خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٤٤
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ أَتَأمُرُونَ النَّاسَ }: استفهام توبيخ لليهود أو استفهام تعجب لمن يستمع مخاطبته إياهم بهذه الآية، أو تعجب لهم لو عقلوا، أى يصيرهم متعجبين من فعلتهم هذه لو انتهوا بعدها وتركوها. أو استفهام توبيخ وتعجب، لأن من حيث استعمال اللفظ في معنييه بل من حيث أن كون الشىء مما يوبخ عليه يقتضى التعجب من ارتكابه؛ أو استفهام تقرير مع توبيخ وتعجب، ومعنى هذا التقرير الحمل على الإقرار أو التحقيق والتثبيت، ذكره السعد كذلك، والناس الحقيقة لا بأس مخصون فيصدق بكل من يأمرونه.
{ بِالبِرِّ }: الخير وهو الإيمان بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبما جاء به والعمل به، أو بالتوراة، واعلم أن أصل البر التوسع فى الخير والمعروف، ويطلق أيضاً على سعتهما مأخوذ من البر ضد البحر وهو الفضاء الواسع، وأل فى البر للحقيقة لا للاستغراق، لأنهم لا يأمرون بكل خير على ما ذكره السعد، وعندى يجوز أن تكون للاستغراق، لأنهم إذا أمروا الناس باتباع سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما جاء به فقد أمروهم بكل خير، وإنما تتعين الحقيقة فى تفسير البر الذى يأمرون به بالصدقة أو نحوها من الإفراد والاستغراق أولى لثبوت أمرهم بالإيمان بالنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ والبر يتناول كل خير وهو بر فى عبادة الله ـ عز وعلا ـ وبر فى الأقارب وبر فى الأجانب.
{ وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكمْ }: تؤخرونها عن البر وتتركونها عنه، فلا تأمرونها به فإن نسى يكون بمعنى آخر ويكون بمعنى ترك، ويجوز أن يكون هنا أيضاً من النسيان ضد الذكر، والإنسان لا ينسى نفسه لكن شبه تركهم أنفسهم من الخير عمداً بالنسيان فى الغفلة والإهمال وعدم المبالاة، كما يترك الشىء المنسى لعدم المبالاة به، فسماه باسم النسيان على طريقة الاستعارة الأصلية التحقيقية التصريحية، واشتق منه ينسى بمعنى يترك على طريق الاستعارة التبعية التصريحية التحقيقية. قال ابن عباس رضى الله عنهما: كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة، وكانوا يخالفونها فى جحدهم صفة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالت فرقة: كانت الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب فى اتباع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ دلوه على ذلك وهم لا يفعلونه. وعن ابن عباس أيضاً: أنها نزلت فى أحبار يهود أعمال المدنية، كانوا يأمرون سرا من نصحوه من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يتبعونه، وكان الحبر يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم: اثبت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق. وقيل كان جماعة من اليهود قالوا لمشركى العرب: إن رسولا سيظهر منكم ويدعوكم إلى الحق، وكانوا يرغبونهم فى اتباعه، فلما بعث سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم حسدوه وكفروا به فوبخهم الله عز وجل بذلك، إذ أمروا الناس باتباعه قبل ظهوره، فلما ظهر تركوه وأعرضوا عنه، وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون، وإذا أوتوا بصدقات ليفرقوها خانوا فيها، وقيل كانوا يأمرون الناس بالطاعة والصلاة والزكاة وأنواع البر ولا يفعلونها، فوبخهم الله عز وجل بذلك. وقيل المراد أحبار اليهود والمنافقين، فإن المنافقين كانوا يأمرون بما سمعوا من أمر الإسلام ولا يفعلونه، وذلك من جملة نفاقهم.
{ وَأنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ }: التوراة أو جنس الكتاب، فيشمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله سبحانه وتعالى، وفى الكتاب الوعيد على ترك البر ومخالفة القول العمل، وإنكار الحق فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم والحث على أفعال الخير، والإعراض عن القبيحة كيف تفعلون ما يخالف الآيات اللاتى تدرسون، وجملة { وأنتم تتلون الكتاب } من جملة تعلمون فى كونها حالا تبكيتية.
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }: أتأتون ذلك فلا تعقلون سوء صنعكم وقبحه، كمسلوب العقل بأنى فعلا قبيحاً شنيعاً ولا يستحى منه ولا يشعر بقبحه، ففيه تشبيههم بالمجانين إذ لو استعملوا عقولهم لصدهم قبح ذلك عن ارتكابه، وتأتون ذلك فلا تعقلون جزاءه فيصدكم استشعار جزائه عن ارتكابه، فأنتم كمجانين يلقون أنفسهم فيما يهلكهم، ومفعلو بفعل مقدر معتبر على الوجهين، ويجوز تنزيله منزلة اللازم بعد تحقيق القصد به، أى فلا عقل لكم ولو كان لكم لعلمتم به قبح ذلك وجزاءه، ولك وجه آخر فى اعتبار المفعول لكنه مرجوح هكذا أفلا تعقلون إنهُ حق فتتبعونهُ، والعقل فى الأصل المنع عن الشىء كمنع الدابة عن الذهاب لقيد سمى به إدراك الحق وتمييزه من الباطل، وإدراك الحسن والقبح، لأنه مانع عما يقبح عن الباطل والشر، وحابس عما يحسن، وعلى الخير بعد أن يدركهما من الشرع، وكذا الحسن والخير المباحين، وسمى به أيضاً القوة التى تدرك النفس بها ذلك كما قيل العقل قوة تهيء قبول العلم، والآية مشنعة على من يعظ غيره ولا يتعظ، فإنه كقاعد يروم أن يقيم قاعداً، وقد يحصل قيام هذا القاعد بإذن الله ومقيمه قاعد، وكنجس يريد تطهير نجس، وكمتوسخ يريد تنظيف موسخ فإنهُ لا يتنظف إلا بعد تنظيف العضو الذى به التنظيف، وكالتنظيف بماء وسخ:

بالماء يطهر ما قد ساخ واتسخا فكيف بالماء إن وسخ به رسخا؟

وكمن يشفق على غيره أن يقع فى مهواة أو نار، ويغفل عن نفسه وهو مشرف عليه، فاشتغل بتنحيته وأعرض عن نفسه، وكمن يسعى فى تحصيل مآكل ومشارب وملابس ومساكن لغيره، وترك نفسه للجوع والعطش والعراء، وكمن يفعل شيئاً وينقضه، فإن الواعظ ينقض وعظه بفعله، لأن فعله منفر عن قبول وعظه فلا يصل القلب، وبالجملة فإن من جمع بين العلم الحقيق والعقل تأبى نفسه الشديدة المتمكنة فى العلم أن يكون واعظاً غير متعظ، ولست أعنى أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر محطوطان عن الفاسق أو المشرك، بل هما واجبان عليه لأن ترك فرض الطاعة والإيمان لا يبيح ترك الأمر والنهى، قال صلى الله عليه وسلم: "مروا بالمعروف وإن لم تفعلوه، وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه" كله رواه الطبرى فى صغيره عن أنس، فإذا لم يأمر ولم ينه كان أقبح، بل ذلك حث على تطهير النفس من خبث المعصية، والاعتقاد النسئ فيأمر وينهى فيزول عنه القبح بالكلية وينفع وعظه. قال محمد بن واسع: بلغنى أن ناساً من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار، فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا: كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها، وذكر أبو نعيم فى كتاب رياضة المتعلمين يسنده إلى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت ليلة أسرى بى رجالا تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" . وكذا رواه البغوى بسنده إلى أنس، وروى البخارى ومسلم عن أسامة بن زيد: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار فتنذلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار فى الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر الناس بالمعروف وتنهاهم عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه" . ومعنى تنذلق أقتاب بطنه تخرج أمعاء بطنه، قيل: مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضىء على الناس ويحرق نفسه، قالوا: ومن وعظ بقوله ضاع كلامه، ومن وعظ بفعله نفدت سهامه وروى ابن قانع فى معجمه عن سليك الغطفانى عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا علم العالم فلم يعمل كان كالمصباح يضىء على الناس ويحرق نفسه"