خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قَالُوا }: لموسى.
{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هى }: الذى فى كتب المعانى والبيان أن ما يسأل بها على الجنس غالباً، تقول ما فى ذلك الذى ظهر إنسان أم فرس أم جمل.. ونحو ذلك، وها هنا أمروا ببقرة فقد علموا الجنس، ومع علمهم به سألوا بما، وكان الأنسب لهم أن يسألوا بكيف أو بأى، لأن كيف يسأل بها عن الحال، وأى يسأل بها فى طلب التمييز من الجملة، فيحتمل أن تكون ما هنا سئل بها فى طلب التمييز كأى، أو سئل بها عن الحال ككيف على غير الغالب، كأنهم قالوا: بيِّن لنا أى فرد هى من أفراد البقر، أو كيف هى فى الكبر والصغر. وإن قلت: قوله: { لا فارض ولا بكر } يناسب قولك كيف هى فى الكبر والصغر، ولا يناسب قولك أى فرد هى من أفراد البقر، قلت: يناسب أيضاً قولك: أى فرد هى من أفراد البقر بوجه هو مجازاته تعالى لهم على مقتضى استقصائهم فى السؤال تشديداً عليهم، كما شددوا على أنفسهم، وذلك أن قوله: { لا فارض ولا بكر } لا يقنع من يطلب تعيين الفرد، فيحتاجون بعد إلى السؤال، وهذا كما تقول لغلامك: اشتر لى من رجل بقلا، فلو مشى إلى رجل ما واشترى عنه لكفى، لكنه قال: من هو ذلك الرجل الذى تأمرنى به فتابعته على سؤاله؟ فقلت له: رجل قصير كوسج. فقال لك فى أى موضع هو؟ فقلت له: فى رحبة كذا. فقال: من هو؟ قلت: هو الذى بين دكان فلان ودكان فلان. فلو قلت بعد سؤاله الأول: الذى هو بين الدكانين لكفى، ولكنك طاولته لما تطاول، ويحتمل أن ينزلوا البقرة منزلة ما لم يعرفوه من أى جنس فسألوا بما، وذلك أنهم قد علموا من حزم موسى واستعاذته من الجهالة أن ميتهم يتبين قاتله بالبقرة التى أمرهم بها، لكنهم استعظموا بقرة يتبين بها قاتل ميت ويحيا بها ميت، فكأنها لمكانها من الغرابة لم يعرفوها من أى جنس.
{ قَالَ }: موسى.
{ إِنَّهُ }: أى الله سبحانه وتعالى.
{ يَقُولُ إِنَّها }: أى البقرة التى أمركم بذبحها.
{ بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ }: لا فارض بمنزلة المضاف والمضاف إليه، والمضاف نعت بقرة، كأنه قيل بقرة غير فارض وغير بكر، ونزلت لا ومدخولها منزلة اسم فكان الإعراب فى آخر الجزء الثانى وهو فارض، فمجموع: { لا فارض } نعت بقرة كما جعل: إلا الله نعت لا إله ووجه آخر كوفى أن تكون لا اسم انتقل إعرابه لما بعده لمجيئه على صورة الحرف، ووجه آخر أن تكون لا داخلة على مبتدأ محذوف، والجملة مقول لنعت محذوف، أى بقرة مقول فيها لا هى فارض ولا هى بكر، ولولا ذكر (عوان) بعد لقلنا لا عاطفة على محذوف نعت، أى بقرة أوسط لا فارض ولا بكر، ويحتمل هذا الوجه أيضاً على جعل ذكر عوان توكيداً له فى المعنى، وعوان خبر لمحذوف، وإن جعلنا عوان نعتا لبقرة كانت لا عاطفة على بقرة، والفارض: الكبير السن، يقال: فرضت البقرة فروضاً من الفرض بمعنى القطع، كأنها قطعت أسنان فمها أو قطعت أعوامها، أو قطعت الولادة أو قطعت قوتها. قال خفاف بن ندبة:

لعمرى لقد أعطيت ضيعك فارضاً تساق إليه ما تقوم على رجل

والبكر: الشابة من البقر التى لم تلد من الصغر، ومادة البكر للأول كما يقال لأول النهار البكرة، وكما يقال للثمرة الجديدة أول أوانها باكورة، كثمرة وحبة عنب وتين.
{ عَوَانٌ }: أى نصف بفتح النون والصاد لا هرمة ولا صغيرة، قال الطرماح:

طوال مشل أعناق الهوادى نواعم بين أبكار وعون

والمشل بفتح الميم والشين وتشديد اللام ما يستر الثوب من العنق، من شللته فى الثوب أرخيته عليه، وإضافة الأعناق للهوادى بيانية، فإن الهوادى الأعناق، ويجوز أن يريد بالهوادى ما يلى الرأس من العنق، والناعمة اللينة وهو خبر لمحذوف، أى هى عوان، والجملة نعت لبقرة أو نعت عوان، وعلى هذا فلا عاطفة على بقرة، وفيه تقديم العطف على النعت وهو غير الأكثر والتقدير بقرة عوان لا فارض ولا بكر، كقولك هذا رجل قائم لا قاعد ولا متكئ.
{ بَيْنَ ذَلِكَ }: المذكور من الفارض والبكر ولوقوع الإشارة إلى شيئين صحت إضافة بين إليها كقول امرئ القيس:

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

أى بين أماكن الدخول، لما اشتمل الدخول على أماكن صحت إضافة بين إليها، واستغنى عن حومل وقول الشاعر:

وكلا ذلك وجه قبل

لما أشار لشيئين صحت إضافة كلا إليه، والذى يتبادر من عود الضمير إلى البقرة فى قوله: { قال إنه يقول إنها } والوصف بأنها { لا فارض ولا بكر } بل { عوان } يدل على أنها معينة، والأمر كذلك عند الله قطعا، وهى بقرة معلومة عنده فى الأزل لا تختل ولا يقع غيرها موقعها، ومن قال: إنها عند الله غير معينة فقد جهل، ووصف الله بجهلها حتى وقعت، وذلك كفر وإنما خاطبهم بها مبهمة لأنه قد علم أنهم سيطلبون بيانها، وإنما عوتبوا مع ذلك على طلب البيان، لأن طلبهم البيان إنما جاء من قسوة قلوبهم وغلظهم وتباطئهم فى الامتثال لا من حيث إنها معينة لا يكفى غيرها لأنهم لا يعلمون أنها معينة حين قال: { إن اله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وتأخير البيان عن وقت الخطاب جائز بدليل هذه الآية إذا لم يترتب فساد على تأخيره وعلم أنهُ لا يصدر الامتثال من المخاطب قبل البيان، أو علم أنه يصدر على مقتضى البيان الذى سيبين، أو لم يصف الوقت والحاجة، هذا ما عندى، ومنع بعضهم تأخير البيان عن وقت الخطاب، وزعم بعض قومنا أن المراد بقرة غير مخصوصة عند الله تعالى ثم انقلب مخصوصة بسؤالهم، وقائل: هذا وصف الله تعالى عن كل نقص بالجل وتبديل القضاء، وذلك كفروا ما يترتب على زعمه من النسخ قبل الفعل فغير ضائر إذ لا مانع عند التحقيق من النسخ قبل الفعل، والمنسوخ على زعمه كونهم مخبرين فى البقر أيما بقرة ذبحوا، فقد امتثلوا والناسخ ما دل على تعيين البقرة فى هذه الآيات، وإذا حققت أن الله سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها ولا أول لعلمه، وآمنت بالقضاء والقدر، وحققت أنهُ عليم بكل شئ كما أخبرنا عن نفسه، سهل عليك حمل ظاهر اللفظ على أنها عنده معينة، وإنما خاطبهم بها مبهمة لعلمه أنهم سيطلبون بيانها ولم تفتر بظاهر اللفظ. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لو ذبحوا أى بقرة أرادوا لأجزتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم" فهو كسائر كلامه وكلام الرسل فيما قضى قضى الله خلافه أنهُ لو كان كذا لكان كذا، مثل أن يقال لو تاب إبليس لدخل الجنة، مع العلم أنهُ لا يتوب ولا يدخلها لقضاء الله عليهِ الشقوة، وكذلك قضى الله أن يسألوا فلا بد من وقوع السؤال عليهم، ومن ذبح البقرة المعينة عنده لا غيرها، ولكن يقال مثل ذلك من قولهم: لو كان كذا لكان كذا مجازاة لظاهر الخطاب مع قطع النظر عن الغيب، أو عما كان غيباً ثم ظهر، فلا دليل فى الحديث على أنها غير معينة. والحديث رواه ابن عباس وغيره وفى قوله: { عوان بين ذلك } توكيدان لقوله: { لا فارض ولا بكر } فى المعنى إذا لم تكن لا فارضاً ولا بكراً فهى عوان، وهى بينهما. وفى ذلك تقريع لهم كما لو قلت لعبدك: اشتر كذا من رجل ثم رأيته لم يفهمه وقد أفصحت له أو رأيته يطلب بياناً فقلت له: اشتره من حيوان ذكر منتصب القامة ناطق وزاد لهم تقريعاً بقوله:
{ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ }: فإنهُ بمنزلة قولك دعوا السؤال واشرعوا فى الامتثال. ما موصول اسمى والرابط محذوف. أى ما تأمرونه إذ قد يصل أمر بنفسه إلى المفعول على تقدير معنى الباء كما ذكرت فى قوله:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت بهِ

أو ما تؤمرون به فحذف الرابط شذوذاً، لأن الموصول لم يجرر بمثل ما جره، ولم يتخذ المتعلق أو موصول حرف فالفعل مؤل بمصدر، والمصدر بمعنى اسم مفعول، أى فافعلوا أمركم، أى مأموركم، والمراد بقوله: { ما تؤمرون } ذبحها.