكيف يدخلونها؟
قلت: فإن قال بدخولهم إما أن يقول: يدخلونها وهم لا يشعرون كما هو رواية أو يدخلونها وهم يعلمون ولكن يعلمهم الله أنها لا تضرهم.
وأيضاً تقول النار للمؤمن: جز فقد أطفأ نورك لهبى إذا قارَب الدخول وإذا دخلها. كما لا تجد الملائكة ألمها.
وفائدة دخولها زيادة سرورهم إذا علموا الخلاص منها وإذا خلصوا، وزيادة غم أهل النار إذا رأوا خلاصهم، وزيادة التذاذ أهل الجنة بنعيم بالجنة إذا شاهدوا بقاء الكفار فيها.
وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود مع الجهل بالخروج.
ولما نزلت الآية ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى فجاءت امرأته فبكت وجاء الخادم فبكى وجاء أهل البيت فبكوا. فلما انقطع بكاؤه فقال: يا هؤلاء ما يبكيكم؟
قالوا: لا ندرى لكن رأيناك تبكى.
قال: آية نزلت يُنبئ فيها ربى أنى وارد النار ولم ينبئ أنى خارج.
وفى رواية: ولم ينبئ أنى صادر عنها. فلا دليل فيها على أن الورود الدخول لإمكان إرادته أن يبكى من حضوره حولها أو عدم علمه أنه ينجو أم لا.
واحتج أيضاً الذين فسروا بها الدخول بقوله تعالى:
{ فأوردهم النار } قال أبو القاسم البرادى: ولا حجة لهم فيه لأنه يلزم أن يكون فرعون هو الذى أدخل قومه النار.
قلت للخصم: إن يَلزم أنه أدخلهم فإنه أضلهم، فهو سبب فى دخولهم.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: { ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا }.
قال أبو القاسم: وهذا أيضا ساقط؛ فإن مجرور "فى" يصلح أن يكون ضميرا لعرصة القيامة أى أماكنها. والقنطرة: الجسر.
قلت: وهذا من أبى القاسم فى هذا المقام إثبات للجسر الذى على النار الذى يقول قومنا: إنه أدق من الشعرة وأمضى من السيف ولا ضير فى ذلك ولو ادعى بعض الأصحاب شرك القائل به أو نفاقه وأنه ليس منا، وفى الشيخ هود مثله كما يأتى - إن شاء الله.
واستدل أبو القاسم على أن الورود غير الدخول بقوله سبحانه وتعالى:
{ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مُبعدون لا يسمعون حسيسها } وقوله جل وعلا: { ربنا إنك مَن تُدْخِلِ النار فقد أخزيته } والمؤمن لا يخزى.
قلت: وللخصم أن يقول: المراد مُبعدون عن أن يعذبوا بها لا عن دخولها، كما أحضروا حولها ولم يبعدوا عن الحضور، فليسوا يدخلونها ويعذبون بها ويسمعون حسيسها وهم فى العذاب.
وأما دخول النار بلا عذاب فليس بخزى، ولا يحكم على مَن قال بأن الورود هو الدخول بالكفر، ولا بالمعصية، بل روى الربيع عن أبى عبيدة عن جابر عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يموت لأحد ثلاثةٌ من البنين فتمسَّه النار إلا تحَّلةَ القسم" . فهما نص فى أن الورود دخول.
وفى تفسير الشيخ هودرحمه الله : إذا كان يوم القيامة قال الجبار:
{ { لمن المُلك اليومَ } فلا مُجيب فيقول: { لله الواحد القهار اليومَ تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب } ثم يأتى عتق من النار يسمع وينظر ويتكلم، فيشرف عليهم فيقول: وُكِّلتُ بثلاثة: من ادعى مع الله إلهاً آخر، ومن ادعى أن الله والد، ومن ادعى لنفسه الربوبية، فتلقطهم التقاط الحمام للسمسم ثم تغوص بهم فتعود وتقول: إنى وُكِّلت بثلاثة: بمن سبَّ الله، وبمن كذب على الله، وبمن آذى الله فهمن سبه فهو الذى قال: إن الله اتخذ صاحبه والكاذب: منكر البعث { وأقسموا بالله جَهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } والذين آذوا: هم المصورون فتلتقطهم كذلك.
وذكروا عن ابن مسعود أن الصراط على جسر جهنم مثل حد السيف، والملائكة معهم كلاليب من حديد، كلما وقع رجل منهم اختطفته النار فيمر الصف الأول كالبرق والثانى كالريح والثالث كأجود الخيل والرابع كأجود البهائم والملائكة يقولون: اللهم سلّم سلّم ويمر الرجل ماشيا حافيا، ورجل على بطنه فيقول: يا رب لِمَ أبطأتَ بى؟ فيقول: أبطأ بكل عملك. انتهى كلام الشيخ هود.
وقيل: الضمير فى واردها لعرصة القيامة. وقيل: للقنطرة التى على النار وهى رواية عن الحسن وابن مسعود وقتادة.
وقيل: امراد بالخطاب الكفار. والورود: الدخول.
وعن مجاهد: وورد المؤمن النار: هو مس الحمَّى جسده فى الدنيا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: الحمَّى من فيح جهنم وإن الحمى حظ كل مؤمن من النار فأبردوها بالماء. والفيحْ: الحر.
{ كَانَ } ورودها. { عَلَى رَبِّكَ حَتْماً } فرضا { مَقْضِيّاً } فضى به اسم مفعول، أصله مقضوى كمضروب، قلبت الواو ياء والضمة كسرة وكان الإدغام. والحتم مصدر يسمى به الواجب، أو بمعنى اسم مفعول أى محتوم.
ومعنى كونه عليه حتما مقضيا أنه وعد به وعزم فلا يكون غيره.
وقيل: معناه أنه أقسم عليه.