خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠٧
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَه }: يشتريها من النار، أو يبيعها بالجنة، وذلك بأن يجاهد فى سبيل الله، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حتى يقتل، أو يشترى دينه بماله يجعله وقاية لسلامة دينه، أو يفعل ما يموت به شهيداً ويقبل ما يوجب له الجنة ويعصمه عن النار، ولو لم يمت كالصلاة والزكاة والصوم والحج وقراءة القرآن، والجهاد والأمر والنهى، روى أن عمر سمع رجلا يقرأ هذه الآية فقال: إنَّ للّهِ وإنا إليْهِ راجِعُون، قام رجل فأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر فقتل وأخرج الترمذى عن أبى سعيد وقال، حديث حسن غريب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" وروى ابن ماجه عن أبى سعيد وأبى أمامة وروى أحمد والطبرانى فى كبيره، والبيهقى فى شعبه، عن أبى أمامة وأحمد والنسائى، والبيهقى فى شعبه عن طارق بن شهاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" وروى أبو نعيم عن على عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد أربع: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والصدق فى مواطن الصبر، وشنآن الفسق" وكان على إذا قرأ هذه الآية يقول: اقتتلا ورب الكعبة قيل: نزلت الآية فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، يقوم فيأمر بتقوى الله، فإذا لم يقبل المأمور وأخذته العزة بالإثم قام الآخر فقال وأنا أشرى نفسى لله، فقاتله طلبا لمرضاة الله كما قال عز وعلا.
{ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ }: أى طلبا لرضاه، وعن الحسن: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت فى المسلم يلقى الكافر فيقول له قل لا إله إلا الله فيأبى أن يقولها، فيقول المسلم: والله لأشرين نفسى لله، فتقدم فقاتل وحده حتى قتل، وقال سعيد بن المسيب، وعطاء:
" أقبل صهيب مهاجراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركى قريش، فنزل عن راحلته وأخرج ما كان فى كنانته فقال والله لا تصلون إلىَّ أو أرمى بكل سهم معى، ثم أضرب بسيفى ما بقى فى يدى، وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلى؟ قالوا: نعم. ففعل، فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت الآية: { ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغاءَ مرضات الله } إلى آخرها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رَبِحَ البْيَعْ أبا يحيى" وتلا عليه هذه الآية، وكذا قال أكثر المفسرين: نزلت فى صهيب وهو صهيب بن سنان الرومى، قال صلى الله عليه وسلم: "سابق الروم يوم القيامة صهيب وهو عربى" وإنما نسب إلى الروم لأن منازل أهله كانت بأرض الموصل فغارت الروم على تلك الناحية فسبته وهو غلام صغير، فنشأ بالروم وإنما هو من العمر بن قاسط. وعن ابن عباس رضى الله عنه: نزلت هذه الآية فى سرية الرجيع وكانت بعد أحد وسميت بسرية الرجيع، لأنهم نزلوا سحرا فى موضع يسمى الرجيع، فأكلوا تمراً وألقوا النوى، واستدل عليهم به كما يأتى، وهو بفتح الراء وكسر الجيم اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان بناحية الحجاز، وكانت الوقعة بالقرب منه، فيحتمل أن تسمى سرية الرجيع لكون الوقعة بالقرب منه، وقصة عضل القارة كانت فى بعث الرجيع كما تراه ان شاء الله لا فى سرية بئر معونة، قال ابن اسحاق: كانت بعث الرجيع فى أواخر سنة ثلاث، وبئر معونة فى أوائل سنة أربع. وعضل: بطن من بنى الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مصر، ينسبون إلى عضل ابن الديس، والقارة بالقاف والراء الخفيفة بطن من الهون أيضاً ينسبون إلى الديس المذكور، قال بن دريد: القارة أكمة سوداء فيها حجارة كأنهم نزلوا عندها فسموا بها، وقيل: بعث الرجيع كان على رأس سنة ثلاث، وذكر الواقدى أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى ليلة واحدة، قال القسطلانى: سياق ترجمة البخارى يوهم أن بعث الرجيع وبئر معونة شئ واحد، وليس كذلك لأن بعث الرجيع كان سرية عاصم وخبيب وأصحابهما وهو مع عضل والقارة، وبئر معونة كان سرية القراء، وهى مع رعل وذكوان، ولعل البخارى أدمجها معها لقربها منها، ويدل على قربه منها ما فى حديث أنس من تشريك النبى صلى الله عليه وسلم بين بنى لحيان وبين بنى عصية وغيرهم فى الدعاء عليهم، ولم يرد البخارى أنهما قصة واحدة، ولم يقع ذكر عضل والقارة عنده صريحاً، وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق، ولفظ البخارى بنسخة عتيقة جيدة فاشية بخط أندلسى اتصلت بيدى من صاحبى حم بن يحيى من المغرب هكذا بعد سند عن أبى هريرة قال: "بعث النبى صلى الله عليه وسلم سرية عينا وأمَّر عليهم عاصم ابن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا الحى من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب عن مائة رام فاقتصوا آثارهم حتى رأوا منزلا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا لا نقتل منكم رجلا، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل فى ذمة كافر اللهم أخبر عنا رسولك، فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما فى سبعة نفر بالنبل، فبقى خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق، نزلوا إليهم فلما استمكنوا فيهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذى معهم هذا أول الغدر فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذى قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً إذا أجمعوا على قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث يستحدّ بها فأعارته، قالت: فغفلت عن صبى لى فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك منى وفى يده الموسى، فقال أتخشين منى لأقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وأنهُ لموثق بالحديد، وما كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال: دعونى أصلى ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أنكم ترون أنى جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن ركعتين عند القتل، وقال: اللهم أحصهم عدداً ولا تبق منهم أحداً. وقال:
* ولست أبالى حين أقتل مسلما * على أى جنب كان لله مرجعى *
* وذلك فى ذات الإله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع *
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليأتى بشئ من جسده بعد موته، أى ليعرفوه، وكان قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلمة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شئ"
، زاد فى رواية، وأخبر يعنى النبى صلى الله عليه وسلم يوم أصيبوا خبرهم، والفدفد: هو الموضع الذى فيه غلظة وارتفاع أو الرابية المشرفة، والاستحداد: حلق العانة، والقطف: العنقود من العنب، والوصل: العضو والشلو: العضو من الإنسان، ويطلق على الجسد وهو المراد هنا، والممزع: المفرق، والظلة: الشئ الذى يظلل من فوق الإنسان، والدبر: بفتح الدال والباء الموحدة وبسكونها أيضاً: جماعة النحل والزنابير، وزاد أبو الأسود عن عروة مع ذينك البيتين:

لقد أجمع الأحزاب فىّ وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
إلى الله أشكو غربتى بعد كربتى وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى

وساق ابن اسحاق جملة أبيات خبيب حينئذ ثلاثة عشر بيتاً، قال ابن هشام اللخمى: ومن الناس من ينكر أن تكون هذه الأبيات لخبيب، ولفظ ابن اسحاق حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستة من أصحابه وأمَّر عليه الصلاة والسلام على القوم مرثد بن أبى مرثد الغنوى، وتقدم عن البخارى أنه أمَّر عليهم عاصم بن ثابت، وهو أصح. قال ابن اسحاق: فخرجوا مع القوم حتى أتوا على الرجيع ماء لهذيل غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم فى رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، وقد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم: إنا والله لا نريد قتلكم ولكن نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم، فأبوا، فأما مرثد وخالد وعاصم فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهداً، وقاتلوا حتى قتلوا، ومرت رواية البخارى، وفى رواية له أيضاً: أمَّر عليهم عاصم بن ثابت حتى إذا كانوا بالهداة بين عسفان ومكة ذكروا لحى من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائتى رجل تثنية مائة، ويجمع بينهما بأن المائة الأخرى فى رواية الإفراد غيرة رماة، وذكرت فى رواية التثنية، وروى أبو معشر فى مغازيه: فنزلوا بالرجيع سحرا، فأكلوا تمر عجوة، فسقط نواه بالأرض، وكانوا يسيرون بالليل، ويكمنون بالنهار، فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنما، فرأت النويات فأنكرت صغرهن، فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت فى قومها: قد أوتيتم، فجاءوا فى طلبهم، فوجدوهم قد كمنوا فى الجبل، فاتبعوا أثرهم حتى لحقوهم، وفى رواية ابن سعد: فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد، فأحاط بهم القوم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا، فقال عاصم ابن ثابت: أيها القوم أما أنا فلا أنزل فى ذمة كافر، ثم قال: اللهم أخبر عنا رسولك، فاستجاب الله لعاصم فأخبر خبرهم يوم أصيبوا، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما، ونزل إليهم على العهد والميثاق خبيب بن عدى، وزيد بن الدثنة - بفتح الدال المهملة، وكسر المثلثة والنون المفتوحة المشددة - وعبد الله ابن طارق، فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة، حتى باعوهما بمكة، فابتاع ابن الحارث بن عاصم خبيباً، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا على قتله استعار من بعض بنات الحارث موسى ليستحدَّ بها - يعنى يحلق عانته كما مر - فغفلت عن ابن لها صغير، فأقبل إليه الصبى فأجلسه عنده، فخشيت المرأة أن يقتله، ففزعت، فقال خبيب: ما كنت لأعذر، قال قالت: والله ما رأيت أسيراً خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يأكل قطفاً من عنب مثل رأس الرجل، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة، وما كان إلا رزقاً رزقه الله، وهذه كرامة جعلها الله تعالى لخبيب آية على الكفار، وبرهانا لنبيه صلى الله عليه وسلم، لتصحح رسالته وكرامته لأوليائه ثابتة مطلقة عندنا وعند المتسمين بأهل السنة، إلا ما وقع به التحدى لبعض الأنبياء كما استثناه القشيرى كإيجاد حيوان بلا أب كناقة صالح، وطيور عيسى، وبهذا يقيد إطلاق من يقول: كل معجزة وجدت لنبى يجوز أن تقع كرامة لولى، ولا يكون ذلك علامة على أنه ولى لله إلا أن اختبر ووجد متمسكاً بالأوامر الشرعية، منتهياً عن النواهى، وتقدم أنهم خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه، فقال: دعونى أصلى ركعتين، وعند موسى بن عقبة أنه صلاهما فى موضع مسجد التنعيم، وقال: اللهم احصهم عددا، ولا تبق منهم أحدا، واقتلهم بددا، يعنى متفرقين، فلم يحل الحول ومنهم أحد حى. وروى بريدة بن سفيان فقال: اللهم إنى لا أجد من يبلغ رسولك منى السلام، فبلغهُ، وفى رواية الأسود عن عروة: جاء جبريل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك الحديث، وإنما كانت صلاة خبيب للركعتين سنة لكل مسلم يُقْتَلُ صبراً إلا أنها كانت على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واستحسنوا والسنة أقواله وأفعاله وتقريره، صلى الله عليه وسلم، مع أن الصلاة خير ما ختم به العبد عمله، وقد صلى هاتين الركعتين زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى حياته، صلى الله عليه وسلم، قال السهيلى بسنده إلى الليث بن سعد: بلغنى أن زيد بن حارثة اكترى بغلا من رجل بالطائف، فاشترط عليه المكرى أن ينزله حيث شاء، قال فمال به إلى خربة، فقال له: انزل، فنزل فإذا فى الخربة قتلى كثيرة، قال فلما أراد أن يقتله قال له: عنى حتى أصلى ركعتين، قال: صلِّ، فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئاً: قال: فلما صليت أتانى ليقتلنى، فقلت: يا أرحم الراحمين، قال فسمع صوتا لا تقتله!! فهاب ذلك، فخرج يطلب فلم يجد شيئاً، فرجع إلى فناديت: يا أرحم الراحمين، ففعل ذلك ثلاثاً؛ فإذا بفارس على فرس فى يده حربة حديد فى رأسها شعلة نار، فطعنه بها فأنفذها من ظهره، فوقع ميتا، ثم قال: لما دعوت المرة الأولى يا أرحم الراحمين كنت فى السماء السابعة، فلما دعوت فى المرة الثانية يا أرحم الراحمين، كنت فى السماء الدنيا، فلما دعوت الثالثة أتيتك. وفى رواية أبى الأسود عن عروة: لما وضعوا السلاح فى خبيب وهو مصلوب، نادوه وناشدوه أتحب أن محمداً مكانك؟ قال: لا والله ما أحب أن يفدينى بشوكة فى قدمه. ويقال إن الذى قيل له ذلك زيد بن الدثنة، وأن أبا سفيان قال له: يا زيد أنشدك بالله أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك فى أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإبى لجالس فى أهلى. قال يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً، فقتله نسطاس (بكسر النون).
وتقدم عن البخارى أن عاصما قتل عظيما من قريش قبل ذلك، ولعله عقبة بن أبى معيط، فإن عاصما قتله صبراً بأمر النبى، صلى الله عليه وسلم، بعد أن انصرفوا من بدر، وذكر ابن إسحاق وبريدة بن سفيان: أن عاصما لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وهى أم مساقع وجلاس ابنى طلحة العبدى، وكان عاصم قتلهما يوم أحد، وكانت قد نذرت حين أصاب أبها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر فى قحفه - بكر القاف - وهو ما انفلق من الجمجمة فبان. قال الطبرى: وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة، فمنعه منهم الدبر فلم يقدروا منه على شئ، وكان عاصم بن ثابت قد أعطى الله عهداً ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً، فكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته، كما حفظه فى حياته، وإنما استجاب الله تعالى له فى حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة. ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه. وفى رواية عن ابن إسحاق: لما انقضى أمر أحد قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - رهط من عضل والقارة من مزينة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يعلموننا شرائع الإسلام، فبعث معهم ستة من أصحابه وهم: مرثد بن أبى المرثد، حليف حمزة بن عبد المطلب، وأمَّره عليهم، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت وخبيب بن عدى، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، فخرجوا معهم حتى إذا كانوا على الرجيع - ماء هذيل - استصرخوهم عليهم، وأما مرثد وخالد وعاصم فقاتلوا حتى قتلوا، وأسروا زيدا بن الدثنة وخبيباً وعبد الله ابن طارق، ثم انفلت منهم عبد الله فقاتلهم حتى قتل، ولما قتل عاصم وأرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، امرأة من المشركين كانت نذرت حين أصيب أبوها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن فى قحفه الخمر، فمنعته الدبر، فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسى فنذهب عنه فنأخذه، فبعث الله الوادى فحمل عاصما فذهب به، وقد كان عاصم أعطى الله عهداً ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً، تنجيساً فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً فى حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه فى حياته، ثم إن هذيلا باعوا خبيباً وزيد بن الدثنة من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة، قال ابن إسحاق، فأما خبيب فحبس فى بيت ماوية، فكانت تخير بعد إسلامها أنها طلعت عليه يوماً وأن فى يده لقطفاً من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، والله ما أعلم فى أرض الله عنباً يؤكل، وتبع أبو سعيد النيسابورى وأبو الربيع الكلاعى ابن اسحاق على ذلك.
وفى رواية: أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرا من أصحابك يعلمونا دينك، وكان ذلك مكراً منهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدى، الأنصارى، ومرثد بن أبى مرثد الغنوى، وخالد بن بكير، وعبد الله ابن طريق بن شهاب البلوى، وزيد بن الدثنة، وأمر عليهم عاصم بن ثابت ابن أبى أفلح الأنصارى، وذكر الراوى مثل ما مرَّ أولا عن البخارى، ثم قال: فصلبوا خبيباً حياً فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لى أحد حولى يبلغ سلامى رسولك؛ فأبلغه سلامى. فقال إليه عقبة بن الحارث فقتله، ويقال:
"كان رجل من المشركين يقال له أبو ميسرة سلامان معه رمح فوضعه بين ثديى خبيب، فقال له خبيب: اتق الله، فما زاده إلا عنفا، فطعنه فأنفذه وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله فى الحل، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن فى مكانك تضرب عنقه وأنك فى أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمداً الآن فى مكانه الذى هو تصيبه شوكة تؤذيه، وأنا جالس فى أهلى. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً، ثم قتله نسطاس، فلما بلغ النبى صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه: أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة؟ فقال له الزبير: أنا يا رسول الله وصاحبى المقداد بن الأسود، فخرجا يمشيان الليل ويكمنان النهار حتى أتيا التنغيم ليلا، فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام، فأنزلاه عن خشبته فإذا هو رطب لم يتغير منه شئ، وبدا على جراحاته وهى تفيض دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك، فحمله الزبير على فرسه وسارا فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيباً، فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون فارساً، فلما لحقوهم قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض، فسمى بليع الأرض، وإنما قذفه ليتفرغ للقتال ولما قذفه قال وهو واقف ثابت مشمر للقتال: ما أجرأكم علينا يا معشر قريش! ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام، وأمى صفية بنت عبد المطلب، وصاحبى المقداد بن الأسود، أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما، فإن شئتم ناضلتم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا إلى مكة ولو لم تبتلعه الأرض لم يأتيا المدينة إلا به رضى الله عنه، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده فقال: يا محمد إن الملائكة لتباهى بهذين من أصحابك، ونزل: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ }" ، حين شريا أنفسهما فأنزلا خبيباً عن خشبته.
وقال عكرمة وغيره: نزلت فى صهيب بن سنان، أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه، فقال لهم: أنا شيخ كبير إن كنتم معكم لم أنفعكم وإن عليكم لم أضركم، فخلونى وما أنا عليه، وخذوا مالى فقبلوا منه ماله، وأتى المدينة، ولا يلزم كما زعم بعض أن يكون يشرى على هذا بمعنى باع، لجواز أن يكون المعنى يشترى نفسه من غضب الله وناره بماله، وقيل: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلهاً آخر شروا بأنفسهم - رضى الله عنهم - فجاهدوا فى سبيل الله حتى أظهر الله عز وجل دينه، والجمهور على أن الآية فى أصحاب الرجيع، رضى الله عنهم، وقد أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلهم غزوة تسمى غزوة بنى لحيان - بكسر اللام وفتحها لغتان - فى ربيع الأول سنة ست من الهجرة، وذكر ابن إسحاق: أنها فى جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من قريظة، قال ابن حزم: الصحيح أنها فى الخامسة، قالوا:
"وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه وجداً شديداً، فأظهر أنه يريد الشام وعكسر فى مائتى رجل، ومعهم عشرون فرساً، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن عران واد بين لعج وعسفان، وبينهما وبين عسفان خمسة أميال، حيث كان مصاب أصحابه أهل الرجيع، الذين قتلوا ببئر معونه، فترحم عليهم ودعا لهم، فسمعت بهم بنو لحيان فهربوا فى رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوماً أو يومين يبعث السرايا فى كل ناحية، ثم خرج حتى أتى عسفان، فبعث أبا بكر فى عشرة فوارس لتسمع بهم قريش فيذعرهم وأتوا كراع العميم، ثم رجعوا ولم يلقوا أحداً، وانصرف صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيداً، وهو يقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة" .
{ واللّهُ رَءُوفٌ }: الرأفة أعلى مراتب الرحمة
{ بالعباد }: إذ علمهم ما يشترون به أنفسهم، وعليهم دينهم، ووفقهم إلى العمل بذلك، وكلفهم بالجهاد ليثيبهم ثواب الجهاد والغزو، وأعطاهم الجنة الدائمة على العمل القليل مع أن أبدانهم وأموالهم له وأفعالهم خلق له والتوفيق منه.