خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٥٦
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ لا إكْراهَ فى الدِّينِ }: أى لا يؤخذ أحد فيحبس ليسلم أو يضيق عليه بمنعه من ماله ويترك هو حتى يسلم، وذلك إذا كان ابتدأ عليه، وأما إن دخل الكتابى الذمى أمرا يؤذن بالإيمان فلا يترك حتى يسلم مثل أن يؤذن أو تقيم حتى يقول محمد رسول الله، أو يدخل المسجد على ما بسطهُ فى شرح النيل ولا تشمله الآية لأنه لما دخل فى ذلك الأمر أشعر بالإيمان، وإنما أمر بإتمامه إزالة للأشتباه، إذ لا سبيل لقتله، وأما غيره من أهل الكتاب والمجوس فسبيله أن يسلم أن يعطى الجزية وإلا قتل، وأما غير أهل الكتاب والمجوس، فإن لم يسلموا قتلوا فلا يحبس كتابى فى ذلك إكراه على الدين، وكذا لا يكره مخالف أن يدين بديانتنا. قال ابن عباس: كانت المرأة من الأنصار إذا كان الولد لا يعيش لها نذرت إن عاش جعلتهُ فى اليهود فى دينهم، وزوجها أيضاً من الأنصار، وقيل: إن الأنصار تزوجوا يهوديات، فكن ينذرن أن يجعلن أولادهن فى دينهن، فجاء الإسلام، وفى اليهود جماعة فمن نذر به وجعل فيهم، فلما، أجليت النظير أردات الأنصار استردادهم، وقالوا هم، وقالو هم أبناوءنا وإخواننا، فنزل:
{ لا إكراه فى الدين } الآية فقال صلى الله عليه وسلم:
"قد خيركم أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم" ، وعن سعيد بن جبير: كان قوم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم استرضعوا أولادهم فى اليهود زمان الجاهلية، فلما أسلم الآباء وقد كبر أبناؤهم على اليهودية، أرادوا أن يكرهوا أبناءهم على الإسلام، فنزلت الآية. قال مجاهد: أرضعت نظير رجالا من الأوس، فلما مر النبى صلى الله عليهُ وسلم بإجلائهم قالوا لنذهبن معهم ولنديننن بدينهم فمنعوهم أهلهم وأكرهوهم للإسلم، فنزلت، وقيل: كان لابن الحصين من الأنصار من بنى سالم بن عوف أبنان تنصرا، قدم المدينة نفر من الأنصار يحملون الزيت من الشام بعد قدوم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، فقال أبو همالا أدعكما حتى تسلما فاختصموا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت. فجلاهما، وقال ابن مسعود والزهرى وزيد بن أسلم: إن معنى الإكراه فى الدين نهى عن القتال، فعليه فهى منسوخة بآية السيف، وقال قتادة والضحاك: المعنى لا يكره أهل الكتاب والمجوس على الإسلام بالسيف، بل تقبل عنهم الجزية إلا إن أبوا منها قتلوا كتب النبى صلى الله عليهِ وسلم إلى عامله المنذر بن فلان أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية وهى على أصلها، أى لا إكراه فى الأحكام الشرعية من التوحيد وما دونه، أى ليس فيها شئ يكره عليه، أو المراد بالدين التوحيد، ويجوز كونها بمعنى على، أى لا إكراه ثابت على الدين، أى على الدخول فيه واللفظ خبر، ومعناه نهى، أى لا تكرهوا فى الدين أو معناه أيضا خبر أى ليس من الحكمة أو من دين الله أن يكره كافر على الدين.
{ قَدْ تَبيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىّ }: ظهر بالآيات أن الإيمان هو الرشد، وأن الكفر ضلال فى الدين، والرشد يوصل إلى سعادة الدارين، والضلال إلى شقاوتهما، فمن أدرك عقله بادر إلى الإسلام واجتنب الكفر بلا إكراه. والغىّ: مصدر غوى يغوى إذا ضل فى اعتقاد أو رأى، وأما فى غير ذلك كضلال فى الأرض أو غيرها كالحساب فلا يقال فيه غى.
{ فَمَن يَكفُر بالطَّاغُوتِ }: أى جحد استحقاقه العبادة وهو الشيطان، وهو جنس الشياطين، وهو قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومجاهد وقتادة، وقيل الصنم، والمراد جنس الأصنام، وقيل الساحر وهو جنس السحرة، وقيل الكاهن، والمراد جنس الكهنة، ويطلق على الواحد والجمع، فلا حاجة إلى تأويل الجنس، وقيل كل ما عبد من دون الله ونسب لأهل اللغة كلهم، والمراد غير العاقل، والعاقل الداعى إلى عبادة نفسه كالشيطان ونمرود وفرعون، وأما من عبد من دون الله بلا رضاً منه كالملائكة وعيسى فلا يشمله هذا الاسم، ثم رأيت من تعرض لذلك، فزعم أنه يشمله فيسمى طاغوتا فى حق العبد، كما أن الصنم وما ليس عاقلا وعبد من دون الله ليس فيه طغيان، وإنما الطاغى عابده كالشمس والقمر، وقيل كلما يطغى الإنسان فهو طاغوت، وقيل كلما عبد من دون الله أوصد عن عبادة الله كالهوى فهو طاغوت، ولفظ طاغوت مصدر سمى به وزنه فعلوت بتقديم اللام على العين، وأصل هذا يغوت وطوغوت قلبت الياء أو الواو قيل الغين ألفا لتحركها بعد فتحة، وأصل هذا طغوت أو طغيوت تقدمت الواو أو الياء على الغين فقلبت ألفا كما ترى.
{ ويُؤْمنُ بِاللهِ }: بأن وحده وصدق رسله فيعبد الله وحده مخلصاً، وأيما كافر آمن بالله وبغيره من الطواغيت فليس بؤمن.
{ فَقَدِ اسْتمسَكَ }: أى تمسك تمسكا قويا، فالاستفعال للمبالغة ويجوز إبقاءه على أصله وهو الطلب، إما باعتبار ما تقدم تمسكه من القصد والإرادة، وإما باعتبار أنه ليس على وثوق من السعادة، لإمكان انقلابه إلى الكفر أو المعاصى وهو ما دام حيا يطلب أن يكون قد مسك بها.
{ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى }: دين الله، شبهه بالعروة الوثيقة من حبل صحيح أو حديد قوى لا يسقط من تمسك بها، وقال مجاهد: العروة الوثقى الإيمان وهو التصديق بالله ورسله وكتبه، وقال السدى: الإسلام أى العمل الصالح مع الإيمان، وقال ابن جبير وغيره: لا إله إلا الله، وذلك يرجع بعضه لبعض، لأن الإيمان الكامل وقوله لا إله إلا الله يستلزمان العمل الصالح وقيل العروة الوثقى الإيمان النظر الصحيح، وقيل الدلائل الدالة على هذا الدين القويم، والوثقى مؤنث اسم التفضيل وهو الأوثق ففيه تفضيل.
{ لا انْفِصَامَ لهَا }: أى لا انقطاع لها، يقال فصمته فانفصهم مطاوع الفصم، كما نفصم مطاوع فصم، ومعناه الانكسار من غير تفرق، وأما الانقصام بالقاف فانكسار بتفرق، فإذا لم يكن لها انفصام بالفاء فأحرى ألا يكون لها انقصام بالقاف، وقد يطلق بالقاف على الانكسار بالتفرق وقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث الوحى: "فينقصم عنى" محتمل له ومحتمل للاتصال باعتبار بقاء الموحى معه بعد ذهاب جبريل عليه السلام، قال الحسن: لا انفصام لها دون أن تهجم بأهلها على الجنة.
{ وَاللّهُ سَميعٌ }: بالأقوال، ومنها دعاءك يا محمد إياهم للإسلام.
{ عَليمٌ }: للأفعال والنّيات، فهو معاقب للمنافق ومثيب لناوى الخير.