خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٢٣
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ }: شك { مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا }: محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب - صلى الله عليه وسلم - وقرأ بعضهم: { على عبادنا } أى محمد وأمته، والإضافة فى القراءتين تشريف وتنبيه، على أنه أو أنه وأمته على اختصاص بالله وانقياد لحكمه. روى أن اليهود قالوا إن القرآن ليس وحياً لأنه لم يشبه كلام الوحى، فنزلت الآية تحدياً لهم أنه إن كان من كلام البشر فليأتوا بمثله. وعلى هذا فالخطاب لليهود، وهذا أنسب بالقراءة الثانية. وقيل: قال لك كفار مكة فنزلت. ويجمع بينهما بأن اليهود قالته فتبعتهم كفار مكة. وكذا يقال فى قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } }. ووجه قولهم أنه لا يشبه الوحى، أنهم سمعوا أنه ينزل شيئاً فشيئاً بحسب الوقائع. كما يركب الشاعر قصيدته شيئاً فشيئاً والتأثر كلامه شيئاَ فشيئاً والخطيب خطابته.
{ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }: وأنتم أفصح العرب العرباء وأبلغهم وفى كثرة العدد والمضادة والمضارة وحب المغالبة مشمرون فى ذلك فاجهدوا جهدكم فى ذلك لعلكم تأتون بسورة من مثله تركبونها شيئاَ فشيئاً.
{ وَادْعُوا شُهَدَآءَكُمْ }: آلهتكم. وقال ابن عباس: من شهدكم وحضركم من عون ونصير.
{ مِنْ دُونِ اللَّهِ }: ليعينوكم على ذلك.
{ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ }: فى قولكم إنه من كلام البشر والسورة من القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو غير ذلك من كتب الله طائفة مسماة باسم خاص أقلها ثلاث آيات. وذكر الجعبرى أن السورة قرآن يشتمل على آى ذى فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات. والواو أصل وهى منقولة من سورة المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محورة على انفرادها مجتمعة اجتماع البيوت، كما يحيط سور المدينة ببيوتها، ومن هذا المعنى السوار لإحاطته بالساعد، أو لأنها محيطة بأنواع من العلم إحاطة السور بالمدينة والسوار بالساعد. وقيل سميت سورة لأنها مرتفعة الشأن لأنها من كلام الله، والسورة المنزلة الرفيعة.
قال النابغة:

ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها بتذبذب

وقال أيضاً من قصيدة أخرى له:

ولرهط حراب وقد سورة فى المجد ليس غرابها بمطار

وحراب وقد رجلان من بنى إسرائيل. وسورة منزلة رفعية. وقوله: ليس غرابها بمطار، كناية عن كثرة الرهطين، ودوام المجد لهما فإن النبات إذا كثر فى موضع لا يطير غرابه، لأن الغراب إذا وقع فى موضع الخصب أصاب فيه ما لا يحتاج معه إلى أن ينتقل منه إلى مكان آخر، أو كناية عن كثرة الثمار المكنى بها عن عمار الموضع والبقاء فيه، وقيل من السورة بمعنى مطلق المنزلة والمرتبة لا من حيث كونها مرتفعة. ولو كانت السورة عالية الشأن أو من المنزلة والمرتبة من حيث إن القارئ يرتقى فيها أو لأن لها مرتب فى الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة وقد علمت أن السورة فى البيتين: المنزلة والرتبة. وقيل: سميت سورة لتركيب بعضها على بعض، من التسور بمعنى التصاعد والتركب، ومنه: { إذا تسوروا المحراب } . ويجوز أن تكون الواو بدلا من الهمزة من السؤرة التى هي البقية والقطعة من الشىء، يقال أسأرت أى أفضلت وأبقيت من الشراب أو الطعام أو غيرها، وسورة البناء: القطعة منه بعد الأخرى، وبعضهم يهمز الواو. وحكمة جعل القرآن سوراً. تحقيقاً كون السورة تجردها معجزة وآية من آيات الله عز وجل، والإشارة إلى أن كل سورة طريق مستقل فى نوعه. فسورة يوسف: تترجم عن قصته. وسورة براءة: تترجم عن أحوال المنافقين وأسرارهم والتنبيه على أن الطول ليس من شرط الإعجاز إذ كان منه طوال وقصار وأوساط، وكلها معجز، وهذه سورة الكوثر ثلاث آيات، وهى معجزة إعجاز سورة البقرة، فلو تفاوت الإعجاز بالطول والقصر والتوسط لأمكن لهم أن يأتوا بمعجز قصيراً وكادوا يأتون به، ولا يمكن لهم ذلك أبداً ولو اجتمع الخلق.. فافهم. وتدريج الأطفال من السور القصار إلى الأوساط والطوال وكذا الضعفاء فى الحفظ من الرجال والنساء والعبيد والعجم تيسيراً من الله على عباده لحفظ كتابه، وتنشيطا على الحفظ والدرس والتعليم والتعلم وتطرية وتجديدا:

لكل جديد لذة غير أننى وجدت جديد الموت غير لذيذ

ولذلك جزءوه أرباعاً وأحزاباً وغير ذلك، فكيون متناوله كمسافر، إذا قطع ميلا أو فرسخاً استراحت نفسه إليه وانتشطت لما بعده. فلو جهل ذلك لضاق ذرعاً بما هو فيه من المشقة. وبما بقى له منها لجهله به إلا أن عرف كم يوم أو كم مرحلة، فقد يستريح بعدد الأيام والمراحل، ولذلك المعنى بوبنا تأليفنا وترجمنا بها. وأيضاً الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف، كان أحسن من أن يكون ضرباً واحدا. وتنويعه منصور بجعله سوراً وإذا ختم المتعلم السورة حافظاً لها اعتقد أنه فاز بطائفة من كتاب الله، مستقلة بنفسها، لها مبدأ ومختم فيعظم عنده ذلك، ويغتبط به كفوز من ظفر بكنز وفرحه. وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا، ولذا كانت القراءة فى الصلاة بسورة تامة أفضل. وأيضاً التفضيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض. وبذلك تتلاحق المعانى والتراكيب، وكذلك سائر كتب الله قد جعلها الله سوراً. لذلك أخرج بن أبى حاتم عن قتادة: كنا نتحدث أن الزبور مائة وخمسون سورة كلها مواعظ وثناء، ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود. وذكروا أن فى الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال، وليس كما قال الزركشى: إن سائر كتب الله غير مسور. بل سورة القرآن لأنها لم تكن معجزة من جهة التركيب والترتيب. ولأنها لم تنشر للحفظ. والله علم. و { من مثله } متعلق بمحذوف نعت لسورة. والهاء عائدة لما نزلنا. ومن للتبعيض أو للتبيين، أى بسورة ثابتة بعضاً من جنس الكلام الذى يماثله، وهو الكلام الذى يقدر عليه الله لا غيره، وليس من القرآن ولا من سائر كتبه أو بعضاً من جنس كلام البشر الذى يماثله، لو كان بعض كلامهم مماثلا له، لكنه لم يماثلة بعضه ولا كله أو بسورة من مثله. ومن أجاز زيادة من فى الإثبات كالأخفش أجاز جعلها صلة للتأكيد فيكون مثله نعتاً لسورة، أى فأتوا بسورة مماثله له، ووجه الشبه البلاغة وحسن النظم، أعنى حسن التركيب. ويجوز أن تكون الهاء لعبدنا، فتكون من للابتداء أى بسورة كائنة من مثل عبدنا، أو صادرة من مثله، أو مخترعة من مثله. ووجه الشبه كونه أمياً لا يكتب ولا يقرأ كتابة ولم يتعلم العلم، وإن قلت فهل يجوز أن تكون للابتداء مع كون الهاء لما نزلنا؟ قلت: لا يجوز لأنه يلزم من كونها للابتداء مع كون الهاء لما نزلنا أن يكون للقرآن مثل محقق موجود، وإنما عجزوا عن الإتيان به وليس كذلك، ولأن كلمة من على ذلك ليست بيانية ولا تبعيضية، لأن الإنسان لا يكون سورة ولا بعض قرآن. وليست صالحة لمعنى من معانيها ولا يتخيل إلا الابتداء وهو ضعيف كضعفه فى قولك: أتيت من الدراهم بدرهم، لأن الكل فيه يكون مبتدأ للإتيان بما هو بعض منه، بخلاف ما إذا لم يكن ذلك فإنه حسن قوى، نحو أتيت من زيد بشعر، ويجوز أن تكون للابتداء متعلقة بقوله: { فأتوا } والهاء للعبد وما ذكرته أولا من كون الهاء للعبد أحسن لأنه المطابق لقوله فى سورة هود: { فأتوا بسورة مثله } دون { مِّن } ومعلوم أن السورة لا تكون مثل النبى - صلى الله عليه وسلم - ولو جعلنا الهاء للعبد لكان المعنى فأتوا بسورة مماثلة له، ولأنه المطابق أيضاً لسائر آيات التحدى، ولأن الكلام فى المنزل وهو القرآن لا فى المنزل عليه وهو العبد المذكور - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: { وَإِن كُنْتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } ولم يقل وإن كنتم فى ريب من أن محمداً منزل عليه، فحق الكلام: أن لا ينفك عن ذكر المنزل ليتسق التركيب والترتيب، فإن المعنى: وإن ارتبتم فى أن القرآن منزل من عند الله فأتوا بشىء مما يماثله، ولو كان الضمير للمنزل عليه لقيل: وإن ارتبتم فى أن محمداً منزل عليه فأتوا بقرآن من مثله، ولأن مخاطبة الكثير بأن يأتوا بقليل مما أتى به واحد منهم، هو وهم سواء فى العشيرة، وعدم الكتابة، وعدم قراءتها، وعدم التعلم، أبلغ فى التحدى، من أن يقال لهم: ليأت مثل هذا العبد بمثل ما أتى هذا العبد، ولأن القرآن معجز فى نفسه لا بالنسبة إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } ولهذا العلل رد الجمهور الهاء إلى ما نزلنا، ولو رددنا إلى العبد لأوهم إمكان صدور مثل الصورة ممن لم يكن على صفته، ولكان قوله: { وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ } غير ملائم لذلك الإمكان إذ لا معنى للاستظهار بشهدائهم على أن يأتوا بسورة واحدة من مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن قوله: { ادعوا... الخ } أمر تعجيز بأن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم، سواء كان مثله أم لا، والشهداء جمع شهيد بمعنى حاضر أو قائم بالشهادة أو الناصر أو الإمام. سمى به لأنه يحضر النادى، أعنى المجلس، وتبرم بحضرته الأمور لأن لفظ الشهادة، وما تصرف منه لحضور الشىء بذاته أو بعلمه، ومنه سمى القتيل فى سبيل الله شهيداً، لأنه حضر ما كان بمجيئه يرجوه أو حضرته الملائكة، وفيه أوجه تأتى إن شاء الله فى محلها. وقال الله جل وعلا: { شهد الله أنه لا إله إلا هو } أى علم الله أنه لا إله إلا هو. ويجوز أن يكون الشهداء: جمع شاهد كعالم وعلماء، وعاقل وعقلاء، وشاعر وشعراء، والله أعلم. ومعنى { دُونِ }: أدنى مكان من الشىء، ولست أريد أن مادة دون الدنو وما تصرف منه واحدة، بل مادتان اختلفتا فى إعلال العين واللام وتصحيحهما، ومن ذلك تدوين الكتب، لأنه أدنى البعض من البعض بأن تضم المعانى والنقوش وتضم كل ورقة إلى أخرى، ويقال دونك هذا أى خذه من أدنى مكان منك، ثم استعير للرتب فقيل: عمرو دون زيد، أى فى الشرف، ومنه قولهم: الشىء الدون، أى الردىء، ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل تجاوز حد، أو تخطى أمر إلى آخر. وإن خلا عن اعتبار المنزلة والرتبة. قال جل وعلا: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أى لا يتجاوز ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. وقال أمية بن أبى الصلت:

يا نفس مالك دون الله من واق ولا لسع بنات الدهر من راق

أى إذا تجاوزت وقاية الله، فلا يغنيك غيره ومن متعلقه بادعوا. والمعنى: وادعوا لمعارضة القرآن بالإتيان بمثل سورة منه، من حضركم أو رجوتم معونته من الإنس والجن والأصنام، فإنه لا قدرة لكم على الإتيان بمثلها ولا تدعوا الله لذلكم فإنه القادر وحده على الإتيان بمثل القرآن. أو المعنى ادعوا من دون الله من يشهد لكم من الناس إنما أتيتم به مثله، وصححوا دعواكم ولا تقصروا على قولكم: الله يشهد إنما ندعيه حق فإنه من عادة الذى يقول البهتان ويعجز عن إقامة الحجة: والأمر على هذين المعنيين للتبكيت والتعجيز، أو المعنى: ادعوا من دون الله شهداءكم الذين اتخذتموهم أولياء من دون الله، وهم شرفاؤكم ليشهدوا أنكم أتيتم بمثله، وليسوا بشاهدين بذلك. وأما المؤمنون فلا مطمع لكم فى الشهادة بذلك. و{ مِّن } على المعانى الثلاثة متعلق بادعوا. والأمر على المعنى الثالث لاستدراج. والمعنى: ادعوا شهداءكم الذين اتخذتموهم آلهة وهم الأصنام وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة أنكم على الحق، ولا تدعوا الله. والأمر على ذهاب المعنى أيضاً للتهكم أو المعنى: ادعوا أصنامكم التى تشهد لكم بين يدى الله أنكم على الحق. والأمر على هذا المعنى للتهكم أيضاً. والمعنى: ادعوا شرفاءكم ورؤساءكم يشهدوا أنكم آتيتم بمثله، متجاوزين أولياء الله المؤمنين فإنه لا شهادة لهم فى ذلك. يعنى أن شرفاءكم ورؤساءكم لا يشهدون بذلك لظهور بطلانه. و{ مِّن } على المعانى الثلاثة الأخيرة متعلقة بشهداء والأمر على الأخير لاستدراج، أو يجوز تعليق { مِّن } بمحذوف حال فى تلك المعانى كلها، إلا الخامس فتعلق فيه بشهدائكم أو بمحذوف ليشهدوا. أى من دون الله ومن استعمال دون بمعنى بين قول الأعشى:

تريك القذى من دونها وهى دونه إذا ذاقها من ذاقها يتمطق

أى تريك زجاجة الخمر القذى من قدامها وهى قدام القذى من ذاقها أى الحمر أو الزجاجة، أى خمرها يتمطق، أى يمتص فمه وشفتيه للذتها، وقل: من دون الله بمعى من دون أولياء الله، وأن المراد بشهدائكم فصحاء العرب ليشهدوا أن ما آتيتم به مثله. فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده، لرجوع ذلك عليه بالذم، إذا نسب إلى الجهل وعدم التمييز، فليسوا بشاهدين لكم، وقد اعترف الفصحاء بإعجاز القرآن، وكان قد تحدى الله به من حيث تأليفه ومعانيه وإخباره بالغيب، وكان فى زمان هاجت فيه فحول الشعراء، وفصحاء الكلام، فتحداهم بتأليفه كما تحداهم بمعانيه وإخباره بالغيب، وعجزوا كلهم وانكشفوا. وقد قال الوليد بن المغيرة فى وصف القرآن: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أصله لغدق وإن أعلاه لمثمر... والله أعلم. والآية نص فى أنهم كاذبون فى ادعائهم الإتيان بمثله إذ قال: { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وقال: { فإن لم تفعلوا... } إلخ الآية. والصدق: الإخبار المطابق للواقع سواء طابق اعتقاد المتكلم أم لا، وقيل بشرط أن يطابق الاعتقاد عن دلالة أو أمارة. وقيل: هو مطابقته لاعتقاد المتكلم، سواء كان اعتقاده حقاً أو خطأ. فالأول: مذهب الجمهور، والثانى: مذهب الجاحظ، والثالث: مذهب النظام. فالكذب على الله عدم مطابقته للواقع، سواء طابق الاعتقاد أم لا. وعلى الثانى: عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق. وعلى الثالث: عدم مطابقته اعتقاد المتكلم، ولو كان خطأ ولا واسطة بين الصدق والكذب إلا فى مذهب الجاحظ المذكور ويوصف المتكلم والكلام بالصدق والكذب، ومرادى بمطابقة الإخبار: مطابقة حكمه، فان الصدق والكذب راجعان أولا إلى الحكم، وراجعان إليه بالذات، أعنى أنهما يرجعان إليه بلا تفرع على شىء، ولو تفرعا فى الرجوع إليه على شىء لم يكن رجوعهما أولا، وهما راجعان إلى الإخبار ثانياً، راجعان إليه بالواسطة، وذلك أن الإخبار إنما يقع بعد الحكم، فهو ثان بواسطة الحكم. ومرادى بالحكم هنا: العزم على إثبات شىء، يقطع النظر عن كونه صدقاً أو كذبا. ومرادى بالواقع فى قولى المطابق للواقع ونحوه ما فى نفس الأمر. وإن شئت ففسر الواقع بما هو بحاله الذى عند الله، بحسب معتاد الناس، وإن شئت فقل هو الخارج الذى يكون بنسبة الكلام الخبرى. فالخارج فى مقتضى قولك: قام زيد هو القيام الماضى. وفى قولك: يقوم هو القيام أو المستبقل. والنسبة التامة تعليق أحد الأمرين بالآخر، بحيث يحسن السكوت. كقام زيد. والناقصة تعليق أحد الأمرين بالآخر، حيث لا يحسن السكوت كغلام زيد وإن قام زيد. والنسبة إما ثبوتية أو سلبية يعتقدها المتكلم إما صادقاً فيها أو كاذباً. وهذه النسبة الذهنية. والسامع بجزم بالنسبة إنها موجودة مع قطع النظر عما فى اعتقاد المتكلم، إما موافقة لنسبة المتكلم فصدق، وإما مخالفة فكذب. وقول القائل: السماء فوقنا فصدق عند الجمهور، ولو اعتقد أنها تحتنا لمطابقته الواقع. وقوله: تحتنا كذب، ولو اعتقده لعدم مطابقة الواقع. وأما على قول الجاحظ فقولك: السماء فوقنا معتقد أنها قوقنا صدق، وقولك معتقداً أنها تحت كذب. وأما على قول النظام فقولك السماء تحتنا معتقداً أنها تحتنا صدق. فقولك فوقنا غير معتقد أنها فوقنا كذب. والمراد بالاعتقاد: الحكم الذهنى الجازم أو الراجح، فيعم العلم وهو حكم جازم لا يقبل التشكيك. والاعتقاد المشهور وهو حكم جازم يقبله. والظن: وهو الحكم بالطرف الراجح، فكل ذلك صدق. فيخرج الموهوم فإنه كاذب لأنه الحكم بخلاف الطرف الراجح، فليس بصدق عند النظام لخلوه من الاعتقاد المذكور، الذى هو الحكم الذهنى الجازم أو الراجح، وأما المشكوك فكذب أيضاً لعدم ذلك الاعتقاد فيه، أيضاً لأن الشك التردد بين الطرفين بلا ترجيح. وإذا كان الكلام الكاذب خبراً فكيف لا يكون كلام الشك خبراً، مثل أن تقول: قام زيد، مع الشك، فلا يقال المشكوك ليس صدقاً ولا كذباً، واستدل النظام بقوله: تعالى { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } }. لأن الله - جل وعلا - نسبهم إلى الكذب فى قولهم: { إنك لرسول الله } مع أنه مطابق للواقع إذ لم يعتقدوا أنه رسول الله، فسماه كذاباً إذ قالوه من غير أن يعتقدوه. وأجيب: بأنه إنما نسبهم إلى الكذب فى ادعائهم اعتقاد رسالته، ولا شك أن هذا الادعاء غير صحيح، لأنهم لم يعتقدوها. وهذا الادعاء مستفاد من المقام، لا من خصوص قولهم { نشهد } لأنه ليس بإخبار بل إنشاء فضلا عن أن يقال: إن قولهم { نشهد } غير مطابق للواقع. وأجيب أيضاً: بأن المعنى إنهم لكاذبون فى المشهود به، وهو الرسالة، إذ لم يثبتوها فى اعتقادهم، فإثباتهم إياها بألسنتهم كذب إذ لم يوافقها اعتقادهم، فهم عالمون بأنهم كاذبون فأخبرنا الله سحبانه بهذا الكذب الذى صدر منهم، وعلموا به ولو كان فى نفس الأمر صدقاً، لمطابقته الواقع الذى هو ثبوت الرسالة عند الله. وإن قلت هل يصح أن يجاب أيضاً بأن المعنى إنهم لكاذبون فى تسمية قولهم: { إنك لرسول الله } مع عدم اعتقادهم رسالته شهادة، لأن موافقة القلب للنطق مشروطة فى الشهادة؟ قلت: لا يصح أن يجاب بذلك لأن نسمية ما ليس شهادة باسم الشهادة خطأ لا كذب لأن التسمية ليست إخباراً. ولو قلت: مشيراً إلى السماء: هذه الأرض ممطرة، لكنت خاطئاً فى تسيمة السماء أرضاً، لا كذباً لأنك أردت السماء الحق. وإنما تكون التسمية كذباً، حيث جعل فيها كلام تام مثل قولك: هذا الهيكل العلوى أرض، واسم هذا الهيكل العلوى أرض لأن سلمنا تسمية التسمية كذباً على الإطلاق إذا خالفت الواقع لتمنعن اشتراط موافقة القلب للنطق فى اسم الشهادة بل نشرطها فى المشهود به. وأجيب أيضاً بأن التكذيب راجع إلى حلف المنافقين وزعمهم أنهم لم يقولوا لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا لأن الآية نزلت بعد وقوع هذا منهم. وتبقى أربعة أقسام لا تسمى صدقاً ولا كذباً عند الجاحظ: المطابقة مع عدم اعتقادها، والمطابقة بدون اعتقاد أصلا، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة، وعدم المطابقة بدون اعتقاد أصلا، وأما الصدق فالمطابقة مع اعتقادها وأما الكذب فعدهما مع اعتقاد عدمها فهذه ستة أقسام: فالصدق والكذب بتفسير الجاحظ أخص منهما بتفسير الجمهور والنظام، واستدل الجاحظ بقوله تعالى: { افترى على الله كذبا أم به جنة } لأن الكفار حصروا إخبار النبى - صلى الله عليه وسلم - بالحشر فى الافتراء والإخبار حال الجنة على سبيل منع الخلود، ولا شك أن المراد بقولهم { أم به جنة } أن الإخبار حال الجنة، غير الافتراء لأنهم أتوا به قسيما للافتراء، ولا شك أن الإخبار حال الجنة غير الصدق أيضاً إذ لم يعتقدوا الصدق بل اعتقدوا عدمه، ولا شك أنه ليس معنى قوله: { أم به جنة } أم صدق فنحصل فى الجملة افتراء. وإخبار حال الجنة وصدق وجعل عدم اعتقاد الصدق دليلا على عدم إرادتهم كونه صدق لا على عدم كونه صادق فضلا عن أن يعترض بأنه لا يلزم من عدم اعتقاد الصدق عدم الصدق وأجيب بأن معنى { أم به جنة } أم لم يفتروا فعبرو عن عدم الافتراء بالجنة لأن المجنون لا افتراء له، لأن الافتراء هو الكذب عن عمد، ولا عمد للمجنون فعدم الافتراء المعبر عنه بالجنة قسيم الافتراء، والافتراء أخص من عدم الافتراء. والمراد بعدمه الكذب بلا عمد، فيكون ذلك حصر للكذب فى نوعين: الكذب عن عمد والكذب بلا عمد. ولو سلمنا أن الافتراء بمعنى مطلق الكذب عمداً أو بلا عمد، لقلنا إن المعنى أقصد الافتراء أى الكذب أم لم يقصد، بل كذب بلا قصد لما به من الجنة، وتفسير الافتراء بكذب العمد لا بمطلق الكذب صح عن أئمة اللغة، ودل له استعمال العرب، فإن قلت: فهل يشترط فى الإخبار القصد، وإن لم يكن القصد لم يسم الكلام إخبارا فلا يسمى كلام المجنون ونحوه كالنائم والساهى ممن لا قصد له إخباراً لأنه لا قصد فيه يعتد به، فيكون مرادهم حصره فى كونه خبراً كذباً أو ليس بخبر لصدوره حال الجنة، فلا يثبت خبر ليس صادقاً ولا كاذباً، قلت الذى عندى: تسمية اللفظ المفيد من المجنون ونحوه كلاما، لظهور أن مرجع التسمية به إلى التلفظ. وقد تلفظ وركب وأفاد. ولو اشتهر عدم تسمتيه كلاما، ولا يسمى عندى إخبارا لأن مرجع التسمية بالإخبار الصدق والكذب، ونحو المجنون لا يسمى صادقاً ولا كاذباً بالعدم قصده، وهذا معروف فى القلب معتاد، وإذا أطلق على كلامه الصدق، فعلى معنى الاتفاق، وإذا أطلق عليه الكذب فعلى معنى الخطأ وعدم الاتفاق.