خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٧٣
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إنَّما حرَّم عليكُم الميتَةَ }: أى ما حرم عليكم إلا الميتة والدم إلخ. والحصر إضافى منظور فيهِ إلى الحيوان، فلا يشكل أنه قد حرم غير ذلك كالأجناس والمتنجساتٌ، إذا كانوا يحرمون بعض الطيبات ويحرمون السائبة والبحيرة ونحوها، فرد الله جل وعلا عليهم بأن المحرم: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به لا ما تحرمونهُ، ويجوز أن يكون إضافيا منظوراً فيه إلى السعة كأنه قيل: ما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلا فى السعة، وأما فى الضرورة فما حرم ذلك، ثم إن كان الخطاب للمؤمنين الذين حرموا بعض اللذائذ مع الميتة وما بعدها، فالقصر إفرادى، وإن كان للكفار الذين حرموا السائبة ونحوها مما هو حلال دون الميتة وما ذكر بعضها فقصر قلب، وإن كان لمن رأى تحريم المؤمنين وتحريم الكافرين فتردد هل حرم جميع ما حرم المؤمنون أو بعضه أو ما حرم الكافرون فقصر تعيين، وفاعل حرم بالبناء للفاعل ضمير يعود إلى الله، والميتة بالنصب مفعول به، وإنما معطوف به وكاف وهى المفيدة للحصر، قرئ إنما حرم عليكم الميتة بالبناء للمفعول، ورفع الميتة فإنما معطوف، وكاف مقيد للحصر، والميتة نائب حرم، ويجوز أن يكون ما إسماً موصولاً. وقرئ إنما حرم عليكم الميتة بالبناء للفاعل والتشديد ورفع الميتة على أن إسما لأن، وفى حرم ضمير نائب الفاعل عائد عليها، والجملة صلتها، والميتة خبر إن، أى إن الذى حرم عليكم هو الميتة، وعلى هذا فمفيد الحصر تعرف المسند والمسند إليه. وقرئ إنما حرم عليكم الميتة بفتح الحاء وضم الراء خفيفة، ورفع الميتة فإنما معطوف، وكاف والميتة فاعل حرم، ومفيد الحصر إنما، ويجوز أن يكون ما إسما موصولا إسماً لأن، وفى حرم ضميره الفاعل، والجمة صلة، والميتة خير إن، ومفيد الحصر تعريف المسند والمسند إليه، أى إن الذى حرم عليكم هو الميتة، واختار الزجاج كون إنما معطوف وكافا فى قراءتى الرفع فيكون الميتة هو المسند إليه والمسند حرم، واختار السعد كونه إن وإسمها لتبقى إن على عملها وهو الأصل، فيكون الميتة مسنداً وما مسند إليه. قلت: لكن تخالف أصل الحصر كلما جعلنا ما إسما لإن، لأنها متصلة بالنون كالخط، واتصالها يقتضى أنها كافة، وكونها اسما لإن يقتضى انفصالها عن النون. وقرئ إنما حرم عليكم الميتة ببناء للفاعل وتشديد حرم ورفع الميتة، فإنما إن وإسمها وفاعل حرم ضمير عائد إلى الله، والجملة صلة ما، والرابط محذوف، والميتة خبر إن، أى إن الذى حرمه الله عليكم هو الميتة، فمقيد الحصر تعريف المسند إليه وهو ما والمسند وهو الميتة، وهذا أولى من قول بعضهم فى هذه القراءة إنما مكفوف وكاف، وأن مفعول حرم محذوف، وأن الميتة خبر لمحذوف، وأن الجملة صفة لذلك المحذوف، أى إنما حرم الله عليكم شيئاً هو الميتة، أو هو الميتة مستأنف لما فى ذلك من التكلف، ويقدر مضاف أى حرم عليكم نفع الميتة، وهذا المضاف المقدر مسلط على الدم ولحم الخنزير وما أهلّ بهِ لغير الله، فإنهُ يحرم أكل ذلك وشربهُ كشرب لبن الميتة والخنزير ولبن ما أهل به لغير الله وشرب الدم وشرب لحم أو غيره فى الماء أو غير الماء، وأكل ثمنه ورهنه، والاستئجار به وإصداقه، والمداواة به، وكل انتفاع إلا ما استثنى الشارع من جواز الانتفاع يجلد الميتة المدبوغ وصوفها ووبرها وشعرها وريشها، واختلف فى العظم والقرن والبيضة قشرها وداخلها. والأحاديث تدل على ذلك، وأيضا الحرمة المضاف إلى عين الشئ تفيد فى العرف حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل، كالتصرف فى المدبوغ كما قاله القاضى: ومن الأحاديث الدالة على ذلك حديث البزار عنهُ صلى الله عليهِ وسلم: "إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه" وقال القزوينى والسعد أخذا من كلام الكشاف ما حاصله: أن أدلة الحذف كثيرة، وأن منها العقل ومن الأدلة على تعيين المحذوف ما هو المقصود الأظهر فى الكلام، نحو حرمت عليكم الميتة، ومثلهُ آية البقرة، أى حرم تناول الميتة، فإن العقل دل على أن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأفعال دون الأعيان فلا بد ها هنا من محذوف، والمقصود الأظهر دل على أن المحذوف تناول أن الغرض الأظهر من هذه الأشياء تناولها، وتقدير التناول أولى من تقدير الأكل ليشمل شرب ألبانها، فإنه أيضاً حرام انتهى.
وهذا مذهبنا معشر الإباضية بأصنافها، والمعتزلة وأهل العراق. وقال غيرهم: تعلق الأحكام بأعيان حقيقة مراد به تحريم العين كالخمر والميتة والخنزير، وإن شئت فقدر هكذا، إنما حرم عليكم لحم الميتة وخص بالتقدير بأن الآية رد على من يحل أكله، والميتة ما خرجت روحه بلا ذكاة شرعية، وفيهِ دم أصلى غير السمك، وهذا فى الميتة المحرمة الشرعية، ولا دم فى الجراد فخرج بقولى فيهِ دم أصلى، وخرج ما فيه دم غير أصلى كذباب وقمل، وفيهِ خلاف فى الفقه، ولا ضير إجماعا بذباب وقع فى الماء ومات فيه أنهُ لا ينجس، وكذا غير الماء، وإما الميتة لغة فى كل ما خرجت روحه وباعتبارها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أحلت لكم ميتتان الجراد والسمك" ، وبهذا الحديث ونحوه علمنا أن الجراد حلال وجد حيّا أو ميتا، أكل حيا أو ميتا، ذكر اسم الله عليه أو لم يذكر، طبخ أو لم يطبخ، وسواء مات بقطع يد أو غيرها، وإنما قطع منه حلالا يؤكل، ولو بقى الجراد حيا، وكذا الحوت فى ذلك كله، وسواء ما صيد وما وجد ميتا على الماء أو فى الساحل أو فى أسفل الماء، وما قتل بضرب أو غيره، أو جلب حيا. ومن حديثه صلى الله عليه وسلم: "كالبحر هو الطهور ماؤه والحل ميتته" رواه الربيعرحمه الله ، وكثير من المحدثين من المخالفين غير البخارى ومسلم، وهو حديث حسن صحيح، وكذا قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وكذا روى الربيع والمخالفون حديث أبى عبيدة بن الجراح، إذ كان أميراً على العسكر، ووجدوا حوتا على الساحل فأكلوا منه واصطحبوا منه للمدينة، فسألوه صلى الله عليهِ وسلم فقال: "حلال"، روى أنهُ قال: "أطعمونى منه" وعن أبى أو فى غزونا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبع غزوات أو ستا، وكنا نأكل الجراد ونحن معه، أخرجه البخارى ومسلم، واختلف فى السمك الطافى على الماء. قال مالك والشافعى: لا بأس به. وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حبى: إنه مكروه. روى عن على بن أبى طالب أنه قال: ما طفا من صيد البحر فلا تأكله. وكذا قال ابن عباس وجابر ابن عبدالله، وروى عن أبى بكر الصديق، وأبى أيوب إباحته وهو الصحيح لعموم الحديثين الأولين، وللحديث الثالث، وكذا الجراد، وعن الشافعى وأبى حنيفة: لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته وما وجدته ميتا. وفى رواية عن مالك: إنما وجد منه ميتا لا يحل وما أخذ حيا يذكى ذكاة مثله بأن يقطع رأسه ويشوى، فإن غفل عنه حتى يموت فلا يحل وهو ضعيف لعموم الأحاديث فى حله مطلقاً، واستثناءه من الميتة المذكورة فى القرآن والسنة، وقيل استثناؤه بالعرف وليس بشئ إذ لا وجه باستثناء بالعرف مع وجود الحديث، ويحتمل عندى أن يريد قائله إن استثناءه، صلى الله عليه وسلم، كان منه نظراً للعرف لا بالوحى، أو أن استثناءه هو خروجه بالعرف إذ لا يسمى فيه ميتة فلا يحنث به حالف لا يأكل ميتة عند الناظر للعرف، كما لا يحنث عنده بكافر من حلف لا يركب دابة، والسمك فى ذلك كله، والجراد وما قطع من حى وهو حى فهو ميتة، وهذا حديث مرفوع، ورواه الأكثرون أثرا موقوفا، وحد الميتة يشمله، لأن تلك القطعة خرجت منها الروح بلا ذكاة شرعية.
{ والدَّم }: المسفوح لتقييده بالسفح فى آية الأنعام، والمحرم من الدم ما سفح من حى وما خرج بتذكيته، وأما الباقى داخل اللحم والعروق، وما اجتمع فى داخله بعد الذكاة فحلال عند الجمهور منا، وشذ من حرمه أو كرهه، وكذا قالت المالكية إنه حلال إلا شاذا منهم ذكره ابن الحاجب وغيره، وليس كذلك لما فيه من الحرج، ولقول عائشة رضى الله عنها: لو حرم علينا غير المسفوح لتتبع الناس ما فى العروق، ولقد كنا نطبخ اللحم والبرمة يعلوها الصفرة. وأما الدم داخل الميتة فنجس من حيث إنها ميتة وهو بعضها، لا من حيث إنه دم، لأنهُ غير مسفوح، ودم السمك طاهر عندنا حلال الأكل، لأنه إذا يبس ابيض، والدم إذا يبس أسود، ولأن ميتة السمك حلال، فما قطع منها وهى جية حلال، فالدم منها حلال، فخبر ما قطع من حى حيا فهو نجس مخصوص بغير السمك والجراد، فإنما قطع منها جبين طاهر، وكذا قال أبو حنيفة بطهارة دم السمك، وقال الشافعى: دم السمك نجس، وقال: كل دم نجس مفسوحاً أو غير مسفوح، وزعم أن التقييد بالسفح بيان للواقع إذ كانوا يسفحون الدم فيأكلونه بعد أن يشوى، وكانوا يفصدون الإبل لذلك، وكانوا يجمعون الدم فى المصارين ويشوونها، واستثنى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الدم الكبد والطحال. روى الدارقطنى عن عبدالرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه، عن عبدالله بن عمر: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال:
"أحل لنا من الدم دمان ومن الميتة أحل لنا ميتتان الحوت والجراد ومن الدم الكبد والطحال" وفى لفظ آخر "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد" ، أخرجه ابن ماجه وأحمد بن حنبل. قال أحمد، وعلى بن المدنى، وعبدالله بن زيد: ضعيف، وأخرجه عبدالله بن زيد، وهو عند قومنا ثقة قوى، وضعف أبو بكر بن العربى هذا الحديث عن ابن عمر بما لا يصح سنده، وقال البيهقى: يروى هذا الحديث عن ابن عمر موقوفا ومرفوعا، الصحيح الموقوف. واختلف فى تخصيص الدم بالكبد والطحال من الدم. فقال مالك: لا تخصيص لأن الكبد والطحال لحمتان لا دمان، فضلا عن أن يخصصا من عموم الدم كما يشهد به العيان الذى لا يفتقر إلى برهان، وأيضا لو كانا دمين لم يكونا مسفوحين فلم يحتاجا إلى التخصيص من المسفوح وتسميتهما دمين فى الحديث مجاز لشبههما بالدم الجامد، أو هما دمان حقيقان ليسا من نوع الدم المحرم، وأيضا لا يشبههما لفظ الدم عرفا فلا يدخلان فى الدم فضلا عن أن يخصا بالحديث بيان لكونهما حلالا مع أنهما شبيهان بالدم، وبيان لنا نوعا حلال من الدم غير نوع الدم المحرم، هذا ما ظهر لى من الأوجه فى توجيه كلامه، وقال الشافعى: هما دمان حقيقان من نوع الدم المحرم، أحلهما الله جل وعلا، وزعم من زعم أن الله جل وعلا نسخ بالسنة بعض اليمتة وبعض الدم، الجراد والسمك والكبد والطحال، وليس ذلك نسخا، وأقول من قلع سنه مثلا واتصل الدم ولم يرق يخشو أدواء فلا يجوز لصاحبه الأكل والشرب وبلع الريق إلا إذا خاف على حلقه أو خاف المضرة بالجوع أو بالعطش، فإنه يبلع ريقه أو يأكل أو يشرب ما يقوت به، لأن فى ذلك أكل الدم أو شربه أو بلعهُ، فحاله كحال المضطر له القوت فقط ما دام يطمع أن يرقى وإن لم يطمع واتصل فله الأكل والشرب والبلع كعادته حال الطهر، ومقتضى من قال إنه لا ينجس الدم حتى يخرج من حد الفم أنه يأكل ويشرب ويبلغ كالعادة ولم يصل حد الاضطرار.
{ أوْ لحْم خِنْزيرٍ }: الخنزير كله الوحشى والإنسى حرام لحمهُ وشحمهُ وعَصبهُ ما يؤكل منه وما لا يؤكل، ذكى أو لم يذك، وخص اللحم بالذكر لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه حكمه يعلم بحكم لحمه وهو تبع اللحمه، وقد قال فى الأنعام:
{ { فإنه رجس } أى فإن الخنزير رجس على ما يأتى فيها إن شاء الله، وهو عندنا نجس حيا أو ميتا وكذا عند جمهور الأمة وقال مالك: إنه طاهر حال حياته، وكذا كل حيوان عنده طاهر إذا كان حيا ولو كان محرما، وعلة الطهارة عنده الحياة ألا ترى الإنسان محرم وهو فى حياته طاهر، فانظر شرحى على النيل. وقال الشافعى فى جديده: إن ولغ الخنزير فى إباء غسل سبعاً أولاهن وأخراهن بالتراب، وقال فى قديمه: تكفى غسلة واحدة، لأن الغليظ فى الكب، لأن العرب تألفه بخلاف الخنزير. وقال مالك: للسم، وقيل غلظ فيه تعبداً ولا يتعدى حكمه إلى الخنزير.
{ ومَا أهِلَّ بهِ لغَيْر اللهِ }: أى وما رفع الصوت به للصنم كقول أهل الجاهلية عند الذبح والنحر: باسم اللات وباسم العزى، أو باسم مناة يذكرون اسم أصنامهم عند الذبح أو النحر، ولو لم يكن الذبح أو النحر للأصنام، ولا سيما إن كان لها كما نذكر اسم الله عند فى ذبح أو النحر، وليس مما أهل به لغير الله ذبائح أهل الكتاب، ولو ذكروا عليها غير الله لقوله تعالى:
{ { وطعامُ الَّذينَ أوتُوا الكتاب حِلٌّ لكم } يعنى ذبائحهم أو جميع طعامهم الذبائح وغيرها. قال عطاء والحسن ومكحول والشعبى وابن المسيب: تجوز ذبيحة النصارى ولو ذكروا عليها اسم المسيح لعموم الآية. وقال مالك والشافعى وأبو حنيفة: لا يحل ذلك لأن ذلك إهلال لغير الله وعن على بن أبى طالب: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا أى لهذه الآية، وإذ لم تسمعوا فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون، وما واقعة على الحيوان المذبوح والمنحور، والإهلال رفع الصوت مطلقا، وأصله ظهور الهلال، يقال أهل الهلال، أى ظهر، وأهللته رأيته أو ظهر لى، لكن لما جرت العادة بالتكبير إذا رئى يسمى رفع الصوت بالكتبير عنده إهلالا، ثم قيل لرفع الصوت مطلقاً إهلالا كالتكبير عند غير الهلال، ويقال أهل بالحج رفع صوته بالتلبية لهُ، وأهل الصبى واستهل رفع الصوت بالبكاءِ، قيل ثم قيل لكل ذابح جهل وإن يجهر بالتسيمة، وقيل جرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك فى استعمالهم حتى عبر به عن النية التى هى علة التحريم، وهاء به عائدة إلى ما والباء بمعنى على أو مع للإلصاق أو ما رفع الصوت عليه أو معه، أو أوصل به، وذلك الرفع لغير الله لأنهُ لم ينو الله ولم يذكر اسمه، بل اسم غيره وبه نائب فاعل أهل.
{ فَمنِ اضْطُرَّ }: بضم النون تبعاً للطاء، لأن همزة الوصل بينهما محذوفة نطقاً، الضاد ساكن وهو لسكونه غير حاجز حصين. وقرأ عاصم وحمزة بكسر النون، وكذا كلما سكن قبل همزة الوصل المضموم ضما لازما بعد تاليها، الثلاثة يكسرون على أصل التقاءِ الساكنين، والباقون يضمون تبعا مثل: وأن اعبدوا، وأن أحكم، لكن انظروا، وأن اغدوا، ولقد استهزئ، وقالت أخرج، وقتيلا انظر، ومبينا قتلوا، قل ادعوا الله أو انقص، إلا أبا عمرو فإنه يضم ذلك الساكن إذا كان لاما أو واوا كالمثالين، وكالجمهور، واستثنى ابن ذكوان من ذلك التنوين خاصة فكسره إلا حرفين فضم فيهما برحمه ادخلوا، وخبيثة اجتثت، هذه رواية ابن الأحزم عن الأخفش عنه، وروى عن النقاش وغيره بكسر ذلك حيث وقع، والاضطرار الألجاء أى فمن اضطره الله بالجوع أو اضطره الجوع، فاضطر مبنى للمفعول وهو من المتعدى، ولو بنى للمفعول لكان الفاعل الله أو الجوع، والمعنى فمن اضطر إلى الأكل من ذلك الأكل.
{ غَير باغٍ ولا عادٍ }: غير حال من الضمير المستتر فى اضطر، والباغى خارج عن الإمام أو القاضى أو الحاكم أو الجماعة مريداً للإفساد أو هارب من حق، والعادى الخارج لقطع الطريق، وقيل الباغى هو الذى يبغى على مضطر آخر مثله، فيمنعه من الأكل من ذلك ويأكل وحده، والعادى هو الذى يجاوز الحد فى ذلك فيأكل أكثر من سد الرمق، أو يحمل معه، وهو قول أبى حنيفة لكنه يجيز لمن سافر فى معصية، واضطر أن يأكل من ذلك، وقال أصحابنا والشافعى ومالك وأحمد لا يجوز للعاصى بسفره الأكل من ذلك عند اضطراره، والذى عندى أن المضطر فى سفر معصية يتوب ويأكل لئلا يموت، وكذا عند هؤلاء، وعندنا لا يجوز له إفطار رمضان فى سفر معصية اضطر أو لم يضطر للإفطار، فإن أفطر كان كمن أفطر فى الإقامة، لكنه عندى يتوب ويأكل إن خاف الموت أو زوال عضو أو منفعة كسمع وبصر، ويعيد ويعطى الكفارة المغلظة، أو يوصى بها، ولا يجوز له التيمم بفقد ماء فى سفر المعصية، أو حدوث ضر فيه مانع من الغسل، فإن كان ذلك كان كمن ترك الوضوء فى الإقامة واحداً قادراً، وإن قصر كان كمن قصر فى الحضر، ولكنه عندى يتيمم إن لم يجد، ولم يقدر ولزمته المغلظة، ويصلى التمام تقليدا، والذى من رأيى أنه يصلى قصراً ويعيد على كل حال ويتوب، وكذا قال الشافعى وأحمد ومالك، لا يترخص لمن سافر فى معصية برخص المسافرين حتى يتوب. قال ابن عباس رضى الله عنهما: { غير باغ ولا عاد }، غير خارج عن السلطان ولا معتد بسفره فى معصية، وقيل: { غير باغ } غير طالب الميتة وما ذكر معها وهو يجد غير ذلك، { ولا عاد } غير معتد ما حل له، وقيل غير مستحل لها استحلالا مطلقاً بل استحلالا بقيد الاضطرار الذى هو فيه، وغير متزود منها. وقال قتادة: { غير باغ ولا عاد }، غير قاصد فساد وتعد بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها، وكان يجيز الأكل منها للمضطر العاصى فى سفره والحق منع ذلك لأن إباحة الأكل منها له إعانة على معصية، والمنع مذهب الجمهور، وبه قال مجاهد، قال المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم، فيدخل فى الباغى والعادى قطاع السبل، والخارج عن السلطان، والمسافر فى قطع الرحم، والغارة على المسلمين وما شاكل ذلك، والرخصة لغير هؤلاء، ومذهبنا أن المضطر يأكل ما يسد رمقه. وقال بعض أصحابنا: يأكل ما يصل به وينجو به ويؤدى فرضه ولا يتزود منها، وقال مالك: يأكل المضطر شيمه، وفى الموطأ وهو لكثير من العلماء يتزود من ذلك إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفاوز وقفار. وقال ابن العربى: إذا دمت على المخمصة فلا خوف فى جواز شبع المضطر، وإن كانت نادرة ففى شبعه قولان: أحدهما لمالك يأكل حتى يشبع ويتضلع، وقال غيره يأكل بمقدار سد الرمق، وبه قال ابن حبيب وابن الماجشون وأبو حنيفة، وعن الشافعى القولان، وعن سهل بن عبدالله بن عون: دخلت على الحسن فإذا عنده كتاب فقال: هذا كتاب كتبه شمره لولده، فإذا فيه يجزئ من الضرورة أو من الضارة صبوح أو غبوق، وذكر الحسن
"أن رجلا قال: يا رسول الله متى تحرم على الميتة؟ قال: إذا رويت من اللبن وجاءت مبرة أهلك" ذكره الشيخ هود، وهو تمثيل بحال الغنى عنها لا قيد بوجود الشبع من الحلال، وإذا غنى عنها حرمت ولو جاع، ثم من اضطر ووجد ذلك كله أو متعدداً منه فقيل يسد رمقه من كل يجزئ، وإن شاء سده من واحد، وقيل يشبع على ما مر من عموم أو تفصيل من مجموعها، وإن شاء شبع من واحد، وقيل يأكل مما قدمه الله على الآخر فى ذكر التحريم، لأن الإباحة للمضطر مفرعة على ذلك المرتب، فإن أقرب ذلك الميتة لأنها لو ذكيت حال الحياة لحلت وماتت غير مُهلِّ لها لغير الله، ويليها الدم، لأن منه حلالا طاهرا وهو غير المسفوح ودم اللحم والقلب فى قول، وأيضا قد كان فى الشرع ما حل من الميتة والدم وهو السمك والجراد والكبد والطحال فهما مقدمان على المهل بها لغير الله، لأنهُ لا حال لها نحل فيه لغير المضطر، ولأن فيها ميتة ودما حراما، ولو كانت حرمته بالموت لا بالسفح وفيها إهلالا لغير الله، ومع هذا تقدم على الخنزير لأنها لو ذكيت باسم الله لحلت، ولو ذكيت به بعد الإهلال لغير الله لحلت إن أدركت فيها حياة والخنزير لا تعمل فيه الذكاة، ولا حالة يحل فيها لغير المضطر، وقيل إن وجد حيّاً ذكى وقدم على الميتة والدم وما أهل به لغير الله إن لم تدرك فيهِ حياة ويذك، واختلفوا فى أن من أكل شيئا من ذلك لضرورة هل ينتقض وضوءه أو يتممه إن تيمم أو لا ينقض؟ واختلفوا هل تقدم هذه الأشياء لأنها لا حق فيها لمخلوق، أو يقدم مال الناس، لأنه حلال وينوى الخلاص، ويشهد أو يكتب فى وصيته لصاحبه، واختلفوا: هل ينجى بالميتة المدودة؟ فقيل لا يأكل منها، لأنها لا تنجى وإن أكل هلك، وقيل يأكل ويقدم ذلك على الخمر، وقيل لا ينجى بالخمر لعدم ورود الترخيص فيها إذا اضطر، واختلفوا: هل يأكل ذلك أو يشرب الخمر إذا جبر بالقتل قياساً على الأكل ولا إذ الترخيص لم يرد فى الإخبار وكذا المداواة بحبة إن لم يداو بذلك مات أو ساعة غصة يخمر فى ذلك خلاف.
{ فَلاَ إِثْم عَليهِ }: لا ذنب عليهِ فى أكلهِ، وهذا لمجرد دفع ما يتوهم الإنسان من الإثم فى الأكل من ذلك عند الاضطرار، فلا يفيد جواز ترك الأكل من ذلك عند الضرورة واجب ترخيصاً من الله. ومن ترك رخصة الله وهلك، جاء يوم القيامة على ظهره كجبل أحد، ومن اضطر ولم يأكل من ذلك فمات دخل النار، لأن ذلك قتل منه لنفسه، قال الله عز وجل:
{ { ولا تقتُلوا أنفُسكم } إلى قوله: { ومَنْ يَفْعل ذلكَ عُدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً } إلا أن تاب مثل أن يتوب بعد تركه وبعد عجزه عن مناولة ذلك، وعن أكله وقبل موتهِ، وقول ابن العربى: دخل النار إلا أن يغفر الله له يحتمل هذا، ويحتمل الجرى على مذهبه من جواز دخول العاصى الفاسق الجنة بلا توبة، قال الشيخ هودرحمه الله : ذكر بعض السلف أن من اضطر فلم يأكل ولم يشرب، فمات دخل النار، ذكروا عن ابن عباس أنه قال: إن الله يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن تقبل عزائمه انتهى. وحفظت مثل هذا مرفوعا.
{ إنَّ اللهَ غَفورٌ }: لما أكله حال الضرورة، أو أن الله غفور لأوليائه، وهذا الوجه الثانى استئناف على الكلام فى الاضطرار.
{ رحيمٌ }: إذ رخص لعباده فى أكل ذلك للضرورة أو رحيم بأهل طاعته.