خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٢١
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا آيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمْ }: لما ذكر المؤمنين والمشركين والمنافقين وخواص هؤلاء الفرق الثلاث، ومصارف أمورهم كصرف المؤمنين حواسهم إلى الحظوظ الآجلة، والمشركين والمنافقين حواسهم إلى العاجلة، أقبل عليهم بالخطاب على طريق العرب، فى التفاتها من الغيبة إلى الخطاب، تحريكاً للسامع وتنشيطاً له، واهتماماً بأمر العبادة وتفخيما لشأنها، فإن التفنن فى الكلام والخروج فيه من تصنيف إلى تصنيف ما يستدعى زيادة إصغاء، هذا كما تقول لمخاطبيك: إن من فعل كذا أو كذا لحميد وإن جزاءه من الخير كذا وكذا، وإن من فعل كذا وكذا لذميم، وإن عقابه كذا وكذا يا بنى فلان أنه حق عليكم أن تنظروا لأنفسكم ولا تهملوها وتلزموها طريق النجاح لتفوزوا عن الهلاك إلى الفلاح، ولما كان فى عبادة الله - عز وجل - مشقة يلزم الشيطان ساحتها، ويقوى ما ضعفت منها جبرها الله - جل وعلا - بخطابه الناس، لأن فى خطابه إياهم لذة وإيناساً. وإنما ناداهم بيا وهى للبعيد والله - سبحانه وتعالى - أقرب من حبل الوريد، لأنهم بسهوهم وغفلتهم منزلون بمنزلة البعيد، وللتأكيد فى النداء إيذاناً بإنما يتلو النداء مما يهتم به الغافل، والبعيد يعتنى بأمره خوفاً عليه أكثر مما يعتنى بالقريب، وأما دعاؤنا الله بيا فاستبعاد لأنفسنا واستقصار لها عن مظان الزلفى الموسومة للمقربين، وهضم لها وإقرار بالتفريط فى جنب الله، ومبالغة فى الدعاء وطلب الإجابة، وأى اسم جنس مبهم جعل وصلة لنداء ما فيه أل، لأن حرف النداء وأل متماثلان، ولا يجتمع تعريفان، وهى نكرة مقصودة، ولما كان اسم جنس مبهماً لزم بعده اسم جنس آخر مقرون بأل يزيل إبهامه، أو ما يجرى مجرى اسم الجنس نحو: يا أيها الزيدون، ويا أيها ذا، ففى ذلك فائدة الإيضاح بعد الإبهام، وهو نوع تأكيد، وها للتنبيه جاء بها تعويضاً عما يستحق أى من المضاف إليه، والتنبيه تأكيد، فهذا تأكيد آخر، فذلك ثلاث توكيدات: النداء بياء والتنبيه والإيضاح بعد الإيهام، ولا يقطع ما بعد أنها عن الضم إشعاراً بأنه المقصود بالنداء، والضمة فيه أو نائبها مناسبة للفظ أى وهو مقدر النصب بفتحة أو نائبها لا إعراب ولا بناء، لكن لما كانت حركة المنادى وحرفه النائب عنها كحركة الإعراب أو نائبها لحدوثها بحرف النداء اتبع فيه المنادى، وهذا أولى من أن يجعل ذلك فى تابع أيها إعراباً على نية أن المنادى نائب الفاعل تقدير الفعل النداء مبنياً للمفعول، كقولك فى الإنشاء يدعى الناس وللتوكيدات الثلاث فى ذلك كثر النداء بمثل ذلك فى القرآن فى كل أمر عظيم حقيق بالتفطن له والإقبال عليه، والأصل فى أل العموم فاذا لم يدل دليل على العهد أو غيره حملت على العموم أو الجنس، سواء دخلت على الجمع كالملائكة أو اسم الجمع كالناس أو المفرد كالإنسان، ولذلك صح الاستثناء منها والتوكيد بما يؤكد الجمع نحو: { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } }،{ { والعصر إن الإنسان لفى خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، وما زالت الصحابة يستدلون بعموم ذلك، فالناس فى الآية يعم الموجودين وقت النزول عموماً ظاهراً متبادراً من لفظ النداء والخطاب، ويعم من سيوجد عموماً ملحقاً تنزيلا منزلة الموجودين لما تواتر أن ما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - شامل لمن يأتى بعد إلى قيام الساعة، إذ لا نبى بعده إلا ما خصه الدليل بمن فى زمانه أو بمن بعده، وقال الرازى: عموم من سيوجد من دليل خارج لا من الآية، وهو المتواتر المذكور والمشهور الأول، والله - عز وجل - قد أمر فى الآية الكفار والمؤمنين بالعبادة، أما العبادة التى أمر بها الكفار فالإيمان بالله والرسول والأنبياء والكتب والبعث وغير ذلك مما يجب الإيمان به، وعمل الفرائض من وضوء وصلاة وصيام وزكاة وغير ذلك وترك المعاصى كالزنى والسرقة والغصب وغير ذلك، وأما العبادة التى أمر بها المؤمنين فالثبات على الإيمان وعلى عمل الفرائض وترك المعاصى والارتياد من ذلك، وإن شئت فقل التى أمر بها المؤمنين ما ذكر، والتى أمر بها المشركين أداء الفرائض فعلا وتركاً، وهو أمر يستلزم من الأمر بالإيمان، إذ لا تتم عبادتهم إلا به، فإن الأمر بالشىء أمر بها لا يتم الشىء إلا به، فالأمر بالعبادة أمر بتقديم الإيمان عليها، كما أن الأمر بالوضوء أمر بتقديم غسل النجس عليه، وكثيراً ما يذكر النجس فى كتب الفقه والحديث، ويقتصر على ذكر الوضوء دون ذكر غسل النجس، لما علم أنه لا يصح وضوء مع وجود نجس، وكما أن الأمر بالصلاة أمر بالوضوء قبلها، فالشرك لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب تركه والاشتغال بها بعد تركه، وعن ابن مسعود وابن عباس وعلقمة والحسن: أن كل شئ نزل فيه { يا أيها الناس } فمكى، و { يا أيها الذين آمنوا } فمدنى، ولم يصح رفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً فضلا عن أن يكون حديثاً حسناً أو صحيحاً، وقد تقرر أن البقرة مدنية وقد ذكر فيها { يَا أيُّهَا النَّاسُ } وكذا النساء والحجرات اتفقوا على أن الثلاث مدنيات، وقد ذكر فيهن { يَا أيُّهَا النَّاسُ } وسورة الحج مكية، وقد ذكر فيها { يا أيها الذين آمنوا } ، إلا أن يقال إن { يا أيها الناس } مكى، و { يا أيها الذين آمنوا } مدنى حيث كانا، وإن المراد بكون السورة مكية أو مدنية كون غالبها كذلك، وعلى صحة الرفع لا يوجب تخصيص الآية بالكفار، لأن عبادتهم إنما تعتبر بعد كونهم مؤمنين، أخرج الحاكم فى مستدركه، والبيهقى فى الدلائل، والبزاز فى مسنده من طريق الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: ما كان { يا أيها الذين آمنوا } نزل بالمدينة وما كان { يا أيها الناس } فبمكة، وأخرجه أبو عبيد فى الفضائل عن علقمة مرسلا، وأخرج عن ميمون بن مهران قال: ما كان فى القرآن { يَا أيُّهَا النَّاسُ } أو { يا بنى آدم } فإنه مكى، وما كان { يا أيها الذين آمنوا } فمدنى، قال ابن عطية وابن الفرس وغيرهما: هو فى { يا أيها الذين آمنوا } صحيح، وأما { يَا أيُّهَا النَّاسُ } فقد يأتى فى المدنى، وقال ابن الحصار قد اعتنى المتشاغلون بالنسخ بهذا الحديث واعتمده على ضعفه، وقد اتفق الناس على أن النساء مدنية وأولها { يَا أيُّهَا النَّاسُ } وعلى الحج مكية وفيها { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } وقال غيره: هذا القول إن أخذ على إطلاقه فيه نظر فإن سورة البقرة مدنية وفيها { يا أيها الناس اعبدوا ربكم }، { يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض } وسورة النساء مدنية وأولها { يَا أيُّهَا النَّاسُ } وقال مكى: وهو عالم أندلسى معاصر لأبى عمرو والأندلسى الدانى هذا إنما هو فى الأكثر وليس بعام، وفى كثير من السور المكية { يا أيها الذين آمنوا } وقال غيره: الأقرب حمله على أنه خطاب المقصود به أو جل المقصود به أهل مكة أو المدنية، وقال القاضى عياض: إن كان الرجوع فى هذ إلى النقل فمسلم، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم وباسمهم وجنسهم ويؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها، والازدياد منها، نقله فخر الدين فى تفسيره، وأخرج البيهقى فى الدلائل من طريق يونس بن بكر عن هاشم بن عروة عن أبيه قال: كل شىء نزل من القرآن فيه ذكر الأمم والقرون، فإنما نزل بمكة وما كان من الفرائض والسنن فإنما نزل بالمدينة، وقال الجعبرى: لمعرفة المكى والمدنى طريقان: سماعى وقياسى، فالسماعى ما وصل إلينا نزوله بأحدهما، والقياسى كل سورة فيها { يَا أيُّهَا النَّاسُ } فقط أو كلا، أو أولها حرف تهج سوى الزهراوين والرعد أو فيهما قصة آدم وإبليس سوى البقرة فهى مكية، وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية فهى مكية، وكل سورة فيها فريضة أو حد فهى مدنية، وقال مكى: كل سورة فيها ذكر المنافقين فهى مدنية. قال غيره: إلا العنكبوت، وفى كامل البذلى كل سورة فيها سجدة فهى مكية وقال الدرينى:

وما نزلت كلا بيثرت فاعلمن ولم تأت فى القرأن فى نصفه الأعلى

وحكمة ذلك أن نصفه الأخير نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول وما نزل منه فى اليهود، ولم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم ذكره العمانى، وإنما قلت أنا والفخر وغيره: دوام المؤمنين على العبادة وازديادهم منها دفعاً لتحصيل الحاصل، وهو مردود كما أشار إليه من قال من بحر الخفيف:

فلو انى فعلت كنت كمن تسأله وهو قائم أن يقوما

وإنما قال:اعبدوا ربكم، ولم يقل: اعبدوا الله أو الرحمن أو نحو ذلك إشارة إلى أن موجب العبادة هو الربوبية.
{ الَّذِى خَلَقَكُمْ }: صفة للتعظيم والتعليل، والموصوف ربكم، أما التعظيم فلأنه الخالق ولا يقدر سواه أن يخلق، وفيه مدح، وأما التعليل فلأن الموصول مع صلته كالمشتق، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعليته، فكأنه قيل اعبدوا الله لأنه ربكم، ولأنه خلقكم، وهذا صحيح - إن شاء الله تعالى - سواء جعلنا الخطاب للمؤمنين والمشركين، أو للمشركين وحدهم، لأنهم مقرون بأن الحقيق بالربوبية هو الله - جل وعلا - وأنه الخالق كما قال جل وعلا:
{ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } }، { { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } فلكونهم مقرين بذلك أخرج الكلام مخرج ما تقرر عند المخاطب، وكان المخاطب مسلماً إذ جعل الخلق صلة للموصول والصلة معهودة للمخاطب ثابتة عنده فى أصل الكلام، فلو قلت لمن يعترف بمجىء زيد: أكرم زيد الذى جاء، لم يكن كلامك مقبولا، إلا إن أردت التلويح إلى استبعاد إنكار مجيئه، وإلى أن مجيئه كالشىء الذى لا يمكن إنكاره، فحينئذ تخاطبه فى إثبات ما أنكر كأنك تشير إليه أنك معاند مكابر، أو أنك لو نظرت أدنى نظر لتمكنت من العلم بمجيئه، فجوز فى الآية أيضاً أن يقال. أخرج الكلام مخرج ما تقرر بالنسبة إلى مشركى العرب المقرين بأن الخالق الله لإقرارهم بالنسبة إلى كل من لم يقر بأن الله - عز وجل - هو الخالق لتمكنه من العلم بأنه هو الخالق، أو نظر أدنى نظر، ولو قال اعبدوا ربكم وهو خلقكم، أو لأنه خلقكم، لكان الكلام غير مخرج مخرج ما تقرر عند المخاطب جزماً، فإنهما يقالان لمن تقرر عنده ولمن لم يتقرر عنده، ويجوز أن يكون الوصف فى الآية للتوضيح إذا جعلنا الخطاب للمشركين المقرين بأن الله هو الخالق، فإن الرب عندهم يشمل الصنم والله سبحانه وتعالى، فاحترز بالذى خلقكم من الصنم، والخلق إيجاد الشىء على تقدير واستواء، وهذا مختص بالله - جلا وعلا - وأصله التقدير وهذا يوصف به المخلوق أيضاً، ولذا قال جل وعلا: { تبارك الله أحسن الخالقين } فأثبت تعدد الخالقين أى المقدرين، يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس، وقرأ أبو عمر وخلقكم بإبدال القاف كافاً وإسكان هذه الكاف وإدغامها فى الكاف بعدها، ولم يدغم أبو عمرو من المتقاربين فى كلمة إلا القاف فى الكاف التى تكون فى جمع المذكرين إذا تحرك ما قبل الكاف نحو: خلقكم ورزقكم ويخلقكم ويرزقكم، وواثقكم به وأظهرها إن سكن ما قبلها نحو ميثاقكم وبورقكم، بإسكان الراء عنده، أو لم يكن الكاف للجمع نحو خلقك ويرزقك، واختلف أهل الأداء فى قوله: { إن طلقكن } فى التحريم، فكان ابن مجاهد يأخذ بالإظهار، وعلى ذلك عامة أصحابه، قال أبو عمرو والدانى وألزم اليزيدى أبا عمر وإدغامه فدل على أنه يرويه عنه بالإدغام وهو القيام لثقل الجمع والتأنيث. انتهى.
{ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }: عطف على كاف خلقكم أى وخلق الذين تقدم زمانهم على زمانكم، ويستعمل لفظ قبل ونحوه فى التقدم بالذات، كتقدم الجزء على الكل والواحد على اثنين، وقرأ أبو السميدع:
{ وخلق من قبلكم } بإثبات من بفتح الميم مكان الذين، وفتح لام قبلكم وقرأ زيد بن على والذين من قبلكم بإثبات الذين، ومن بفتح الميم ولام قبلكم بزيادة الموصول الثانى، وهو من بفتح الميم تأكيداً لفظياً، ومع بالمرادف شذوذ وقبلكم صلة الذين أو من خير لصدر صلة الذى محذوف الطول الخبر الذى هو من بصلتها، أى والذين هم من قبلكم بفتح الميم واللام، وقبلكم صلة من ومما زيد فيه الاسم كقول جرير:

يا تيم تيم عدى لا أبالكم لا يوقعنكم فى سوءة عمر

فتيم الأول مضاف لعدى والثانى زائد بينهما، وقال المبرد: الثانى مضاف إلى عدى والأول مضاف إلى محذوف أى يا تيم عدى تيم عدى.
{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: حال من الواو فى { اعْبُدُوا } على معنى قولك اعبدوا ربكم راجين الاتقاء عن مناهيه أو هو على تقدير القول، أى قائلين فى قلوبكم طمعاً لعلكم تتقون، وعلى هذا الوجه يكون فى ذلك التفات من التكلم إلى الخطاب على مذهب السكاكى، إذ مقتضى الظاهر أن يقول: لعلنا نتقى، أو الجملة حال من الكاف فى خلقكم والذين، أى خلقكم والذين من قبلكم فى صورة من يرجى منه التقوى والكمال أسبابه ودواعيه من عقل ومصنوعات الله وأفعاله فى الأمم السابقة، ومعجزات النبى صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله سبحانه وتعالى فى هذا الوجه تغليب المخاطبين على الغائبين فإن الكاف للمخاطبين والذين اسم ظاهر للغائبين، وليس فى { تَتَّقُونَ } إلا الخطاب، والمعنى على إرادتهم جميعاً، ولعل فى هذه الأوجه كلها للترجى مصروفاً إلى البشر، وقيل لعل للتعليل وهو تعليل لقوله تعالى: { خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أى خلقكم والذين من قبلكم لكى تتقوا، كما قال:
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وحكى البغوى عن الواقدى أن جميع ما فى القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله: { لعلكم تخلدون } فإنها للتشبيه، وكذا قال ابن أبى حاتم من طريق السدى عن أبى مالك، ونص البخارى: أنها فى { لعلكم تخلدون } للتشبيه، وعن قتادة كان فى بعض القراءات: كأنكم تخلدون، وكونها للتشبيه غريب، والتعليل أيضاً ضعيف، والصحيح أنها للترجى أو التوقع مصروف إلى البشر حيث وردت من كلام الله عز وجل، وقد أطلت البحث عن ذلك فى النحو، وإذا استعملت فى شأن عظيم، فهى للترجى كذلك، واليقين إنما يفيده الحال، حال ذلك العظيم إذ كان تلويحه بشىء على طريق غير الجزم جزماً، لأنه عظيم الوفاء والغنى عما طلبه منه غيره، فلا يمنعه عنه، قال الشاعر:

وقلتم لنا كفوا القتال لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق

فلولا أنها لليقين ما قال وثقتم لنا كل موثق، إلا أن يقال هى فيه للتعليل، والآية تدل على أن التقوى فوز بالهدى وفلاح، مستوجبان لرضى الله وثوابه، وإن التقوى منتهى درجات السالكين، وهى ترك المعاصى والإعراض عما سوى الله تعالى، ووجه إرشاد الآية أنها إلى منتهى درجاتهم، أنها جعلت غاية للعبادة، أى اعبدوه تصلوا هذه الدرجة، أو خلقكم والذين من قبلكم على أن تناولوا التقوى، وتدل الآية أيضاً على أن العابد لا يغتر بعبادته، بل يرجو ويخاف كقوله عز وجل: { يدعون ربهم خوفاً وطمعا } وقوله: { يرجون رحمته ويخافون عذابه } أو على أن الإنسان غير مهمل، أى خلقكم على أن تتقوا، وتدل آية أيضاً على أن الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانية واستحقاقه العبادة النظر فى صنعته والاستدال بأفعاله، قال القاضى: وإن العبد لا يستحق بعبادته عليه ثواباً فإنها لما وجبت عليه شكوراً لما عدده عليه من النعم السابقة، فهو كأجير أخذ الأجرة قبل العمل. انتهى.